انا لله وانا اليه راجعون... نسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة لوالد ووالدة المشرف العام ( أبو سيف ) لوفاتهما رحمهما الله ... نسأل الله تعالى أن يتغمدهما بواسع رحمته . اللهم آمـــين


التاريخ والسير والتراجم السيرة النبوية ، والتاريخ والحضارات ، وسير الأعلام وتراجمهم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-31-2009, 05:29 PM
امة الله عزوجل امة الله عزوجل غير متواجد حالياً
عضو جديد
 




New الرحيق المختوم

 

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
اخواني واخواتي في الله ..محبة لرسولنا الكريم.. ونصرة لحبيبنا محمد ..عليه افضل الصلاة وازكى التسليم ..وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم "بلغوا عني ولو اية" .. اردت ان انقل اليكم كتاب" الرحيق المختوم" الذي يحمل بين طياته السيرة النبوية العطرة سائلة المولى عزوجل ان يكون هذا العمل خالصا لوجهه الكريم ..وانال به شفاعة حبيبنا المصطفى عليه الصلاة والسلام
فارجوا ان لا يتم الرد على هذا الموضوع الا بعد اتمام نقل الكتاب كاملا
كما اطلب منكم ان نتعاون على دراسة سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم .. وفقنا الله واياكم لذلك.
يتبع ان شاء الله تعالى ...
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10-31-2009, 06:06 PM
امة الله عزوجل امة الله عزوجل غير متواجد حالياً
عضو جديد
 




New الرحيق المختوم

النسب والمولد والنشأة

نسب النبي صلى الله عليه وسلم وأسرته


نسب النبي صلى الله عليه وسلم
نسب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أجزاء‏:‏ جزءاتفق عليه كافة أهل السير والأنساب، وهو الجزء الذي يبدأ منه صلى الله عليه وسلموينتهي إلى عدنان‏.‏
وجزء آخر كثر فيه الاختلاف، حتى جاوز حد الجمع والائتلاف، وهو الجزءالذي يبدأ بعد عدنان وينتهي إلى إبراهيم عليه السلام فقد توقف فيه قوم، وقالوا‏:‏لا يجوز سرده، بينما جوزه آخرون وساقوه‏.‏ ثم اختلف هؤلا المجوزون في عدد الآباءوأسمائهم، فاشتد اختلافهم وكثرت أقوالهم حتى جاوزت ثلاثين قولًا، إلا أن الجميعمتفقون على أن عدنان من صريح ولد إسماعيل عليه السلام‏.‏
أما الجزء الثالث فهو يبدأ من بعد إبراهيم عليه السلام وينتهي إلىآدم عليه السلام، وجل الاعتماد فيه على نقل أهل الكتاب، وعندهم فيه من بعض تفاصـيلالأعمـار وغيرهـا ما لا نشك في بطلانه، بينما نتوقف في البقية الباقية‏.‏
وفيما يلى الأجزاء الثلاثة من نسبه الزكى صلى الله عليه وسلمبالترتيب ‏:‏
الجزء الأول ‏:‏ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ـ واسمه شَيْبَة ـبن هاشم ـ واسمه عمرو ـ بن عبد مناف ـ واسمه المغيرة ـ بن قُصَىّ ـ واسمه زيد ـ بنكِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فِهْر ـ وهو الملقب بقريش وإليه تنتسبالقبيلة ـ بن مالك بن النَّضْر ـ واسمه قيس ـ بن كِنَانة بن خُزَيْمَة بن مُدْرِكةـ واسمه عامـر ـ بن إلياس بن مُضَر بن نِزَار بن مَعَدّ بن عدنان‏.‏
الجزء الثانى ‏:‏ ما فوق عدنان، وعدنان هو ابن أُدَد بن الهَمَيْسَعبن سلامان بن عَوْص بن بوز بن قموال بن أبي بن عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بنيدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخى بن عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حَمْدانبن سنبر بن يثربى بن يحزن بن يلحن بن أرعوى بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفناد ابنأيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمى بن مزى بن عوضة بن عرام بن قيدار ابن إسماعيلبن إيراهيم عليهما السلام‏.‏
الجزء الثالث ‏:‏ ما فوق إبراهيم عليه السلام، وهو ابن تارَح ـواسمه آزر ـ بن ناحور بن ساروع ـ أو ساروغ ـ بن رَاعُو بن فَالَخ بن عابر بن شَالَخبن أرْفَخْشَد بن سام بن نوح عليه السلام بن لامك بن مَتوشَلخَ بن أَخْنُوخ ـ يقال‏:‏ هو إدريس النبي عليه السلام ـ بن يَرْد بن مَهْلائيل بن قينان بن أنُوش بن شِيثبن آدم ـ عليهما السلام‏.‏

الأسرة النبوية
تعرف أسرته صلى الله عليه وسلم بالأسرة الهاشمية ـ نسبة إلى جدههاشم بن عبد مناف ـ وإذن فلنذكر شيئًا من أحوال هاشم ومن بعده ‏:‏
1 ـ هاشم ‏:‏
قد أسلفنا أن هاشمًا هو الذي تولى السقاية والرفادة من بني عبد منافحين تصالح بنو عبد مناف وبنو عبد الدار على اقتسام المناصب فيما بينهما، وكان هاشمموسرًا ذا شرف كبير، وهو أول من أطعم الثريد للحجاج بمكة، وكان اسمه عمرو فما سمىهاشمًا إلا لهشمه الخبز، وهو أول من سن الرحلتين لقريش، رحلة الشتاء والصيف، وفيهيقول الشاعر ‏:‏
عمرو الذي هَشَمَ الثريدَ لقومه ** قَــومٍ بمـكــة مُسِْنتِيــنعِجَــافِ
سُنَّتْ إليه الرحلتان كلاهـمــا ** سَفَرُ الشتاء ورحلة الأصياف
ومن حديثه أنه خرج إلى الشام تاجرًا، فلما قدم المدينة تزوج سلمىبنت عمرو أحد بني عدى بن النجار وأقام عندها، ثم خرج إلى الشام ـ وهي عند أهلها قدحملت بعبد المطلب ـ فمات هاشم بغزة من أرض فلسطين، وولدت امرأته سلمى عبد المطلبسنة 497 م، وسمته شيبة؛ لشيبة كانت في رأسه، وجعلت تربيه في بيت أبيها في يثرب، ولميشعر به أحد من أسرتـه بمكـة، وكان لهاشم أربعة بنين وهم‏:‏ أسد وأبو صيفي ونضلةوعبد المطلب‏.‏ وخمس بنات وهن‏:‏ الشفاء، وخالدة، وضعيفة، ورقية، وجنة‏.‏
2 ـ عبـد المطلب ‏:‏
قد علمنا مما سبق أن السقاية والرفادة بعد هاشم صارت إلى أخيهالمطلب بن عبد مناف ‏[‏وكان شريفًا مطاعًا ذا فضل في قومه، كانت قريش تسميه الفياضلسخائه‏]‏ لما صار شيبة ـ عبد المطلب ـ وصيفًا أو فوق ذلك ابن سبع سنين أو ثمانيسنين سمع به المطلب‏.‏ فرحل في طلبه، فلما رآه فاضت عيناه، وضمه، وأردفه على راحلتهفامتنع حتى تأذن له أمه، فسألها المطلب أن ترسله معه، فامتنعت، فقال ‏:‏ إنما يمضىإلى ملك أبيه وإلى حرم الله فأذنت له، فقدم به مكة مردفه على بعيره، فقال الناس‏:‏هذا عبد المطلب، فقال‏:‏ ويحكم، إنما هو ابن أخى هاشم، فأقام عنده حتى ترعرع، ثم إنالمطلب هلك بـ ‏[‏دمان‏]‏ من أرض اليمن، فولى بعده عبد المطلب، فأقام لقومه ما كانآباؤه يقيمون لقومهم،وشرف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظمخطره فيهم‏.‏
ولما مات المطلب وثب نوفل على أركاح بد المطلب فغصبه إياها، فسألرجالًا من قريش النصرة على عمه، فقالوا‏:‏ لا ندخل بينك وبين عمك، فكتب إلى أخوالهمن بني النجار أبياتًا يستنجدهم، فسار خاله أبو سعد بن عدى في ثمانين راكبًا، حتىنزل بالأبطح من مكة، فتلقاه عبد المطلب، فقال‏:‏ المنزل يا خال، فقال‏:‏ لا واللهحتى ألقى نوفلًا، ثم أقبل فوقفعلى نوفل، وهو جالس في الحجر مع مشايخ قريش، فسل أبوسعد سيفه وقال‏:‏ ورب البيت، لئن لم ترد على ابن أختى أركاحه لأمكنن منك هذا السيف،فقال‏:‏ رددتها عليه، فأشهد عليه مشايخ قريش، ثم نزل على عبد المطلب، فأقام عندهثلاثًا، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة‏.‏ فلما جرى ذلك حالف نوفل بني عبد شمس بن عبدمناف على بني هاشم‏.‏ ولما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب قالوا‏:‏ نحنولدناه كما ولدتموه، فنحن أحق بنصره ـ وذلك أن أم عبد مناف منهم ـ فدخلوا دارالندوة وحالفوا بني هاشم على بني عبد شمس ونوفل، وهذا الحلف هو الذي صار سببًا لفتحمكة كما سيأتى‏.‏
ومن أهم ما وقع لعبد المطلب من أمور البيت شيئان‏:‏
حفر بئر زمزم ووقعة الفيل
وخلاصة الأول‏:‏ أنه أمر في المنام بحفر زمزم ووصف له موضعها، فقاميحفر، فوجد فيه الأشياء التي دفنها الجراهمة حين لجأوا إلى الجلاء، أي السيوفوالدروع والغزالين من الذهب، فضرب الأسياف بابًا للكعبة، وضرب في الباب الغزالينصفائح من ذهب، وأقام سقاية
زمزم للحجاج‏.‏
ولما بدت بئر زمزم نازعت قريش عبد المطلب، وقالوا له ‏:‏أشركنا‏.‏قال‏:‏ ما أنا بفاعل، هذا أمر خصصت به، فلم يتركوه حتى خرجوا به للمحاكمةإلى كاهنة بني سعد هُذَيْم، وكانت بأشراف الشام، فلما كانوا في الطريق، ونفد الماءسقى الله عبد المطلب مطرًا، م ينزل عليهم قطرة، فعرفوا تخصيص عبد المطلب بزمزمورجعـوا، وحينئذ نذر عبد المطلب لئن آتاه الله عشرة أبناء، وبلغوا أن يمنعوه لينحرنأحدهم عند الكعبة‏.‏
وخلاصة الثانى‏:‏ أن أبرهة بن الصباح الحبشى، النائب العام عنالنجاشى على اليمن، لما رأي العرب يحجون الكعبة بني كنيسة كبيرة بصنعاء، وأراد أنيصرف حج العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة، فدخلها ليلًا فلطخ قبلتهابالعذرة‏.‏ ولما علم أبرهة بذلك ثار غيظه، وسار بجيش عرمرم ـ عدده ستون ألف جندى ـإلى الكعبة ليهدمها، واختار لنفسه فيلا من أكبر الفيلة، وكان في الجيش 9 فيلة أو 13فيلا، وواصل سيره حتى بلغ المُغَمَّس، وهناك عبأ جيشه وهيأ فيله، وتهيأ لدخول مكة،فلما كان في وادى مُحَسِّر بين المزدلفة ومنى برك الفيل، ولم يقم ليقدم إلى الكعبة،وكانوا كلما وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق يقوم يهرول، وإذا صرفوه إلىالكعبة برك، فبيناهم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل،فجعلهم كعصف مأكول‏.‏ وكانت الطير أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر ثلاثةأحجار؛ حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص، لا تصيب منهم أحدًا إلا صارتتتقطع أعضاؤه وهلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض، فتساقطوابكل طريق وهلكوا على كل منهل، وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله،ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك‏.‏
وأما قريش فكانوا قد تفرقوا في الشعاب، وتحرزوا في رءوس الجبالخوفًا على أنفسهم من معرة الجيش، فلما نزل بالجيش ما نزل رجعوا إلى بيوتهم آمنين‏.‏
وكانت هذه الوقعة في شهر المحرم قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلمبخمسين يومًا أو بخمسة وخمسين يومًا ـ عند الأكثر ـ وهو يطابق أواخر فبراير أوأوائل مارس سنة 571 م، وكانت تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته؛ لأنّا حين ننظر إلى بيتالمقدس نرى أن المشركين من أعداء الله استولوا على هذه القبلة مرتين بينما كانأهلها مسلمين، كما وقع لبُخْتُنَصَّر سنة 587 ق‏.‏م، والرومان سنة 70 م، ولكن لميتم استيلاء نصارى الحبشة على الكعبة وهم المسلمون إذ ذاك، وأهل الكعبة كانوامشركين‏.‏
وقد وقعت هذه الوقعة في الظروف التي يبلغ نبؤها إلى معظم المعمورةالمتحضرة إذ ذاك‏.‏ فالحبشة كانت لها صلة قوية بالرومان، والفرس لا يزالون لهمبالمرصاد، يترقبون ما نزل بالرومان وحلفائهم؛ ولذلك سرعان ما جاءت الفرس إلى اليمنبعد هذه الوقعة، وهاتان الدولتان كانتا تمثلان العالم المتحضر في ذلك الوقت‏.‏ فهذهالوقعة لفتت أنظار العالم ودلته على شرف بيت الله، وأنه هو الذي اصطفاه اللهللتقديس، فإذن لو قام أحد من أهله بدعوى النبوة كان ذلك هو عين ما تقتضيه هذهالوقعة، وكان تفسيرًا للحكمة الخفية التي كانت في نصرة الله للمشركين ضد أهلالإيمان بطريق يفوق عالم الأسباب‏.‏
وكان لعبد المطلب عشرة بنين، وهم‏:‏ الحارث، والزبير، وأبو طالب،وعبد الله، وحمزة، وأبو لهب، والغَيْدَاق، والمُقَوِّم، وضِرَار، والعباس‏.‏وقيل‏:‏ كانوا أحد عشر، فزادوا ولدًا اسمه‏:‏ قُثَم، وقيل ‏:‏ كانوا ثلاثة عشر،فزادوا‏:‏ عبد الكعبة وحَجْلًا، وقيل‏:‏ إن عبد الكعبة هو المقوم، وحجلا هوالغيداق، ولم يكن من أولاده رجل اسمه قثم، وأما البنات فست وهن ‏:‏ أم الحكيم ـ وهيالبيضاء ـ وبَرَّة، وعاتكة، وصفية، وأرْوَى، وأميمة‏.‏
3ـ عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏
أمـه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يَقَظَة بـنمـرة، وكـان عبد الله أحسن أولاد عبد المطلب وأعفهم وأحبهم إليه، وهو الذبيح؛ وذلكأن عبد المطلب لمـا تم أبناؤه عشرة، وعرف أنهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه، فقيل‏:‏ إنه أقـرع بينهم أيهم ينـحـر ‏؟‏ فطـارت القرعــة على عـبد الله، وكــان أحـبالنـاس إليه‏.‏فقال‏:‏اللهم هو أو مائة من الإبل‏.‏ثم أقرع بينه وبين الإبل فطارتالقرعة على المائة من الإبل، وقيل‏:‏إنه كتب أسماءهم في القداح،وأعطاها قيم هبل،فضرب القداح فخرج القدح على عبد الله، فأخذه عبد المطلب، وأخذ الشفرة،ثم أقبل بهإلى الكعبة ليذبحه،فمنعته قريش،ولاسيما أخواله من بني مخزوم وأخوه أبو طالب‏.‏ فقالعبد المطلب ‏:‏ فكيف أصنع بنذري‏؟‏ فأشاروا عليه أن يأتى عرافة فيستأمرها، فأتاها،فأمرت أن يضرب القداح على عبد الله وعلى عشر من الإبل، فإن خرجت على عبد الله يزيدعشرًا من الإبل حتى يرضى ربه، فإن خرجت على الإبل نحرها، فرجع وأقرع بين عبد اللهوبين عشر من الإبل، فوقعت القرعة على عبد الله، فلم يزل يزيد من الإبل عشرًا عشرًاولا تقع القرعة إلا عليه إلى أن بلغت الإبل مائة فوقعت القرعة عليها، فنحرت ثمتركت، لا يرد عنها إنسان ولا سبع، وكانت الدية في قريش وفي العرب عشرًا من الإبل،فجرت بعد هذه الوقعة مائة من الإبل، وأقرها الإسلام، وروى عن النبي صلى الله عليهوسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏أنا ابن الذبيحين‏]‏ يعنى إسماعيل، وأباه عبد الله‏.‏
واختار عبد المطلب لولده عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرةبن كلاب، وهي يومئذ تعد أفضل امرأة في قريش نسبًا وموضعًا، وأبوها سيد بني زهرةنسبًا وشرفًا، فزوجه بها، فبني بها عبد الله في مكة، وبعد قليل أرسله عبد المطلبإلى المدينة يمتار لهم تمرًا، فمات بها، وقيل ‏:‏ بل خرج تاجرًا إلى الشام، فأقبلفي عير قريش، فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها، ودفن في دار النابغة الجعدى، ولهإذ ذاك خمس وعشرون سنة، وكانت وفاته قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهيقول أكثر المؤرخين، وقيل ‏:‏ بل توفي بعد مولده بشهرين أو أكثر‏.‏ ولما بلغ نعيهإلى مكة رثته آمنة بأروع المراثى، قالت ‏:‏
عَفَا جانبُ البطحاءِ من ابن هاشم ** وجاور لَحْدًا خارجـًا فيالغَـمَاغِـــم
دَعَتْـه المنــايا دعــوة فأجـابـــهـا ** وما تركتْ في الناس مثلابن هاشـم
عشيـة راحـوا يحملــون سريـره ** تَعَاوَرَهُ أصـحـابــه فيالتزاحــــم
فإن تـك غـالتـه المنـايا ورَيْبَهـــا ** فقـد كـان مِعْطــاءًكـثير التراحم
وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال، وقطعة غنم، وجارية حبشية اسمهابركة وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنـة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

المولد وأربعون عامًا قبل النبوة

المولـــد
ولـد سيـد المرسلـين صلى الله عليه وسلم بشـعب بني هاشـم بمكـة فيصبيحـة يــوم الاثنين التاسع مـن شـهر ربيـع الأول، لأول عـام مـن حادثـة الفيـل،ولأربعـين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان، ويوافق ذلك عشرين أو اثنين وعشرين من شهرأبريل سنة 571 م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان ـ المنصورفورى ـ رحمهاللـه‏.‏
وروى ابــن سعــد أن أم رســول الله صلى الله عليه وسلم قالــت ‏:‏لمــا ولـدتــه خــرج مــن فرجـى نــور أضــاءت لـه قصـور الشام‏.‏ وروى أحمدوالدارمى وغيرهمـا قريبـًا مـن ذلك‏.‏
وقد روى أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفةمن إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوةبعد أن غاضت، روى ذلك الطبرى والبيهقى وغيرهما‏.‏ وليس له إسناد ثابت، ولم يشهد لهتاريخ تلك الأمم مع قوة دواعى التسجيل‏.‏
ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده،فجاءمستبشرًا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له‏.‏ واختار له اسم محمد ـ وهذا الاسم لميكن معروفًا في العرب ـ وخَتَنَه يوم سابعه كما كان العرب يفعلون‏.‏
وأول من أرضعته من المراضع ـ وذلك بعد أمه صلى الله عليهوسلمبأسبوع ـ ثُوَيْبَة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له‏:‏ مَسْرُوح، وكانت قدأرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي‏.‏

في بني سعد
وكانت العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهمابتعادًا لهم عن أمراض الحواضر؛ ولتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسانالعربى في مهدهم، فالتمس عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم المراضع،واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر، وهي حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث،وزوجها الحارث ابن عبد العزى المكنى بأبي كبشة من نفس القبيلة‏.‏
وإخوته صلى الله عليه وسلم هناك من الرضاعة ‏:‏ عبد الله بن الحارث،وأنيسة بنت الحارث، وحذافة أو جذامة بنت الحارث ‏[‏وهي الشيماء؛ لقب غلب علىاسمها‏]‏ وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمه حمزة بن عبد المطلب مسترضعًافي بني سعد بن بكر، فأرضعت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وهو عند أمهحليمة،فكان حمزة رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهتين، من جهة ثويبة ومن جهةالسعدية‏.‏
ورأت حليمة من بركته صلى الله عليه وسلم ما قضت منه العجب، ولنتركهاتروى ذلك مفصلًا ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ كانت حليمة تحدث ‏:‏ أنها خرجت من بلدها مع زوجهاوابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء‏.‏ قالت ‏:‏ وذلك فيسنة شهباء لم تبق لنا شيئًا، قالت ‏:‏ فخرجت على أتان لى قمراء، ومعنا شارف لنا،والله ما تَبِضّ ُبقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه منالجوع، ما في ثديى ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج،فخرجت على أتانى تلك، فلقد أذَمَّتْ بالركب حتى شق ذلك عليهم، ضعفًا وعجفًا، حتىقدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليهوسلم فتأباه، إذا قيل لها‏:‏ إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي،فكنا نقول‏:‏ يتيم‏!‏ وما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأةقدمت معي إلا أخذت رضيعًا غيرى، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى‏:‏ والله، إنىلأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيمفلآخذنه‏.‏ قال ‏:‏ لا عليك أن تفعلى، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة‏.‏ قالت‏:‏فذهبت إليه وأخذته،وما حملنى على أخذه إلا أنى لم أجد غيره، قالت‏:‏ فلما أخذتهرجعت به إلى رحلى، فلما وضعته في حجرى أقبل عليه ثديأي بما شاء من لبن، فشرب حتىروى، وشرب معه أخوه حتى روى، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلىشارفنا تلك، فإذا هي حافل، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا،فبتنا بخير ليلة، قالت‏:‏ يقول صاحبى حين أصبحنا‏:‏ تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذتنسمة مباركة، قالت‏:‏ فقلت‏:‏ والله إنى لأرجو ذلك‏.‏ قالت‏:‏ ثم خرجنا وركبت أناأتانى، وحملته عليها معى، فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شىء من حمرهم، حتىإن صواحبى ليقلن لى‏:‏ يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك‏!‏ أرْبِعى علينا، أليست هذه أتانكالتي كنت خرجت عليها‏؟‏ فأقول لهن‏:‏ بلى والله، إنها لهي هي، فيقلن‏:‏ والله إنلها شأنًا، قالت‏:‏ ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضًا من أرض اللهأجدب منها، فكانت غنمى تروح علىَّ حين قدمنا به معنا شباعًا لُبَّنـًا، فنحلبونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنايقولون لرعيانهم‏:‏ ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهمجياعًا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمى شباعًا لبنًا‏.‏ فلم نزل نتعرف من اللهالزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغسنتيه حتى كان غلامًا جفرًا‏.‏ قالت‏:‏ فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا،لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها‏:‏ لو تركت ابني عندي حتى يغلظ، فإنيأخشى عليه وباء مكة، قالت‏:‏ فلم نزل بها حتى ردته معنا‏.‏
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10-31-2009, 06:08 PM
امة الله عزوجل امة الله عزوجل غير متواجد حالياً
عضو جديد
 




New الرحيق المختوم

شق الصدر
وهكذا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني سعد، حتى إذا كانبعده بأشهر على قول ابن إسحاق، وفي السنة الرابعة من مولده على قول المحققين وقعحادث شق صدره، روى مسلم عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهويلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة،فقال‏:‏ هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طَسْت من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه ـ أيجمعه وضم بعضه إلى بعض ـ ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعنىظئره ـ فقالوا‏:‏ إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو مُنْتَقِعُ اللون ـ أي متغيراللون ـ قال أنس‏:‏ وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره‏.‏
إلى أمه الحنون
وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه، فكان عند أمهإلى أن بلغ ست سنين‏.‏
ورأت آمنة ـ وفاء لذكرى زوجها الراحل ـ أن تزور قبره بيثرب، فخرجتمن مكة قاطعة رحلة تبلغ نحو خمسمائة كيلو متر ومعها ولدها اليتيم ـ محمد صلى اللهعليه وسلم ـ وخادمتها أم أيمن، وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهرًا ثم قفلت، وبينما هيراجعة إذ لحقها المرض في أوائل الطريق، ثم اشتد حتى ماتت بالأبْوَاء بين مكةوالمدينة‏.‏
إلى جده العطوف
وعاد به عبد المطلب إلى مكة، وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحوحفيده اليتيم الذي أصيب بمصاب جديد نَكَأ الجروح القديمة، فَرَقَّ عليه رقة لميرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يؤثره على أولاده، قالابن هشام‏:‏ كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشهذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا له، فكان رسول الله صلى اللهعليه وسلم يأتى وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبدالمطلب إذا رأي ذلك منهم‏:‏ دعوا ابني هذا، فوالله إن له لشأنًا، ثم يجلس معه علىفراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع‏.‏
ولثمانى سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه وسلم توفيجده عبد المطلب بمكة، ورأي قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيقأبيه‏.‏
إلى عمه الشفيق
ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده وقدمهعليهم واختصه بفضل احترام وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه، ويبسط عليهحمايته، ويصادق ويخاصم من أجله، وستأتي نبذ من ذلك في مواضعها‏.‏
يستسقى الغمام بوجهه
أخرج ابن عساكر عن جَلْهُمَة بن عُرْفُطَة قال‏:‏ قدمت مكة وهم فيقحط، فقالت قريش‏:‏ يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهَلُمَّ فاستسق، فخرجأبو طالب ومعه غلام، كأنه شمس دُجُنَّة، تجلت عنه سحابة قَتْمَاء، حوله أُغَيْلمة،فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة،ولاذ بأضبعه الغلام، وما في السماء قَزَعَة،فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغْدَوْدَق، وانفجر الوادي، وأخصب الناديوالبادي، وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال‏:‏
وأبيضَ يُستسقى الغَمَام بوجهه ** ثِمالُ اليتامى عِصْمَةٌ للأرامل
بَحِيرَى الراهب
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتى عشرة سنة ـ قيل‏:‏وشهرين وعشرة أيام ـ ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام، حتى وصل إلى بُصْرَى ـوهي معدودة من الشام، وقَصَبَة لحُورَان، وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربيةالتي كانت تحت حكم الرومان‏.‏ وكان في هذا البلد راهب عرف بَبحِيرَى، واسمه ـ فيمايقال‏:‏ جرجيس، فلما نزل الركب خرج إليهم، وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك، فجعليتخلّلهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ هذا سيدالعالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين‏.‏ فقال له ‏[‏أبوطالب و‏]‏ أشياخ قريش‏:‏ ‏[‏و‏]‏ ما علمك ‏[‏بذلك‏]‏‏؟‏ فقال‏:‏ إنكم حين أشرفتم منالعقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتمالنبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ‏[‏وإنا نجده في كتبنا‏]‏، ثم أكرمهمبالضيافة، وسأل أبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام؛ خوفًا عليه من الرومواليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة‏.‏
حرب الفِجَار
وفي السنة العشرين من عمره صلى الله عليه وسلم وقعت في سوق عُكاظحرب بين قريش ـ ومعهم كنانة ـ وبين قَيْس عَيْلان، تعرف بحرب الفِجَار وسببها‏:‏ أنأحد بني كنانة، واسمه البَرَّاض، اغتال ثلاثة رجال من قيس عيلان، ووصل الخبر إلىعكاظ فثار الطرفان، وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية؛ لمكانته فيهم سناوشرفًا، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان في وسط النهار كادتالدائرة تدور على قيس‏.‏ ثم تداعى بعض قريش إلى الصلح على أن يحصوا قتلى الفريقين،فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد‏.‏ فاصطلحوا على ذلك، ووضعوا الحرب، وهدموا ماكان بينهم من العداوة والشر‏.‏ وسميت بحرب الفجار؛ لانتهاك حرمة الشهر الحرام فيها،وقد حضر هذه الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينبل على عمومته؛ أي يجهزلهم النبل للرمي‏.‏
حلف الفضول
وعلى أثر هذه الحرب وقع حلف الفضول في ذى القعدة في شهر حرام تداعتإليه قبائل من قريش‏:‏ بنو هاشم، وبنو المطلب،وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب،وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جُدْعان التيمى؛ لسنِّه وشرفه، فتعاقدواوتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه،وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وشهد هذا الحلف رسول الله صلى الله عليهوسلم‏.‏ وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة‏:‏ ‏(‏لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعانحلفًا ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت‏)‏‏.‏
وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها،ويقال في سبب هذا الحلف‏:‏ إن رجلًا من زُبَيْد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاصبن وائل السهمى، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدار ومخزومًا، وجُمَحًاوسَهْمًا وعَدِيّا فلم يكترثوا له، فعلا جبل أبي قُبَيْس، ونادى بأشعار يصف فيهاظلامته رافعًا صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال‏:‏ ما لهذا مترك‏؟‏حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في حلف الفضول، فعقدوا الحلف ثم قاموا إلى العاص بن وائلفانتزعوا منه حق الزبيدي‏.‏
حياة الكدح
ولم يكن له صلى الله عليه وسلم عمل معين في أول شبابه، إلا أنالروايات توالت أنه كان يرعى غنمًا، رعاها في بني سعد، وفي مكة لأهلها على قراريط،ويبدو أنه انتقل إلى عمل التجارة حين شب،فقد ورد أنه كان يتجر مع السائب بن أبيالسائب المخزومي فكان خير شريك له، لا يدارى ولا يمارى، وجاءه يوم الفتح فرحب به،وقال‏:‏ مرحبًا بأخي وشريكي‏.‏
وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجرًا إلى الشام في مال خديجة رضيالله عنها قال ابن إسحاق‏:‏ كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجرالرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قومًا تجارًا، فلمابلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرمأخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضل ماكانت تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له‏:‏ ميسرة، فقبله رسول الله صلى اللهعليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام‏.‏
زواجه بخديجة
ولما رجع إلى مكة، ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم ترقبل هذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأي فيه صلى الله عليه وسلم من خلال عذبة،وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين، وجدت ضالتها المنشودة ـ وكانالسادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبي عليهم ذلك ـ فتحدثت بما في نفسها إلىصديقتها نفيسة بنت منبه، وهذه ذهبت إليه صلى الله عليه وسلم تفاتحه أن يتزوج خديجة،فرضى بذلك، وكلم أعمامه، فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وعلى إثر ذلك تمالزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، وأصدقهاعشرين بَكْرة‏.‏ وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبًاوثروة وعقلًا، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج عليهاغيرها حتى ماتت‏.‏
وكل أولاده صلى الله عليه وسلم منها سوى إبراهيم،ولدت له‏:‏ أولًاالقاسم ـ وبه كان يكنى ـ ثم زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وعبد الله‏.‏ وكان عبدالله يلقب بالطيب والطاهر، ومات بنوه كلهم في صغرهم، أما البنات فكلهن أدركنالإسلام فأسلمن وهاجرن،إلا أنهن أدركتهن الوفاة في حياته صلى الله عليه وسلم سوىفاطمة رضي الله عنها، فقد تأخرت بعده ستة أشهر ثم لحقت به‏.‏
بناء الكعبة وقضية التحكيم
ولخمس وثلاثين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناءالكعبة؛ وذلك لأن الكعبة كانت رَضْمًا فوق القامة، ارتفاعها تسعة أذرع من عهدإسماعيل عليه السلام، ولم يكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان فيجوفها، وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثرًا قديما ـ للعوادى التي أدهتبنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرمانحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديدبنائها حرصًا على مكانتها، واتفقوا على ألا يدخلوا في بنائها إلا طيبًا، فلا يدخلونفيها مهر بغى ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحد من الناس، وكانوا يهابون هدمها، فابتدأبها الوليد بن المغيرة المخزومى، فأخذ المعول وقال‏:‏ اللّهم لا نريد إلا الخير، ثمهدم ناحية الركنين، ولما لم يصبه شيء تبعه الناس في الهدم في اليوم الثاني، ولميزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء فجزأواالكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها‏.‏ فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة، وأخذوايبنونها، وتولى البناء بناء رومي اسمه‏:‏ باقوم‏.‏ ولما بلغ البنيان موضع الحجرالأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا،واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرةالمخزومى عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجدفارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه هتفوا‏:‏هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضعالحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء،وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حلحصيف رضى به القوم‏.‏
وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستةأذرع، وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، ورفعوا بابها من الأرض؛ لئلا يدخلها إلا منأرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعًا سقفوه على ستة أعمدة‏.‏
وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبًا، يبلغ ارتفاعه 15مترًا، وطول ضلعه الذي فيه الحجر الأسود والمقابل له 10 أمتار، والحجر موضوع علىارتفاع 1‏.‏50متر من أرضية المطاف‏.‏ والضلع الذي فيه الباب والمقابل له 12مترًا،وبابها على ارتفاع مترين من الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء أسفلها،متوسط ارتفاعها 0‏.‏25مترًا ومتوسط عرضها 0‏.‏30 مترًا وتسمى بالشاذروان، وهي منأصل البيت لكن قريشًا تركتها‏.‏
السيرة الإجمالية قبل النبوة
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع في نشأته خير ما في طبقاتالناس من ميزات، وكان طرازًا رفيعًا من الفكر الصائب، والنظر السديد، ونال حظًاوافرًا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعين بصمتهالطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناه الحق، وطالع بعقله الخصب وفطرتهالصافية صحائف الحياة وشئون الناس وأحوال الجماعات، فعاف ما سواها من خرافة، ونأيعنها، ثم عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجد حسنًا شارك فيه وإلا عادإلى عزلته العتيدة، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضرللأوثان عيدًا ولا احتفالًا، بل كان من أول نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة،حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى‏.‏
ولا شك أن القدر حاطه بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاعبعض متع الدنيا، وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحمودة ـ تتدخل العنايةالربانية للحيلولة بينه وبينها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما هممتبشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ماهممت به حتى أكرمنى برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة‏:‏ لوأبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال‏:‏ أفعل، فخرجت حتىإذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفًا، فقلت‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ عرس فلانبفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذنـى فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس‏.‏ فعدتإلى صاحبي فسألني، فأخبرته، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت بمكة فأصابني مثل أولليلة‏.‏‏.‏‏.‏ ثم ما هممت بسوء‏)‏‏.‏
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ لما بنيت الكعبة ذهب النبيصلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏اجعل إزارك على رقبتك يقيقك من الحجارة، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثمأفاق، فقال‏:‏ ‏(‏إزاري، إزاري‏)‏ فشد عليه إزاره‏.‏ وفي رواية‏:‏ فما رؤيت له عورةبعد ذلك‏.‏
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاقفاضلة، وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهمحلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عَرِيكة، وأعفهم نفسًا وأكرمهم خيرًا، وأبرهمعملًا، وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه‏:‏ ‏[‏الأمين‏]‏ لما جمع فيه منالأحوال الصالحة والخصال المرضية، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنهايحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق‏.‏
حياة النبـوة و الرسـالةوالدعـوة
النبــوة والدعــوة - العهـدالمكـي
تنقسم حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن شرفه الله بالنبوةوالرسالة إلى عهدين يمتاز أحدهما عن الآخـر تمـام الامتياز، وهما‏:‏
1 ـ العهد المكي، ثلاث عشرة سنة تقريبًا‏.‏
2 ـ العهد المدني، عشر سنوات كاملة‏.‏
ثم يشتمل كل من العهدين على عدة مراحل، لكل مرحلة منها خصائص تمتازبها عن غيرها، يظهر ذلك جليًا بعد النظر الدقيق في الظروف التي مرت بها الدعوة خلالالعهدين‏.‏
ويمكن تقسيم العهد المكي إلى ثلاث مراحل‏:‏
1 ـ مرحلة الدعوة السرية، ثلاث سنوات‏.‏
2 ـ مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة، من بداية السنة الرابعة منالنبوة إلى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة‏.‏
3 ـ مرحلة الدعوة خارج مكة وفشوها فيهم، من أواخر السنة العاشرة منالنبوة‏.‏ وقد شملت العهد المدني وامتدت إلى آخر حياته صلى الله عليه وسلم‏.‏
أما مراحل العهد المدني فسيجيء تفصيلها في موضعه‏

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10-31-2009, 06:19 PM
امة الله عزوجل امة الله عزوجل غير متواجد حالياً
عضو جديد
 




New الرحيق المختوم

في ظلال النبوةوالرسالة
في غار حراء
لما تقاربت سنه صلى الله عليه وسلم الأربعين، وكانت تأملاته الماضيةقد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السَّوِيقوالماء، ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعدة نحو ميلين من مكة ـ وهو غارلطيف طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد ـ فيقيم فيهشهر رمضان، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراءهامن قدرة مبدعة، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتهاالواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليهويرضاه‏.‏
وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفًا من تدبير اللهله، وليكون انقطاعه عن شواغل الأرض وضَجَّة الحياة وهموم الناس الصغيرة التي تشغلالحياة نقطة تحول لاستعداده لما ينتظره من الأمر العظيم، فيستعد لحمل الأمانةالكبرى وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ‏.‏‏.‏‏.‏ دبر الله له هذه العزلة قبلتكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهرًا من الزمان، مع روح الوجودالطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيبعندما يأذن الله‏.‏
جبريل ينزل بالوحي
ولما تكامل له أربعون سنة ـ وهي رأس الكمال، وقيل‏:‏ ولها تبعثالرسل ـ بدأت طلائع النبوة تلوح وتلمع، فمن ذلك أن حجرًا بمكة كان يسلم عليه، ومنهاأنه كان يرى الرؤيا الصادقة؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت علىذلك ستة أشهر ـ ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءًامن النبوة ـ فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى الله عليه وسلم بحراءشاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بآياتمن القرآن‏.‏
وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليومبأنه كان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلًا، وقد وافق 10 أغسطس سنة 610 م، وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية، وستة أشهر،و12 يومًا، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر وعشرين يومًا‏.‏
ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي الله عنها تروى لنا قصة هذه الوقعةالتي كانت نقطة بداية النبوة، وأخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال حتى غيرت مجرىالحياة، وعدلت خط التاريخ، قالت عائشة رضي الله عنها‏.‏
أول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤياالصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليهالخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيَتَحَنَّث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العددقبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءهالحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال‏:‏ اقرأ‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏،قال‏:‏ ‏(‏فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال‏:‏ اقرأ، قلت‏:‏ مـاأنـا بقـارئ، قـال‏:‏ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلـغ منـى الجهد، ثم أرسلني فقال‏:‏اقرأ، فقلت‏:‏ ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثـم أرسلـني فـقـال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِرَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَالْأَكْرَمُ‏}‏‏[‏العلق‏:‏1‏:‏ 3‏]‏‏)‏، فرجع بها رسول الله صلى اللهعليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال‏:‏ ‏(‏زَمِّلُونى زملونى‏)‏،فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة‏:‏ ‏(‏ما لي‏؟‏‏)‏ فأخبرها الخبر، ‏(‏لقدخشيت على نفسي‏)‏، فقالت خديجة‏:‏ كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم،وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجةحتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ـ وكان امرأ تنصر فيالجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانى، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أنيكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي ـ فقالت له خديجة‏:‏ يابن عم، اسمع من ابن أخيك،فقال له ورقة‏:‏ يابن أخي، ماذا ترى‏؟‏ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر مارأي، فقال له ورقة‏:‏ هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعا،ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أو مخرجيّهم‏؟‏‏)‏ قال‏:‏نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِىَ، وإن يدركنى يومكأنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يَنْشَبْ ورقة أن توفي، وفَتَر الوحى‏.‏
فَتْرَة الوحى
أما مدة فترة الوحى فاختلفوا فيها على عدة أقوال‏.‏ والصحيح أنهاكانت أيامًا، وقد روى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد ذلك‏.‏ وأما ما اشتهر من أنهادامت ثلاث سنوات أو سنتين ونصفًا فليس بصحيح‏.‏
وقد ظهر لى شىء غريب بعد إدارة النظر في الروايات وفي أقوال أهلالعلم‏.‏ ولم أر من تعرض له منهم، وهو أن هذه الأقوال والروايات تفيد أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم كان يجاور بحراء شهرًا واحدًا، وهو شهر رمضان من كل سنة، وذلكمن ثلاث سنوات قبل النبوة،وأن سنة النبوة كانت هي آخر تلك السنواتالثلاث، وأنه كانيتم جواره بتمام شهر رمضان، فكان ينزل بعده من حراء صباحًا ـ أي لأول يوم من شهرشوال ـ ويعود إلى البيت‏.‏
وقد ورد التنصيص في رواية الصحيحين على أن الوحى الذي نزل عليه صلىالله عليه وسلم بعد الفترة إنما نزل وهو صلى الله عليه وسلم راجع إلى بيته بعدإتمام جواره بتمام الشهر‏.‏
أقول‏:‏ فهذا يفيد أن الوحى الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعدالفترة إنما نزل في أول يوم من شهر شوال بعد نهاية شهر رمضان الذي تشرف فيه بالنبوةوالوحى؛ لأنه كان آخر مجاورة له بحراء، وإذا ثبت أن أول نزول الوحى كان في ليلةالاثنين الحادية عشرة من شهر رمضان فإن هذا يعنى أن فترة الوحى كانت لعشرة أيامفقط‏.‏ وأن الوحى نزل بعدها صبيحة يوم الخميس لأول شوال من السنة الأولى منالنبوة‏.‏ ولعل هذا هو السر في تخصيص العشر الأواخر من رمضان بالمجاورة والاعتكاف،وفي تخصيص أول شهر شوال بالعيد السعيد، والله أعلم‏.‏
وقد بقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام الفترة كئيبًامحزونًا تعتريه الحيرة والدهشة، فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه‏:‏
وفتر الوحي فترة حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا عدامنه مرارًا كى يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوْفي بذِرْوَة جبل لكى يلقى نفسهمنه تَبدَّى له جبريل فقال‏:‏ يا محمد، إنك رسول الله حقًا، فيسكن لذلك جأشه،وتَقَرّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفي بذروةالجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك‏.‏
جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية
قال ابن حجر‏:‏ وكان ذلك ‏[‏أي انقطاع الوحي أيامًا‏]‏؛ ليذهب ماكان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود، فلما حصل لهذلك وأخذ يرتقب مجىء الوحى أكرمه الله بالوحي مرة ثانية‏.‏ قال‏:‏ صلى الله عليهوسلم‏:‏
‏(‏جاورت بحراء شهرًا فلما قضيت جوارى هبطت ‏[‏فلما استبطنتالوادي‏]‏ فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا،ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أرشيئًا، فرفعت رأسى فرأيت شيئًا، ‏[‏فإذاالملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فَجُئِثْتُ منه رعبًا حتىهويت إلى الأرض‏]‏ فأتيت خديجة فقلت‏:‏ ‏[‏زملوني، زملوني‏]‏، دثرونى، وصبوا علىماء باردًا‏)‏، قال‏:‏ ‏(‏فدثرونى وصبوا على ماء باردًا، فنزلت‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُقُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَفَاهْجُرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1‏:‏ 5‏]‏‏)‏ وذلك قبل أن تفرض الصلاة، ثمحمى الوحى بعد وتتابع‏.‏
وهذه الآيات هي مبدأ رسالته صلى الله عليه وسلم وهي متأخرة عنالنبوة بمقدار فترة الوحى‏.‏ وتشتمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه‏:‏
النوع الأول‏:‏ تكليفه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والتحذير، وذلكفي قوله تعالى‏:‏‏{‏قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ فإن معناه‏:‏ حذر الناس من عذابالله إن لم يرجعوا عما هم فيه من الغى والضلال وعبادة غير الله المتعال، والإشراكبه في الذات والصفات والحقوق و الأفعال‏.‏
النوع الثاني‏:‏ تكليفه صلى الله عليه وسلم بتطبيق أوامر اللهسبحانه وتعالى على ذاته، والالتزام بها في نفسه؛ ليحرز بذلك مرضاة الله، ويصير أسوةحسنة لمن آمن بالله وذلك في بقية الآيات‏.‏ فقوله‏:‏‏{‏وَرَبَّكَفَكَبِّرْ‏}‏ معناه‏:‏ خصه بالتعظيم، ولا تشرك به في ذلك أحدًا‏.‏وقوله‏:‏‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ المقصود الظاهر منه‏:‏ تطهيرالثياب والجسد، إذ ليس لمن يكبر الله ويقف بين يديه أن يكون نجسًا مستقذرًا‏.‏ وإذاكان هذا التطهر مطلوبًا فإن التطهر من أدران الشرك وأرجاس الأعمال والأخـلاق أولـىبالطـلب، وقولــه‏:‏‏{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏ معناه‏:‏ ابتعد عن أسباب سخطالله وعذابه، وذلك بالتزام طاعته وترك معصيته‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَا تَمْنُنتَسْتَكْثِرُ‏}‏ أي‏:‏ لا تحسن إحسانًا تريد أجره من الناس أو تريد لهجزاء أفضل في هذه الدنيا‏.‏
أما الآية الأخيرة ففيها تنبيه على ما يلحقه من أذى قومه حينيفارقهم في الدين ويقوم بدعوتهم إلى الله وحده وبتحذيرهم من عذابه وبطشه، فقال‏:‏{‏وَلِرَبِّكَفَاصْبِرْ‏}‏، ثم إن مطلع الآيات تضمنت النداء العلوى ـ في صوت الكبيرالمتعال ـ بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوموالتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُقُمْ فَأَنذِرْ‏}‏، كأنه قيل‏:‏ إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا،أما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير فما لك والنوم‏؟‏ وما لك والراحة‏؟‏ وما لكوالفراش الدافئ‏؟‏ والعيش الهادئ‏؟‏ والمتاع المريح‏!‏ قم للأمر العظيم الذيينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك، قم للجهد والنصب، والكد والتعب، قم فقد مضى وقتالنوم والراحة، وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل، والجهاد الطويل الشاق، قمفتهيأ لهذا الأمر واستعد‏.‏
إنها كلمة عظيمة رهيبة تنزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش فيالبيت الهادئ والحضن الدافئ، لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشدوالجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء‏.‏
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظل قائمًا بعدها أكثر من عشرينعامًا؛ لم يسترح ولم يسكن، ولم يعـش لنفسه ولا لأهله‏.‏ قام وظل قائمًا على دعوةالله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به، عبء الأمانة الكبرى في هذهالأرض، عبء البشرية كلها، عبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى،عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عامًا؛ لا يلهيه شأن عن شأن في خلالهذا الأمد منذ أن سمع النداء العلوى الجليل، وتلقى منه التكليف الرهيب‏.‏‏.‏‏.‏جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء‏.‏
وليست الأوراق الآتية إلا صورة مصغرة بسيطة من هذا الجهاد الطويلالشاق الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال هذا الأمد‏.‏
أقسام الوحى
وقبل الدخول في موضوع هذا الجهاد أرى من الأحسن أن أستطرد إلى بيانأقسام الوحى ومراتبه‏.‏ قال ابن القيم، وهو يذكر تلك المراتب‏:‏
إحداها‏:‏ الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم‏.‏
الثانية‏:‏ ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، كماقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن روح القدس نفث في روعى أنه لن تموت نفس حتىتستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أنتطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته‏)‏‏.‏
الثالثة‏:‏ إنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلًافيخاطبه حتى يَعِىَ عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا‏.‏
الرابعة‏:‏ أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه،فيلتبس به الملك، حتى أن جبينه ليتَفَصَّد عرقًا في اليوم الشديد البرد، وحتى أنراحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاء الوحى مرة كذلك وفخذه على فخذزيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها‏.‏
الخامسة‏:‏ إنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحى إليه ماشاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم‏.‏
السادسة‏:‏ ما أوحاه الله إليه، وهو فوق السموات ليلة المعراج منفرض الصلاة وغيرها‏.‏
السابعة‏:‏ كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم الله موسىبن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعًا بنص القرآن‏.‏ وثبوتها لنبينا صلىالله عليه وسلم هو في حديث الإسراء‏.‏
وقـد زاد بعضهم مرتبة ثامنة؛ وهي تكليم الله له كفاحًا من غير حجاب،وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف‏.‏ انتهي مع تلخيص يسير في بيان المرتبة الأولىوالثامنة‏.‏
المرحلة الأولى: من جهاد الدعوة إليالله

ثلاث سنوات من الدعوة السرية
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول ما تقدم من آيات سورةالمدثر، بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ وحيث إن قومه كانوا جفاة لا دين لهم إلاعبادة الأصنام والأوثان، ولا حجة لهم إلا أنهم ألفوا آباءهم على ذلك، ولا أخلاق لهمإلا الأخذ بالعزة والأنفة، ولا سبيل لهم في حل المشاكل إلا السيف، وكانوا مع ذلكمتصدرين للزعامة الدينية في جزيرة العرب، ومحتلين مركزها الرئيس، ضامنين حفظكيانها، فقد كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية؛ لئلا يفاجئأهل مكة بما يهيجهم‏.‏

الرعيل الأول
وكان من الطبيعى أن يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام أولًاعلى ألصق الناس به من أهل بيته، وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا إليه كل منتوسم فيه الخير ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الحق والخير، ويعرفونه بتحرى الصدقوالصلاح، فأجابه من هؤلاء ـ الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول صلى الله عليهوسلم وجلالة نفسه وصدق خبره ـ جَمْعٌ عُرِفوا في التاريخ الإسلامى بالسابقينالأولين، وفي مقدمتهم زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد،ومولاه زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي وابن عمه علي بن أبي طالب ـ وكان صبيًا يعيشفي كفالة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ وصديقه الحميم أبو بكر الصديق‏.‏ أسلم هؤلاءفي أول يوم الدعوة‏.‏
ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلًا مألفًا محببًاسهلًا ذا خلق ومعروف،وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته،فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعوته عثمان بن عفانالأموى، والزبير بن العوام الأسدى، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الزهريان،وطلحة بن عبيد الله التيمي‏.‏ فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس همالرعيل الأول وطليعة الإسلام‏.‏
ثم تلا هؤلاء أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح من بنيالحارث بن فهر، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومى، وامرأته أم سلمة، والأرقم بن أبيالأرقم المخزومى، وعثمان بن مظعون الجُمَحِىّ وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيدة بنالحارث ابن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد العدوى، وامرأته فاطمة بنت الخطابالعدوية أخت عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت التميمى، وجعفر بن أبي طالب، وامرأتهأسماء بنت عُمَيْس، وخالد بن سعيد بن العاص الأموى، وامرأته أمينة بنت خلف، ثم أخوهعمرو بن سعيد بن العاص، وحاطب بن الحارث الجمحي، وامرأته فاطمة بنت المُجَلِّلوأخوه الخطاب بن الحارث، وامرأته فُكَيْهَة بنت يسار، وأخوه معمر ابن الحارث،والمطلب بن أزهر الزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف، ونعيم بن عبد الله بن النحامالعدوي، وهؤلاء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شتى من قريش‏.‏
ومن السابقين الأولين إلى الإسلام من غير قريش‏:‏ عبد الله بن مسعودالهذلي، ومسعود بن ربيعة القاري، وعبد الله بن جحش الأسدي وأخوه أبو أحمد بن جحش،وبلال بن رباح الحبشي، صُهَيْب بن سِنان الرومي، وعمار بن ياسر العنسي، وأبوه ياسر،وأمه سمية، وعامر بن فُهيرة‏.‏
وممن سبق إلى الإسلام من النساء غير من تقدم ذكرهن‏:‏ أم أيمن بركةالحبشية، وأم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية زوج العباس بن عبد المطلب،وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما‏.‏
هؤلاء معروفون بالسابقين الأولين، ويظهر بعد التتبع والاستقراء أنعدد الموصوفين بالسبق إلى الإسلام وصل إلى مائة وثلاثين رجلًا وامرأة، ولكن لا يعرفبالضبط أنهم كلهم أسلموا قبل الجهر بالدعوة أو تأخر إسلام بعضهم إلى الجهر بها‏.‏

الصلاة
ومن أوائل ما نزل من الأحكام الأمر بالصلاة، قال ابن حجر‏:‏ كان صلىالله عليه وسلم قبل الإسراء يصلى قطعًا وكذلك أصحابه، ولكن اختلف هل فرض شىء قبلالصلوات الخمس من الصلوات أم لا‏؟‏ فقيل‏:‏ إن الفرض كانت صلاة قبل طلوع الشمس وقبلغروبها‏.‏ انتهي‏.‏ وروى الحارث بن أبي أسامة من طريق ابن لَهِيعَة موصولًا عن زيدابن حارثة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحى إليه أتاه جبريل،فعلمه الوضوء، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه، وقد رواه ابنماجه بمعناه، وروى نحوه عن البراء بن عازب وابن عباس، وفي حديث ابن عباس‏:‏ وكانذلك من أول الفريضة‏.‏
وقد ذكر ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا إذاحضرت الصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، وقد رأي أبو طالب النبيصلى الله عليه وسلم وعليّا يصليان مرة، فكلمهما في ذلك، ولما عرف جلية الأمر أمرهمابالثبات‏.‏
تلك هي العبادة التي أمر بها المؤمنون، ولا تعرف لهم عبادات وأوامرونواه أخرى غير ما يتعلق بالصلاة، وإنما كان الوحى يبين لهم جوانب شتى من التوحيد،ويرغبهم في تزكية النفوس، ويحثهم على مكارم الأخلاق، ويصف لهم الجنة والنار كأنهمارأي عين، ويعظهم بمواعظ بليغة تشرح الصدور وتغذى الأرواح، وتحدو بهم إلى جو آخر غيرالذي كان فيه المجتمع البشرى آنذاك‏.‏
وهكذا مرت ثلاثة أعوام، والدعوة لم تزل مقصورة على الأفراد، ولميجهر بها النبي صلى الله عليه وسلم في المجامع والنوادى،إلا أنها عرفت لدى قريش،وفشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به الناس، وقد تنكر له بعضهم أحيانًا، واعتدوا علىبعض المؤمنين، إلا أنهم لم يهتموا به كثيرًا حيث لم يتعرض رسول الله صلى الله عليهوسلم لدينهم، ولم يتكلم في آلهتهم‏.‏
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 10-31-2009, 06:43 PM
امة الله عزوجل امة الله عزوجل غير متواجد حالياً
عضو جديد
 




New الرحيق المختوم

المرحلـة الثانية: الدعــوة جهــارًا

أول أمـر بإظهار الدعـوة
لما تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون، وتتحمل عبءتبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها نزل الوحى يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلمبمعالنة الدعوة، ومجابهة الباطل بالحسنى‏.‏
وأول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَالْأَقْرَبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏214‏]‏، وقد ورد في سياق ذكرت فيه أولًاقصة موسى عليه السلام، من بداية نبوته إلى هجرته مع بني إسرائيل، وقصة نجاتهم منفرعون وقومه، وإغراق آل فرعون معه، وقد اشتملت هذه القصة على جميع المراحل التي مربها موسى عليه السلام، خلال دعوة فرعون وقومه إلى الله‏.‏
وكأن هذا التفصيل جىء به مع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بجهرالدعوة إلى الله؛ ليكون أمامه وأمام أصحابه مثال لما سيلقونه من التكذيب والاضطهادحينما يجهرون بالدعوة، وليكونوا على بصيرة من أمرهم منذ البداية‏.‏
ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السورة على ذكر مآل المكذبين للرسل، منقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة ـ عدا ما ذكر من أمرفرعون وقومه ـ ليعلم الذين سيقومون بالتكذيب عاقبة أمرهم وما سيلقونه من مؤاخذةالله إن استمروا عليه، وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة لهم وليس للمكذبين‏.‏

الدعـوة في الأقربين
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول هذهالآية، فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسة وأربعينرجلًا‏.‏ فلما أراد أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بادره أبو لهب وقال‏:‏هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم، ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة،وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أنيثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به،فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس‏.‏
ثم دعاهم ثانية وقال‏:‏ ‏(‏الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به،وأتوكل عليه‏.‏ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏إنالرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إنى رسول الله إليكم خاصة وإلىالناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون،وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا‏)‏‏.‏
فقال أبو طالب‏:‏ ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشدتصديقًا لحديثك‏.‏ وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلىما تحب، فامض لما أمرت به‏.‏ فوالله، لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسى لا تطاوعنىعلى فراق دين عبد المطلب‏.‏
فقال أبو لهب‏:‏ هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذغيركم، فقال أبو طالب‏:‏ والله لنمنعه ما بقينا‏.‏

على جبل الصفا
وبعد تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته وهويبلغ عن ربه، صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا، فعلا أعلاها حجرًا،ثم هتف‏:‏ ‏(‏يا صباحاه‏)‏
وكانت كلمة إنذار تخبر عن هجوم جيش أو وقوع أمر عظيم‏.‏
ثم جعل ينادى بطون قريش، ويدعوهم قبائل قبائل‏:‏ ‏(‏يا بني فهر، يابني عدى، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب‏)‏‏.‏
فلما سمعوا قالوا‏:‏ من هذا الذي يهتف‏؟‏ قالوا‏:‏ محمد‏.‏ فأسرعالناس إليه، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاءأبو لهب وقريش‏.‏
فلما اجتمعوا قال‏:‏ ‏(‏أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادى بسَفْحهذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِىَّ‏؟‏‏)‏‏.‏
قالوا‏:‏ نعم، ما جربنا عليك كذبًا، ما جربنا عليك إلا صدقًا‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏إنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد، إنما مثلى ومثلكم كمثلرجل رأي العَدُوّ فانطلق يَرْبَأ أهله‏)‏‏(‏ أي يتطلع وينظر لهم من مكان مرتفع لئلايدهمهم العدو‏)‏ ‏(‏خشى أن يسبقوه فجعل ينادى‏:‏ يا صباحاه‏)‏
ثم دعاهم إلى الحق، وأنذرهم من عذاب الله، فخص وعم فقال‏:‏
‏(‏يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، أنقذوا أنفسكم من النار،فإنى لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا‏.‏
يا بني كعب بن لؤى، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًاولا نفعًا‏.‏
يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏
يا معشر بني قصى، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرًاولا نفعًا‏.‏
يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم منالله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا‏.‏
يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏
يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏
يا معشر بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكمضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكممن الله شيئًا، سلونى من مالى ماشئتم، لا أملك لكممن الله شيئًا‏.‏
يا عباس بن عبد المطلب، لا أغنى عنك من الله شيئًا‏.‏
يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله، لا أغنى عنك من اللهشيئًا‏.‏
يا فاطمة بنت محمد رسول الله، سلينى ما شئت من مالى، أنقذى نفسك منالنار، فإنى لا أملك لك ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنك من الله شيئًا‏.‏
غير أن لكم رحمًا سأبُلُّها بِبلاَلها‏)‏ أي أصلها حسب حقها‏.‏
ولما تم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا، ولا يذكر عنهم أي ردة فعل،سوى أن أبا لهب واجه النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء، وقال‏:‏ تبا لك سائر اليوم،ألهذا جمعتنا‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ ‏[‏سورةالمسد‏:‏1‏]‏‏.‏
كانت هذه الصيحـة العالية هي غاية البلاغ، فقد أوضح الرسول صلى اللهعليه وسلم لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه وبينهم،وأن عصبة القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتى من عندالله‏.‏
ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى‏:‏{‏فَاصْدَعْ بِمَاتُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏94‏]‏، فقامرسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بالدعوة إلى الإسلام في مجامع المشركينونواديهم، يتلو عليهم كتاب الله، ويقول لهم ما قالته الرسل لأقوامهم‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ اعْبُدُواْاللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏59‏]‏،وبدءيعبد الله تعالى أمام أعينهم، فكان يصلى بفناء الكعبة نهارًا جهارًا وعلى رءوسالأشهاد‏.‏
وقد نالت دعوته مزيدًا من القبول، ودخل الناس في دين الله واحدًابعد واحد‏.‏ وحصل بينهم وبين من لم يسلم من أهل بيتهم تباغض وتباعد وعناد واشمأزتقريش من كل ذلك، وساءهم ما كانوا يبصرون‏.‏

المجلس الاستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعوة
وخلال هذه الأيام أهم قريشًا أمر آخر،وذلك أن الجهر بالدعوة لم يمضعليه إلا أيام أو أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدمعليهم، فرأت أنه لابد من كلمة يقولونها للعرب، في شأن محمد صلى الله عليه وسلم حتىلا يكون لدعوته أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلكالكلمة، فقال لهم الوليد‏:‏ أجمعوا فيه رأيـًا واحدًا،ولا تختلفوا فيكذب بعضكمبعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، قالوا‏:‏ فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به‏.‏قال‏:‏ بل أنتم فقولوا أسمع‏.‏ قالوا‏:‏ نقول‏:‏ كاهن‏.‏ قال‏:‏ لا والله ما هوبكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه‏.‏ قالوا‏:‏ فنقول‏:‏مجنون، قال‏:‏ ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخَنْقِه ولاتَخَالُجِه ولا وسوسته‏.‏ قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ شاعر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بشاعر، لقد عرفناالشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه، فما هو بالشعر،قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ ساحر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هوبنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم‏.‏ قالوا‏:‏ فما نقول‏؟‏ قال‏:‏ والله إن لقوله لحلاوة،‏[‏وإن عليه لطلاوة‏]‏ وإن أصله لعَذَق، وإن فَرْعَه لجَنَاة، وما أنتم بقائلين منهذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا‏:‏ ساحر‏.‏ جاء بقول هوسحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرءوعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك‏.‏
وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليهم كل ما عرضوا له،قالوا‏:‏ أرنا رأيك الذي لا غضاضة فيه، فقال لهم‏:‏ أمهلونى حتى أفكر في ذلك، فظلالوليد يفكر ويفكر حتى أبدى لهم رأيه الذي ذكر آنفًا‏.‏
وفي الوليد أنزل الله تعالى ست عشرة آية من سورة المدثر‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُوَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُتَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًاسَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَوَاسْتَكْبَرَفَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُالْبَشَرِسَأُصْلِيهِ سَقَرَ‏}‏ ‏[‏من 11 إلى 26‏]‏ وفي خلالها صوركيفية تفكيره، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَكَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَفَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُالْبَشَرِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏18‏:‏ 25‏]‏
وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه، فجلسوا بسبلالناس حين قدموا للموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره‏.‏
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يتبع الناس في منازلهم وفيعُكَاظ ومَجَنَّة وذى المَجَاز، يدعوهم إلى الله، وأبو لهب وراءه يقول‏:‏ لا تطيعوهفإنه صابئ كذاب‏.‏
وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى اللهعليه وسلم وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها‏.‏

أساليب شتى لمجابهة الدعوة
ولما فرغت قريش من الحج فكرت في أساليب تقضى بها على هذه الدعوة فيمهدها‏.‏ وتتلخص هذه الأساليب فيما يلي‏:‏
1ـ السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب والتضحيك‏:‏
قصدوا بها تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي صلىالله عليه وسلم بتهم هازلة، وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالمجنون ‏{‏وَقَالُواْ يَا أَيُّهَاالَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ‏}‏[‏الحجر‏:‏6‏]‏، ويصمونه بالسحر والكذب ‏{‏وَعَجِبُوا أَن جَاءهُممُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏}‏[‏ص‏:‏4]‏،وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة، وعواطف منفعلة هائجة{‏وَإِن يَكَادُالَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَوَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏51]‏،وكان إذا جلسوحوله المستضعفون من أصحابه استهزأوا بهم وقالوا‏:‏ هؤلاء جلساؤه ‏{‏مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِممِّن بَيْنِنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 53‏]‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللّهُبِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏53]‏،وكانوا كما قص اللهعلينا ‏{‏إِنَّالَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَامَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْفَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُواعَلَيْهِمْ حَافِظِينَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 29‏:‏ 33]‏‏.‏
وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء وزادوا من الطعن والتضحيك شيئًافشيئًا حتى أثر ذلك في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى‏:‏{‏وَلَقَدْنَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ‏}‏[‏الحجر‏:‏97‏]‏، ثم ثبته الله وأمره بما يذهب بهذا الضيق فقال‏:‏ ‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِرَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَالْيَقِينُ‏}‏‏[‏الحجر‏:‏98، 99‏]‏، وقد أخبره من قبل أنه يكفيه هؤلاءالمستهزئين حيث قال‏:‏‏{‏إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَمَعَ اللّهِ إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 95، 96‏]‏، وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالًا عليهم فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَبِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِيَسْتَهْزِؤُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏10‏]‏‏.‏
2ـ إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة‏:‏
وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بحيث لا يبقى لعامة الناس مجالللتدبر في دعوته والتفكير فيها، فكانوا يقولون عن القرآن‏:‏‏{‏أَضْغَاثُأَحْلاَمٍ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏5‏]‏ يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار،ويقولون‏:‏‏{‏بَلِافْتَرَاهُ‏}‏من عند نفسه ويقولون‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُعَلِّمُهُبَشَرٌ‏}‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِقَوْمٌ آخَرُونَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 4‏]‏ أي اشترك هو وزملاؤه فياختلاقه‏.‏ ‏{‏وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىعَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏5‏]‏
وأحيانا قالوا‏:‏ إن له جنًا أو شيطانًا يتنزل عليه كما ينزل الجنوالشياطين على الكهان‏.‏ قال تعالى ردًا عليهم‏:‏ ‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْعَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍأَثِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏221، 222‏]‏، أي إنها تنزل على الكذاب الفاجرالمتلطخ بالذنوب، وما جرّبتم علىّ كذبًا، وما وجدتم في فسقًا، فكيف تجعلون القرآنمن تنزيل الشيطان‏؟‏
وأحيانًا قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنه مصاب بنوع منالجنون، فهو يتخيل المعانى، ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة كما يصوغ الشعراء، فهوشاعر وكلامه شعر‏.‏ قال تعالى ردًا عليهم‏:‏ ‏{‏وَالشُّعَرَاءيَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَوَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏225‏:‏ 226‏]‏ فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء ليست واحدة منها في النبي صلى الله عليهوسلم، فالذين اتبعوه هداة مهتدون، متقون صالحون في دينهم وخلقهم وأعمالهموتصرفاتهم، وليست عليهم مسحة من الغواية في أي شأن من شئونهم، ثم النبي صلى اللهعليه وسلم لا يهيم في كل واد كما يهيم الشعراء، بل هو يدعو إلى رب واحد، ودين واحد،وصراط واحد، وهو لا يقول إلا ما يفعل، ولا يفعل إلا ما يقول، فأين هو من الشعروالشعراء‏؟‏ وأين الشعر والشعراء منه‏.‏
هكذا كان يرد عليهم بجواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيرونها ضد النبيصلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام‏.‏
ومعظم شبهتهم كانت تدور حول التوحيد، ثم رسالة محمد صلى الله عليهوسلم، ثم بعث الأموات ونشرهم وحشرهم يوم القيامة، وقد رد القرآن على كل شبهة منشبهاتهم حول التوحيد، بل زاد عليها زيادات أوضح بها هذه القضية من كل ناحية، وبينعجز آلهتهم عجزًا لا مزيد عليه، ولعل هذا كان مثار غضبهم واستنكارهم الذي أدى إلىما أدى إليه‏.‏
أما شبهاتهم في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم مع اعترافهمبصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته وغاية صلاحه وتقواه، كانوا يعتقدون أن منصبالنبوة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر، فالبشر لا يكون رسولًا، والرسول لايكون بشرًا حسب عقيدتهم‏.‏ فلما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبوته، ودعاإلى الإيمان به تحيروا وقالوا‏:‏‏{‏مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِيالْأَسْوَاقِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏، وقالوا‏:‏ إن محمدًا صلى اللهعليه وسلم بشر،و ‏{‏مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ‏}‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، فقال تعالى ردًا عليهم‏:‏‏{‏قُلْ مَنْ أَنزَلَالْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ‏}‏،وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر‏.‏ ورد عليهم أيضًا بأن كل قوم قالوا لرسلهمإنكارًا على رسالتهم‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا‏}‏[‏إبراهيم‏:‏10‏]‏، فـ ‏{‏قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌمِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْعِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فالأنبياء والرسل لا يكونون إلابشرًا، ولا منافاة بين البشرية والرسالة‏.‏
وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن إبراهيم و إسماعيل وموسى ـ عليهمالسلام ـ كانوا رسلًا وكانوا بشرًا، فإنهم لم يجدوا مجالًا للإصرار على شبهتهمهذه،فقالوا‏:‏ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين،ما كـان اللـه ليترككـبار أهـل مكـة والطائف ويتخذ هذا المسكين رسولًا‏{‏وَقَالُوا لَوْلَانُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِعَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏31‏]‏، قال تعالى ردًا عليهم‏:‏‏{‏أَهُمْ يَقْسِمُونَرَحْمَةَ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏32‏]‏، يعنى أن الوحى والرسالة رحمةمن الله و‏{‏اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏[‏الأنعام‏:‏124‏]‏‏.‏
وانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى، قالوا‏:‏ إن رسل ملوك الدنيا يمشونفي موكب من الخدم والحشم، ويتمتعون بالأبهة والجلال، ويوفر لهم كل أسباب الحياة،فما بال محمد يدفع في الأسواق للقمة عيش وهو يدعى أنه رسول الله‏؟‏‏{‏وَقَالُوا مَالِ هَذَاالرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَإِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْتَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَإِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏7‏:‏ 8‏]‏، ورد على شبهتهمهذه بأن محمدًا رسول، يعنى أن مهمته هو إبلاغ رسالة الله إلى كل صغير وكبير، وضعيفوقوى، وشريف ووضيع، وحر وعبد، فلو لبث في الأبهة والجلال والخدم والحشم والحرسوالمواكبين مثل رسل الملوك، لم يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغارهم حتى يستفيدوا به،وهم جمهور البشر، وإذن فاتت مصلحة الرسالة، ولم تعد لها فائدة تذكر‏.‏
أما إنكارهم البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجبوالاستغراب والاستبعاد العقلي، فكانوا يقولون‏:‏ ‏{‏أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّاتُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ‏}‏[‏الصافات‏:‏16، 17‏]‏،وكانوا يقولون‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ رَجْعٌبَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏: ‏3‏]‏ وكانوا يقولون على سبيل الاستغراب‏:‏ ‏{‏هَلْ نَدُلُّكُمْعَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِيخَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ‏}‏[‏سبأ‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏
وقال قائلهم‏:‏
أَموْتٌ ثم بَعْثٌ ثم حَشْرٌ ** حدِيثُ خُرَافة يا أم عمرو
وقد رد عليهم بتبصيرهم ما يجرى في الدنيا، فالـظالم يموت دون أنيلقى جزاء ظلمه، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه، والمحسن الصالح يموت قبلأن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه، والفاجر المسىء يموت قبل أن يعاقب على سوء عمله، فإنلم يكن بعث ولا حياة ولا جزاء بعد الموت لاستوى الفريقان، بل لكان الظالم والفاجرأسعد من المظلوم والصالح، وهذا غير معقول إطلاقا‏.‏ ولا يتصور من الله أن يبني نظامخلقه على مثل هذا الفساد‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَنَجْعَلُالْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏[‏القلم‏:‏35، 36‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَتَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏ص‏: ‏28‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أًمْ حَسِبَ الَّذِينَاجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواالصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَايَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏21‏]‏‏.‏
وأما الاستبعاد العقلى فقال تعالى ردًا عليه‏:‏ ‏{‏أَأَنتُمْ أَشَدُّخَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏27‏]‏، وقال‏:‏‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاأَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَبِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّشَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏: ‏33‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُالنَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏62‏]‏،وبين ما هو معروف عقلًا وعرفًا، وهو أن الإعادة ‏{‏أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏[‏الروم‏: ‏27‏]‏،وقال‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَاأَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏104‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَعَيِينَابِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 15‏]‏‏.‏
وهكذا رد على كل ما أثاروا من الشبهات ردًا مفحمًا يقنع كل ذى عقلولب، ولكنهم كانوا مشاغبين مستكبرين يريدون عُلوا في الأرض وفرض رأيهم على الخلق،فبقوا في طغيانهم يعمهون‏.‏
3 ـ الحيلولة بين الناس وبين سماعهم القرآن، ومعارضته بأساطيرالأولين‏:‏
كان المشركون بجنب إثارة هذه الشبهات يحولون بين الناس وبين سماعهمالقرآن ودعوة الإسلام بكل طريق يمكن، فكانوا يطردون الناس ويثيرون الشغب والضوضاءويتغنون ويلعبون، إذا رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يتهيأ للدعوة، أو إذا رأوهيصلى ويتلو القرآن‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَكَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْتَغْلِبُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏26‏]‏ حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لميتمكن من تلاوة القرآن عليهم في مجامعهم ونواديهم إلا في أواخر السنة الخامسة منالنبوة، وذلك أيضًا عن طريق المفاجأة، دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلاوة‏.‏
وكان النضر بن الحارث، أحد شياطين قريش قد قدم الحيرة، وتعلم بهاأحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليهوسلم مجلسًا للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر ويقول‏:‏ أنا و الله يامعشر قريش أحسن حديثًا منه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول‏:‏بماذا محمد أحسن حديثًا مني‏.‏
وفي رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَيْنَةً، فكان لايسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول‏:‏ أطعميه واسقيه وغنيه، هذاخير مما يدعوك إليه محمد، وفيه نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنيَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏[‏لقمان‏:‏ 6‏]‏‏.‏

الاضطهادات
أعمل المشركون الأساليب التي ذكرناها شيئًا فشيئًا لإحباط الدعوةبعد ظهورها في بداية السنة الرابعة من النبوة، ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهممقتصرون على هذه الأساليب لا يتجاوزونها إلى طريق الاضطهاد والتعذيب، ولكنهم لمارأوا أن هذه الأساليب لم تجد نفعًا في إحباط الدعوة الإسلامية استشاروا فيما بينهم،فقرروا القيام بتعذيب المسلمين وفتنتهم عن دينهم، فأخذ كل رئيس يعذب من دان منقبيلته بالإسلام، وانقض كل سيد على من اختار من عبيده طريق الإيمان‏.‏
وكان من الطبيعي أن يهرول الأذناب والأوباش خلف ساداتهم وكبرائهم،ويتحركوا حسب مرضاتهم وأهوائهم، فجروا على المسلمين ـ ولاسيما الضعفاء منهم ـ ويلاتتقشعر منها الجلود، وأخذوهم بنقمات تتفطر لسماعها القلوب‏.‏
كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعدهبإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به‏.‏
وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه منتحته‏.‏
ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب، وأخرجتهمن بيته، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية‏.‏
وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى مايقول‏.‏
وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا،ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه،وهو يقول‏:‏ أحَدٌ أحَدٌ، وكان أمية يـشده شـدًا ثم يضربه بالعصا، و يلجئه إلىالجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع‏.‏ وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذاحميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمةفتوضع على صدره، ثم يقول‏:‏ لا واللـه لا تـزال هكـذا حتى تموت أو تكفر بمحمد،وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك‏:‏ أحد،أحد، ويقـول‏:‏ لو أعلم كلمة هي أغيظلكم منها لقلتها‏.‏ ومر به أبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود،وقيل‏:‏ بسبع أواق أو بخمس من الفضة، وأعتقه‏.‏
وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوهوأمه، فكان المشركون ـ وعلى رأسهم أبو جهل ـ يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاءفيعذبونهم بحرها‏.‏ ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال‏:‏ ‏(‏صبرًاآل ياسر، فإن موعدكم الجنة‏)‏، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية ـ أم عمار ـفي قبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وهي سمية بنت خياط مولاة أبيحذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة‏.‏ وشددواالعذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطه في الماء حتىكان يفقد وعيه‏.‏ وقالوا له‏:‏ لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزىخيرًا، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي صلى الله عليهوسلم‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَوَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ‏}‏الآية ‏[‏ النحل‏:‏ 106 ‏]‏‏.‏
وكان أبو فُكَيْهَةَ ـ واسمة أفلح ـ مولى لبني عبد الدار، وكان منالأزد‏.‏ فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد، وفي رجليه قيد من حديد،فيجردونه من الثياب، ويبطحونه في الرمضاء، ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لا يتحرك،فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل، فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجرةالثانية، وكانوا مرة قد ربطوا رجله بحبل، ثم جروه وألقوه في الرمضاء وخنقوه حتىظنوا أنه قد مات، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه لله‏.‏
وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سِباع الخزاعية، وكانحدادًا، فلما أسلم عذبته مولاته بالنار، كانت تأتى بالحديدة المحماة فتجعلها علىظهره أو رأسه، ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يزيده ذلك إلا إيمانًاوتسليمًا، وكان المشركون أيضًا يعذبونه فيلوون عنقه، ويجذبون شعره، وقد ألقوه علىالنار، ثم سحبوه عليها، فما أطفأها إلا وَدَكَ ظهره‏.‏
وكانت زِنِّيرَةُ أمَةً رومية قد أسلمت فعذبت في الله، وأصيبت فيبصرها حتى عميت، فقيل لها‏:‏ أصابتك اللات والعزى، فقالت‏:‏ لا والله ما أصابتني،وهذا من الله، وإن شاء كشفه، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها، فقالت قريش‏:‏ هذابعض سحر محمد‏.‏
وأسلمت أم عُبَيْس، جارية لبني زهرة، فكان يعذبها المشركون، وبخاصةمولاها الأسود بن عبد يغوث، وكان من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنالمستهزئين به‏.‏
وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بني عدى، فكان عمر بن الخطاب يعذبها ـوهو يومئذ على الشرك ـ فكان يضربها حتى يفتر، ثم يدعها ويقول‏:‏ والله ما أدعك إلاسآمة، فتقول‏:‏ كذلك يفعل بك ربك‏.‏
وممـن أسلمـن وعـذبن مـن الجـوارى‏:‏ النهدية وابنتها، وكانتالامـرأة من بني عبد الدار‏.‏
وممن عذب من العبيد‏:‏ عامر بن فُهَيْرَة، كان يعذب حتى يفقد وعيهولا يدرى ما يقول‏.‏
واشترى أبوبكر رضي الله عنه هؤلاء الإماء والعبيد رضي الله عنهموعنهن أجمعين، فأعتقهم جميعًا‏.‏ وقد عاتبه في ذلك أبوه أبو قحافة وقال‏:‏ أراكتعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالًا جلدًا لمنعوك‏.‏ قال‏:‏ إني أريد وجه الله‏.‏فأنزل الله قرآنًا مدح فيه أبا بكر، وذم أعداءه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًاتَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَوَتَوَلَّى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏14‏:‏ 16]‏ وهو أمية بن خلف، ومن كان علىشاكلته ‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىوَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِالْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏ ‏[‏الليـل‏:‏17‏:‏ 21]‏ وهـو أبـوبـكـر الصديـق رضي الله عنه‏.‏
وأوذى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا‏.‏ فقد أخذه نوفل بن خويلدالعدوى، وأخذ معه طلحة بن عبيد الله فشدهما في حبل واحد، ليمنعهما عن الصلاة وعنالدين فلم يجيباه، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان؛ ولذلك سميا بالقرينين،وقيل‏:‏ إنما فعل ذلك عثمان بن عبيد الله أخو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه‏.‏
والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذىوالنكال، وكان ذلك سهلًا ميسورًا بالنسبة لضعفاء المسلمين، ولا سيما العبيد والإماءمنهم، فلم يكن من يغضب لهم ويحميهم، بل كانت السادة والرؤساء هم أنفسهم يقومونبالتعذيب ويغرون الأوباش، ولكن بالنسبة لمن أسلم من الكبار والأشراف كان ذلك صعبًاجدًا؛ إذ كانوا في عز ومنعة من قومهم، ولذلك قلما كان يجتريء عليهم إلا أشرافقومهم، مع شيء كبير من الحيطة والحذر‏

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 10-31-2009, 07:05 PM
امة الله عزوجل امة الله عزوجل غير متواجد حالياً
عضو جديد
 




New الرحيق المختوم

موقف المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليهوسلم كان رجلًا شهمًا وقورًا ذا شخصية فذة، تتعاظمه نفوس الأعداء والأصدقاء بحيث لايقابل مثله إلا بالإجلال والتشريف، ولا يجترئ على اقتراف الدنايا والرذائل ضده إلاأراذل الناس وسفهاؤهم، ومع ذلك كان في منعة أبي طالب، وأبو طالب من رجال مكةالمعدودين، كان معظمًا في أصله، معظمًا بين الناس، فكان من الصعب أن يجسر أحد علىإخفار ذمته واستباحة بيضته، إن هذا الوضع أقلق قريشًا وأقامهم وأقعدهم، ودعاهم إلىتفكير سليم يخرجهم من المأزق دون أن يقعوا في محذور لا يحمد عقباه، وقد هداهم ذلكإلى أن يختاروا سبيل المفاوضات مع المسئول الأكبر‏:‏ أبي طالب، ولكن مع شيء كبير منالحكمة والجدية، ومع نوع من أسلوب التحدي والتهديد الخفي حتى يذعن لما يقولون‏.‏
وفد قريش إلى أبي طالب
قال ابن إسحاق‏:‏ مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا‏:‏يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسَفَّه أحلامنا، وضلل آباءنا،فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه،فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولًا رقيقًا وردهم ردًا جميلًا، فانصرفوا عنه، ومضىرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه‏.‏ ولكن لمتصبر قريش طويلًا حين رأته صلى الله عليه وسلم ماضيًا في عمله ودعوته إلى الله، بلأكثرت ذكره وتذامرت فيه، حتى قررت مراجعة أبي طالب بأسلوب أغلظ وأقسى من السابق‏.‏
قريش يهددون أبا طالب
وجاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له‏:‏ يا أبا طالب، إن لكسنًا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا واللهلا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أوننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين‏.‏
عَظُم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم وقال له‏:‏ يا بن أخي، إن قومك قد جاءونى فقالوا لي كذا وكذا،فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلى اللهعليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعُف عن نصرته، فقال‏:‏ ‏(‏يا عم، والله لو وضعواالشمس في يمينى والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر ـ حتى يظهره الله أو أهلكفيه ـ ما تركته‏)‏، ثم استعبر وبكى، وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فلما أقبل قالله‏:‏ اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فو الله لا أُسْلِمُك لشىء أبدًا وأنشد‏:‏
والله لن يصلوا إليك بجَمْعـِهِم ** حتى أُوَسَّدَ في التــرابدفيــنًا
فاصدع بأمرك ما عليك غَضَاضَة ** وابْشِرْ وقَرَّ بذاك منك عيونًا
وذلك في أبيات‏.‏
قريش بين يدى أبي طالب مرة أخرى
ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماض في عمله عرفت أنأبا طالب قد أبي خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مجمع لفراقهم وعداوتهمفي ذلك، فذهبوا إليه بعمارة ابن الوليد بن المغيرة وقالوا له‏:‏ يا أبا طالب، إنهذا الفتى أنْهَدَ فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك،وأسْلِمْ إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفهأحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال‏:‏ والله لبئس ما تسومونني، أتعطونيابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه‏؟‏ هذا والله ما لا يكون أبدًا‏.‏ فقالالمطعم بن عدى بن نوفل ابن عبد مناف‏:‏ والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدواعلى التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا، فقال‏:‏ والله ماأنصفتموني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علىّ، فاصنع ما بدا لك‏.‏
ولما فشلت قريش في هذه المفاوضات، ولم توفق في إقناع أبي طالب بمنعرسول الله صلى الله عليه وسلم وكفه عن الدعوة إلى الله، قررت أن يختار سبيلا قدحاولت تجنبه والابتعاد منه مخافة مغبته وما يؤول إليه، وهو سبيل الاعتداء على ذاتالرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏
اعتداءات على رسول الله صلى الله عليهوسلم
واخترقت قريش ما كانت تتعاظمه وتحترمه منذ ظهرت الدعوة على الساحة،فقد صعب على غطرستها وكبريائها أن تصبر طويلًا، فمدت يد الاعتداء إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم، مع ما كانت تأتيه من السخرية والاستهزاء والتشوية والتلبيسوالتشويش وغير ذلك‏.‏ وكان من الطبيعى أن يكون أبو لهب في مقدمتهم وعلى رأسهم، فإنهكان أحد رؤوس بني هاشم، فلم يكن يخشى ما يخشاه الآخرون، وكان عدوًا لدودًا للإسلاموأهله، وقد وقف موقف العداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول،واعتدى عليه قبل أن تفكر فيه قريش، وقد أسلفنا ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم فيمجلس بني هاشم، وما فعل على الصفا‏.‏
وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتى رسول الله صلى اللهعليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدةحتى طلقاهما‏.‏
ولما مات عبد الله ـ الابن الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـاستبشر أبو لهب وذهب إلى المشركين يبشرهم بأن محمدًا صار أبتر‏.‏
وقد أسلفنا أن أبا لهب كان يجول خلف النبي صلى الله عليه وسلم فيموسم الحج والأسواق لتكذيبه، وقد روى طارق بن عبد الله المحاربى ما يفيد أنه كان لايقتصر على التكذيب بل كان يضربه بالحجر حتى يدمى عقباه‏.‏
وكانت امرأة أبي لهب ـ أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيانـ لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت تحمل الشوك، وتضعهفي طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بابه ليلًا، وكانت امرأة سليطة تبسط فيهلسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حربًا شعواء على النبيصلى الله عليه وسلم؛ ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب‏.‏
ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى اللهعليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فِهْرٌ‏[‏أي بمقدار ملء الكف‏]‏ من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت‏:‏ يا أبا بكر، أين صاحبك‏؟‏ قدبلغنى أنه يهجونى، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة‏.‏ثم قالت‏:‏
مُذَمَّما عصينا * وأمره أبينا * ودينه قَلَيْنا
ثم انصرفت، فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، أما تراها رأتك‏؟‏فقال‏:‏ ‏(‏ما رأتنى، لقد أخذ الله ببصرها عني‏)‏‏.‏
وروى أبو بكر البزار هذه القصة، وفيها‏:‏ أنها لما وقفت على أبي بكرقالت‏:‏ أبا بكر، هجانا صاحبك، فقال أبو بكر‏:‏ لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعرولا يتفوه به، فقالت‏:‏ إنك لمُصدَّق‏.‏
كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلموجاره، كان بيته ملصقا ببيته، كما كان غيره من جيران رسول الله صلى الله عليه وسلميؤذونه وهو في بيته‏.‏
قال ابن إسحاق‏:‏ كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليهوسلم في بيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدى بنحمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلى ـ وكانوا جيرانه ـ لم يسلم منهم أحد إلا الحكمبن أبي العاص، فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاة وهو يصلى، وكانأحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرًاليستتر به منهم إذا صلى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلكالأذى يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول‏:‏ ‏(‏يا بني عبد مناف، أيجوار هذا‏؟‏‏)‏ ثم يلقيه في الطريق‏.‏
وازداد عقبة بن أبي مُعَيْط في شقاوته وخبثه، فقد روى البخاري عنعبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى عند البيت،وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض‏:‏ أيكم يجىء بسَلاَ جَزُور بني فلانفيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم ‏[‏وهو عقبة بن أبي معيط‏]‏ فجاء بهفنظر، حتى إذا سجد النبي وضع على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر، لا أغنى شيئًا، لوكانت لي منعة، قال‏:‏ فجعلوا يضحكون، ويحيل بعضهم على بعضهم ‏[‏أي يتمايل بعضهم علىبعض مرحًا وبطرًا‏]‏ ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، لا يرفع رأسه، حتى جاءتهفاطمة، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال‏:‏ ‏[‏اللهم عليك بقريش‏]‏ ثلاث مرات،فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم، قال‏:‏ وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة،ثم سمى‏:‏ ‏(‏اللّهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليدبن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط‏)‏ ـ وعد السابع فلم نحفظه ـ فوالذي نفسىبيده لقد رأيت الذين عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القَلِيب، قليببدر‏.‏
وكان أمية بن خلف إذا رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم همزهولمزه‏.‏ وفيه نزل‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏ ‏[‏سورةالهمزة‏:‏1]‏ قال ابن هشام‏:‏ الهمزة‏:‏ الذي يشتم الرجل علانية، ويكسر عينيه،ويغمز به‏.‏ واللمزة‏:‏ الذي يعيب الناس سرًا، ويؤذيهم‏.‏
أما أخوه أبي بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين‏.‏ وجلسعقبة مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فلما بلغ ذلك أبيًا أنبه وعاتبه،وطلب منه أن يتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، وأبي بن خلف نفسه فتعظمًا رميمًا ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
وكان الأخنس بن شَرِيق الثقفي ممن ينال من رسول الله صلى الله عليهوسلم وقد وصفه القرآن بتسع صفات تدل على ما كان عليه، وهي في قوله تعالى‏:‏‏{‏ وَلَا تُطِعْ كُلَّحَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍأَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏10‏:‏ 13‏]‏‏.‏
وكان أبو جهل يجىء أحيانًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعمنه القرآن، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى، ويؤذى رسول اللهصلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله، ثم يذهب مختالًا بما فعل، فخورًابما ارتكب من الشر، كأن ما فعل شيئًا يذكر، وفيه نزل‏:‏ ‏{‏فَلَا صَدَّقَ وَلَاصَلَّى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏31‏]‏، وكان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم عنالصلاة منذ أول يوم رآه يصلى في الحرم، ومرة مر به وهو يصلى عند المقام فقال‏:‏ يامحمد، ألم أنهك عن هذا، وتوعده، فأغلظ لــه رسـول الله صلى الله عليه وسلموانتـهره، فقال‏:‏ يا محمد، بأي شىء تهددنى‏؟‏ أما والله إني لأكثر هذا الوادىناديًا‏.‏ فأنزل الله ‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ‏}‏[‏العلق‏:‏17، 18‏]‏‏.‏ وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه وهزه،وهو يقول له‏:‏‏{‏أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَفَأَوْلَى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏34، 35‏]‏ فقال عدو الله‏:‏ أتوعدنى يامحمد‏؟‏ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئًا، وإني لأعز من مشى بين جبليها‏.‏
ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا الانتهار، بل ازداد شقاوةفيما بعد‏.‏ أخرج مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال أبو جهل‏:‏ يعفر محمد وجهه بينأظهركم‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم، فقال‏:‏ واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته، ولأعفرنوجهه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى، زعم ليطأ رقبته، فما فجأهم إلاوهو ينكص على عقبيه، ويتقى بيديه، فقالوا‏:‏ ما لك يا أبا الحكم‏؟‏ قال‏:‏ إن بينىوبينه لخندقًا من نار وهولًا وأجنحةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لودنا منى لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا‏)‏‏.‏
هذه صورة مصغرة جدًا لما كان يتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلموالمسلمون من الظلم والخسف والجور على أيدى طغاة المشركين، الذين كانوا يزعمون أنهمأهل الله وسكان حرمه‏.‏
وكان من مقتضيات هذه الظروف المتأزمة أن يختار رسول الله صلى اللهعليه وسلم موقفًا حازمًا ينقذ به المسلمين عما دهمهم من البلاء، ويخفف وطأته بقدرالمستطاع، وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوتين حكيمتين كان لهما أثرهمافي تسيير الدعوة وتحقيق الهدف، وهما‏:‏
1 ـ اختيار دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومى مركزا للدعوة ومقرًاللتربية‏.‏
2ـ أمر المسلمين بالهجرة إلى الحبشة‏.‏
دار الأرقم
كانت هذه الدار في أصل الصفا، بعيدة عن أعين الطغاة ومجالسهم،فاختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجتمع فيها بالمسلمين سرًا، فيتلو عليهمآيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ وليؤدى المسلمون عبادتهم وأعمالهم،ويتلقوا ما أنزل الله على رسوله وهم في أمن وسلام، وليدخل من يدخل في الإسلام ولايعلم به الطغاة من أصحاب السطوة والنقمة‏.‏
ومما لم يكن يشك فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو اجتمعبالمسلمين علنا لحاول المشركون بكل ما عندهم من القسوة والغلظة أن يحولوا بينه وبينما يريد من تزكية نفوسهم ومن تعليمهم الكتاب والحكمة، وربما أفضى ذلك إلى مصادمةالفريقين، بل قد وقع ذلك فعلًا‏.‏ فقد ذكر ابن إسحاق أن أصحاب رسول الله صلى اللهعليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها سرًا، فرآهم نفر من كفار قريش،فسبوهم وقاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلًا فسال دمه، وكان أول دم هريق فيالإسلام‏.‏
ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمينوإبادتهم، فكان من الحكمة السريةُ والاختفاء، فكان عامة الصحابة يُخْفُون إسلامهموعبادتهم واجتماعهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوة والعبادةبين ظهرإني المشركين، لا يصرفه عن ذلك شىء، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سرًا؛ نظرًالصالحهم وصالح الإسلام‏.‏
الهجرة الأولى إلى الحبشة
كانت بداية الاعتداءات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة،بدأت ضعيفة، ثم لم تزل تشتد يومًا فيومًا وشهرًا فشهرا، حتى تفاقمت في أواسط السنةالخامسة، ونبا بهم المقام في مكة، وأخذوا يفكرون في حيلة تنجيهم من هذا العذابالأليم، وفي هذه الظروف نزلت سورة الزمر تشير إلى اتخاذ سبيل الهجرة، وتعلن بأن أرضالله ليست بضيقة ‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُاللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِحِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏10]‏‏.‏
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن أصْحَمَة النجاشى ملكالحبشة ملك عادل، لا يظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارًابدينهم من الفتن‏.‏
وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة‏.‏كان مكونًا من اثنى عشر رجلًا وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه زوجته رقيةبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما‏:‏‏(‏إنهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام‏)‏
كان رحيل هؤلاء تسللًا في ظلمة الليل ـ حتى لا تفطن لهم قريش ـخرجوا إلى البحر ويمموا ميناء شعيبة، وقيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتابهم إلى الحبشة، وفطنت لهم قريش، فخرجت في آثارهم، لكن لما بلغت إلى الشاطئ كانواقد انطلقوا آمنين، وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار‏.‏
سجود المشركين مع المسلمين وعودةالمهاجرين
وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم،وفيه جمع كبير من قريش، فيهم ساداتهم وكبراؤهم، فقام فيهم، وفاجأهم بتلاوة سورةالنجم، ولم يكن أولئك الكفار سمعوا كلام الله من قبل؛ لأنهم كانوا مستمرين على ماتواصى به بعضهم بعضًا،من قولهم‏:‏ ‏{‏لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْتَغْلِبُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏26]‏ فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرعآذانهم كلام إلهي خلاب، وكان أروع كلام سمعوه قط، أخذ مشاعرهم، ونسوا ما كانوا فيهفما من أحد إلا وهو مصغ إليه، لا يخطر بباله شىء سواه، حتى إذا تلا في خواتيم هذهالسورة قوارع تطير لها القلوب، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فَاسْجُدُوا لِلَّهِوَاعْبُدُوا‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏62‏]‏ ثم سجد، لم يتمالك أحد نفسه حتى خرساجدًا‏.‏ وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرينوالمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين‏.‏
وسَقَطَ في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لَوَّى زمامهم،فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه وإفنائه، وقد توالى عليهم اللوموالعتاب من كل جانب، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسولالله صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير، وأنه قالعنها ما كانوا يرددونه هم دائما من قولهم‏:‏ ‏(‏تلك الغرانيـق العلى، وإن شفاعتهملترتجى‏)‏، جاءوا بهذا الإفك المبـين ليعـتذروا عـن سجودهم مع النبي صلى الله عليهوسلم، وليس يستغـــرب هـذا مـن قـوم كانوا يألفون الكذب، ويطيلون الدس والافتراء‏.‏
وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تمامًا عنصورته الحقيقية، بلغهم أن قريشًا أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة، فلماكانوا دون مكة ساعة من نهار وعرفوا جلية الأمر رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولميدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيًا، أو في جوار رجل من قريش‏.‏
ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش، وسطت بهمعشائرهم، فقد كان صعب على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسولالله صلى الله عليه وسلم بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى‏.‏
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10-31-2009, 07:17 PM
امة الله عزوجل امة الله عزوجل غير متواجد حالياً
عضو جديد
 




New الرحيق المختوم

الهجرة الثانية إلى الحبشة
واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى، وعلى نطاق أوسع، ولكن كانت هذهالهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمينكانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا‏.‏
وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلًا إن كان فيهمعمار، فإنه يشك فيه، وثماني عشرة أوتسع عشرة امرأة‏.‏
مكيدة قريش بمهاجري الحبشة
عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، فاختاروارجلين جلدين لبيبين، وهما‏:‏ عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة ـ قبل أن يسلماـ وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلكالهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقتالبطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهديا ثمكلماه فقالا له‏:‏
أيها الملك، إنه قد ضَوَى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم،ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليكفيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا،وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه‏.‏
وقالت البطارقة‏:‏ صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلىقومهم وبلادهم‏.‏
ولكن رأي النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافهاجميعًا‏.‏ فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنًاما كان‏.‏ فقال لهم النجاشي‏:‏ ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا بهفي دينى ولا دين أحد من هذه الملل ‏؟‏
قال جعفر بن أبي طالب ـ وكان هو المتكلم عن المسلمين‏:‏ أيها الملككنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام،ونسىء الجوار، ويأكل منا القوى الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًامنا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنانعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة،وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقولالزور، وأكل مال اليتيم،وقذف المحصنات،وأمرنا أن نعبد الله وحده،لا نشرك بهشيئًا،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه، وآمنابه، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا،وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عنديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل منالخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلىبلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك‏.‏
فقال له النجاشي‏:‏ هل معك مما جاء به عن الله من شيء‏؟‏ فقال لهجعفر‏:‏ نعم‏.‏ فقال له النجاشي‏:‏ فاقرأه على، فقرأ عليه صدرًا من‏:‏‏{‏كهيعص‏}‏ فبكىوالله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخْضَلُوا مصاحفهم حين سمعوا ماتلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي‏:‏ إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة،انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون ـ يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه ـفخرجا، فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة‏:‏ والله لآتينه غدًاعنهم بما أستأصل به خضراءهم‏.‏ فقال له عبد الله بن أبي ربيعة‏:‏ لا تفعل، فإن لهمأرحامًا وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه‏.‏
فلما كان الغد قال للنجاشي‏:‏ أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابنمريم قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا، ولكنأجمعوا على الصدق، كائنًا ما كان، فلما دخلوا عليه وسألهم، قال له جعفر‏:‏ نقول فيهالذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاهاإلى مريم العذراء البَتُول‏.‏
فأخذ النجاشي عودًا من الأرض ثم قال‏:‏ والله ما عدا عيسى ابن مريمما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال‏:‏ وإن نَخَرْتُم والله‏.‏
ثم قال للمسلمين‏:‏ اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي ـ والشيوم‏:‏الآمنون بلسان الحبشة ـ من سَبَّكم غَرِم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لىدَبْرًا من ذهب وإني آذيت رجلًا منكم ـ والدبر‏:‏ الجبل بلسان الحبشة‏.‏
ثم قال لحاشيته‏:‏ ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فواللهما أخذ الله منـي الرشـوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشـوة فيــه، وما أطاع الناس فيفأطيعـهم فيه‏.‏
قالت أم سلمة التي تروى هذه القصة‏:‏ فخرجا من عنده مقبوحين مردودًاعليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار‏.‏
هذه رواية ابن إسحاق، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشيكانت بعد بدر، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين‏.‏ ولكن الأسئلة والأجوبة التيذكروا أنها دارت بين النجاشي وبين جعفر بن أبي طالب في الوفادة الثانية هي نفسالأسئلة والأجوبة التي ذكرها ابن إسحاق هنا، ثم إن تلك الأسئلة تدل بفحواها أنهاكانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي‏.‏
الشدة في التعذيب ومحاولة القضاء على رسول اللهصلى الله عليه وسلم
ولما أخفق المشركون في مكيدتهم، وفشلوا في استرداد المهاجريناستشاطوا غضبًا، وكادوا يتميزون غيظًا، فاشتدت ضراوتهم وانقضوا على بقية المسلمين،ومدوا أيديهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء، وظهرت منهم تصرفات تدل علىأنهم أرادوا القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليستأصلوا جذور الفتنة التيأقضت مضاجعهم، حسب زعمهم‏.‏
أما بالنسبة للمسلمين فإن الباقين منهم في مكة كانوا قليلين جدًا،وكانوا إما ذوى شرف ومنعة، أو محتمين بجوار أحد، ومع ذلك كانوا يخفون إسلامهمويبتعدون عن أعين الطغاة بقدر الإمكان، ولكنهم مع هذه الحيطة والحذر لم يسلموا كلالسلامة من الأذى والخسف والجور‏.‏
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلى ويعبد الله أمامأعين الطغاة، ويدعو إلى الله سرًا وجهرًا لا يمنعه عن ذلك مانع، ولا يصرفه عنه شيء؛إذ كان ذلك من جملة تبليغ رسالة الله منذ أمره الله سبحانه وتعالى بقوله‏:‏ ‏{‏فَاصْدَعْ بِمَاتُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏94‏]‏، وبذلككان يمكن للمشركين أن يتعرضوا له إذا أرادوا، ولم يكن في الظاهر ما يحول بينهم وبينما يريدون إلا ما كان له صلى الله عليه وسلم من الحشمة والوقار، وما كان لأبي طالبمن الذمة والاحترام، وما كانوا يخافونه من مغبة سوء تصرفاتهم، ومن اجتماع بني هاشمعليهم، إلا أن كل ذلك لم يعد له أثره المطلوب في نفوسهم؛ إذ بدءوا يستخفون به منذشعروا بانهيار كيانهم الوثنى وزعامتهم الدينية أمام دعوته صلى الله عليه وسلم‏.‏
ومما روت لنا كتب السنة والسيرة من الأحداث التي تشهد القرائن بأنهاوقعت في هذه الفترة‏:‏ أن عتيبة بن أبي لهب أتى يومًا رسول الله صلى الله عليه وسلمفقال‏:‏ أنا أكفر بـ ‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏1]‏ وبالذي ‏{‏ثُمَّ دَنَافَتَدَلَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏8‏]‏ ثم تسلط عليه بالأذى، وشق قميصه، وتفل فيوجهه صلى الله عليه وسلم، إلا أن البزاق لم يقع عليه، وحينئذ دعا عليه النبي صلىالله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك‏)‏، وقد استجيب دعاؤه صلىالله عليه وسلم، فقد خرج عتيبة إثر ذلك في نفر من قريش، فلما نزلوا بالزرقاء منالشام طاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول‏:‏ يا ويل أخي هو والله آكلى كمادعا محمد علىّ، قتلنى وهو بمكة، وأنا بالشام، ثم جعلوه بينهم، وناموا من حوله، ولكنجاء الأسد وتخطاهم إليه، فضغم رأسه‏.‏
ومنها‏:‏ ما ذكر أن عقبة بن أبي مُعَيْط وطئ على رقبته الشريفة وهوساجد حتى كادت عيناه تبرزان‏.‏
ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم مارواه ابن إسحاق عن عبد الله ابن عمرو بن العاص قال‏:‏ حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر،فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمرهذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى اللهعليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفًا بالبيت فغمزوه ببعضالقول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر بهم الثانية غمزوهبمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها‏.‏ فوقف ثم قال‏:‏‏(‏أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسى بيده، لقد جئتكم بالذبح‏)‏، فأخذت القومكلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه ليرفؤهبأحسن ما يجد، ويقول‏:‏ انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولًا‏.‏
فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليهوثبة رجل واحد وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكردونه، وهو يبكى ويقول‏:‏ أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله‏؟‏ ثم انصرفوا عنه، قالابن عمرو‏:‏ فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا نالوا منه قط‏.‏ انتهي ملخصًا‏.‏
وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال‏:‏ سألت ابن عمرو بنالعاص‏:‏ أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ بيناالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبهفي عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا؛ فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي صلىالله عليه وسلم، وقال‏:‏ أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله‏؟‏‏.‏
وفي حديث أسماء‏:‏ فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال‏:‏ أدرك صاحبك،فخرج من عندنا وعليه غدائر أربـع، فـخرج وهــو يـقول‏:‏ أتقتلون رجلًا أن يقول ربيالله‏؟‏ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئًا من غدائره إلا رجعمعنــا‏.‏
إسلام حمزة رضي الله عنه
خلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان ظهر برق أضاء الطريق،وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أسلم في أواخر السنة السادسة من النبوة،والأغلب أنه أسلم في شهر ذى الحجة‏.‏
وسبب إسلامه‏:‏ أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم يومًاعند الصفا فآذاه ونال منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يكلمه، ثم ضربهأبو جهل بحجر في رأسه فَشَجَّهُ حتى نزف منه الدم، ثم انصرف عنه إلى نادى قريش عندالكعبة، فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد الله بن جُدْعَان في مسكن لها على الصفا ترىذلك، وأقبل حمزة من القَنَص مُتَوَشِّحًا قوسه، فأخبرته المولاة بما رأت من أبيجهل، فغضب حمزة ـ وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة ـ فخرج يسعى، لم يقف لأحد؛معدًا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد قام على رأسه، وقال له‏:‏ يامُصَفِّرَ اسْتَه، تشتم ابن أخي وأنا على دينه ‏؟‏ ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة،فثار رجال من بني مخزوم ـ حى أبي جهل ـ وثار بنو هاشم ـ حي حمزة ـ فقال أبو جهل‏:‏دعوا أبا عمارة، فإني سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا‏.‏
وكان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل، أبي أن يهان مولاه، ثم شرحالله صدره فاستمسك بالعروة الوثقى، واعتز به المسلمون أيما اعتزاز‏.‏
إسلام عمر بن الخطاب رضي اللهعنه
وخلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان أضاء برق آخر أشدبريقًا وإضاءة من الأول، ألا وهو إسلام عمر بن الخطاب، أسلم في ذى الحجـة سـنة سـتمـن النبـوة‏.‏ بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضي الله عنه وكان النبي صلى اللهعليه وسلم قد دعا الله تعالى لإسلامه‏.‏ فقد أخرج الترمذى عن ابن عمر، وصححه، وأخرجالطبراني عن ابن مسعود وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اللّهم أعزالإسلام بأحب الرجلين إليك‏:‏ بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام‏)‏ فكان أحبهماإلى الله عمر رضي الله عنه‏.‏
وبعد إدارة النظر في جميع الروايات التي رويت في إسلامه يبدو أننزول الإسلام في قلبه كان تدريجيًا، ولكن قبل أن نسوق خلاصتها نرى أن نشير إلى ماكان يتمتع به رضي الله عنه من العواطف والمشاعر‏.‏
كان رضي الله عنه معروفًا بحدة الطبع وقوة الشكيمة، وطالما لقىالمسلمون منه ألوان الأذى، والظاهر أنه كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة؛ احترامهللتقاليد التي سنها الآباء والأجداد وتحمسه لها، ثم إعجابه بصلابة المسلمين،وباحتمالهم البلاء في سبيل العقيدة، ثم الشكوك التي كانت تساوره ـ كأي عاقل ـ في أنما يدعو إليه الإسلام قد يكون أجل وأزكى من غيره، ولهذا ما إن يَثُور حتى يَخُور‏.‏
وخلاصة الروايات ـ مع الجمع بينها ـ في إسلامه رضي الله عنه‏:‏ أنهالتجأ ليلة إلى المبيت خارج بيته، فجاء إلى الحرم، ودخل في ستر الكعبة، والنبي صلىالله عليه وسلم قائم يصلي، وقد استفتح سورة ‏{‏الْحَاقَّةُ‏}‏،فجعل عمر يستمع إلى القرآن، ويعجب منتأليفه، قال‏:‏ فقلت ـ أي في نفسي‏:‏ هذا والله شاعر، كما قالت قريش، قال‏:‏ فقرأ{‏إِنَّهُ لَقَوْلُرَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَاتُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏40، 41‏]‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ كاهن‏.‏ قال‏:‏‏{‏ وَلَا بِقَوْلِكَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّالْعَالَمِينَ‏}‏ إلى آخر السورة ‏[‏الحاقة‏:42، 43‏]‏ ‏.‏ قال‏:‏ فوقعالإسلام في قلبي‏.‏
كان هذا أول وقوع نواة الإسلام في قلبه، لكن كانت قشرة النزعاتالجاهلية، وعصبية التقليد، والتعاظم بدين الآباء هي غالبـة على مخ الحقيقة التي كانيتهمس بها قلبه، فبقى مجدًا في عمله ضد الإسلام غير مكترث بالشعور الذي يكمن وراءهذه القشرة‏.‏
وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنهخرج يومًا متوشحًا سيفه يريد القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه نعيم بنعبد الله النحام العدوي، أو رجل من بني زهرة، أو رجل من بني مخزوم فقال‏:‏ أين تعمديا عمر‏؟‏ قال‏:‏ أريد أن أقتل محمدًا‏.‏ قال‏:‏ كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرةوقد قتلت محمدًا‏؟‏ فقال له عمر‏:‏ ما أراك إلا قد صبوت، وتركت دينك الذي كنت عليه،قال‏:‏ أفلا أدلك على العجب يا عمر‏!‏ إن أختك وخَتَنَكَ قد صبوا، وتركا دينك الذيأنت عليه، فمشى عمر دامرًا حتى أتاهما، وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيها‏:‏‏[‏طه‏]‏ يقرئهما إياها ـ وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن ـ فلما سمع خباب حسعمر توارى في البيت، وسترت فاطمة ـ أخت عمر ـ الصحيفة‏.‏ وكان قد سمع عمر حين دنامن البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال‏:‏ ما هذه الهينمة التي سمعتهاعندكم‏؟‏ فقالا‏:‏ ما عدا حديثًا تحدثناه بيننا‏.‏ قال‏:‏ فلعلكما قد صبوتما‏.‏فقال له ختنه‏:‏ يا عمر، أرأيت إن كان الحق في غير دينك‏؟‏ فوثب عمر على ختنه فوطئهوطأ شديدًا‏.‏ فجاءت أخته فرفعته عن زوجها، فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها ـ وفيرواية ابن إسحاق أنه ضربها فشجها ـ فقالت، وهي غضبى‏:‏ يا عمر، إن كان الحق في غيردينك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله‏.‏
فلما يئس عمر، ورأي ما بأخته من الدم ندم واستحيا، وقال‏:‏ أعطونىهذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالت أخته‏:‏ إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقمفاغتسل، فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب، فقرأ‏:‏ ‏{‏بسم الله الرحمنالرحيم‏}‏ فقال‏:‏ أسماء طيبة طاهرة‏.‏ ثم قرأ ‏[‏طه‏]‏ حتى انتهي إلىقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّنِيأَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَلِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏14]‏ فقال‏:‏ ما أحسن هذا الكلام وأكرمه‏؟‏ دلونيعلى محمد‏.‏
فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت، فقال‏:‏ أبشر يا عمر، فإنيأرجو أن تكون دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس‏:‏ ‏(‏اللّهم أعزالإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام‏)‏، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيالدار التي في أصل الصفا‏.‏
فأخذ عمر سيفه، فتوشحه، ثم انطلق حتى أتى الدار، فضرب الباب، فقامرجل ينظر من خلل الباب، فرآه متوشحًا السيف، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم،واستجمع القوم، فقال لهم حمزة‏:‏ ما لكم ‏؟‏ قالوا‏:‏ عمر‏؟‏ فقال‏:‏ وعمر‏؟‏افتحوا له الباب، فإن كان جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرًا قتلناهبسيفه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه، فخرج إلى عمر حتى لقيه فيالحجرة، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، ثم جبذه جبذة شديدة فقال‏:‏ ‏(‏أما أنتمنتهيًا يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزى والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة‏؟‏اللهم، هذا عمر بن الخطاب، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب‏)‏، فقال عمر‏:‏ أشهدأن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله‏.‏ وأسلم، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهلالمسجد‏.‏
كان عمر رضي الله عنه ذا شكيمة لا يرام، وقد أثار إسلامه ضجة بينالمشركين، وشعورا لهم بالذلة والهوان، وكسا المسلمين عزة وشرفًا وسرورًا‏.‏
روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال‏:‏ لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشدلرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة، قال‏:‏ قلت‏:‏ أبو جهل، فأتيت حتى ضربت عليهبابه، فخرج إلىّ، وقال‏:‏ أهلًا وسهلًا، ما جاء بك‏؟‏ قال‏:‏ جئت لأخبرك إني قدآمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به‏.‏ قال‏:‏ فضرب الباب في وجهي، وقال‏:‏قبحك الله، وقبح ما جئت به‏.‏
وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ كان الرجل إذا أسلمتعلق به الرجال، فيضربونه ويضربهم، فجئت ـ أي حين أسلمت ـ إلى خالى ـ وهو العاصى بنهاشم ـ فأعلمته فدخل البيت، قال‏:‏ وذهبت إلى رجل من كبراء قريش ـ لعله أبو جهل ـفأعلمته فدخل البيت‏.‏
وفي رواية لابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ لما أسلم عمر بنالخطاب لم تعلم قريش بإسلامه، فقال‏:‏ أي أهل مكة أنشأ للحديث‏؟‏ فقالوا‏:‏ جميل بنمعمر الجمحى‏.‏ فخرج إليه وأنا معه، أعقل ما أرى وأسمع، فأتاه، فقال‏:‏ ياجميل، إنيقد أسلمت، قال‏:‏ فو الله ما رد عليه كلمة حتى قام عامدًا إلى المسجد فنادى‏[‏بأعلى صوته‏]‏ أن‏:‏ يا قريش، إن ابن الخطاب قد صبأ‏.‏ فقال عمر ـ وهو خلفه‏:‏كذب، ولكنى قد أسلمت ‏[‏وآمنت بالله وصدقت رسوله‏]‏، فثاروا إليه فما زال يقاتلهمويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، وطَلَح ـ أي أعيا ـ عمر، فقعد، وقاموا علىرأسه، وهو يقول‏:‏ افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقدتركناها لكم أو تركتموها لنا‏.‏
وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله‏.‏روى البخاري عن عبدالله بن عمر قال‏:‏بينما هو ـ أي عمر ـ في الدار خائفًا إذ جاءه العاص بن وائلالسهمى أبو عمرو،وعليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير ـ وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنافي الجاهلية ـ فقال له‏:‏ ما لك‏؟‏ قال‏:‏ زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت، قال‏:‏لا سبيل إليك ـ بعد أن قالها أمنت ـ فخرج العاص، فلقى الناس قد سال بهم الوادي،فقال‏:‏ أين تريدون‏؟‏ فقالوا‏:‏ هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ، قال‏:‏ لا سبيل إليه،فَكَرَّ الناس‏.‏ وفي لفظ في رواية ابن إسحاق‏:‏ والله، لكأنما كانوا ثوبًا كُشِطَعنه‏.‏
هذا بالنسبة إلى المشركين، أما بالنسبة إلى المسلمين فروى مجاهد عنابن عباس قال‏:‏ سألت عمر بن الخطاب‏:‏ لأي شيء سميت الفاروق‏؟‏ قال‏:‏ أسلم حمزةقبلى بثلاثة أيام ـ ثم قص عليه قصة إسلامه‏.‏ وقال في آخره‏:‏ قلت ـ أي حينأسلمت‏:‏ يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بلى، والذينفسي بيده، إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم‏)‏، قال‏:‏ قلت‏:‏ ففيم الاختفاء‏؟‏والذي بعثك بالحق لنخرجن، فأخرجناه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، لهكديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال‏:‏ فنظرت إلىّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهمكآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏الفاروق‏)‏ يومئذ‏.‏
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول‏:‏ ما كنا نقدر أن نصلى عندالكعبة حتى أسلم عمر‏.‏
وعن صهيب بن سنان الرومى رضي الله عنه قال‏:‏ لما أسلم عمر ظهرالإسلام، ودعى إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممنغلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به‏.‏
وعن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر‏.‏
ممثل قريش بين يدي الرسول صلى الله عليهوسلم
وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين ـ حمزة بن عبد المطلب وعمـر بنالخطاب رضي الله عنهما أخذت السحائب تتقشع، وأفاق المشركون عن سكرهم في تنكيلهمبالمسلمين، وغيروا تفكيرهم في معاملتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين،واختاروا أسلوب المساومات وتقديم الرغائب والمغريات، ولم يدر هؤلاء المساكين أن كلما تطلع عليه الشمس لا يساوي جناح بعوضة أمام دين الله والدعوة إليه، فخابوا وفشلوافيما أرادوا‏.‏
قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظى قال‏:‏حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا، قال يومًا ـ وهو في نادى قريش، ورسول الله صلىالله عليه وسلم جالس في المسجد وحده‏:‏ يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمهوأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا‏؟‏ وذلك حين أسلمحمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثرون ويزيدون،فقالوا‏:‏ بلى، يا أبا الوليد، قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة،حتى جلس إلى رسولالله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَةِ فيالعشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهتبه أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرضعليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها‏.‏ قال‏:‏ فقال رسول صلى الله عليهوسلم‏:‏ ‏(‏قل يا أبا الوليد أسمع‏)‏‏.‏
قال‏:‏ يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًاجمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك عليناحتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذييأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتىنبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ـ أو كما قال له ـ حتىإذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال‏:‏ ‏(‏أقد فرغت يا أباالوليد‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏فاسمع منى‏)‏، قال‏:‏أفعل، فقال‏:‏‏{‏ بسم الله الرحمن الرحيمحم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًاعَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْفَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَاإِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏1‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ثم مضى رسول الله فيها، يقرؤهاعليه‏.‏ فلما سمعها منه عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما، يسمعمنه، ثم انتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال‏:‏ ‏(‏قدسمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك‏)‏‏.‏
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض‏:‏ نحلف بالله لقد جاءكم أبوالوليد بغير الوجه الذي ذهب به‏.‏ فلما جلس إليهم قالوا‏:‏ ما وراءك يا أباالوليد‏؟‏ قال‏:‏ ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعرولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجلوبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبهالعرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعدالناس به، قالوا‏:‏ سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال‏:‏ هذا رأيي فيه، فاصنعواما بدا لكم‏.‏
وفي روايات أخرى‏:‏ أن عتبة استمع حتى إذا بلغ الرسول صلى الله عليهوسلم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَصَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏13‏]‏ قال‏:‏ حسبك، حسبك، ووضعيده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناشده بالرحم أن يكف، وذلك مخافة أن يقعالنذير، ثم قام إلى القوم فقال ما قال‏.‏

رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
المختوم, الرحيق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 

منتديات الحور العين

↑ Grab this Headline Animator

الساعة الآن 03:11 PM.

 


Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
.:: جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الحور العين ::.