انا لله وانا اليه راجعون... نسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة لوالد ووالدة المشرف العام ( أبو سيف ) لوفاتهما رحمهما الله ... نسأل الله تعالى أن يتغمدهما بواسع رحمته . اللهم آمـــين

العودة   منتديات الحور العين > .:: المنتديات العامة ::. > التاريخ والسير والتراجم

التاريخ والسير والتراجم السيرة النبوية ، والتاريخ والحضارات ، وسير الأعلام وتراجمهم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-22-2009, 09:19 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي

 




عَهْــدُ الْــوُلاةُ ..
بصفةٍ إجماليةٍ فقد تميزتِ الفترة الأولى من عهدِ الولاةِ بعدةِ أمورٍ ، كانَ من أهمها :

1 - نشر الإسلام في بلاد الأندلس ..
وذلك أن المسلمين بعد أن تمكنوا من توطيد أركان الدولة الإسلامية في هذه البلاد بدءوا يُعَلِّـمون الناس الإسلام ، ولأن الإسلام دين الفطرة فقد أقبل عليه أصحاب الفِطَر السوية من الناس عندما عرفته ، واختارته بلا تردد .
= وجد الإسبان في الإسلام ديناً متكاملاً شاملاً ينظم كل أمور الحياة ؛ وجدوا فيه عقيدةً واضحةً وعباداتٍ منتظمةٍ . وجدوا فيه تشريعات في السياسة والحكم والتجارة والزراعة والمعاملات . وجدوا فيه تواضعاً كبيراً جداً للقادةِ ، ووجدوا فيه كيفية التعامل والتعايش مع الأخ والأب والأم والزوجة والأبناء والجيران والأقرباء والأصدقاء ، وجدوا فيه كيفية التعامل مع العدو والأسير ، مع من تعرف ومن لا تعرف .
= لقد تعود الإسبان فصلاً كاملاً بين الدين والدولة ؛ فالدين عندهم لا يعدو أن يكون مجرد مفاهيم لاهوتيه غير مفهومه ، يتعاطونها ولكن لا يستطيعون تطبيقها ، وفي التشريعات والحكم فيشرع لهم من يحكمهم وفق هواه وما يراه ، أما في الإسلام فقد وجدوا الأمر غاية في الاختلاف ؛ فلم يستطيعوا أن يتخلفوا عن الارتباط به والانتساب إليه فدخلوا فيه أفواجا .
وفي فترة قليلة جدا أصبح عموم أهل الأندلس ( السكان الأصليين ) يدينون بالإسلام ، وأصبح المسلمون من العرب والبربر قلة بينهم، وأصبح أهل الأندلس هم جند الإسلام وأعوان هذا الدين ، وهم الذين اتجهوا بعد ذلك إلى فتوحات بلاد فرنسا.

2 - نشأة جيل المولَّـدين ..
كان من جرّاء انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين أن نشأ جيل جديد عُرف باسم جيل المولَّدين ، فقد كان الأب عربي أو بربري والأم أندلسية .

3 - إلغاء الطبقية ..
ألغى المسلمون الطبقية التي كانت سائدة قبل ذلك ؛ حيث جاء الإسلام وساوى بين الناس حتى كان يقف الحاكم والمحكوم سواء بسواء أمام القضاء للتحاكم في المظالم ، وعمل المسلمون في هذه الفترة على إتاحة الحريّة العقائدية للناس ، فتركوا للنصارى كنائسهم ، وما هدموها أبداً ، وما كانوا يحولونها إلى مساجد إلا إذا وافق النصارى على بيعها لهم ، وكان بيع الكنائس للمسلمين يقدّر بأثمان باهظة ، أما إن رفضوا بيعها تركها المسلمون لهم . فلنلاحظ أن ذلك والنصارى محكومون من قِبَل المسلمين ، ولنعي هذا الأمر جيداً ولنقارن صنيع المسلمين هذا بما سيفعله النصارى بعد انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس فيما عُرف باسم محاكم التفتيش الأسبانية .

4 - الإهتمام بالحضارة المادية ..
اهتم المسلمون في هذه الفترة كذلك بتأسيس الحضارة المادية أو المدنية ، فأسسوا الإدارة وأقاموا العمران وأنشأوا القناطر والكباري ، ومما يدل على براعتهم في ذلك تلك القنطرة العجيبة التي تسمى قنطرة قرطبة ، وهي من أعجب القناطر الموجودة في أوروبا في ذلك الزمن ، كذلك أنشأ المسلمون دياراً كبرى للأسلحة وصناعة السفن ، وبدأت الجيوش الإسلامية تقوى وتتعاظم في هذه المنطقة .

5 - تقليد الإسبان للمسلمين في كل شيء ..
كان من السمات المميّزة أيضا في هذه الفترة الأولى من عهد الولاة أن الأسبان بدءوا يقلدون المسلمين في كل شيء ، حتى أصبحوا يتعلمون اللغة العربية التي يتكلمها الفاتحون ، بل كان الأسبان النصارى واليهود يفتخرون بتعليم اللغة العربية في مدارسهم .

6 - اتخاذ المسلمين قرطبة عاصمة لهم ..
كذلك كان من ضمن السمات المميزة لهذه الفترة أن اتخذ المسلمون قرطبة عاصمة لهم ؛ فقد كانت طليطلة في الشمال قبل ذلك هي عاصمة الأندلس ، ولكن المسلمون وجدوا أنها قريبة من فرنسا وقريبة من منطقة الصخرة وهما من مصادر الخطر عليهم ، فرأوا أن طليطلة بذلك مدينة غير آمنة ومن ثم فلا يمكن أن تكون هي العاصمة ، فكان أن اختاروا مدينة قرطبة في اتجاه الجنوب لانتفاء الأسباب السابقة ، وأيضا حتى تكون قريبة من المدد الإسلامي في بلاد المغرب .

7 - الجهاد في فرنسا ..
الجهاد في فرنسا كان من أهم السمات المميزة جدا لهذه الفترة الأولى من عهد الولاة ، وقد كانت له خطوات كبيرة جدا في هذه الفترة ، ونذكر هنا بعض الولاة الذين كان لهم سبق وظهور حاضر في عملية الجهاد في بلاد فرنسا ، فكان منهم على سبيل المثال :
= السَّمْـح بن مالك الخولاني :
من حسنات الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رحمهُ اللهُ ولاية السَّمْح بن مالك الخولاني رحمه الله على الأندلس ، فقد حكم عمر بن عبد العزيز رحمهُ اللهُ المسلمين سنتين ونصف على الأكثر ، من سنة تسع وتسعين إلى سنة واحد ومائة من الهجرة ، وفي هذه الفترة الوجيزة عمّ الأمن والرخاء والعدل كل بلاد المسلمين، اختار عمر بن عبد العزيز رحمه الله السمح بن مالك الخولاني ، ذلك القائد الربّاني المشهور في التاريخ الإسلامي ، وهو القائد الذي انطلق إلى بلاد فرنسا مجاهداً ، كان بفرنسا مدينة إسلامية واحدة هي مدينة أربونة ، تلك التي فتحها موسى بن نصير رحمه الله بسرية من السرايا ، لكن السمح بن مالك الخولاني فتح كل منطقة الجنوب الغربي لفرنسا ، ثم أسّس مقاطعة ضخمة جداً وهي مقاطعة سبتمانيا ، وتسمى الآن بساحل الريفييرا ، وتعد من أشهر المنتجعات السياحية في العالم !
أخذ السمح الخولاني في استكمال الفتوح في جنوب غرب فرنسا ، وفي ذات الوقت أرسل يعلم الناس الإسلام ، سواء في فرنسا أو في الأندلس إلى أن لقي ربه شهيداً يوم عرفة سنة اثنتين ومائة من الهجرة .

= عنبسة بن سحيم :
تولى بعد السمح الخولاني بعض الولاة نتجاوزهم حتى نصل إلى عنبسة بن سحيم رحمه الله ، وكان عنبسة قائداً تقياً ورعاً ، وهو الإداري العسكري المشهور ، كان مجاهداً حق الجهاد ، وقد حكم بلاد الأندلس من سنة ثلاث ومائة إلى سنة سبع ومائة من الهجرة ، وقد وصل عنبسة في جهاده إلى مدينة سانس ، وهي تبعد عن العاصمة باريس بنحو ثلاثين كيلو مترا ، وباريس هذه ليست في وسط فرنسا وإنما تقع في أقصى الشمال منها ، وهذا يعني أن عنبسة بن سحيم قد وصل إلى ما يقرب من سبعين بالمائة من أراضي فرنسا ، ويعني هذا أيضا أن سبعين بالمائة من أراضي فرنسا كانت بلاداً إسلامية ، وقد استشهد عنبسة بن سحيم رحمه الله وهو في طريق عودته .





عبد الرحمن الغافقي .. وبلاط الشهداء



بعد استشهاد عنبسة رحمه الله بدأت الأمور في التغير ؛ فقد تولى حكم الأندلس من بعده مجموعة من الولاة على غير عادة السابقين ، كان آخرهم رجل يدعى الهيثم الكلابي ، وكان عربياً متعصباً لقومه وقبيلته .
ومن هنا بدأت الخلافات تدب بين المسلمين ، المسلمون العرب من جهة والمسلمون البربر من جهة أخرى ، خلافات بحسب العرق وبحسب العنصر ، وهو أمر لم يحدث في تاريخ المسلمين منذ فتح المسلمون هذه المناطق حتى هذه اللحظة .
لم تمر خلافات العصبيات هذه مرور الكرام ، وإنما دارت معارك ومشاحنات بين المسلمين العرب وبين المسلمين البربر ، حتى منّ الله على المسلمين بمن قضى عليها ووحّد الصفوف من جديد ، و بدأ يبث في الناس روح الإسلام الأولى التي جمعت بين البربر وبين العرب ، والتي لم تفرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، ذلك هو عبد الرحمن الغافقي رحمه الله .
بعد أن وحّد عبد الرحمن الغافقي المسلمين وتيقن أن قوة الإيمان قد اكتملت ، توجه بهم ناحية فرنسا ليستكمل الفتح من جديد ، ودخل مناطق لم يدخلها السابقون ، فوصل إلى أقصى غرب فرنسا ، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة، ففتح مدينة آرل ثم مدينة بودو ( وهي موجودة الآن ) ثم مدينة طلوشة ثم مدينة تور ثم وصل إلى بواتيه ، وهي المدينة التي تسبق باريس مباشرة ، والفارق بينها وبين باريس حوالي مائة كيلو متر تقريبا إلى الغرب منها ، وبينها وبين قرطبة حوالي ألف كيلو متر ، أي أنه توغل كثيرًا جدًا في بلاد فرنسا في اتجاه الشمال الغربي .
وفي مدينة بواتيه عسكر عبد الرحمن الغافقي في منطقة تسمى البلاط ( البلاط في اللغه الأندلسية تعني القصر ) ، عند قصر قديم مهجور كان بها ، ثم بدأ في تنظيم جيشه لملاقاة جيش النصارى ، وكان عدد جيشه يصل إلى خمسين ألف مقاتل ؛ ولذا تُعد حملة عبد الرحمن الغافقي هي أكبر حملة تدخل إلى بلاد فرنسا .



سلبيات قادت إلى الهزيمة :



رغم ضخامة حملة عبد الرحمن الغافقي تلك إلا إنه كانت هناك مشكلة كبيرة تكاد تفتك بها ، وهي أن هذه الحملة كانت قد فتحت مدنا كثيرة حتى وصلت إلى بواتيه ، ومن ثم فقد جمعت من الغنائم الكثير الذي زاد وثقل في أيدي المجاهدين ، وهنا بدأ المجاهدون ينظرون إلى هذه الغنائم ويفتنون بهذه الأموال الضخمة التي حصّلوها .
ونتيجة هذا فقد اشتهر بين الناس فكرة العودة إلى بلاد الأندلس لحفظ هذه الغنائم هناك حتى لا يحصل عليها الفرنسيون ، لكن عبد الرحمن الغافقي رحمه الله جمع الناس وقال مخاطباً إياهم : ما جئنا من أجل هذه الغنائم ، وما جئنا إلا لتعليم هؤلاء الناس هذا الدين، ولتعبيد العباد لرب العباد سبحانه وتعالى ، وأخذ يحفزهم على الجهاد والموت في سبيل الله، ثم انطلق بالجيش إلى بواتيه رغما عن أنف الجنود .
عندما وصل عبد الرحمن الغافقي بالجيش إلى بواتيه ظهرت ثمة أمور أخرى جديدة ؛ فقد تجددت العصبيات التي كانت قد اندحرت في بلاد الأندلس بين العرب والبربر من جديد ؛ وذلك بسبب كثرة الغنائم ، فقد اختلفوا في توزيعها رغم أنه معروف ومتفق عليه ، أخذ كلّ ينظر إلى ما بيد الآخر، وكلّ يريد الأكثر ، يقول العرب أنهم أحق لأفضليتهم ، ويقول البربر نحن الذين فتحنا البلاد ، ونسي الجميع أن الفاتحين الأوائل ما فرقوا أبدًا بين عرب وبربر ، بل وبينهم وبين من دخل الإسلام من الأندلسيين بعد ذلك .
وإضافة إلى العصبية وحب الغنائم والحرص عليها فقد اجتمع إلى جوارهما الزهو والاغترار بالكثرة والعدد الضخم ، فخمسون ألفا من المجاهدين عدد لم يسبق في تاريخ الأندلس ، فأخذتهم العزة ، وظنوا أنهم لن يغلبوا بسبب كثرتهم هذه ، ومن بعيد تلوح في الأفق حُنينًا جديدة [ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ] {التوبة:25} ؛ فالمسلمون لم ينتصروا أبداً بعدتهم ولا عتادهم ، وإنما كانوا ينتصرون بطاعتهم لله ومعصية عدوهم له سبحانه وتعالى ، وللأسف الشديد فرغم وجود هذا القائد الرباني التقي الورع إلا أن عوامل الهزيمة داخل الجيش الإسلامي كانت كثيرة وأقوى منه.



بلاط الشهداء .. من أشرس المعارك الإسلامية



ما رأينا كان حال جيش المسلمين ، أما جيش النصارى فقد قَدِم من باريس بنحو أربعمائة ألف مقاتل ، أي ما يقرب من ثمانية أضعاف الجيش الإسلامي ، وكان على رأسهم رجل يسمى تشارل مارتل ، ويطلقون عليه في العربية : قارله ، أما مارتل فهو لقبه ويعني المطرقة ، وكان لقّبه به بابا إيطاليا ؛ لأنه كان شديدًا على أعدائه ، وكان من أقوى حكام فرنسا على الإطلاق ، كانت ضخامة جيش الأعداء أمر قد اعتاد عليه المسلمون أو الفاتحون الأوائل ، فلم تكن لتهزّهم مثل هذه الأرقام التي قدم بها النصارى من باريس ، لكن جيش المسلمين كان فيه من عوامل الضعف الكثير ، وفوق ذلك فهو يبعد عن أقرب مركز إمداد له وهو قرطبة بنحو ألف كيلو متر كما ذكرنا قبل قليل .
في منطقة بواتيه ، وفي موقعة من أشرس المواقع الإسلامية على الإطلاق ، التقى الجمعان ودارت رحى الحرب ، جَمْع المسلمين بما فيه من العوامل التي ذكرناها سابقا من جهة ، وجمع النصارى الذي يفوق جيش المسلمين بنحو ثمانية أضعاف كاملة من جهة أخرى ، وكانت البداية في شهر رمضان من سنة مائة وأربعة عشر من الهجرة ، واستمر القتال لمدة عشرة أيّام متصلة ، ورغم عدم تكافؤ القوتين لصالح النصارى ، إلا أن الغلبة في بداية المعركة كانت للمسلمين على قلة عددهم ، لكن النصارى في نهاية المعركة فَطِنوا إلى كمية الغنائم الضخمة التي كانت خلف الجيش الإسلامي ، فالتفوا حول الجيش وهاجموا الغنائم وبدءوا يسلبونها ، ولأن حب الغنائم كان قد أخذ موقعا في قلوب المسلمين ، فكان أن ارتبك المسلمون وأسرعوا يحموا الغنائم الكثيرة ، فحدثت هزة في وحدة صف الجيش الإسلامي وارتباك شديد ، كانت نهايته هزيمة قاسية للجيش الإسلامي في هذه الموقعة ، موقعة بواتيه ، أو موقعة بلاط الشهداء ( بلاط هو القصر الذي دارت عنده الحرب ، والشهداء لكثرة شهداء المسلمين في هذه المعركة ) .
لم تذكر الروايات الإسلامية حصرا دقيقا لشهداء المسلمين في بلاط الشهداء ، إلا أن بعض الروايات الأوروبية بالغت كثيرًا في أعداد قتلى المسلمين فيها ، فتذكر بعضها أن قتلى المسلمين في بلاط الشهداء بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة ألف مسلم ! وهو بلا شك رقم مبالغ فيه جداً ؛ لأن جيش المسلمين في الأساس لم يتعد حاجز الخمسين ألفاً .
وفي رواياتهم يقول الأوروبيون متخوفين أنه لو كان انتصر المسلمون في بلاط الشهداء على الفرنسيين لفتحت أوروبا جميعاً ، ولدُرِّس القرآن في جامعات أوكسفورد وغيرها من الجامعات الأوروبية ، ووالله إنها لتعاسة لهم وخسران أن لم ينتصر المسلمون ، فلو انتصروا لكان قد انتشر الخير في هذه البلاد ، لكنهم ظلوا في ضلالتهم وظلوا في غيهم يعمهون ويعبدون غير الله سبحانه وتعالى ويشركون به .
بعد هذه المعركة انسحب المسلمون إلى الداخل ، ومع أنهم هُزموا وانسحبوا إلا أنها لم تكن هزيمة ساحقة كما صورها الأوربيون ، بدليل أن جيش النصارى لم يتبع جيش المسلمين حيث انسحبوا ، وكان من عادة الجيوش أنها تتتبع الجيش الفار ، بل اكتفى النصارى بما أخذوه من غنائم وما قتلوه من قتلى من المسلمين .



وقفة مع بلاط الشهداء :



يقول الله تعالى في كتابه الكريم: [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ ] {فاطر:5} . فالملاحظ أن المسلمين قد اغتروا بهذه الدنيا التي فتحت عليهم فتنافسوها ، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ .
فسنة لله تعالى في خلقه أنه إن فتحت الدنيا على المسلمين وتنافسوها كما تنافسها من كان قبلهم من الأمم السابقة، فإنها ستهلكهم أيضا كما أهلكت هذه الأمم السابقة [ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا ] {فاطر:43} .
أمر آخر كان في جيش المسلمين وكان من عوامل الهزيمة وهو العنصرية والعصبيّة القبليّة التي كانت بين العرب والبربر في هذه الموقعة ، ولقد شاهد الفرنسيون أثر هذا الذي نشأ بين العرب وبين البربر ، ووعت الكتب الفرنسية هذا الأمر جيداً ، وظل في ذاكرتها على مدار التاريخ حتى مرت الأيام ومرت السنوات ودخلت فرنسا بلاد الجزائر واحتلتها من سنة ألف وثمانمائة وثلاثين ، وحتى سنة ألف وتسعمائة وستين ميلادية ، فحين قامت الحركات الاستقلاليّة منذ سنة ألف وتسعمائة وعشرين وما بعدها ، وحين فكرت فرنسا في القضاء على هذه الحركات الاستقلالية الناشئة لم تجد أمامها إلا إشاعة الفتنة بين العرب والبربر وضربهم ببعضهم البعض، فكانت تشيع داخل البربر أنهم قريبون من العنصر الآري ( وهو العنصر الأوروبي ) ، وبعيدون عن العنصر السامي ( وهم العرب ) ، أي أنتم منا ونحن منكم والعرب بيننا غرباء ؛ وذلك للتشابه الكبير بين البربر والأوروبيين في الشكل الخارجي الأمر الذي لا يعترف به الإسلام ولا يقره على الإطلاق فالمعيار الوحيد في التفاضل في الإسلام هو التقوى.
ولم تكتف فرنسا بذلك، بل قامت بتكثيف تعليم اللغة الفرنسية في مناطق البربر ، ومنعت تعليم اللغة العربية في هذه المناطق أصلا ؛ وذلك حتى يتم فصل البربر عن العرب تماما في منطقة الجزائر ، وهي وإن كانت قد نجحت في أمر اللغة بعض الشيء إلا إنها لم تفلح على الإطلاق في تحويل ديانة البربر الإسلامية إلى النصرانية ، فظل البربر على إسلامهم وإن كانت لغتهم قد تغيّرت ، في بادئ الأمر كان البربر الذين يعيشون في منطقة الجزائر تسمى قبائل الأمازيغ ، وكانوا يمثلون خمسة عشر بالمائة من شعب الجزائر ، ورغم أن لهم لغة خاصة بهم وهي الأمازيغية إلا أنهم كانوا يتمسكون بالعربية ، لكن حين قامت فرنسا بهذا الأمر بدأت تُذْكي الروح البربريّة في اللغة المنفردة لهذه القبائل ؛ فبدأت تعلم اللغة الأمازيغية ، حتى إنها أنشأت في فرنسا عام سبعة وستين وتسعمائة وألف أكاديمية خاصة لتعليم اللغة الأمازيغية ، وبدأت تكتب اللغة الأمازيغية بحروف لاتينية رغم أنها كانت لغة منطوقة وليست مكتوبة ، قامت فرنسا كذلك بحذف الكلمات العربية التي كانت قد دخلت هذه اللغة وأبدلتها بأخرى أصيلة في اللغة البربرية ، وبدأت بالفعل في اجتذاب الشباب من البربر لتعليمهم اللغة الأمازيغية في فرنسا ، حتى إنه في عام ثمانية وتسعين وتسعمائة وألف أنشأت ما يسمى بالأكاديمية العالمية للبربر ، فبدأت تجمع البربر من مناطق المغرب العربي وغرب إفريقيا وتعلمهم اللغة الخاصة بهم ، وكل ذلك لفصل العرب عن البربر ، تلك الجموع التي ما هي إلا جموع إسلامية ارتبطت برباط العقيدة والدين ، لكنها رأت آثار ذلك في وادي برباط وما تلاها فلم تتوان ، وفي ذات الوقت الذي تعمل فيه فرنسا جاهدة على إقامة لغة غير العربية في بلد عربي ، كانت هي فرنسا التي رفضت المشروع الذي تقدم به جوسبان رئيس وزرائها إلى شيراك سنة تسع وتسعين وتسعمائة وألف بإقرار بعض اللغات المحلية داخل فرنسا ، والذي رد عليه شيراك بقوله: إنك بهذا تريد بلقنة فرنسا ، أي تجعلها كدول البلقان ، بلاد متفرقة بحسب العرق وبحسب العنصر ، حلالٌ على الجزائرِ حرامٌ على فرنسا !!!



التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 06-11-2009 الساعة 12:49 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-23-2009, 07:42 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي






عبد الرحمن الداخل صقر قريش

بعد استشهاد عبد الرحمن الغافقي رحمه الله في موقعة بلاط الشهداء في منطقة بواتيه وبعد هزيمة المسلمين فيها انسحب المسلمون وتوقفت الفتوحات الإسلامية في هذه المنطقة .


قصة عبد الرحمن الداخل



- لكي نفهم قصة دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك إلى أرض الأندلس ، نعود إلى الوراء قليلًا حتى سنة اثنين وثلاثين ومائة من الهجرة ، وهو زمن سقوط بني أمية ، فقد أعمل العباسيون السيوف قتلا وتنكيلا لكل من كان مؤهلا من الأمويين لتولي الخلافة ، فقتلوا الأمراء وأبناء الأمراء وأبناء أبناء الأمراء ( الأحفاد ) إلا قلة ممن لم تصل إليه سيوفهم .

- كان عبد الرحمن بن معاوية حفيد هشام بن عبد الملك ( حكم من خمس ومائة إلى خمس وعشرين ومائة من الهجرة ) من هذه القلة التي لم تصلهم سيوف العباسيين ، وكان عمره آنذاك تسع عشرة سنة فقط ، وكان له أخ صغير لم يتجاوز عمره الثالثة عشرة ، وكلاهما مطلوبي الرأس من قِبَل العباسيين .
- في العراق كان عبد الرحمن بن معاوية يجلس في بيته إذ دخل عليه ابنه ابن الأربع سنين يبكي فزعاً ، وكان عبد الرحمن بن معاوية مريضا معتزلا في الظلام في ركن من البيت من أثر رمد في عينه ، فأخذ يسكن الطفل بما يسكن به الأطفال إلا أن الطفل ظل فزعًا مرعوباً لم يسكن ، فقام معه عبد الرحمن بن معاوية فوجد الرايات السود خارج البيت ( رايات الدولة العباسية ) ، وكانت تعم القرية جميعها ، فعلم أنّه مطلوب ، رجع عبد الرحمن بن معاوية وأخذ أخاه الوليد بن معاوية وما معه من نقود ، وترك النساء والأطفال وكل شيء ؛ لأن العباسيين لم يكونوا ليقتلوا النساء ولا الأطفال ، ولكن كانوا يقتلون كل من بلغ وكان مؤهلًا للخلافة ، ثم خرج هاربا نحو الفرات ، وعند الفرات وجد عبد الرحمن بن معاوية وأخوه القوات العباسية تحاصر النهر ، فألقيا بأنفسهما فيه وأخذا يسبحان ، ومن بعيد ناداهما العباسيون أن ارجعا ولكما الأمان ، حينها كان الوليد بن معاوية أخو عبد الرحمن بن معاوية قد أجهد من السباحة ، فأراد أن يعود ، فناداه أخوه الأكبر أن لا تعد يا أخي وإلا فسيقتلوك ، فرد عليه إنهم قد أعطونا الأمان ، ثم عاد راجعا إليهم ، فما أن أمسك به العباسيون إلا أن قتلوه أمام أعين أخيه !
- عَبَر عبد الرحمن بن معاوية النهر وهو لا يستطيع أن يتكلم أو يفكر من شدة الحزن على أخيه ابن الثالثة عشرة ، ثم يمم جهة بلاد المغرب لأن أمه كانت من قبيلة من قبائل البربر ، فهرب إلى أخواله هناك ، في قصة هروب طويلة جداً عبر فيها الحجاز ومصر وليبيا والقيروان ، وصل عبد الرحمن بن معاوية إلى القيروان وعمره تسع عشرة سنة فقط ، وهناك وجد ثورة كبيرة للخوارج في الشمال الأفريقي كله وعلى رأسها عبد الرحمن بن حبيب ، وكان قد استقل بالشمال الإفريقي عن الدولة العباسية ، ولأنه كانت هناك كراهية شديدة جدا بين الخوارج والأمويين ( حيث إن الخوارج لم يرضوا ارتضاء سيدنا علي بتحكيم كتاب الله بينه وبين معاوية بن أبي سفيان الأموي في موقعة صفين ، ومن ثم فقد خرجوا عليه وسموا من بعدها بالخوارج ، ومن حينها وهم يبغضون الأمويين ) فقد كان عبد الرحمن بن حبيب يسعى هو الآخر للقضاء على عبد الرحمن بن معاوية حين علم بأمره ، فحين قدم عبد الرحمن بن معاوية إلى القيروان اجتمع عليه الخوارج وكادوا أن يقتلوه ، فهرب من جديد إلى برقه ( في ليبيا ) ، وفيها ظل مختبئا عند بعض أخواله هناك طيلة أربع سنوات كاملة ، حتى سنة ست وثلاثين ومائة ، وكان قد بلغ من العمر ثلاث وعشرين سنة ، وفي أمره ظل عبد الرحمن بن معاوية يفكر ، أيظهر فيُقتل أم يظل مختبئا طوال العمر ؟! ففي أي قطر من بلاد المسلمين هو مطلوب الرأس ، ففي الشام في بلاد المشرق الإسلامي مطلوب من العباسيين ، وفي الشمال الإفريقي في بلاد المغرب الإسلامي مطلوب من الخوارج ، فهل يظل مختبئا طوال حياته وهو سليل الأمراء والخلفاء ؟! أو هل يظل مختبئا في مكانه والأمويون في كل مكان يُقتلون ويذبحون ؟! وهنا جال بخاطره أن يذهب إلى الأندلس ، وقد كانت الأندلس أصلح البلدان لاستقبال عبد الرحمن بن معاوية ، وذلك لأنها أولا أبعد الأماكن عن العباسيين والخوارج ، ثانيا لأن الوضع في الأندلس ملتهب جدا، وذلك على نحو ما ذكرنا في عهد يوسف بن عبد الرحمن الفهري وفي نهاية الفترة الثانية من عهد الولاة ؛ ففي هذا الجو يستطيع عبد الرحمن بن معاوية أن يدخل هذه البلاد ؛ ولو كانت تابعة للخلافة العباسية ما استطاع أن يدخلها ، كما أنها لو كانت على فكر الخوارج ما استطاع أيضا أن يدخلها ؛ فكانت الأندلس أنسب البلاد له على وعورتها واحتدام الثورات فيها .


عبد الرحمن بن معاوية ودخول الأندلس


في سنة ست وثلاثين ومائة بدأ عبد الرحمن بن معاوية يعد العدة لدخول الأندلس ، فعمل على الآتي
= أولاً أرسل مولاه بدر إلى الأندلس لدراسة الموقف ، ومعرفة القوى المؤثرة في الحكم فيها .
= ثانياً راسل كل محبي الدولة الأموية في أرض الأندلس بعد أن علِمَهم من مولاه بدر ، والحق أن كثيرا من الناس في عهد الدولة الأموية وفي غيرها كانوا يحبون الأمويين كثيرا ، فمنذ ولاية معاوية بن أبي سفيان على الشام في خلافة عمر بن الخطاب ، وفي خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين ، والمسلمون في أقطار الدولة الإسلامية يحبون بني أمية حبا شديدا ، فقد اشتهر بنو أمية على مر العصور بالسخاء الشديد والسياسة والحكمة ، واكتساب الناس وحسن معاملتهم ، والجهاد في سبيل الله ونشر الدين وفتح البلاد ، فكان لبني أمية داخل بلاد الأندلس كثير من المريدين حتى من غير بني أمية من القبائل الأخرى المختلفة .
= ثالثاً في ذكاء شديد وحرص أشد راسل عبد الرحمن بن معاوية البربر ، يطلب معونتهم ومساعدتهم، وكانوا في ذلك الوقت على خلاف شديد جدا مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري ؛ لأنه فرق بينهم وبين العرب ، فهم يريدون أن يتخلصوا من حكم يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي عاملهم بهذه العنصرية .
= رابعاً راسل كل الأمويين في كل الأماكن التي هربوا إليها يعرض عليهم فكرته ، وأنه يعزم على دخول الأندلس ويطلب معونتهم ومددهم .
وبالفعل بدأ في تجميع الأعوان ، واستغرق ذلك عامين حتى قدم عليه رسول من عند مولاه بدر سنة ثمان وثلاثين ومائة يقول له إن الوضع قد تجهز لاستقبالك هناك ، وحينما سأله عن اسمه فقال غالب التميمي ، وبدأ يعد العدة ويجهز السفينة التي أخذته منفردا إلى بلاد الأندلس .


عبد الرحمن الداخل في الأندلس


نزل عبد الرحمن بن معاوية رحمه الله على ساحل الأندلس بمفرده، واستقبله هناك مولاه بدر ، ثم انطلق معه إلى قرطبة ، وكان يحكم الأندلس في ذلك الوقت يوسف بن عبد الرحمن الفهري ، وكالعادة كان في الشمال يقمع ثورة من الثورات ، ذلك الوقت الذي قال عنه المؤرخون : كاد الإسلام أن ينتهي من بلاد الأندلس في عام ثمانية وثلاثين ومائة .
ويدخل عبد الرحمن بن معاوية الأندلس ويبدأ في تجميع الناس من حوله ، محبي الدولة الأموية ، والبربر ، وبعض القبائل المعارضة ليوسف بن عبد الرحمن الفهري ، وقد جاء بعض الأمويين من بقاع الأرض المختلفة ، ومع ذلك لم يجد العدد كافيا والذي يستطيع به أن يغير من الأوضاع .
- فكر عبد الرحمن بن معاوية في اليمنيين الذين كانوا على خلاف مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري الحجازي رغم كونه أيضا من الحجاز ، لكنهم رأوا أنهم ليس لهم طاقة بيوسف بن عبد الرحمن الفهري ، فقبلوا أن يتحدوا مع عبد الرحمن بن معاوية .
- كان على رأس اليمنيين في ذلك الوقت أبو الصباح اليحصبي ، وكان المقر الرئيسي لهم أشبيلية ، وهي المدينة الكبيرة التي تعد حاضرة من حواضر الإسلام في ذلك الوقت ، فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى أشبيلية واجتمع طويلا مع أبي الصباح اليحصبي ، واتفقا على أن يقاتلا سويا ضد يوسف بن عبد الرحمن الفهري .
قبل القتال كان عبد الرحمن بن معاوية قد أرسل عدة رسائل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري يطلب وده وأن يسلم له الإمارة ويكون الفهري رجلا من رجاله في بلاد الأندلس ، بحكم أنه ( عبد الرحمن ) حفيد هشام بن عبد الملك من رموز الخلافة الأموية ، لكن يوسف الفهري رفض كل ذلك ، وجهز جيشا وجاء ليحارب عبد الرحمن بن معاوية ومن معه .


موقعة المسارة


من المؤسف حقا أن يلتقي المسلمون بسيوفهم ، لكن كثرة الثورات وكثرة الفتن والانقلابات جعلت الحل العسكري هو الحل الحتمي في ذلك الوقت .
ففي ذي الحجّة سنة ثمان وثلاثين ومائة ، وفي موقعة كبيرة عرفت في التاريخ باسم موقعة المسارة ، دار قتال شرس بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري من جهة وعبد الرحمن بن معاوية الذي يعتمد بالأساس على اليمنيين من جهة أخرى .
وقبل القتال كان أبو الصباح اليحصبي (رئيس اليمنيين) قد سمع بعض المقولات من اليمنيين تقول إن عبد الرحمن بن معاوية غريب عن البلاد، ثم إن معه فرس عظيم أشهب، فإن حدثت هزيمة فسيهرب من ساحة القتال ويتركنا وحدنا للفهريين .
وصلت عبد الرحمن بن معاوية تلك المقولة، فقام وفي ذكاء شديد يفوق سن الخامسة والعشرين وذهب بنفسه إلى أبي الصباح اليحصبي وقال له إن جوادي هذا سريع الحركة ولا يمكّنني من الرمي، فإن أردت أن تأخذه وتعطيَني بغلتك فعلت، فأعطاه الجواد السريع وأخذ منه البغلة يقاتل عليها، حينئذ قال اليمنيون إن هذا ليس بمسلك رجل يريد الهرب، إنما هو مسلك من يريد الموت في ساحة المعركة، فبقوا معه وقاتلوا قتالا شديدا، ودارت معركة قوية جدا، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية ، وفَرّ يوسف الفهري .


عبد الرحمن الداخل وأمارات نجابة وعلم وذكاء



كان عادة المحاربين في ذلك الزمن أن يتبع الجيش المنتصر فلول المنهزمين والفارين، ليقتلوهم ويقضوا عليهم، ومن ثَمّ على ثورتهم، وحين بدأ اليمنيون يجهزون أنفسهم ليتتبعوا جيش يوسف الفهري منعهم عبد الرحمن بن معاوية وقال لهم قولة ظلت ترن في أصداء التاريخ، أمارة على علم ونبوغ، وفهم صحيح وفكر صائب في تقدير الأمور، قال لهم : لا تتّبعوهم ، اتركوهم ، لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم ، واستبقوهم لأشد عداوة منهم .
يريد رحمه الله أن هؤلاء الذين يقاتلوننا اليوم سيصبحون غدا من جنودنا، ومن ثم عونا على أعدائنا من النصارى وغيرهم في ليون وفرنسا وغيرها. فهكذا رحمه الله كان ذو نظرة واسعة جدا تشمل كل بلاد الأندلس ، بل تشمل كل أوروبا، بل إني أراه بذلك التفكير يملك أن يعيد ملك الشام بعد ذلك أيضا إلى أملاك الأمويين ، وذلك لما يلي :
أولاً ليس في قلبه غل ولا حقد على من كان حريصا على قتله منذ ساعات قليلة .
ثانياً الفهم العميق للعدو الحقيقي وهو النصارى في الشمال .
ثالثاً رغم كونه لم يتجاوز الخامسة والعشرين إلا إنه كان يمتلك فهما واعيا وإدراكا صحيحا ، وفقها وعلما وسعة اطلاع، علم به أنه إن جاز له شرعا أن يقاتلهم لتجميع المسلمين حول راية واحدة ، فهو في ذات الوقت لا يجوز له شرعا أن يتتبعهم ، وأن يقتل الفارين منهم ، ولا أن يجهز على جريحهم ، ولا أن يقتل أسيرهم ، لأن حكمهم حكم الباغين في الإسلام وليس حكم المشركين ، وحكم الباغي في الإسلام أنه لا يتتبع الفار منهم ، ولا يقتل أسيره ، ولا يجهز على جريحه ، بل ولا تؤخذ منه الغنائم .



بين عبد الرحمن الداخل وأبي الصباح اليحصبي



بعد انتهاء موقعة المسارة قام أبو الصباح اليحصبي في اليمنيين وقال لهم لقد انتصرنا على عبد الرحمن الفهري وجاء وقت النصر على غيره ، يُعرّض بعبد الرحمن بن معاوية ، هذا الذي كان يقاتل معه منذ ساعات، ويرى أنه إن انتصر عليه وقتله ( عبد الرحمن الداخل )دانت لهم بلاد الأندلس كلها .
لكن اليمنيين لم يوافقوه على ذلك ؛ ليس حبا في عبد الرحمن الداخل وإنما خوفا منه ، فقالوا له إن هذا الرجل ليس بالسهل. وتصل هذه الأنباء إلى عبد الرحمن بن معاوية ، فما كان منه إلا أن أسرّها في نفسه، ولم يُبْدها لهم، ولم يُعلمهم أنه يعلم بما يضمرونه له، لكنه أصبح على حذر شديد جدا من أبي الصباح اليحصبي.
لم يرد عبد الرحمن بن معاوية أن يحدث خللا في الصف المسلم في هذه الأوقات ، لم يرد أن يحدث خللا بين الأمويين ومحبي الدولة الأموية وبين اليمنيين في ذلك الوقت المليء بالثورات والمعارك الداخلية ، إنما كان كل همه هو تجميع الناس ثم حرب النصارى بعد ذلك، وبالفعل وهناك وبعد إحدى عشرة سنة من هذه الأحداث عزل أبا الصباح اليحصبي عن مكانه ، واستطاع أن يتملك زمام الأمور كلها في الأندلس .


عبد الرحمن الداخل ، وبداية فترة الإمارة الأموية



بعد موقعة المسارة والسيطرة على منطقة قرطبة والجنوب الأندلسي لُقب عبد الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل ؛ لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكما ، كما كان له كثير من الأيادي البيضاء على الإسلام في بلاد الأندلس كما سنرى .
ومنذ أن تولى عبد الرحمن الداخل الأمور في بلاد الأندلس عُرفت هذه الفترة بفترة الإمارة الأموية ، وتبدأ من سنة ثمان وثلاثين ومائة من الهجرة ، وتنتهي سنة ست عشرة وثلاثمائة من الهجرة ، وسميت " إمارة " لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية ، سواء كانت في عصر الخلافة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس .
بدأ عبد الرحمن الداخل ينظم الأمور في بلاد الأندلس ، كانت هناك ثورات كثيرة جدا في كل مكان من أرض الأندلس ، وبصبر شديد وأناة عجيبة أخذ عبد الرحمن الداخل يراوض هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى ، وبحسب ما يتوافق معها أخذ يستميل بعضها ويحارب الأخرى .
وفي فترة حكمه التي امتدت أربعة وثلاثين عاما متصلة ، من سنة ثمان وثلاثين ومائة وحتى سنة اثنتين وسبعين ومائة كانت قد قامت عليه أكثر من خمس وعشرين ثورة ، وهو يقمعها بنجاح عجيب الواحدة تلو الأخرى ، ثم تركها وهي في فترة من أقوى فترات الأندلس في التاريخ بصفة عامة .

التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 06-11-2009 الساعة 12:48 PM
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 04-23-2009, 09:55 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي




الإمارة الأموية وفتراتها

ظل عبد الرحمن الداخل يحكم الأندلس منذ سنة ثمان وثلاثين ومائة من الهجرة، وحتى سنة اثنتين وسبعين ومائة من الهجرة، أي قرابة أربعة وثلاثين عاما، وكانت هذه هي بداية تأسيس عهد الإمارة الأموية ، والتي استمرت من سنة ثمان وثلاثين ومائة من الهجرة وحتى سنة ست عشرة وثلاثمائة من الهجرة .
ولفهم عهد الإمارة الأموية يمكننا تقسيمه إلى فترات كما يلي ..
الفترة الأولى ، واستمرت مائة عام كاملة من سنة ثمان وثلاثين ومائة وحتى سنة ثمان وثلاثين ومائتين من الهجرة ، وتعتبر هذه الفترة هي فترة القوة والمجد والحضارة، وكان فيها هيمنة للدولة الإسلامية على ما حولها من مناطق .


الفترة الثانية ، وتعد فترة ضعف ، وقد استمرت اثنين وستين عاما ، من سنة ثمان وثلاثين ومائتين وحتى سنة ثلاثمائة من الهجرة .


الفترة الأولى من الإمارة الأموية فترة القوة


تمثل هذه الفترة عهد القوة في فترة الإمارة الأموية ، كانت البداية فيها - كما ذكرنا - لعبد الرحمن الداخل رحمه الله ثم خلفه من بعده ثلاثة من الأمراء ، كان أولهم هشام بن عبد الرحمن الداخل ، وقد حكم من سنة اثنين وسبعين ومائة وحتى سنة ثمانين مائه من الهجرة .

عهد هشام بن عبد الرحمن الداخل


بعد فترة طويلة من الاختبارات والمشاورات كان عبد الرحمن الداخل قد استقر من بين ابنيه الأكبر سليمان والأصغر هشام على ابنه هشام ، فولاّه العهد مع كونه أصغر من أخيه سليمان ، وقد صدق حدسه فيه؛ حيث كان الناس يشبهونه بعد ذلك بعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في علمه وعمله وورعه وتقواه .
كان هشام بن عبد الرحمن الداخل عالما محبا للعلم ، قد أحاط نفسه رحمه الله بالفقهاء ، وكان له أثر عظيم في بلاد الأندلس بنشره اللغة العربية فيها ، وقد أخذ ذلك منه مجهودا وافرا وعظيما ، حتى لقد أصبحت اللغة العربية تُدرّس في معاهد اليهود والنصارى في داخل أرض الأندلس ، ثم قام أيضا بنشر المذهب المالكي بدلا من المذهب الأوزاعي ، هذا فضلا عن صولاته وجولاته الكثيرة في الشمال مع الممالك النصرانية .



عهد الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل


تولى بعد هشام بن عبد الرحمن الداخل ابنه الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل ، وذلك من سنة ثمانين ومائة وحتى سنة ست ومائتين من الهجرة ، كن الحكم هذا لم يكن على شاكلة أبيه ولا على شاكلة جده فكان قاسيا جدا، فرض الكثير من الضرائب، واهتم بالشعر والصيد، وقاوم الثورات بأسلوب غير مسبوق في بلاد الأندلس في عهد الإمارة الأموية، حيث كان يحرق بيوت الثائرين، وكان يطردهم خارج البلاد.
ومن أشهر الثورات التي قمعها الحكم بن هشام ثورة الربض ، وهم قوم كانوا يعيشون في منطقة جوار قرطبة ، وقد ثار أهلها ثورة كبيرة جدا عليه، فأحرق ديارهم وطردهم خارج البلاد ، ورغم ما في هذا الأمر من القسوة وغيرها فإنه حين طرد الربضيين خارج البلاد فقد انتقلوا إلى جزيرة كريت في عرض البحر الأبيض المتوسط، وأسسوا بها مملكة إسلامية ظلت قائمة مائة عام متصلة.
ورغم أفعاله تلك إلا أن الحكم بن هشام لم يوقف حركة الجهاد؛ وذلك لأن الجهاد كان عادة في الإمارة الأموية سواء في بلاد الشام أو في بلاد الأندلس ، لكن كانت له انتصارات وهزائم في نفس الوقت، وكنتيجه طبيعية لهذا الظلم الذي كان عنده، وهذه العلاقة التي ساءت بين الحاكم والمحكوم سقطت بعض البلاد الإسلامية في يد النصارى ، فسقطت برشلونة وأصبحت تُكّون إمارة نصرانية صغيرة في الشمال الشرقي عرفت في التارخ باسم إمارة أراجون ، وكانت متاخمة لحدود فرنسا بجوار جبال البيرينيه في الشمال الشرقي للبلاد.
لكن الحكم بن هشام بفضل من الله ومنٍّ عليه أنه تاب عن أفعاله في آخر عهده ، ورجع عن ظلمه ، واستغفر واعتذر للناس عن ذنوبه ، ثم اختار من أبنائه أصلحهم وإن لم يكن الأكبر ليكون وليا لعهده ، وكان من حسن خاتمته أنه قام بهذا الاعتذار وهذه التوبة وهو في كامل قوته وبأسه ، وذلك قبل موته بعامين .



عهد عبد الرحمن الأوسط



بعد الحكم بن هشام تولى ابنه عبد الرحمن الثاني ، وهو المعروف في التاريخ باسم عبد الرحمن الأوسط فهو الأوسط بين عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر كما سيأتي ، وقد حكم من سنة ست ومائتين وحتى آخر الفترة الأولى عهد القوة من عهد الإمارة الأموية ، وذلك سنة ثمان وثلاثين ومائتين من الهجرة ، وتعد فترة حكمه هذه من أفضل فترات تاريخ الأندلس ، فاستأنف الجهاد من جديد ضد النصارى في الشمال وألحق بهم هزائم عدة ، وكان حسن السيرة ، هادئ الطباع ، محبا للعلم محبا للناس .
ومن أهم ما ميز عهد عبد الرحمن الأوسط الأمور الثلاثة التالية
= أولاً ازدهار الحضارة العلمية ..
كان عبد الرحمن الأوسط لتقديره العلم يستقدم العلماء من بغداد ومن كل بلاد العالم الإسلامي ، فجاءوا إلى بلاد الأندلس وعظمهم وأكرمهم ورفع من شأنهم ، وأسس نواة مكتبة قرطبة العظيمة ، وأشاع التعليم في كل بلاد الأندلس .
وقد اشتهر العلماء في هذه الفترة في كل مجالات العلوم ، وكان من أشهرهم في ذلك الوقت عباس بن فرناس رحمه الله ، وهو أول من قام بمحاولة طيران في العالم ، وقد راح ضحية هذه المحاولة البكر ، وفضلا عن هذا فقد كانت له اختراعات كثيرة في شتى المجالات ، فاخترع آله لتحديد الوقت ، واخترع آله تشبه قلم الحبر ، وقد كان لهذا الاختراع أهمية كبيرة في ذلك الزمن الذي انتشر فيه العلم والتعليم ، ويعد أيضا أول من اخترع الزجاج من الحجارة .

= ثانياً ازدهار الحضارة المادية
اهتم عبد الرحمن الأوسط بالحضارة المادية العمرانية والاقتصادية وغيرها اهتماما كبيرا ، فازدهرت حركة التجارة في عهده ، ومن ثم كثرت الأموال ؛ الأمر الذي أجمع فيه المؤرخون أنه لم يكن هناك في الأندلس ما نسميه بـ quot ; عادة التسول ، كانت هذه العادة منتشرة في بعض البلاد الإسلامية الأخرى لكنها لم تُعرف أصلا في بلاد الأندلس .
كذلك تقدمت وسائل الري في عهده بشكل رائع ، وتم رصف الشوارع وإنارتها ليلا في هذا العمق القديم جدا في التاريخ ، الوقت الذي كانت أوروبا تعيش فيه في جهل وظلام دامس ، كما أقام القصور المختلفة والحدائق الغنّاء ، وتوسع جدا في ناحية المعمار حتى كانت المباني الأندلسية آية في المعمار في عهده .

= ثالثاً وقف غزوات النورمان ..
النورمان هم أهل إسكندنافيا ، وهي بلاد تضم الدانمارك والنرويج وفنلندا والسويد ، وقد كانت هذه البلاد تعيش في همجية مطلقة ، فكانوا يعيشون على ما يسمى بحرب العصابات ، فقاموا بغزوات عرفت باسم غزوات الفايكنج ، وهي غزوات إغارة على أماكن متفرقة من بلاد العالم ، ليس من هم لها إلا جمع المال وهدْم الديار .
في عهد عبد الرحمن الأوسط وفي سنة ثلاثين ومائتين من الهجرة هجمت هذه القبائل على أشبيلية من طريق البحر في أربع وخمسين سفينة ، دخلوا فأفسدوا فسادا كبيرا ، فدمروا أشبيلية تماما ، ونهبوا ثرواتها ، وهتكوا أعراض نسائها ، ثم تركوها إلى شذونة وألمرية ومرسيه وغيرها من البلاد فأشاعوا الرعب وعم الفزع ، وشتّان بين المسلمين في فتحهم للبلاد وبين غيرهم في معاركهم .
ما كان من عبد الرحمن الأوسط رحمه الله إلا أن جهز جيشه وأعد عدته ، ولأكثر من مائة يوم كاملة دارت بينه وبينهم معارك ضارية ، أغرقت خلالها خمس وثلاثين سفينة للفايكنج ، ومنّ الله على المسلمين بالنصر ، وعاد النورمان إلى بلادهم خاسئين .
لم يجنح عبد الرحمن الأوسط رحمه الله بعدها إلى الدعة أو الخمول ، وإنما عمل على تفادي تلك الأخطاء التي كانت سببا في دخول الفايكنج إلى بلاده فقام بما يلي ..
= أولاً رأى أن أشبيلية تقع على نهر الوادي الكبير الذي يصب في المحيط الأطلنطي ، ومن السهولة جدا أن تدخل سفن الفايكنج أو غيرها من المحيط الأطلنطي إلى أشبيلية ، فقام بإنشاء سور ضخم حول أشبيلية ، وحصّنها تحصينا ظلت بعده من أحصن حصون الأندلس بصفة عامة .
= ثانياً لم يكتف بذلك بل قام أيضا بإنشاء أسطولين قويين جدا ، أحدهما في الأطلسي والآخر في البحر الأبيض المتوسط ، وذلك حتى يدافع عن كل سواحل الأندلس ، فكانت هذه الأساطيل تجوب البحار وتصل إلى أعلى حدود الأندلس في الشمال عند مملكة ليون ، وتصل في البحر الأبيض المتوسط حتى إيطاليا .
وكان من نتيجة ذلك أنه فتح جزر البليار للمرة الثانية ، كنا قد ذكرنا أن الذي فتحها للمرة الأولى كان موسى بن نصير رحمه الله وذلك قبل فتح الأندلس سنة إحدى وتسعين من الهجرة ، ثم سقطت في أيدي النصارى في عهد الولاة الثاني حين انحدر حال المسلمين آنذاك ، وهنا وفي سنة أربع وثلاثين ومائتين من الهجرة تم فتحها ثانية .
كذلك كان من نتيجة هزيمة الفايكنج في هذه الموقعة قدوم سفارة من الدانمارك محملة بالهدايا تطلب ود المسلمين ، وتطلب المعاهدة معهم .



الفترة الثانية من الإمارة الأموية فترة الضعف

بوفاة عبد الرحمن الأوسط رحمه الله يبدأ عهد جديد في بلاد الأندلس ، وهو فترة الضعف في الإمارة الأموية ، ويبدأ من سنة ثمان وثلاثين ومائتين وحتى سنة ثلاثمائة من الهجرة ، أي حوالي اثنتين وستين سنة .
تولى بعد عبد الرحمن الأوسط ابنه محمد بن عبد الرحمن الأوسط ثم اثنين من أولاده المنذر ثم عبد الله ، وحقيقة الأمر أن الإنسان ليتعجب كيف بعد هذه القوة العظيمة والبأس الشديد والسيطرة على بلاد الأندلس وما حولها يحدث هذا الضعف وهذا السقوط وهذا الانحدار ؟!
أولاً انفتاح الدنيا وحب الغنائم .
ثانياً القبلية والقومية .
ثالثاً ظلم الولاة .
رابعاً ترك الجهاد .
وكل هذه الأسباب لم تنشأ فجأة ، وإنما كانت بذورها قد نشأت منذ أواخر عهد القوة من عهد الولاة أثناء وبعد موقعة بلاط الشهداء .
إذن لكي نفهم سبب ضعف الإمارة الأموية علينا أن نرجع قليلاً ، وندرس الفترة الأخيرة من عهد القوة ، ونبحث فيها عن بذور الضعف والأمراض التي أدّت إلى هلكة أو ضعف الإمارة الأموية في هذا العهد الثاني .




التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 06-11-2009 الساعة 12:48 PM
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 04-24-2009, 04:38 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي



وقفة مع عبد الرحمن الناصر وبداية حياته نحو الإصلاح


عبد الرحمن الناصر
وتغيير التاريخ


بعد تولي عبد الرحمن الناصر الحكم وبهذه المؤهلات السابقة ، بهذه التربية الشاملة لكل فروع ومقومات الشخصية الإسلامية السوية ، وبهذه الثقة الشديدة بالله وبنفسه ، أقدم على تغيير التاريخ ، فقام بما يلي :

= أولاً إعادة توزيع المهام والمناصب ، أو ما يمكن تسميته " تنظيف قرطبة " ..
- حين تولى الحكم لم يكن يملك عبد الرحمن الناصر من بلاد الأندلس سوى قرطبة وما حولها من القرى، ورغم أنها تعد أكبر بلاد الأندلس وتمثل مركز ثقل كبير لكونها العاصمة ، إلا أنها لم تكن لتمثل أكثر من عشر مساحة الأندلس ، بدأ عبد الرحمن الناصر من هذه المساحة الصغيرة يغير من التاريخ .
- قام بتطهير المراكز المرموقة في قرطبة ، من وزراء وقواد للجيش وغيرهم من رموز الفساد التي استولت عليها ، واستبدالهم بمن ينتقيهم هو ممن يتصفون بالتقوى والورع ونظافة اليد وسعة العلم ، وهكذا في كل المراكز القيادية في قرطبة .
- ثم أعلى من شأن العلماء جداً ، ورفع منزلتهم فوق منزلته نفسه ، ورضخ لأوامرهم ونواهيهم ، فطبق ذلك على نفسه أولاً قبل أن يطبقه على شعبه ، ثم طبق الشرع الإسلامي بكامله ، ولم يتنازل ولو عن نقطة واحدة من أحكام الشرع الكريم .

= ثانياً الاتجاه إلى الثورات ومحاولة ترويضها بعد الانتهاء من الشأن الداخلي في قرطبة وتهيئته تماماً ..
- بدأ عبد الرحمن الناصر رحمه الله يتجه إلى المحيط الخارجي ، حيث الثورات المتعددة في كل أرض الأندلس ، هداه تفكيره إلى أن يبدأ بعمر أو صمويل بن حفصون ؛ وذلك لسببين ..
الأول أن هذا الرجل لا يختلف اثنان على أنه يستحق القتل ؛ وذلك لأنه ارتد عن دين الله سبحانه وتعالى ومن ثم فقد أصبح قتاله فرضا على المسلمين .
والسبب الثاني أنه يستطيع بذلك أن يحفز أهل قرطبة الذين كانوا قد ألفوا الثورات في هذه الآونة ؛ حيث المعركة في منتهى الوضوح هي بين المسلمين والمرتدين .


في الطريق للقضاء على ثورة صمويل بن حفصون


بعد نحو شهرين فقط من توليه الحكم قاد عبد الرحمن الناصر أول حملة له لقتال المرتدين استرد فيها مدينة أَسْتُجّه ، وكانت من أحصن مدن الأندلس - كما علمنا عند بداية الفتوحات - ثم بعد ذلك بنحو شهرين أو ثلاثة أشهر قاد بنفسه حملة كبيرة على صمويل بن حفصون استمر مداها طيلة ثلاثة أشهر كاملة ، هي شعبان ورمضان وشوال من سنة ثلاثمائة من الهجرة من نفس العام الذي تولى فيه رحمه الله فاسترد جَيّان ، وهي أيضا من المدن الحصينة جدا في الأندلس ، ويكفي لمعرفة هذا أنه استرد فيها سبعين حصنا من حصون صمويل بن حفصون .
ما زالت قوة صمويل بن حفصون كبيرة جداً ؛ فالمدد يأتيه من الشمال من دول النصارى ، ويأتيه أيضا من الجنوب من الدولة الفاطمية ، هذا فضلا عن إمدادات مدينة أشبيلية والتي كان عليها حاكم مسلم من أولاد ابن حجاج ، لكنه كان متمردا على سلطة قرطبة ، وكان يملك جيشا مسلما كبيرا .
فكر عبد الرحمن الناصر كثيرا في كيفية قطع هذه الإمدادات على صمويل بن حفصون ، اهتدى أخيرا في أن يبدأ بالهجوم على مدينة أشبيلية أكبر مدن الجنوب بعد قرطبة ؛ وذلك بمنطق النزعة الإسلامية التي غلبت عليه ، حيث أمّل إن هو ذهب إلى أشبيلية واستطاع أن يُرغم حاكمها على الانضمام له أو الانصياع إليه بالقوة أن ينضم إليه جيش أشبيلية المسلم الكبير ، وبذلك تقوى جيوش الدولة الأموية ، وتقوى شوكته .
وبالفعل وبعون من الله كان له ما أمّل ، حيث ذهب إلى أشبيلية بعد أقل من عام واحد من ولايته في سنة ثلاثمائة وواحد من الهجرة ، واستطاع أن يضمها إليه ؛ فقويت بذلك شوكته وعظم جانبه ، فعاد إلى صمويل بن حفصون بعد أن قطع عنه المدد الغربي الذي كان يأتيه من أشبيلية ، واسترد منه جبال رندة ثم شذونة ثم قرمونة ، وهي جميعا من مدن الجنوب .
تعمق عبد الرحمن الناصر بعد ذلك ناحية الجنوب حتى وصل إلى مضيق جبل طارق فاستولى عليه ، ويكون بذلك أيضا قد قطع الإمدادات والمساعدات التي كانت تأتيه من الجنوب من الدولة الفاطمية عن طريق مضيق جبل طارق ، وسعى عبد الرحمن الناصر إلى أكثر من هذا حيث قطع أيضا طريق الإمدادات التي كانت تأتيه من الدول النصرانية في الشمال عن طريق المحيط الأطلسي ، ثم مضيق جبل طارق ، ثم البحر الأبيض المتوسط حتى تصله ، وبذلك يكون عبد الرحمن الناصر قد قطع عن صمويل بن حفصون كل طرق الإمدادات والمساعدات التي كانت تمده وتقويه .
لم يجد صمويل بن حفصون بدا من طلب الصلح والمعاهدة من عبد الرحمن الناصر على أن يعطيه اثنين وستين ومائة حصنا من حصونه ، ولأن البلاد كانت تشهد موجة من الثورات والانقسامات يريد عبد الرحمن الناصر أن يتفرغ لها ، فضلا عن أنه سيضمن في يده اثنين وستين ومائة حصنا وسيأمن جانبه فقد قبل المعاهدة ووافق على الصلح من صمويل بن حفصون .


عبد الرحمن الناصر يفجأ الجميع ويتجه نحو الشمال الغربي


أصبحت قوة عبد الرحمن الناصر رحمه الله تضم قرطبة وأشبيلية وجيان وأستجة ، وهي جميعا من مدن الجنوب ، بالإضافة إلى حصون أخرى كثيرة - كما ذكرنا - وكل هذه المساحة كانت تمثل تقريبا سدس مساحة الأندلس الإسلامية في ذلك الوقت ، هذه واحدة .
الأمر الثاني أن صمويل بن حفصون ما زال يملك حصونا كثيرة ويسيطر سيطرة كاملة على الجنوب الشرقي من البلاد ، لكن قطعت عنه الإمدادات الخارجية سواء من النصارى أو الدولة الفاطمية أو أشبيلية .
والأمر الثالث أنه كان هناك تمرد في طليطلة تقع في شمال قرطبة .
ورابعا تمرد في سرقسطة في الشمال الشرقي .
وخامسا تمرد في شرق الأندلس في بلنسية .
وسادسا تمرد في غرب الأندلس يقوده عبد الرحمن الجليقي .
أي أن الأندلس في عام اثنين وثلاثمائة من الهجرة كانت مقسمة إلى ستة أقسام ، قسم واحد فقط في يد عبد الرحمن الناصر ، ويضم قرطبة وأشبيلية وما حولها بما يقارب سدس مساحة الأندلس كما ذكرنا ، والخمسة الأخرى موزعة على خمس متمردين ، والمتوقع - إذن - هو أن يحاول عبد الرحمن الناصر من جديد مقاومة إحدى مراكز التمرد هذه إن لم تكن الأقرب إليه .
وإن المرء ليقف فاغراً فاهُ شاخصاً بصرهُ حين يعلم أن عبد الرحمن الناصر ترك كل هذه التمردات، واتجه صوب الشمال الغربي صوب مملكة ليون النصرانية مباشرة . ترك عبد الرحمن الناصر كل شيء وأخذ جنده من قرطبة وأشبيلية وصعد في اتجاه الشمال الغربي ليقابل قوات النصارى هناك ، والتي كانت تهاجم منطقة من مناطق المتمردين غرب الأندلس .
ظل عبد الرحمن الناصر في حرب مع قوات النصارى تلك في أرض المتمردين عامين كاملين ، عاد بعدها منتصرا محملا بالغنائم ، تاركا البلاد راجعا إلى قرطبة وأشبيلية ، وكأنه أراد أن يعلم الناس أمرا ويرسل إليهم برسالة في منتهى الوضوح كانت قد خفيت عليهم ، مفادها الأعداء الحقيقيين ليسو المسلمين في الداخل، إنما هم النصارى في الشمال ، إنما هم في مملكة ليون ، ومملكة نافار ، ومملكة أراجون .
بهذا العمل استطاع عبد الرحمن الناصر رحمه الله إحراج المتمردين إحراجا كبيرا أمام شعوبهم .


عبد الرحمن الناصر والطريق إلى راية واحدة للأندلس


لم يلتقط عبد الرحمن الناصر رحمه الله أنفاسه ، وقام في سنة ثمان وثلاثمائة من الهجرة بالتحرك نحو واحدة من مراكز التمرد وهي طليطلة ، تلك التي لم تستطع أن تقف أمام هذه القوة الجارفة فضمها إليه في سهولة ، بعدها أصبح الطريق آمنا نحو الشمال مباشرة ؛ حيث سرقسطة في الشمال الشرقي ، وطليطلة في وسط الشمال قد أصبحتا في يده .
وفي نفس العام في سنة ثمان وثلاثمائة من الهجرة ، وعمره آنذاك ثلاثون سنة فقط ، قام عبد الرحمن الناصر على رأس حملة ضخمة جدا باتجاه نصارى الشمال ، فكانت غزوة موبش الكبرى بين عبد الرحمن الناصر من جهة ، وجيوش ليون ونافار مجتمعة من جهة أخرى ، واستمرت هذه الغزوة طيلة ثلاثة أشهر كاملة ، حقق فيها عبد الرحمن الناصر انتصارات ضخمة وغنائم عظيمة ، وضم إليه مدينة سالم وكانت تحت يد النصارى .
بعد أربعة أعوام من غزوة موبش وفي سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة من الهجرة قاد عبد الرحمن الناصر بنفسه رحمه الله حملة ضخمة أخرى على مملكة نافار ، واستطاع في أيام معدودات أن يكتسحها اكتساحا ، ويضم إلى أملاك المسلمين مدينة بمبلونة عاصمة نافار ، ثم بدأ بعدها يحرر الأراضي التي كان قد استولى عليها النصارى في عهد ضعف الإمارة الأموية .
وفي سنة ست عشرة ومائة من الهجرة يقود عبد الرحمن الناصر حملة أخرى على شرق الأندلس ويقمع التمرد الذي كان هناك ويضمها إلى أملاكه ، ثم في نفس العام حملة أخرى على غرب الأندلس وهزيمة لعبد الرحمن الجليقي ومن ثم يضم غرب الأندلس إلى أملاكه من جديد .
وبذلك وبعد ستة عشرا عاما من الكفاح المضني ، يكون رحمه الله قد وحّد الأندلس كله تحت راية واحدة، وحّدها جميعا ولم يتجاوز عمره آنذاك ثمانية وثلاثين عاما بعد ، رحمه الله رحمة واسعة .



عهد جديد .. عهد الخلافة الأموية


نظر عبد الرحمن الناصر رحمه الله إلى العالم الإسلامي من حوله فوجد الخلافة العباسية قد ضعفت ، وكان قد قُتل المقتدر بالله الخليفة العباسي في ذلك الوقت على يد مؤنس المظفر التركي ، وقد تولى الأتراك حكم البلاد فِعْليا وإن كانوا قد أجلسوا الخليفة العباسي القادر بالله على كرسي الحكم .
ثم نظر رحمه الله إلى الجنوب فوجد الفاطميين قد أعلنوا الخلافة وسمّوا أنفسهم أمراء المؤمنين ، فرأى أنه وقد وحّد الأندلس وصنع هذه القوة العظيمة أحق بهذه التسمية وبذلك الأمر منهم فأطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين ، وسمى الإمارة الأمويّة بالخلافة الأموية .
ومن هنا يبدأ عهد جديد في الأندلس هو عهد الخلافة الأموية ، وذلك ابتداء من سنة ست عشرة وثلاثمائة وحتى سنة أربعمائة من الهجرة، أي نحو أربع وثمانين سنة متصلة ، وهو يعد عهد الخلافة الأموية استكمالا لعهد الإمارة الأموية ، مع فروق في شكليات الحكم وقوة السيطرة والسلطان لصالح الأخير .


عبد الرحمن الناصر يتابع سياسته العسكرية التوسعية


بعد ثلاث سنوات من إعلان الخلافة الأموية ، وفي سنة تسع عشرة وثلاثمائة من الهجرة يتجه عبد الرحمن الناصر جنوبا نحو مضيق جبل طارق ، ويقوم بغزو بلاد المغرب ويحارب الفاطميين هناك فيضم سبتة وطنجة إلى بلاد الأندلس ، وتتم له بذلك السيطرة الكاملة على مضيق جبل طارق ، فيبدأ بإمداد أهل السنة في منطقة المغرب بالسلاح، لكنه لم يشأ أن يمدهم بالجنود تحسبا لهجمات ممالك النصارى في الشمال .

وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة من الهجرة تحدث خيانة من حاكم مملكة الشمال الشرقي سرقسطة محمد بن هشام التجيبي ، حيث ينضم إلى مملكة ليون النصرانية لحرب عبد الرحمن الناصر ، وبكل حزم وقوة يأخذ عبد الرحمن الناصر جيشا كبيرا يتصدى به لهذه الخيانة ويهاجم مدينة سرقسطة ، وعند أطراف المدينة يهاجمه جيش سرقسطة ، فيغزو عبد الرحمن الناصر قلعة حصينة ويمسك بقوّاد هذا الجيش ، ويقوم بإعدامهم على الفور وأمام أعين الجميع في عمل لا يوصف إلا بالكياسة والحزم .
وهنا أعلن حاكم سرقسطة محمد بن هشام التجيبي ندمه وعودته إلى عبد الرحمن الناصر ، وكعادة الأبطال الدهاة والساسة الحكماء قبل منه رحمه الله اعتذاره ثم أعاده حاكما على سرقسطة ، رابحا بذلك كل قلوب التجيبيين بعد أن كان قد تملك منهم ، وبمنطق الحزم وقت الحزم والعفو عند المقدرة عمل عبد الرحمن الناصر ، فأطلق حكّام سرقسطة بعد أن أعلنوا توبتهم وأعاد التجيبيين إلى حكمهم ؛ فأثّر ذلك كثيرا في المدينة كلها ، فما ارتدت بعد ذلك على عهدها مع عبد الرحمن الناصر رحمه الله .
وفي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة من الهجرة هجم عبد الرحمن الناصر على مملكة أراجون النصرانيّة في الشمال الشرقي بجوار مملكة سرقسطة وضمها إلى أملاك المسلمين ، وكذلك ضم برشلونة والتي كانت قد سقطت منذ سنوات كثيرة .
وفي زلة لا تعرفها السنن الكونية راح عبد الرحمن الناصر يعتقد في جيشه وقوة عدده ، ونسوا جميعا الدعاء الذي كانوا يتضرعون به لرب العالمين وهم عالة ضعفاء أن ينصرهم على أعدائهم ، وفي درسٍ قاسٍ له ولجيشه الجرار ، وفي حنين أخرى تدور واحدة من أشرس وأعنف المعارك على المسلمين أصحاب الأرقام الستة ، سميت بموقعة الخندق أو موقعة سامورة .
وإذا بالتاريخ يعيد نفسه ، وإذا بسامورة تنقلب حنينا ، والله سبحانه وتعالى ليس بينه وبين أحد من البشر نسبا ، فإذا أخطأ العباد وبعدوا عن ربهم سبحانه وتعالى تكون الهزيمة محققة لا محالة ، فانهزم جيش المسلمين في موقعة الخندق أو موقعة سامورة ، وبانتهاء المعركة كان نصف عدد الجيش خمسون ألفا بين القتل والأسر ، وفر عبد الرحمن الناصر رحمه الله مع النصف الآخر عائدين بأكبر خسارة وأثقل هزيمة .
بعد موقعة سامورة لم يستسلم عبد الرحمن الناصر رحمه الله ، وهو الذي رُبّي على الجهاد والطاعة لربه ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فعلم مواضع الخلل ومواطن الضعف ، ومن جديد تدارك أمره وقام وقام معه العلماء والمربون يحفزون الناس ويعلمونهم الإسلام .
ومن جديد أعادوا هيكلهم وقاموا بحرب عظيمة على النصارى في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة من الهجرة ، تلتها حملات مكثفة وانتصارات تلو انتصارات ، ظلت من سنة تسع وعشرين وثلاثمائة إلى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة ، حتى أيقن النصارى بالهلكة ، وطلب ملك ليون الأمان والمعاهدة على الجزية، يدفعها لعبد الرحمن الناصر عن يد وهو صاغر .
كذلك فعل ملك نافار ، ومثلهما مملكة أراجون النصرانية التي كانت في حوزة عبد الرحمن الناصر رحمه الله فدفعوا جميعا الجزية ابتداءا من سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة إلى آخر عهده رحمه الله سنة خمسين وثلاثمائة من الهجرة .

جهاد الحكم بن الناصر وتوسعاته


ظنت ممالك أوروبا الشمالية وممالك الأندلس النصرانية الشمالية أن الحكم بن عبد الرحمن الناصر يهتم بالعلم على حساب الجهاد ، وعلى خلاف عهدهم الذي كانوا قد أبرموه مع أبيه عبد الرحمن الناصر قاموا بمهاجمة مناطق الشمال ، فما كان من الحكم إلا أن ردّ عليهم كيدهم في نحورهم ، وهاجمهم بغزوات كغزوات أبيه ، وانتصر عليهم رحمه الله في مواقع عدة ، حتى رضوا بالجزية من جديد عن يد وهم صاغرون .
ومن منطلق إسلامي بَحْت بدأ الحكم عبد الرحمن الناصر رحمه الله في حرب الدولة الفاطمية في بلاد المغرب ، كان الأندلسيون لا يملكون سوى مينائي سبتة وطنجة في عهد عبد الرحمن الناصر ، وفي عهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر كانت قد انضمت كل بلاد المغرب إلى الأندلس تحت حكم الخلافة الأمويّة .
ظل الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله يحكم من سنة خمسين وثلاثمائة من الهجرة ، وحتى سنة ست وستين وثلاثمائة من الهجرة ، في فترة هي أقوى فترات الأندلس على الإطلاق وأعظم عهودها .




التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 06-11-2009 الساعة 12:44 PM
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 04-24-2009, 04:40 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي



خطأٌ فادح !

بالرغم من أنه كان من أفضل الحكام المسلمين على الأندلس إلا أن الحكم بن عبد الرحمن الناصر في آخر عهده قد أخطأ خطأ جسيما ، فقد أصيب في آخر أيامه بالفالج ( الشلل ) فقام باستخلاف أكبر أولاده هشام بن الحكم وعمره آنذاك اثنتا عشرة سنة فقط ، استخلفه على بلاد الأندلس وفوقها بلاد النصارى في الشمال ومن تحتها الدولة الفاطمية في الجنوب ، وكل ممالك أوروبا تتشوق إلى الكيد بهذه القوة العظيمة وهزيمتهاوهي بلا شك زلّة خطيرة جدا من الحكم بن عبد الرحمن الناصر ؛ إذ كان عليه أن ينتقي من يستخلفه لهذه المهمة الجسيمة ، ويولي رجلا آخر من بني أميّة ، يستطيع أن يقوم بالأعباء الثقيلة لمهمة حكم دولة قوية ، كثيرة الأعداء متسعة الأطراف ، ومترامية الأبعاد كدولة الأندلس .
توفي الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله سنة ست وستين وثلاثمائة من الهجرة ، مستخلفا على الحُكم ابنه الطفل الصغير هشام بن الحكم ، وقد جعل عليه مجلس وصاية مكون من ثلاثة أشخاص :
الأول : الحاجب : وهو جعفر بن عثمان المصحفي ، والحاجب أي الرجل الثاني في الدولة بعد الخليفة مباشرة ، وهو بمثابة رئيس الوزراء حالياً .
الثاني : قائد الشرطة : وهو محمد بن أبي عامر ، وكان من اليمن .
الثالث : أم هشام بن الحكم ، وكان اسمها ( صُبْح )..
...
..
.


التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 06-11-2009 الساعة 12:43 PM
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 04-24-2009, 04:47 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي




عهد الدولة العامرية والفتنة



كيف نشأت الدولة العامرية؟ وكيف انتهت؟


يعتبر محمد بن أبي عامر هو مؤسس هذه الدولة ، وتبدأ قصته عندما كان أحد الوصايا على هشام بن الحكم ، وبدأ في التخلص من باقي مجلس الوصاية ، وسيطر على الخليفة صغير السن ، وبدأ يقوِّي نفوذه في الدولة ، حتى إنه عهد بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور .
وتبدأ هذه الدولة فعليّاً منذ سنة 366 هـ/ 976م ، وظلت حتى سنة 399 هـ/ 1009م ولكنها كانت تابعة للدولة الأموية ؛ لأن هشام بن الحكم كان ما زال يحكم ولو بشكل رمزي ، وبعد وفاة الحاجب المنصور سنة 392 هـ/ 1002م تولى الحجابة بعده عبد الملك بن المنصور ، وتوفي عبد الملك بن المنصور سنة 399 هـ/ 1009 م ، وتولى أمر الحجابة من بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور، ولكنه كان ظالمًا فقتله الناس، وعزلوا هشام بن الحكم وتنتهي الدولة العامرية.


انتشار الفتن بعد سقوط الدولة العامرية ويبدأ عهد يعرف باسم ملوك الطوائف .


تميزت هذه الفترة بكثرة الفتن والصراعات ، مثل التي حدثت بين المهدي الذي تولى الحكم بعد هشام بن الحكم وبين سليمان بن الحكم الذي أعلنه البربر خليفة ، وتحدث الكثير من النزاعات لتصل إلى الدرجة التي تجعل البعض يستعين بالنصارى ، ثم يتدخل البربر ويعلنون خليفة منهم يسمى علي بن حمود ، ولكن العامريين يتدخلون محاولين إعادة نفوذهم مرة أخرى ، ويعلنون أحد الأمويين ويسمى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله خليفة ، ولقبوه بالمرتضى بالله ، وتدور الكثير من الصراعات بين البربر والعامريين ، ويحاول العلماء التدخل لإصلاح هذه الأوضاع ، ويعلنون قيام مجلس شورى لكي يحكم ، وبالفعل يتولى الحكم ولكنه كان يسيطر على قرطبة فقط ، أما باقي بلاد الأندلس فكانت تعيش في حالة من الفوضى والدمار ، ومن ثَمَّ تنقسم الأندلس إلى دويلات متفرقة ، ويبدأ عهد جديد يسمى " عهد ملوك الطوائف ".

ولكن ما أسباب التحول من القوة إلى الضعف ؟ وما مكانة المسلمين اليوم بين القيام والسقوط ؟
إن التحول من القوة إلى الضعف سنة من سنن الله سبحانه وتعالى ، فإن أية دولة تبدأ من مرحلة النمو ثم تنمو هذه الدولة لتصل إلى مرحلة القوة والازدهار ، ثم تبدأ الدولة في الانهيار تدريجيًّا حتى تصل إلى مرحلة الشيخوخة .
والأمة الإسلامية تنفرد بأنها أمة لا تموت ودائماً في قيام ، فإذا سقطت أتبع السقوطَ قيامٌ ، أما بالنسبة إلى الوضع اليوم في العالم الإسلامي فلا يوجد خلافة إسلامية ولا تطبيق للشرع ، ولكن ما نراه اليوم من كثرة عدد المصلين والمحجبات ، والصحوة الجهادية في البلدان المحتلة يشير إلى أن إصلاح هذه الأمة سيكون قريباً بإذن الله سبحانه وتعالى .
فدعونا نتعرَّف سوياً على الدولةِ العامرية ، وأسبابَ النهوضِ والسقوط .

ومن إسبانيــــا
..
.



التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 12-06-2009 الساعة 03:48 AM
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 04-26-2009, 09:38 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي



محمد بن أبي عامر ت 392 هـ = 1002 م
كان محمد بن أبي عامر يملك طموحات ضخمة وآمال كبيرة أطمعته في أن يكون واليًا على هذه البلاد ، ولتحقيق هذا الحلم قام بعدة أمورٍ غاية في الظلم والقسوة ؛ فعمل على الآتي :

أولًا :

فكر في التخلص من الوصيين اللّذَيْن كانا معه على هشام بن الحكم ، فدبر مكيدة سجن فيها الحاجب ( جعفر بن عثمان المصحفي ) ثم قتله بعد ذلك، ثم نظر إلى أمر أم هشام بن الحكم فوجد أن موقفها ضعيف بالنسبة له كقائد شرطة فتركها في قصرها، ثم تقلّد هو الأمور وحده، وبدأ يحكم بلاد الأندلس باسم الخليفة الصغير هشام بن الحكم .

ثانيًا:

أراد محمد بن أبي عامر بعد ذلك أن يقوّي جانبه أكثر مما كان عليه، فتزوج من ابنة أمير الجيش غالب بن عبد الرحمن ، وبذلك يكون قد حيّد جانب أمير الجيش، وضمن ولاء الجيش الأندلسي له، وحين انتبه غالب بن عبد الرحمن (أمير الجيش ووالد زوجته) له وعلم نيّاته وخطته وأفصح له عن ذلك، دبّر محمد بن أبي عامر له مكيدة أيضًا ثم قتله.

ثالثًا:
لم يكتف محمد بن أبي عامر بذلك، فقد قام باستدعاء جعفر بن علي بن حمدون قائد الجيش الأندلسي في المغرب ، (كانت المغرب قد ضمت إلى بلاد الأندلس في عهد الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر كما ذكرنا ) استدعاه إليه وقربه منه ، واستفاد كثيرًا من قوته، ثم دبّر له مكيدة أيضا وقتله ، وكان كلما قتل شخصا عيّن مكانه مَن يعمل برأيه وبوصاية منه، وبذلك يكون قد تملّك من كل الأمور في الأندلس .

رابعًا:

وبنظرة طويلة إلى الأمام بدأ محمد بن أبي عامر يقنع الخليفة الصغير هشام بن الحكم بالاختفاء في قصره بعيدًا عن العيون؛ وذلك - كما يزعم - خوفاً عليه من المؤامرات، وأن على الخلفاء أن يتفرغوا للعبادة ويتركوا أمور الناس لرئاسة الوزراء أو لقوة الشرطة أو غيرهما، وهكذا أقنعه، وقام هو بإدارة دفّة البلاد، ورُبّي ونشأ هشام بن الحكم الطفل الصغير على هذا الفهم.

بروز نجم محمد بن أبي عامر ( الحاجب المنصور )

مرت السنوات ومحمد بن أبي عامر يتولى كل شيء في بلاد الأندلس ، وهشام بن الحكم يكبر في السن لكنه لم يكن يعرف شيئًا عن الحكم وتحمُّل المسئولية ، وفي 371 هـ= 982 م وبعد حوالي خمس سنوات من تولي هشام بن الحكم الأمور ووصاية محمد بن أبي عامر عليه، كان الأمر قد استَتَبَّ لمحمد بن أبي عامر ولقّب نفسه بالحاجب المنصور .

وكان من عادة الخلفاء قبل ذلك أن يطلقوا على أنفسهم ألقابًا تميزهم ويُعرفون بها وعليها كانوا يؤملون، وذلك مثل: الناصر بالله، الحاكم بأمر الله، المؤيد بالله، لكن هذه هي أول مرة يقوم فيها الوصي أو رئيس الوزراء أو الحاجب بأخذ لقب لنفسه وهو المنصور ، الأمر الذي تطور كثيرًا حتى أصبح يُدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم ، ثم نقش اسمه على النقود وعلى الكتب والرسائل .

وإتمامًا لذلك وكما أنشأ عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر رحمه الله مدينة الزهراء في الشمال الغربي من مدينة قرطبة لتكون مركزًا لخلافته، قام محمد بن أبي عامر بإنشاء مدينة جديدة في شرق قرطبة سمّاها مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية .

وبدأ محمد بن أبي عامر ينقل الوزارات ودواوين الحكم إلى مدينة الزاهرة ، وأنشأ له قصرًا كبيرًا هناك، وبدأ يجمّل فيها كثيرًا، حتى أصبحت مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية هي المدينة الأساسية في الأندلس وبها قصر الحكم.


بعد التمهيدات السابقة وفي الطريق نحو عهد جديد من تاريخ الأندلس قام محمد بن أبي عامر بعمل الآتي:

أولًا: في سنة 381 هـ= 991 م قام بأمر لم يعهد من قبل في تاريخ الأندلس ، بل في تاريخ المسلمين، حيث عهد بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور ، وكان المشهور والمتعارف عليه أن الخليفة وحده هو الذي يعهد بالخلافة من بعده.

ثانيًا: وتمهيدًا لإقامة مُلْك على أنقاض بني أمية ، قام في سنة 386 هـ= 996 م بتلقيب نفسه بلقب الملك الكريم ، كل هذا وهشام بن الحكم الخليفة يكبر في السن، لكن ليس له من الأمر شيء.

ثالثًا: قام محمد بن أبي عامر بعد ذلك بعمل خطير أدى - فيما بعد وعلى ما سنرى - إلى انقساماتٍ كثيرة في بلاد الأندلس ، فقد كان محمد بن أبي عامر يمنيًا، واليمنيون في الأندلس ليسوا بكثرة، ولخشيته من الاستعانه بالقبائل المضرية وقبائل بني أمية معه في الجيش وبقية الأمور فكّر أن يستعين بعنصر آخر وهم البربر، فبدأ يعظّم من أمرهم ويرفع من شأنهم؛ حتى يضمن ولاءهم.

بدأ العامريون يكثرون في أماكن الحكم في بلاد الأندلس ، وبدأ التاريخ يسجل لهم عهدًا جديدًا سماه : الدولة العامرية ، وقد بدأت فترة هذه الدولة فعليًا منذ سنة 366 هـ= 976 م، ومنذ أن تولى محمد بن أبي عامر أمر الوصاية على هشام بن الحكم ، وظلت حتى سنة 399 هـ= 1009 م أي أنها استمرت ثلاثًا وثلاثين سنة متصلة ، لكنها تعتبر داخلة في فترة الخلافة الأموية ؛ لأن هشام بن الحكم الأموي لا زال هو الخليفة حتى وإن كان رمزًا أو بعيدًا عن مجريات الأمور .

جوانب مضيئة في حياة محمد بن أبي عامر

كما رأينا فقد تولّى محمد بن أبي عامر الحكم منذ سنة سنة 366 هـ= 976 م وحتى وفاته رحمه الله في سنة 392 هـ= 1002 م وقد بدأ عهده كما رأينا بمكائد ومؤامرات وقتلٍ - على الأقل - لثلاثة أنفس حتى وصل إلى تولّي كافة الأمور في الأندلس .

ومن العجيب حقًا أنه - بالرغم من أفعال محمد بن أبي عامر هذه - إلا أنه كانت له محامد وجوانب مضيئة في حياته، جعلت جميع المؤرخين يتعجبون من سيرته ويقفون في حيرة من أمره، ومن هذه الجوانب ما يلي:

أولًا: كان مجاهدًا...


كان غريبا حقا أن يغزو محمد بن أبي عامر في حياته أربعًا وخمسين غزوة لم يُهزم أبدًا في واحدة منها ، بل كان الأغرب من ذلك هو أن يصل ( الحاجب المنصور أو محمد بن أبي عامر ) في فتوحاته إلى أماكن في مملكة ليون وفي بلاد النصارى لم يصل إليها أحد من قبل ، بل لم يصل إليها الفاتحون الأوائل مثل موسى بن نصير وطارق بن زياد ، فقد وصل الحاجب المنصور إلى منطقة الصخرة ، تلك المنطقة التي لم تُفتح من قِبَل المسلمين من قبل ، واستطاع رحمه الله أن يغزو النصارى في عقر دارهم ، وها هو قد وصل إلى خليج بسكاي والمحيط الأطلسي في الشمال .

وكان من المتعارف عليه قبل ذلك أن الجهاد في الصوائف فقط ، إلا إن الحاجب المنصور كان له في كل عام مرتان يخرج فيهما للجهاد في سبيل الله ، عُرفت هاتان المرتان باسم الصوائف والشواتي .

وهذه صور مشرقة من حياته الجهادية :


1- يُسيّر جيشًا جرارًا لإنقاذ نسوة ثلاث

جاء عن الحاجب المنصور في سيرة حروبه أنه سيّر جيشا كاملًا لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين كن أسيرات لدى مملكة نافار ، ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية ، وكان من شروط هذا العهد ألا يأسروا أحدًا من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم ، فحدث ذات مرة أن ذهب رسول من رسل الحاجب المنصور إلى مملكة نافار ، وهناك وبعد أن أدّى الرسالة إلى ملك نافار أقاموا له جولة، وفي أثناء هذه الجولة وجد ثلاثا من نساء المسلمين في إحدى كنائسهم فتعجب لوجودهن ، وحين سألهن عن ذلك قلن له إنهن أسيرات في ذلك المكان .

وهنا غضب رسول المنصور غضبًا شديدا وعاد إلى الحاجب المنصور وأبلغه الأمر ، فما كان من المنصور إلا أن سيّر جيشا جرارًا لإنقاذ النسوة ، وحين وصل الجيش إلى بلاد نافار دُهش ملك نافار وقال: نحن لا نعلم لماذا جئتم ، وقد كانت بيننا وبينكم معاهدة على ألا نتقاتل ، ونحن ندفع لكم الجزية . وبعزة نفس في غير كبر ردّوا عليه بأنكم خالفتم عهدكم ، واحتجزتم عندكم أسيرات مسلمات ، فقالوا: لا نعلم بهن ، فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرج النسوة الثلاث ، فقال ملك نافار : إن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن ؛ فقد أسرهن جندي من الجنود وقد تم عقاب هذا الجندي ، ثم أرسل برسالة إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذارًا كبيرًا، فعاد الحاجب المنصور إلى بلده ومعه الثلاث نساء .

2- يقطع النصارى عليه الطريق ، فيُملي شروطه عليهم

مما ذُكر عن الحاجب المنصور أيضًا أنه - رحمه الله - وهو في جهاده لفتح بلاد النصارى كان قد عبر مضيقًا في الشمال بين جبلين ، ونكاية فيه فقد نصب له النصارى كمينًا كبيرًا ، فتركوه حتى عبر بكل جيشه وحين همّ بالرجوع وجد طريق العودة قد قطع عليه ، ووجد المضيق وقد أغلق تمامًا بالجنود .

فما كان من أمر الحاجب المنصور إلا أن عاد مرة أخرى إلى الشمال واحتلّ مدينة من مدن النصارى هناك، ثم أخرج أهلها منها وعسكر هو فيها ، ووزّع ديارها على جنده ، وتحصّن وعاش فيها فترة ، ثم اتخذها مركزًا له يقود منه سير العمليات العسكرية ، فأخذ يرسل منها السرايا إلى أطراف ممالك النصارى ، ويأخذ الغنائم ويقتل المقاتلين من الرجال ، ثم يأتي بهؤلاء المقاتلين ويرمي بجثثهم على المضيق الذي احتلّه النصارى ومنعوه من العودة منه .

وهنا ضج النصارى وذهبوا مغاضبين إلى قوادهم يعرضون عليهم أن يفتحوا له الباب حتى يعود إلى بلده مرة أخرى أو يجدوا حلًا لهم في هذا الرجل، فاستجابوا لهم وعرضوا على الحاجب المنصور أن يخلوا بينه وبين طريق العودة ويعود من حيث أتى، فما كان من المنصور إلا أن رفض هذا العرض ، وردّ عليهم متهكمًا أنه كان يأتي إليهم كل عام مرتين ، صيفًا وشتاءً ، وأنه يريد هذه المرة أن يمكث بقية العام حتى يأتي موعد المرة الثانية ، فيقوم بالصوائف والشواتي من مركزه في هذه البلاد بدلا من الذهاب إلى قرطبة ثم العودة منها ثانية .

لم يكن مفر أمام النصارى سوى أن يطلبوا منه الرجوع إلى بلده وله ما يريد ، فاشترط عليهم الحاجب المنصور في سبيل موافقته على عرضهم ما يلي :

أولا: أن تفتحوا المضيق ولا تبقوا فيه نصرانيا واحدًا، فوافقوه على ذلك.
ثانيا: أن ترفعوا جثثكم التي ألقيناها من أمام المضيق، فبدأوا يرفعون جثث الجنود الذين قتلوا من أمام المضيق وأبعدوها عنه.

ثالثا: أن تحملوا لي جميع الغنائم من هنا إلى مقري في قرطبة ، وبالفعل أجابوا إلى ذلك، وحملوا الغنائم التي حصّلها من بلادهم من ليون في الشمال حتى أوصلوها إلى قرطبة في الجنوب.

3- يجمع ما علق على ثيابه من غبار ليدفن معه في قبره

مقتديًا بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم : لَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ . (رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح). كان من عادة الحاجب المنصور رحمه الله في جهاده وبعد كل معركة أن ينفض ثوبه ويأخذ ما يخرج منه من غبار ويضعه في قارورة ، ثم أمر في نهاية حياته أن تدفن معه هذه القارورة ؛ وذلك حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى .


إلا أنه ومع كل هذه الحروب ومع كل هذا الجهاد ، ورغم أنه غزا أربعًا وخمسين غزوة ولم يهزم في واحدة منها قط، فلم يكن سمت حروب الحاجب المنصور سمتًا إسلاميًا مثل التي كانت في زمن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر أو الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر ، فقد كان الحاجب المنصور يخترق بلاد النصارى ويصل إلى عمقها، ويقتل منهم ثم يعود فقط محملًا بالغنائم ، ولم يكن من همه أبدًا أن يضم هذه البلاد إلى بلاد المسلمين ، أو أن يُعلّم أهلها الإسلام ، أو أن ينشر الدعوة في هذه البلاد ، فبقي الحال كما هو عليه ، بل إن الحمية زادت في قلوب النصارى وزاد حقدهم على المسلمين.

ثانيًا: اهتمامه بالجوانب الحضارية في البلاد


من الجوانب الوضّاءة في حياة محمد بن أبي عامر أو الحاجب المنصور أيضًا اهتمامه الكبير بالجانب المادي والحضاري في البلاد ، فقد أسسّ مدينة الزاهرة على أحسن ما يكون - كما ذكرنا - وزاد كثيرًا في مساحة مسجد قرطبة ، حتى أضاف إليه ضعف مساحته الأصلية ، وكان يشتري هذه المساحات ممن يقطنون حول المسجد وذلك بالمبلغ الذي يرضونه .

وقد ذُكر في ذلك أنه كانت هناك سيدة وحيدة تسكن في بيت فيه نخلة بجوار المسجد ، وقد أبت هذه السيدة أن تبيع بيتها هذا إلا إذا أَتى لها الحاجب المنصور بمنزل فيه نخلة كالذي تملكه ، فأمر الحاجب المنصور بشراء بيت لها فيه نخله كما أرادت حتى ولو أتى ذلك على بيت المال ، ثم أضاف بيتها إلى حدود المسجد .

زاد الحاجب المنصور كثيرًا في المسجد بعد ذلك ، حتى أصبح ولفترة طويلة من الزمان أكبر من أي مسجد أو كنيسة في العالم ، وهو لا يزال إلى الآن موجودًا في إسبانيا ، ولكنه - وللأسف - قد حُوّل إلى كنيسة بعد سقوط الأندلس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

وكذلك كانت العلوم والتجارة والصناعة وغيرها من الأمور قد ازدهرت كثيرًا في حياة الحاجب المنصور ، وقد عمّ الرخاء وامتلأت خزانة الدولة بالمال ، ولم يعد هناك فقراء تمامًا كما كان الحال أيام الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر أو أيام عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر نفسه .

ثالثًا: عدم وجود ثورات أو خروج عليه طيلة عهده


كان الأمر اللافت للنظر أيضًا في حياة الحاجب المنصور أنه ورغم طول فترة حكمه التي امتدت من سنة 366 هـ= 976 م وحتى سنة 392 هـ= 1002 م لم توجد أي ثورات مطلقا ، فلم تقم أي ثورة أو تمرّد في عهده على طول البلاد واتساعها واختلاف أمزجتها .


فقد كان الحاجب المنصور رجلًا قويًا ، محكِمًا للأمن والأمان في البلاد ، كما كان عادلًا مع الرعية ، ومما جاء في ذلك ما ترويه بعض الروايات من أنه جاءه يومًا رجل بسيط من عامة الشعب ، يبغي مظلمة عنده ، وقال له: إن لي مظلمة وإن القاضي لم ينصفني فيها ، وحين سمع منه مظلمته أتى بالقاضي مستوضحًا منه الأمر، وكيف أنه لم ينصف الرجل في مظلمته، فقال له القاضي : إن مظلمته ليست عندي وإنما هي عند الوسيط ( بمكانة نائب رئيس الوزراء في زمننا ) ، فأحضر الحاجب المنصور الوسيطَ وقال له: اخلع ما عليك من الثياب ( يقصد ثياب التميز والحكم ) واخلع سيفك ثم اجلس هكذا كالرجل البسيط أمام القاضي ، ثم قال للقاضي : الآن انظر في أمرهما ، فنظر القاضي في أمرهما وقال : إن الحق مع هذا الرجل البسيط ، وإن العقاب الذي أقضيه هو كذا وكذا على الوسيط ، فما كان من الحاجب المنصور إلا أن قام بإنفاذ مظلمة الرجل ، ثم قام إلى الوسيط فأقام عليه أضعاف الحد الذي كان قد أوقعه عليه القاضي ، فتعجب القاضي وقال للمنصور : يا سيدي ، إنني لم آمر بكل هذه العقوبة ، فقال الحاجب المنصور : إنه ما فعل هذا إلا لقربه منا ، ولذلك زدنا عليه الحد ؛ ليعلم أن قربه منا لن يمكّنه من ظلم الرعيّة .



التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 06-11-2009 الساعة 12:42 PM
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 05-30-2009, 02:03 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي




الدولة العامرية بعد الحاجب المنصور


ظل الحاجب المنصور يحكم الأندلس ابتداءً من سنة 366 هـ= 976 م وحتى وفاته رحمه الله في سنة 392 هـ= 1002 م وقد استخلف على الحجابة من بعده ابنه عبد الملك بن المنصور، فتولّى الحجابة من حين وفاة والده وحتى سنة 399 هـ= 1009 م أي سبع سنوات متصلة، سار فيها على نهج أبيه في تولي حكم البلاد، فكان يجاهد في بلاد النصارى كل عام مرة أو مرتين، كل هذا وهو أيضا تحت غطاء الخلافة الأموية. في هذه الأثناء وعند بداية ولاية عبد الملك بن المنصور أمر الحجابة كان الخليفة هشام بن الحكم قد بلغ من العمر ثمانية وثلاثين عاما، ومع ذلك فلم يطلب الحكم ولم يحاول قط أن يُعمل نفوذه وسلطانه في بلاد الأندلس، فكان فقط قد تعود على حياة الدعة واستماع الأوامر من الحاجب المنصور ومن تلاه من أولاده.




تولي عبد الرحمن بن المنصور، وانتهاء الدولة العامرية


في سنة 399 هـ= 1009 م من الهجرة وفي إحدى الحملات في الشمال يتوفي عبد الملك بن المنصور، ثم يتولى أمر الحجابة من بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور؛ حيث كان أولاد بني عامر يتملكون زمام الأمور في البلاد، وأخذ أيضًا يدير الأمور من وراء الستار، لكنه كان مختلفًا عن أبيه وأخيه، فبالإضافة إلى أن أمه كانت بنت ملك نافار وكانت نصرانية، فقد كان عبد الرحمن بن المنصور شابًا ماجنًا فاسقًا شَرّابًا للخمر فعالًا للزنا كثير المنكرات، فكان الشعب يكرهه بدرجة كبيرة، ذلك الشعب الذي كان غالبيته من المسلمين كان يكره أن يتولى أمره من جاء من أم نصرانية.
وفوق ذلك فقد قام عبد الرحمن بن المنصور بعمل لم يُعهد من قبل عند العامريين، وهو أنه أقنع الخليفة هشام بن الحكم في أن يجعله وليًا للعهد من بعده، وبذلك لن يصبح الأمر من خلف ستار الخلافة الأموية كما كان العهد حال تولي والده محمد بن أبي عامر أو أخيه عبد الملك بن المنصور، فكان أن ضجّ بنو أميّة لهذا الأمر، وغضبوا وغضب الناس أجمعون، لكن لم تكن لهم قدرة على القيام بأي رد فعل؛ خاصة وأن عبد الرحمن بن المنصور قد جعل جميع الولايات في أيدي العامريين وفي يد البربر الذين هم أتباع العامريين منذ أيام الحاجب المنصور.
ومع كل هذا الفسق وهذا المجون الذي كان يعيشه عبد الرحمن بن المنصور إلا أن الشعب كان قد تعوّد حياة الجهاد، والخروج كل عام إلى بلاد النصارى، وفي إحدى المرّات خرج عبد الرحمن بن المنصور على رأس جيش من الجيوش إلى الشمال، فانتهز الناس الفرصة وأرادوا أن يغيروا من الأمر، فذهبوا إلى هشام بن الحكم في قصره وخلعوه بالقوّة وعينوا مكانه رجلًا من بني أميّة اسمه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر (من أحفاد عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر)، ثم دبّروا مكيدة لعبد الرحمن بن المنصور وقتلوه، وانتهى بذلك ما يسمى في تاريخ الأندلس بعهد الدولة العامرية.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 05-30-2009, 02:04 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي



قيام وسقوط الدول والحضارات.. وقفةٌ متأنية.


بعدَ الوصول إلى هذه المرحلة من الضعف والتفتت والهوان، هناك تعليقٌ عامٌ، وتحليلٌ، واستراحةٌ على طولِ طريقِ الأندلس منذ الفتح وحتى هذه المرحلة، نستجلي فيه سنةً من سننِ اللهِ سبحانهُ وتعالى في كونِهِ بصفةٍ عامة، وفي الأمةِ الإسلاميةِ بصفةٍ خاصةٍ، وهي سنّة قياموسقوط الأمم، وسنة الارتفاع والهبوط، تلك التي لوحظت بشكل لافت في الدولة الإسلامية خاصة.

وحقيقةُ الأمرِ أنه منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، بل حتى قيام الساعة، اقتضت سنّة اللهِ في الأمم والحضارات بصفة عامة أن تقوم ثم تسقط وتزدهر ثم تندثر، فمن سنن الله أن كانت هناك قوانين اجتماعية وإنسانية عامة تتصل مباشرة بضبط مسيرة الحياة الإنسانية ومسيرة الأمم والشعوب، فإذا ما التزمت الأمم والحضارات بهذه القواعد دامت وكانت في خير وسعادة، وإذا حادت عنها لقيت من السقوط والاندثار ما هي أهل له، قال تعالى: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] {آل عمران:140}.
وليست الأمة الإسلامية بمنأى عن هذه السنن الكونية، فمنذ نزول الرسالة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدولة الإسلامية تأخذ بأسباب القيام فتقوم، ثم تحيد عنها فيحدث الضعف ثم سقوط.
وأسباب قيام الدولة الإسلامية كثيرة على نحو ما ذكرنا فيما مضى، والتي كان من أهمّها:


أولًا: الإيمان بالله سبحانه وتعالى والاعتقاد الجازم بنصرته وقدرته.
ثانيًا:الأُخوة، والوحدة، والتجمّع ونبذ الفرقة.
ثالثًا: العدل بين الحاكم والمحكوم.
رابعًا:العلم، ونشر الدين بين الشعوب.
خامسًا: إعداد العدة، والأخذ بالأسباب [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ] {الأنفال:60}.
فإذا أخذ المسلمون بهذه الأسباب فإنهم سرعان ما يقومون، وغالب الأمر يكون القيام بطيئًا ومتدرجًا، وفيه كثير من الصبر والتضحية والثبات، ثم بعد ذلك يكون القيام باهرًا، ثم يحدث انتشار للدولة الإسلامية بصورة ملموسة، حتى تفتح الدنيا على المسلمين، وهنا يصبر القليل على الدنيا وزينتها ويقع الكثيرون في الفتنة، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ )).
ومن جديد يحدث الضعف فالسقوط، وعلى قدر الفتنة بالمادة والمدنية يكون الارتفاع والانحدار، والسقوط والانهيار.
وأمر الفتنة هذه هو الذي فقهه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في سنة 17 هـ= 735 م حين أمر بوقف الفتوحات في بلاد فارس، في عمل لم يتكرر في تاريخ المسلمين إلا لدى قليل ممن هم على شاكلته، وذلك حين فتحت الدنيا على المسلمين وكثرت الغنائم في أيديهم.
خاف عمر - رضي الله عنه - أن تتملك الدنيا من قلوب المسلمين، وخشي أن يُفتَنوا بالدنيا ويخسروا الآخرة فيخسروا دولتهم، وكان همه أن يُدخل شعبه الجنة لا أن يُدخله بلاد فارس، فإذا كان دخول فارس على حساب دخول الجنة: فلتقف الفتوح، ووددت لو أن بيني وبين فارس جبل من نار، لا أقربهم ولا يقربوني. ولم يعد رضي الله عنه إلى مواصلة الفتوح إلا بعد أن هجم الفرس على المسلمين وخاف على المسلمين الهزيمة والضياع.
والأمة الإسلامية تنفرد بأنها أمة لا تموت ودائمًا في قيام، فإذا سقطت أتبع السقوط قيام،أما ألا يُتبَع السقوطُ قيامٌ فهذا ليس من سنن الله مع المسلمين، ولا يحدث إلا مع أمم الأرض الأخرى غير الإسلامية، تلك الأمم التي يغلب عليها سقوط واندثار لا يتبعه رجعة، حتى وإن طال أجل القيام والازدهار، ومن أصدق الأمثلة على ذلك حضارة الفراعنة، واليونان، وامبراطوريتي فارس والروم، وامبراطورية إنجلترا التي لا تغرب عنها الشمس...وهذه السُّنة الكونية يمثلها قوله تعالى: [كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] {المجادلة:21}. [وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] {النور:55}. ومما يُثبت سنة الله هذه في الدولة الإسلامية ذلك الحديث الذي رواه أبو داود في سننه وصححه الحاكم ورواه في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا )). فمعنى هذا أنه سيحدث سقوط، ومن بعد السقوط ارتفاع وعلو، وهذا الارتفاع سيكون على يد مجدد أو مجموعة مجددين، وهكذا إلى قيام الساعة.
والتاريخ الإسلامي مليء بمثل هذه الفترات، ففيه الكثير من أحداث الارتفاع والهبوط ثم الارتفاع والهبوط، ولم يكن هذا خاصًّا بتاريخ الأندلس فقط؛ بل إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدوا ذلك بأعينهم، فبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - مباشرةً حدث سقوط ذريع وانهيار مروّع، وردّة في كل أطراف جزيرة العرب التي لم يبق منها على الإسلام سوى مكة والمدينة وقرية صغيرة تسمى هَجَر ( هي الآن في البحرين ).


وبعد هذا السقوط يحدث قيام عظيم وفتوحات وانتصارات، كان قد جدّد أمرها وغرس بذرتها أبو بكر رضي الله عنه بعد أن أجهض على الردّة، ثم فتحت الدنيا على المسلمين في عهد سيدنا عثمان - رضي الله عنه - فحدثت الفتنة والانكسارات في الأمة الإسلامية، مما أدّى إلى مقتله - رضي الله عنه - وهو الخليفة الراشد وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وظلّت طيلة خلافة سيدنا علي رضي الله عنه.
ومن جديد يستتبّ الأمر وتقوم الدولة الأموية وتستكمل الفتوح، ثم فترة من الزمان ويحدث سقوط آخر حين يفسد أمر بني أمية، وعلى أَثَره يقوم بني العباس فيعيدون من جديد المجد والعزّ للإسلام، وكالعادة يحدث الضعف ثم السقوط، وعلى هذا الأمر كانت كل الدول الإسلامية الأخرى التي جاءت من بعدها، مرورًا بالدولة الأيوبية وانتهاءً بالخلافة العثمانية الراشدة التي فتحت كل شرق أوروبا، وكانت أكبر قوة في زمنها.
فهي إذن سنة من سنن الله تعالى ولا يجب أن تفُتّ في عضد المسلمين، ولا بدّ للمسلمين من قيام بعد سقوط كما كان لهم سقوط بعد قيام، وكما ذكرنا سابقًا فإنه ليس بين الله سبحانه وتعالى وبين أحد من البشر نسبًا، يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.


فإن ضل المسلمون الطريق وخالفوا نهج نبيهم؛ فستكون الهزيمة لا محالة، وسيكون الانهيار المرّوع الذي شاهدناه في الأندلس، والذي نشهده في كل عهود المسلمين.


وأدعوكم لمشاهدةِ هذا الفيديو القصير الذي يختصرُ ما قيلَ في أنشودةٍ أظنُّ الكثيرَ منّا يعرفها، وهيَ رثاءُ الأندلسِ لأبي البقاء الرنديِّ رحمهُ اللهُ، بصيغة flv
http://www.megaupload.com/?d=4LCK09BU

ورابط مباشر لها بصيغة wmv..
http://ia341235.us.archive.org/3/ite...a_almulook.wmv

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 05-30-2009, 02:05 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي



سقوط الخلافة الأموية وانتهاء الدولة العامرية


كَأَنَّ مقتل عبد الرحمن بن المنصور واشتعال الفتن والثورات في الأندلس كانا بميعاد، فمنذ أن قتل عبد الرحمن بن المنصور العامري انفرط العقد تمامًا في البلاد، وبدأت الثورات تكثر والمكائد تتوالى، وبدأت البلاد تُقسّم.
كان رأي بعض الباحثين أن سبب سقوط الدولة العامرية ومن ثَمّ سقوط الخلافة الأموية هو تولّي عبد الرحمن بن المنصور الحكم، ذلك الفاسق الماجن الذي أسقط بني أميّة وأحدَث هذه الاضطرابات الكثيرة في البلاد.
وحقيقة الأمر أنه ليس من سنن الله سبحانه وتعالى أن تهلك الأمم لمجرد ولاية رجل فاسق لشهور معدودات، فلم يمكث عبد الرحمن بن المنصور في الحكم إلا أقلّ من عام واحد، ومهما بلغ أمره من الفحش والمجون فلا يمكن بحال أن يؤدي إلى مثل هذا الفشل الذريع والسقوط المدوي للبلاد، فلا بدّ إذن أن يكون هناك أسباب وجذور أخرى كانت قد نمت من قبل وتزايدت مع مرور الزمن حتى وصلت أوجّها في فترة عبد الرحمن بن المنصور؛ ومن ثَمّ كان هذا التفتت وذلك الانهيار.
وكما رأينا سابقًا في تحليلنا لأسباب ضعف الإمارة الأموية وكيف كان لهذا الضعف أسباب وجذور تمتدّ إلى عهد قوة الإمارة الأموية ذاتها، فإن هناك ثلاثة أسباب رئيسية لسقوط الدولة الأموية ومن ثَمّ الدولة العامرية نذكرها فيما يلي:


= السبب الأول:
يرجع إلى زمن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر ذاته، ذلك الرجل الفذ الذي اتّسم عصره بالبذخ والترف الشديد، وكثرة إنفاق الأموال في زخرفة الدنيا، ومن ثَمّ انشغال الناس بتوافه الأمور، وكانت الدنيا هي المهلكة، وليس أدلّ على ذلك من قصر الزهراء الذي أنشأه عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر وكان آية في الروعة والجمال وأعجوبة من أعاجيب الزمان في ذلك الوقت؛ فقد كان على اتساعه وكبر حجمه مبطنًا من الداخل بالذهب، بل كان سقفه أيضا مبطنًا بخليط من الذهب والفضة، بأشكال تخطف الأبصار وتبهر العقول، ومع أن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر لم يكن مُقَصّرًا في الإنفاق في أي ناحية من النواحي مثل الإنفاق على التعليم أو الجيش أو غيره، إلا أن فعله هذا يعد نوعًا من البذخ والترف المبالغ فيه، أدّى في النهاية إلى أن تتعلق القلوب بالدنيا وزخرفها.
ومما جاء في ذلك أن القاضي المنذر بن سعيد رحمه الله دخل على عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر في قصره وكان على هذا الوصف السابق، فقال له عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر:
- ما تقول في هذا يا منذر (يريد الافتخار)؟

- فأجابه المنذر ودموعه تقطر على لحيته قائلا: ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ على ما آتاك الله من النعمة وفضلك على كثير من عباده تفضيلًا حتى ينزلك منازل الكافرين.
- فقال عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر: انظر ما تقول، كيف أنزلني الشيطان منازل الكافرين؟!
- فردّ عليه المنذر: أليس الله تعالى يقول في كتابه الكريم:
[وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ] {الزُّخرف:33}.
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى السُّقُف التي من فضة في هذه الآية على سبيل التعجيز، يعني لولا أن يكفر الناس جميعًا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه لهوان الدنيا عند الله عز وجل، لكنّا لم نجعله، إلا أن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر فعله وجعل لقصره سقفًا من فضة.
وهنا وجم عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر بعدما سقطت عليه تلك الكلمات كالصخر، ثم بدأت دموعه رحمه الله تنساب على وجهه، وقام على الفور ونقض ذلك السقف وأزال ما به من الذهب والفضة، وبناه كما كانت تبنى السُّقُف في ذلك الزمن، إلا أنه ولكثرة الأموال ومع مرور الوقت، كان مظهر الترف يعود ويبرز من جديد حتى أصبح الإنفاق في لا شيء، وقد قال الله سبحانه وتعالى: [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] {الإسراء:16}.

= السبب الثاني:
توسيد الأمر لغير أهله:
إضافة إلى الترف والإسراف فقد كان توسيد الأمر لغير أهله من أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط الدولة العامرية والخلافة الأموية، ولقد تجسد هذا العامل واضحًا جليًا حين ولّى الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر ابنه أمور الحكم في البلاد وهو ما زال طفلًا لم يتجاوز الثانية عشرة سنة بعد، فتحكم فيه الأوصياء وحدثت المكائد والمؤامرات، رغم ما كان من حياة الحَكَم الحافلة بالجهاد ونشر العلم والدين في البلاد.
وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك حين أجاب السائلَ عن أمارات الساعة بقوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أماراتها: أَنْ تُضَيَّعَ الْأَمَانَةُ، فقال السائل: وكيف إضاعتها فقال صلى الله عليه وسلم: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ.
وهكذا إذا تولّى من لا يستحق منصب من المناصب، فلا بد وأن تحدث الهزة في البلاد ويحدث الانهيار، فما البال وما الخطب إذا كان هذا المنصب هو منصب الخليفة أعلى مناصب الدولة؟ فقد ضيعت الأمانة ووسد الأمر لغير أهله، فكان لا بدّ أن تقع الأندلس والخلافة الأموية والدولة العامرية.




= السبب الثالث:
انتفاء روح الجهاد الحقيقية ليصبح مجردًا للمادة وجمع الغنائم:
كان أيضا من أهم أسباب سقوط الدولة العامرية الملحقة بالخلافة الأموية أن الدولة العامرية اعتمدت في جهادها على الناحية المادية من جند وعدد وعدة ومال ومعمار، ولم تصرف نواياها إلى رب العالمين سبحانه وتعالى ولم يجددوا تربية الشعب على الجهاد في سبيل الله طلبًا للجنة أو الموت في سبيل الله، فافتقد الشعب روح الجهاد الحقيقي ومعناه، وأصبح جلّ همّه جمع المال وعَدّ الغنائم.


رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 

منتديات الحور العين

↑ Grab this Headline Animator

الساعة الآن 12:04 AM.

 


Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
.:: جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الحور العين ::.