السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
يقول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ( 18 ) ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ( 19 ) لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون (20) ) الحشر
في هذه الآية الكريمة حث على تقوى الله في الجملة ، واقترنت بالحث على النظر والتأمل فيما قدمت كل نفس لغد ، وتكرر الأمر فيها بتقوى الله ، مما يدل على شدة الاهتمام والعناية بتقوى الله
وقيل إذا ما نظر العبد في الماضي وحاسب نفسه ، وعلم ما كان من تقصير أو وقوع في محظور ، جاءه الأمر الثاني بتقوى الله لما يستقبل من عمل جديد ومراقبة الله تعالى عليه فلا يكون هناك تكرار
والتقوى دائما هي الدافع على كل خير ، الرادع عن كل شر
وقد بينت آيات عديدة آثار التقوى في العاجل والآجل .
قوله تعالى ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا )
وقوله ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب )
وقوله ( واتقوا الله ويعلمكم الله )
وقوله ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )
فإنها تصحب صاحبها ابتداء إلى أبواب الجنة كما في قوله تعالى ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) فإذا ما دخلوها آخت بينهم وجددت روابطهم فيما بينهم وآنستهم من كل خوف ، كما في قوله تعالى ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ) إلى قوله ( لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون )
إلى أن تنتهي بهم إلى أعلى عليين ، وتحلهم مقعد صدق ، كما في قوله تعالى ( إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر )
فتقوى الله خير الزاد ذخرا
قوله - عز وجل - ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) يقول - تعالى ذكره - : يا أيها الذين صدقوا الله ووحدوه ، اتقوا الله بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه لينظر أحدكم أي شيء قدم لنفسه، لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال، عملا صالحا ينجيه أم سيئا يوبقه
وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ) أمر بتقواه ، وهي تشمل فعل ما به أمر ، وترك ما عنه زجر
( ما قدمت لغد ) يعني ليوم القيامة، وتنكير غد للتعظيم والتهويل
ويكون التعبير عن يوم القيامة بغد لقرب مجيئه وتحقق وقوعه كقوله تعالى ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) وقوله ( وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير )
وقال الحسن وقتادة : قرب الساعة حتى جعلها كغد . ولا شك أن كل آت قريب ; والموت لا محالة آت . ومعنى ما قدمت يعني من خير أو شر .
قال ابن زيد : قول الله - عز وجل - ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) - يعني يوم القيامة - الخير والشر . قال : والأمس في الدنيا ، وغد في الآخرة ، وقرأ ( كأن لم تغن بالأمس ) قال : كأن لم تكن في الدنيا .
وقوله تعالى : ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) أي : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم
وتنكير نفس يفيد العموم أي لتنظر كل نفس
قوله تعالى ( واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )
( واتقوا الله ) أعاد هذا تكريرا. وقيل : التقوى الأولى التوبة فيما مضى من الذنوب ، والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل .
ويجوز أن يكون ( اتقوا الله ) المذكور أولا مرادا به التقوى بمعنى الخوف من الله وهي الباعثة على العمل ولذلك أردف بقوله ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد )
ويكون ( اتقوا الله ) المذكور ثانيا مرادا به الدوام على التقوى الأولى ، أي ودوموا على التقوى كقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله )
ولذلك أردف بقوله ( إن الله خبير بما تعملون ) أي بمقدار اجتهادكم في التقوى ، وأردف بقوله ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) أي أهملوا التقوى بعد أن تقلدوها .
قوله تعالى ( إن الله خبير بما تعملون ) قال سعيد بن جبير : أي بما يكون منكم .
أي : بالمقاصد في الأعمال وبالظواهر والبواطن ، وعلم بأعمالكم خيرها وشرها ، لا يخفى عليه منها شيء ، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير، وهو مجازيكم على جميعها .
( ولا تكونوا كالذين نسوا الله ) تركوا أمر الله و نسوا ذكره ( فأنساهم أنفسهم ) [ أي حظوظ أنفسهم ] حتى لم يقدموا لها خيرا، فأنساهم العمل لمصالح أنفسهم التي تنفعهم في معادهم ، فلم يشتغلوا بالأعمال التي تنجيهم من العذاب ، ولم يكفوا عن المعاصي التي توقعهم فيه ، فإن الجزاء من جنس العمل
( أولئك هم الفاسقون ) أي : الخارجون عن طاعة الله ، الهالكون يوم القيامة ، الخاسرون يوم معادهم ، كما قال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ) [ المنافقون : 9 ] .
قوله تعالى ( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ) أي في الفضل والرتبة والمنزلة والمصير
فلا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله يوم القيامة ، كما قال : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) [ الجاثية : 21 ] ، وقال ( وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء ) الآية [ غافر : 58 ] . قال : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) [ ص : 28 ]
قوله تعالى ( أصحاب الجنة هم الفائزون ) أي المقربون المكرمون . وقيل : الناجون من النار ، السالمون من عذاب الله عز وجل .
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية