فاعلمي رحمك الله أن الفقهاء اختلفوا في مشروعية اعتكاف المرأة في مسجد بيتها ،
فذهب جماهير العلماء إلى أنه لا يصح ، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله ، فقد ذهب إلى أنه الأفضل ،
قال ابن رشد رحمه الله في " بداية المجتهد " :
( وأجمع الكل على أن من شرط الاعتكاف المسجد ،
إلا ما ذهب إليه ابن لبابة من أنه يصح في غير المسجد ،
وأن مباشرة النساء إنما حرمت على المعتكف إذا اعتكف في المسجد ،
وإلا ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن المرأة إنما تعتكف في مسجد بيتها .)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الفتح " :
( واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف ،
إلا محمد بن عمر ابن لبابة المالكي فأجازه في كل مكان ،
وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها ، وهو المكان المعد للصلاة فيه ،
وفيه قول للشافعي قديم ،
وفي وجه لأصحابه وللمالكية يجوز للرجال والنساء ؛ لأن التطوع في البيوت أفضل .)
ومن أدلة الجمهور على عدم صحة اعتكاف المرأة في بيتها آية وحديث وأثر :
فأما الآية فقوله تعالى : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد "
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الفتح " :
( ووجد الدلالة من الآية أنه لو صح في غير المسجد لم يختص تحريم المباشرة به ،
لأن الجماع مناف للاعتكاف بالإجماع ،
فعلم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها ،
ونقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع . )
وأما الحديث فما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت :
( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ،
فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله ،
فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء فأذنت لها فضربت خباء ،
فلما رأتها زينب ابنة جحش ضربت خباء آخر ،
فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم رأى الأخبية فقال : ما هذا ؟ فأُخبِر ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : آلبر ترون بهن ! ؟
فترك الاعتكاف ذلك الشهر ثم اعتكف عشرا من شوال )
قال ابن قدامة رحمه الله في " المغني " :
( ولو لم يكن موضعا لاعتكافهن ، لما أذن فيه ،
ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه ، ونبههن عليه .)
وقال الحافظ رحمه الله في " الفتح " :
( فيه أن المسجد شرط للاعتكاف ؛ لأن النساء شرع لهن الاحتجاب في البيوت ،
فلو لم يكن المسجد شرطا ما وقع ما ذكر من الإذن والمنع ،
ولاكتفي لهن بالاعتكاف في مساجد بيوتهن .)
ثم علل رحمه الله ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من ردهنّ بقوله :
( وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون الحامل لهن على ذلك المباهاة والتنافس الناشئ عن الغيرة حرصا على القرب منه خاصة ، فيخرج الاعتكاف عن موضوعه ،
أو لما أذن لعائشة وحفصة أولا كان ذلك خفيفا بالنسبة إلى ما يفضي إليه الأمر من توارد
بقية النسوة على ذلك ، فيضيق المسجد على المصلين ،
أو بالنسبة إلى أن اجتماع النسوة عنده يصيره كالجالس في بيته ،
وربما شغلنه عن التخلي لما قصد من العبادة فيفوت مقصود الاعتكاف .)
وأما الأثر فما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت :
( لا اعتكاف إلا في مسجد جامع )
وفي رواية عند البيهقي في السنن بإسناد صحيح : ( إلا في مسجد جماعة )
قال الفقير إلى عفو ربه :
والقول بجواز الاعتكاف في غير المساجد نسبه ابن رشد رحمه الله في " بداية المجتهد " إلى الشذوذ ،
ولذا قال ابن عبد البر رحمه الله كما في " الاستذكار " :
( فمما أجمع عليه العلماء من ذلك أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد )
هذا وإن مسجد بيت المرأة ليس له أحكام المسجد ، وإن سُمي مسجدا ،
قال ابن قدامة رحمه الله في " المغني " :
( وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد ؛ لأنه لم يبن للصلاة فيه ،
وإن سمي مسجدا كان مجازا ، فلا يثبت له أحكام المساجد الحقيقية ،
كقول النبي صلى الله عليه وسلم : { جعلت لي الأرض مسجدا } .) اهـ
والأحناف رحمهم الله قد عارضوا هذه النصوص بقياس الاعتكاف على الصلاة فقالوا :
( لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل منها في المسجد على ما جاء في الخبر ،
وجب أن يكون الاعتكاف في بيتها أفضل . )
وهذا رده ابن قدامة رحمه الله في آخرين من الفقهاء بقوله في " المغني " :
( وأما الصلاة فلا يصح اعتبار الاعتكاف بها ؛
فإن صلاة الرجل في بيته أفضل ولا يصح اعتكافه فيه .)
يعني رحمه الله أنه لا يصح قياس الصلاة على الاعتكاف في هذه المسألة ؛
لأن صلاة التطوع للرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد ومع ذلك لا يصح اعتكافه في مسجد بيته عند الأحناف رحمهم الله ، وهذا تناقض يبطل قياسهم .
هذا والله تعالى أعلى وأعلم .