عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 05-07-2009, 02:27 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي

العائق السابع

استعجال الثمر

يظن بعض الطلبة أن العلم لقمة سائغة أو جرعة عذبة ، سرعان ما تظهر نتائجها ، وتتبين فوائدها .

فيؤمل في قرارة نفسه أنه بعد مضي سنة أو أكثر أو أقل – من عمره في الطلب – سيصبح عالماً جهبذاً ، لا يدرك شأوه ، ولا يشق غباره .

وهذه نظرة خاطئة وتصور فاسد ، وأمل كاسد أضراره وخيمة ، ومفاسده عظيمة ، إذ يفضي بصاحبه إلى ما لا تحمد عقباه ، من القول علي الله بغير علم ، والثقة العمياء بالنفس ، وحب العلو والتصدر ... وينتهي مطافه بين هذه الأشياء إلى هجر الانتساب للعلم وأهله .

ولقد أصاب المأمون عندما قال – متهكماً بهذا الضرب من الطلبة - : يطلب الحديث ثلاثة أيام ثم يقول : أنا من أهل الحديث ([43])

والناظر إلى حالالسلف يرى عجباً من صبرهم على مرارة التحصيل ، وطولالجادة ، لا يفترون ولا يتقاعسون ، ولا يستكبرون ، شعارهم (( العلم من المهد إلى اللحد )) ... (( العلم من المحبرة إلى المكبرة )) .

قال الإمام المديني : قيل للشعبي : من أين لك هذا العلم كله ؟ قال : ( لنفي الاعتماد ، والسير في البلاد ، وصبر كصبر الجماد ، وبكور كبكور الغراب ) ([44])

وقال الإمام الشافعي : ( لا يبلغ في هذا الشأن رجل حتى يضر به الفقر ويؤثره على كل شيء ) ([45]).

وقال ابن حمزة قال لي يعقوب بن سفيان – الحافظ الإمام - : أقمت في الرحلة ثلاثين سنة ) ([46])

وقال يحي بن كثير ( لا يستطاع العلم براحة الجسد ) ([47]) .

وقال ابن الحداد المالكي : ( ما للعلم وملائمة المضاجع ) ([48]) .

فعلي طالب العلم أن يتأسي بهؤلاء الأئمة ، وأن يحذوا حذوهم ، حتى ينال مناه ، ويدرك بغيته ، فإن منهجهم سليم ، وطريقهم قويم وما حصل لهم ما حصل من ذكرٍ حسن ، ونفع مستمر للمسلمين إلا بالصبر والمثابرة ، وازدراء كل ما يبذل من مالٍ ، ووقتٍ في سبيل العلم والمعرفة .

وختاماً أذكر محاورة بين اثنين ، تبين قيمة العلم ومكانته العالية وأنه لا يحصل إلا لمن بذل فيه كل شيءٍ ، على حد قولهم (( أعط للعلم كلك يعطيك بعضه )) .

قال رجل لآخر : بم أدركت العلم ؟

قال : طلبته فوجدته بعيد المراد ، لا يصاد بالسهام ، ولا يرى في المنام ،ولا يورث عن الآباء والأعمام .

فتوسلت إليه بافتراش المدارِ ، واستناد الحجر ، وإدمان السهر وكثرة النظر ، وإعمال الفكر ومتابعة السفر ، وركوب الخطر : فوجدته شيئاً لا يصلح إلا للغرس ولا يغرس إلا في النفس ، ولا يسقي إلا بالدرس .

أرأيت من يشغل نهاره بالجمع ، وليله بالجماع هل يخرج من ذلك فقيهاً ؟ كلا والله .

إن العلم لا يحصل إلا لمن اعتضد الدفاتر ، وحمل المحابر ، وقطع القفار ، وواصل في الطلب الليل والنهار ([49])

ولعل في هذه الممحاورة الظريفة ما يزيل الصورة المترسبة في أذهان بعض الطلبة : من أن العلم ينال في مدة وجيزة ،وفترة قصيرة ، فيواصلوا جهودهم ، ويحتقروا مبذولهم ، في طريق العلم والتعلم ، حتى يفتح الله عليهم أبواب المعرفة والعلم ليصبحوا قادة في العلم ، أئمة في الهدى .

العائق الثامن

دنو الهمة

نرى بين صفوف العلم أناساً يمتلكون مواهب جليلة ، وقدرات هائلة ، تؤهلهم للزعامة العلمية ، إلا أن دنو همتهم يمحق مواهبهم ، ويزيل بهاء ننبوغهم ، فتجدهم يقنعون بيسير المعلومات ،ويأنفون من القراءة والمطالعة ، ويتشاغلون في الطلب والتحصيل .

وهؤلاء سرعان ما تنزع ملكية قدراتهم ، وتسلب بركة اوقاتهم . ذلك بأن كفر النعمة مؤذن برحيلها ، كما أن شكرها مؤذن بمزيدها .

قال الفراء – رحمه الله تعالى – لا أرحم أحداً كرحمتى لرجلين : رجل يطلب العلم ولا فهم له . ورجل يفهم ولا يطلبه . وإني لأعجب ممن في وسعه أن يطلب العلم ولا يتعلم . ([50])

وقال أبو لافرج ابن الجوزي – رحمه الله – تعليقاً على قول أبي الطيب المتنبي :

ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام \

وينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض .

ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد ، رأيت المقصر في تحصيلها حضيض .... والسيرة الجميلة عند الحكماء : خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل .

قال : وفى الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها فإن القنوع حالة الأراذل .

فكن رجلاً رجله فيالثرى وهامة همته في الثريا

ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل ، فإنهم كانوا رجالاً وأنت رجل ، وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة وخساستها .

واعلم أنك في ميدان سباقٍ والأوقات تنتهب ، فلا تخلد إلى كسل ، فما فات ما فات إلا بكسل ، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم . ا هـ ([51])

فيا من آنس من نفسه علامة النبوغ والذكاء لا تبغ عن العلم بدلاً ، ولا تشغل بسواه أبداً ، فإن أبيت فأجبر الله عزاءك في نفسك ، وأعظم أجرالمسلمين فيك ، ما اشد خسارتك وأعظم مصيبتك .

دع عنك ذكر الهوى والمولعين به وانهض إلى منزل عال به الدرر

تسلو بمربئة عن كل غالية وعن نعيم لدنيا صفوه كدر

وعن نديم به يلهو مجالسه وعن رياض كساه النور والزهر

انهض إلى العلم في جد بلا كسلٍ نهوض عبد إلى الخيرات يبتدر

واصبر على نيلة المجد له فليس يدركه من ليس يصطبر ([52])

وإن من أنفع الأمور التي تعين على علو الهمة :

النظر في سير السلف – رضى الله عنهم – فإن أحوالهم غاية الكمال علماً وعملاً فإذا ما رآها الطالب ازدرى نفسه وقل عمله في عينه ، فسعى للحوق بالقوم ،والتشبه بهم ، ومن تشبه بقوم فهو منهم .

قال ابن الجوزي :

فالله الله عليكم بملاحظة سير السلف ، ومطالعة تصانيفهم ، وأخبارهم ، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم.

قال : وليكثر من المطالعة ، فإنه يرى من علوم القوم ، وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد . ا هـ ([53]) .
رد مع اقتباس