بشائر الفتح الإسلامي وموقعة وادى برباط
جهز موسى بن نصير بالفعل سرية من خمسمائة رجل وجعل على رأسهم طَريف بن مالك - أو: " ملوك " كما جاء في روايات أخرى - وكان طريف أيضاً من البربر كما كان القائد طارق بن زياد، وهذه مزية تفرد بها الإسلام كما ذكرتُ ، خاصةً وأن طريف من البربر حديثي العهد بالإسلام وهو الآن وبعد أن كان يحارب الإسلام صار قائداً مدافعاً عن الإسلام وناشراً لهُ .
سار طريف بن مالك من المغرب على رأس خمسمائة من المسلمين صوب الأندلس ، وقد وصلها في رمضان سنة واحد وتسعين من الهجرة ، وقام بمهمته في دراسة منطقة الأندلس الجنوبية والتي سينزل بها الجيش الإسلامي بعد ذلك على أكمل وجه ، ثم عاد بعد انتهائه منها إلى موسى بن نصير وشرح له ما رآه ، وفي أناةٍ شديدةٍ وعملٍ دؤوبٍ ظلَّ موسى بن نصير عاماً كاملاً بعد عودة طريف بن مالك يجهز الجيش ويعد العدة ، حتى أعد في هذه السنة سبعة آلاف مقاتل ، وبهم بدأ الفتح الإسلامي رغم الأعداد الضخمة لقوات النصارى هناك .
الصدام الأول وبدايات الفتح الإسلامي للأندلس
في شعبان من سنة اثنتين وتسعين من الهجرة تحرك هذا الجيش المكون من سبعة آلاف فقط ، وعلى رأسه القائد طارق بن زياد ، تحرك هذا الجيش وعبر مضيق جبل طارق ، والذي ما سُمّي بهذا الاسم ( مضيق جبل طارق ) إلا في هذا الوقت ؛ وذلك لأن طارق بن زياد حين عبر المضيق نزل عند هذا الجبل، وقد ظل إلى الآن حتى في اللغة الإسبانية يسمى جبل طارق ومضيق جبل طارق .
ومن جبل طارق انتقل طارق بن زياد إلى منطقة واسعة تسمى الجزيرة الخضراء ، وهناك قابل الجيش الجنوبي للأندلس ، وهو حامية جيش النصارى في هذه المنطقة فلم تكن قوة كبيرة ، وكعادة الفاتحين المسلمين فقد عرض طارق بن زياد عليهم : الدخول في الإسلام ويكون لكم ما لنا وعليكم ما علينا ونترككم وأملاككم ، أو دفع الجزية ونترك لكم أيضا ما في أيديكم ، أو القتال ، ولن نؤخركم إلا لثلاث ، لكن تلك الحامية أخذتها العزة وأبت إلا القتال ، فكانت الحرب وكانت سجالاً بين الفريقين حتى انتصر عليهم طارق بن زياد ، فأرسل زعيم تلك الحامية رسالة عاجلة إلى لذريق وكان في طليطلة عاصمة الأندلس ، يقول له فيها: أدركنا يا لذريق ؛ فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء ؟!
حقاً فهم أناس غريبون ، فقد كان من المعروف عندهم أن الفاتح أو المحتل لبلد آخر إنما تقتصر مهمته على السلب والنهب لخيرات البلد ، والذبح والقتل في كثير من الأحيان ، أما أن يجدوا أناساً يعرضون عليهم الدخول في دينهم ويتركون لهم كل شيء ، أو أن يدفعوا لهم الجزية وأيضاً يتركون لهم كل شيء ، فهذا مما لم يعهدوه من قبل في تاريخهم وفي حياتهم ، وفضلاً عن هذا فقد كانوا في قتالهم من المهرة الأكفاء ، وفي ليلهم من الرهبان المصلين ، فلم يدري قائد الحامية في رسالته إلى لذريق أهُم من أهل الأرض، أم هم من أهل السماء ؟! وصدق وهو كذوب ؛ فهم من جند الله ومن حزبه
{ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ } [المجادلة:22] .
حين وصلت رسالة قائد الحامية إلى لذريق جن جنونه ، وفي غرور وصلف جمّع جيشا قوامه مائة ألف من الفرسان ، وجاء بهم من الشمال إلى الجنوب يقصد جيش المسلمين ، كان طارق بن زياد في سبعة آلاف فقط من المسلمين جلهم من الرّجّالة وعدد محدود جداً من الخيل ، فلما أبصر أمر لذريق وجد صعوبة جداً في هذا القياس ، سبعة آلاف أمام مائة ألف ، فأرسل إلى موسى بن نصير يطلب منه المدد ، فبعث إليه طريف بن مالك على رأس خمسة آلاف آخرين رجالة أيضاً .
وصل طريف بن مالك إلى طارق بن زياد وأصبح عدد جيش المسلمين اثني عشر ألف مقاتل ، وبدأ طارق بن زياد يستعد للمعركة ، فكان أول ما صنع بحث عن أرض تصلح للقتال حتى هداه البحث إلى منطقة تسمى في التاريخ وادي البرباط ، وتسمى في بعض المصادر وادي لُقّة أو لِقة بالكسر، وتسميها بعض المصادر أيضا وادي لُكّة .
ولقد كان لاختيار طارق بن زياد لهذا المكان أبعاد استراتيجية وعسكرية عظيمة ، فقد كان من خلفه وعن يمينه جبل شاهق ، وبه حمى ظهره وميمنته فلا يستطيع أحد أن يلتف حوله ، وكان في ميسرته أيضا بحيرة عظيمة فهي ناحية آمنة تماما ، ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي ( أي في ظهره ) فرقة قوية بقيادة طريف بن مالك ؛ حتى لا يباغت أحد ظهر المسلمين ، ومن ثم يستطيع أن يستدرج قوات النصارى من الناحية الأمامية إلى هذه المنطقة، ولا يستطيع أحد أن يلتف من حوله ، ومن بعيد جاء لذريق في أبهى زينة ، يلبس التاج الذهبي والثياب الموشاة بالذهب ، وقد جلس على سرير محلى بالذهب يجره بغلين ، فلم يستطع أن يتخلى عن دنياه حتى وهو في لحظات الحروب والقتال ، وقدم على رأس مائة ألف من الفرسان ، وجاء معه بحبال محملة على بغال ؛ لتقييد المسلمين بها وأخذهم عبيدا بعد انتهاء المعركة ، وهكذا في صلف وغرور ظن أنه حسم المعركة لصالحه ؛ فبمنطقه وبقياسه أن اثني عشر ألفا يحتاجون إلى الشفقة والرحمة ، وهم أمام مائة ألف من أصحاب الأرض مصدر الإمداد .
وفي الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين من الهجرة يتم اللقاء في وادي برباط ، وتدور معركة هي من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين ، وإن الناظر العادي إلى طرفي المعركة ليدخل في قلبه الشفقة حقا على المسلمين الذين لا يتعدى عددهم الاثني عشر ألفا وهم يواجهون مائة ألف كاملة ، فبمنطق العقل كيف يقاتلون فضلا عن أن يَغلبوا ؟!
نظرة إلى الفريقين :
رغم المفارقة الواضحة جدا بين الفريقين إلا أن الناظر المحلل ليرى أن الشفقة كل الشفقة على جيش المائة ألف ، فالطرفان { خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } [الحج:19] ، وشتان بين الخصمين ، شتان بين فريق خرج طائعا مختارا ، راغبا في الجهاد ، وبين فريق خرج مُكرها مضطرا مجبورا على القتال ، شتان بين فريق خرج مستعدًا للاستشهاد ، مسترخصا الحياة من أجل عقيدته ، متعالياً على كل روابط الأرض ومنافع الدنيا ، أسمى أمانيه الموت في سبيل الله ، وبين فريق لا يعرف من هذه المعاني شيئا ، أسمى أمانيه العودة إلى الأهل والمال والولد ، شتان بين فريق يقف فيه الجميع صفا واحدا كصفوف الصلاة ، الغني بجوار الفقير ، والكبير بجوار الصغير ، والحاكم بجوار المحكوم ، وبين فريق يمتلك فيه الناس بعضهم بعضا ويستعبد بعضهم بعضا ، فهذا فريق يقوده رجل رباني طارق بن زياد يجمع بين التقوى والحكمة ، وبين الرحمة والقوة ، وبين العزة والتواضع ، وذاك فريق يقوده متسلط مغرور ، يعيش مترفا مُنعّما بينما شعبه يعيش في بؤس وشقاء وقد ألهب ظهره بالسياط ، هذا جيش توزع عليه أربعة أخماس الغنائم بعد الانتصار ، وذاك جيش لا ينال شيئا ، وإنما يذهب كله إلى الحاكم المتسلط المغرور وكأنما حارب وحده ، هذا فريق ينصره الله ويؤيده ربه خالق الكون ومالك الملك سبحانه وتعالى، وذاك فريق يحارب الله ربه ويتطاول على قانونه وعلى شرعه سبحانه وتعالى ، وبإيجاز فهذا فريق الآخرة وذاك فريق الدنيا ، فعلى من تكون الشفقة إذن ؟! على من تكون الشفقة وقد قال سبحانه وتعالى: { كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة:21] . على من تكون الشفقة وقد قال سبحانه وتعالى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } [النساء:141] . فالمعركة إذن باتت وكأنها محسومة قبلاً .
وادي برباط وشهر رمضان : هكذا وفي شهر مضان بدأت معركة وادي برباط الغير متكافئة ظاهرياً والمحسومة بالمنطق الرباني ، بدأت في شهر الصيام والقرآن ، الشهر الذي ارتبط اسمه بالمعارك والفتوحات والانتصارات ، ولكن وللأسف تحول هذا الشهر الآن إلى موعد مع الزمن لإنتاج أحدث المسلسلات والأفلام وغيرها ، تحول إلى نوم بالنهار وسهر بالليل لا للقرآن أو للقيام ، ولكن لمتابعة أو ملاحقة المعروضات الجديدة على الفضائيات وغير الفضائيات ، تحول إلى شهر المراوغة من العمل ، وقد كان المسلمون ينتظرونه للقيام بأشق الأعمال وأكدّها ، تحول إلى شهر الضيق وافتعال المضايقات ، وهو شهر الصبر والجهاد وتهذيب للنفس ، ففي هذا الشهر الكريم وقبل العيد بيوم أويومين - وهكذا كانت أعياد المسلمين - وعلى مدى ثمانية أيام متصلة دارت رحى الحرب ، وبدأ القتال الضاري الشرس بين المسلمين والنصارى ، أمواج من النصارى تنهمر على المسلمين ، والمسلمون صابرون صامدون .. {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } [الأحزاب:23] .
وعلى هذا الحال ظل الوضع طيلة ثمانية أيام متصلة انتهت بنصر مؤزّر للمسلمين بعد أن علم الله صبرهم وصدق إيمانهم ، وقتل لذريق ، وفي رواية أنه فر إلى الشمال ، لكنه اختفى ذكره إلى الأبد ، وقد تمخض عن هذه المعركة عدة نتائج كان أهمها:
1 - طوت الأندلس صفحة من صفحات الظلم والجهل والاستبداد ، وبدأت صفحة جديدة من صفحات الرقي والتحضر من تاريخ الفتح الإسلامي .
2 - غنم المسلمون غنائم عظيمة كان أهمها الخيول ، فأصبحوا خيّالة بعد أن كانوا رجّالة .
3 - بدأ المسلمون المعركة وعددهم اثنا عشر ألفا ، وانتهت المعركة وعددهم تسعة آلاف ، فكانت الحصيلة ثلاثة آلاف شهيد رووا بدمائهم الغالية أرض الأندلس ، فأوصلوا هذا الدين إلى الناس ، فجزاهم الله عن الإسلام خيراً .
التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 07-21-2009 الساعة 08:03 PM
|