الموضوع: قضية سمرقند
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-18-2010, 01:09 AM
أبو يوسف السلفي أبو يوسف السلفي غير متواجد حالياً
" ‏مَا الْفَقْرَ ‏أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي‏ ‏أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ "
 




افتراضي

ولكنه سمع صوتاً إنسانياً يناديه باسمه ويدعوه إلى أن يتبعه ، فعلم أنه الحارس الموكل بباب المعبد ، فلحق به وقلبه يخفق تطلعاً إلى ما وراءه من خفايا وأسرار ، فاجتاز به سرداباً طويلاً ملتوياً تضيئه مصابيح نحاسية منقوشة ، يخرج منها لهيب أزرق ، يتراقص فيلقي على الجدران الصخرية ظلالاً عجيبة ، وفي السرداب تماثيل ( آلهة (1) ... ) ذات صور بشعة مرعبة ، يومض من عينيها ضوء أحمر فيكون لها منظر يخلع قلوب الجبابرة ... وفي السرداب شقوق يدخل منها الهواء فيصفر صفيراً مخيفاً ، كأنه صوت سرب من البوم ... ثم دخل به غرفاً منقورة في الصخر ، حتى انتهى به إلى قاعة الكهنة ، الذين لا يراهم أحد ، لأنهم لا يخرجون من المعبد ، وقل أن يُدخلوا أحداً عليهم ، والذين كانوا هم حكام البلد وملوكه ، وأصحاب الكلمة فيه ، لا يجرؤ على مخالفة أمرهم أحد ، إلا حقت عليه لعنة ( آلهة ... ) المعبد ، ذات الوجه البشع المرعب ...
لم يستطع الرجل من دهشته أن يدير نظره فيما حوله ، أو أن يملأ عينيه من الكهنة ومن كان معهم ، وسمع كلاماً ينصب في أذنيه بصوت خافت رهيب كأنما هو يسمعه حالماً ... وفهم أن المتكلم يذكر ماضي سمرقند وسالف مجدها ، وكيف هبط عليها المسلمون ، هبوط البلاء ، فأزاحوا عرشها ، وحطموا جيشها ، وحكموا وملكوا أمرها ، ثم أفاض في الكلام على الخطة التي اختطها لإفساد أخلاقهم ودينهم ، وإضعافهم وإلقاء الخلف بينهم ، وكانت خطة شيطانية ارتجف لسماعها ، ثم عاد المتكلم فقال :
غير أنّا رأينا أن نرجئ خطتنا ، ونرمي آخر سهم في جعبتنا ، وذلك أنّا سمعنا أن لهؤلاء القوم ملكاً عادلاً ، يقيم في دمشق ، فأزمعنا أن نرسل إليه رسولاً ، يرفع إليه شكايتنا ، ويشرح له مظلمتنا ، ثم نرى ما هو فاعل ، وقد اخترناك لمعرفتك العربية وجراءة جنانك لتكون أنت الرسول ؟ فهل أنت راضٍ ؟ قال : نعم .
قال : امض بتوفيق ( الآلهة ( 1 ) ... ) !
وخرج وما تسعه من فرط الزهو الأرض ، وأحس من الخفة والنشاط أنه سيطير ، ورأى ظلام الليل أبيض مضيئاَ ، ولقد اعتدّها نعمة كبرى أن دخل المعبد ، وكلم الكهنة ، وكان موضع ثقتهم ونجواهم ، وأن أولوه شرف القيام بأضخم مهمة عهدوا بها إلى أحد ، وشعر أن حرية قطر سمرقند وشرفه في يمينه ، وأنه هو المحامي عنه والمنافح دونه ، وكان لفرط شجاعته ، يتمنى لو كلفوه حرب المسلمين ، وإخراجهم من بلده ، ولم يكن يعرف مبلغ قوتهم ، وجلال ملكهم ، وأن هذا القطر كله في جنب دولتهم كالساقية التي جاءت تغالب البحر ... ولو مد البحر وأزبد وهاج ، لاقتلع الساقية من منبعها فشربها ، فضاعت فيه ، فلم يبق لها أثر ... فلما شد رحاله وسافر ، ومضى يقطع الليالي الطوال ، والأسابيع والشهور ، وهو لا يفتأ يمشي في ظلال الراية الإسلامية المظفرة ، لم يلق عصا التسيار ولم يبلغ العاصمة ... من سمرقند ، إلى بخارى ، إلى بلخ ، إلى هرات ، إلى قزوين ، إلى الموصل ، إلى حلب ، إلى دمشق ..
دنيا من الخصب والحضارة والمجد ، وبلاد كانت ممالك كثيرة ، ما مملكة منها إلا وهي أعظم وأضخم من سمرقند ...وما سمرقند في جانب ملك كسرى وخاقان ؟ فأين ملك خاقان وكسرى ! لقد ابتلعته المدينة المتوارية بين الحرتين ، وراء رمال الجزيرة ، تلك القرية التي هزها محمد [صلى الله عليه وسلم ]( 2 ) بيمينه ، فولدت الأبطال الذين انتشروا في آفاق الأرض وملكوها ... وأنبتت رمالها جنات الشام والعراق وفارس وخراسان ... وهذه البلاد الخصبة الممرعة التي ليس لها آخر ... وكان كلما تقدم ورأى جديداً من دنيا الإسلام ، تمتلئ نفسه من لقاء الخليفة ...
وأفاق يوماً من ذهوله ، بعدما صرم في هذه الرحلة أشهراً ، على صوت الدليل وهو يهتف باسم ( دمشق ) .


( 1 ) ولا إله إلا الله
( 2 ) الكلام بين القوسين [ ] زيادة من عندي


يتبع ..
رد مع اقتباس