عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 08-04-2009, 11:14 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي عقيدة الغرب في تفتيت العالم الإسلامي – تحليل (الجزء الثاني)


عقيدة الغرب في تفتيت العالم الإسلامي – تحليل (الجزء الثاني)

أحمد الشجاع -عودة ودعوة

2/8/2009م
تقسيم منطقة الشرق الأوسط على أسس طائفية


بعد اتفاقية سايكس / بيكو سنة 1916م بتقسيم بلاد الشام بين الاحتلالين البريطاني والفرنسي، ظهرت العديد من الدراسات الغربية التي تضع تصورات لخرائط جديدة لشرق أوسط جديد يقوم على أسس طائفية وعرقية..هذه الدراسات صدرت عن مراكز بحثية غربية أو باحثين بارزين، والمعروف عن مراكز البحوث الغربية – خصوصاً في أمريكا – تأثيرها المباشر في عمليات رسم السياسات وصنع القرارات..ولهذا أطلق على هذه المراكز في - أمريكا - تسمية (مخازن الفكر)؛ لما لها من دور كبير في تقديم المقترحات وطرح التوجهات والتصورات للحكومة التي تعتمد كثيراً على نتائج هذه المراكز.
إضافة إلى ذلك العلاقات القوية والترابط الوثيق بين الجهات الرسمية، ومراكز البحوث، وهو ما يعرف بسياسة (الباب الدوار) أي انتقال باحثين بارزين من مراكز البحوث إلى المؤسسات الرسمية للعمل فيها، وعلى أعلى المستويات، ثم يعودون للعمل في مراكز البحوث من جديد بعد انتهاء خدمتهم أو بعد تغيير الحكومات.
وبالعودة إلى موضوع تقسيم الشرق الأوسط فإنه منذ سنة 1982م وحتى الآن ظهرت عدة دراسات وخرائط للشرق الأوسط تشير إلى تقسيمات جديدة لبعض الدول، كان آخر هذه الخرائط ما نشر في مجلة (أتلانتك مونثلي) الأمريكية (في يناير – فبراير 2008م)، حسب ما جاء في مجلة (المجلة) السعودية (24 فبراير 2008م)..كاتب المقال وصاحب الخريطة هو جيفري جولد بيرج المعروف بارتباطه بالمسئولين الإسرائيلي، وقد خدم في الجيش الإسرائيلي. والخريطة التي نشرها تتصور منطقة سيناء ذات استقلال ذاتي، وغزة إمارة إسلامية.
يقول الدكتور أحمد البرصان – في تقريره الموسع حول تقسيم الشرق الأوسط المنشور في (المجلة) – إن المنطقة باتت – كما يبدو- هدفاً تشريحياً جديداً أو دسما لمراكز التفكير الغربية، فكلما شعرت دول الغرب الخطر على مصالحها وأمنها القومي والاستراتيجي وجدت أن الفرصة الأفضل أن تقوم بدعم عمليات الانفصال وإنشاء كيانات جديدة هزيلة تبقى مرتبطة بها..ويواصل الدكتور البرصان حديثه قائلاً: إن التقسيم خطة وخارطة ما زالت تُطرح مع كل أزمة في المنطقة؛ وذلك بهدف تغيير توازن القوى لصالح إسرائيل والدول الكبرى، ونسمع عن شرق أوسط جديد وأحياناً سايكس / بيكو جديدة.
وكانت أول وثيقة علنية لتقسيم المنطقة العربية ما نشر في مجلة (المنظمة الصهيونية العالمية) kivunim في فبراير 1982م، وكان كاتبها (عديد فرنون). وجاءت الدراسة تحت عنوان: ASTRATEGY FOR ISRAEL IN THE NINTEEN EIGHTIES
وترجمها فيما بعد إسرائيل شاحال عالم الكيمياء الإسرائيلي إلى الإنجليزية تحت عنوان: THE ZIONIST PLAN FOR THE MIDDLE EAST أي (المشروع الصهيوني لمنطقة الشرق الأوسط).
وجاء في هذه الخطة الإستراتيجية تقسيم العراق على ثلاث دويلات كردية وسنية وشيعية. وتقسيم السودان إلى أربعة مناطق من بينها فصل الجنوب عن الشمال. وامتد السيناريو ليطرح تقسيم سوريا ومصر..وهذه اللحظة تلتقي مع الأهداف الإسرائيلية في تقسيم المنطقة على أسس طائفية وعرقية من أجل أن تبقى هي القوة المهيمنة على الشرق الأوسط..وأثناء الهجوم الإسرائيلي على لبنان في 2 يونيو 1982م كتب المراسل العسكر الإسرائيلي زئيف شيف: "إن مصلحة إسرائيل تتطلب تجزئة العراق إلى دولة شيعية وأخرى سنية، وفصل الجزء الكردي في شمال العراق".
وفي سنة 1996م تقدمت مجموعة أمريكية تدعى (مجموعة إستراتيجية إسرائيل لعام 2000م) بتقرير لرئيس الوزراء الإسرائيلي جاء فيه إن الإطاحة بالنظام العراقي وخريطة جديدة للشرق الأوسط تجعل إسرائيل تحقق مصالحها بتفكيك دول، وطمس مفهوم القومية العربية وقيام كيانات إقليمية طائفية..وكانت المجموعة المذكورة يرأسها ريتشارد بيرل (الذي أصبح فيما بعد رئيس مجلس سياسة الدفاع في وزارة الدفاع الأمريكية قبل احتلال العراق). ومن بين أعضاء اللجنة: دوجلاس فيث (الذي أصبح الرجل الثالث في وزارة الدفاع الأمريكية)، وديفيد ويرميسر (الذي عمل فيما بعد في مكتب ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش إلى عام 2007م).
ومعروف عن ريتشارد بيرل وجلاس فيث مشاركتهما الفاعلة – من خلال موقعيهما – في التخطيط لاحتلال العراق..وبعد الفشل الأمريكي في العراق ظهرت عدة مبادرات لتقسيم العراق، من بينها قرار مجلس الشيوخ الأمريكي سنة 2007م القاضي بتقسيم العراق، وتبناه السيناتور جوزيف بايدني (نائب الرئيس الأمريكي حالياً)..ونشر (مركز سابان لدراسات الشرق الأوسط) – الذي يشرف عليه اليهودي الأسترالي الأصل مارتن أنديك الذي كان مساعداً لوزير الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس كلينتون وسفيراً سابقاً في إسرائيل – دراسة بعنوان (التقسيم الناعم للعراق)، وقد لقيت نقاشاً وتأييداً في الكونجرس.
ومركز سابان يتبع مؤسسة الأبحاث الأمريكية (بروكنز)، ولها علاقة بصانعي القرار الأمريكي..كما ظهرت تقارير أخرى تدعو إلى تقسيم الصومال، وكان قد تردد خبر احتمال اعتراف أمريكا بجمهورية أرض الصومال الانفصالية، فيصبح الصومال بلداً مفككاً كالعراق.
وفي يونيو 2006م نشرت مجلة (القوات المسلحة الأمريكية) خريطة لشرق أوسط جديد، تدعو لتقسيم دول المنطقة. وقد نشرها رجل الاستخبارات الأمريكية السابق الكولونيل المتقاعد راف بيترز تحت عنوان (حدود دموية)، وهي تنظر إلى إثارة الطائفية والعرقية لإنشاء كيانات تخدم مصالح أمريكا وإسرائيل..ثم جاءت خريطة جيفري جولد بيرج المنشورة في مجلة (أتلانتك) المذكورة سابقاً..وتمتد تصورات الخريطة من السودان غرباً إلى الهند شرقاً، حيث تشمل التقسيمات باكستان وإيران والمنطقة العربية في العراق والسودان.
والواضح أن الخريطة تنظر إلى بؤر التوتر والاحتكاك العرقي والطائفي وتضخيمها، وتحاول إثارة أن المنطقة - حالياً- لا تخدم المصالح الغربية ولا بد من المزيد من التقسيمات..ولغرض إعطاء الخريطة بعداً أكاديمياً لتحظى بالمصداقية، ادعى صاحبها أنه تواصل مع خمسة وعشرين خبيراً، ومتخصصاً في المنطقة أثناء كتابة تقريره ورسم خريطة.
ويقول البرصان إن نظرة متفحصة للأشخاص الذين تواصل معهم تبين أنهم من المؤيدين لإسرائيل ولهم علاقات مع المؤسسات الأمنية الإسرائيلية أمثال روبرت ستالوف (مدير تنفيذي لمركز واشنطن لدراسة الشرق الأدنى)، ودنيس روس (مسئول عملية السلام في الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، وإدوارد ليتواك، وغيرهم من الخبراء الذين ورطوا الإدارة الأمريكية في العراق وأفغانستان..الخريطة تقسم العراق إلى ثلاث دويلات (سنية وشيعية وكردية)، وتفصل منطقة خوزستان في جنوب إيران على شلك دويلة، وتقسم باكستان إلى بلوشستان وباشتونستان، وتقسيم عرقي يشمل باكستان وجنوب أفغانستان..وتتضمن الخريطة أيضاً سيناء المصرية على شكل منطقة ذات استقلال ذاتي، وغزة إمارة إسلامية، وترى الخريطة أن لبنان قد تصبح جزءاً من سوريا، وترسم دولة درزية وأخرى علوية.
ومن خلال مخططات التقسيم والتجزئة يظهر أن القوى الغربية رجعت إلى عهدها الاستعماري السابق بإثارة النعرات العرقية والطائفية كالذي يحصل في إفريقيا. وهذا يذكرنا بالعهد الاستعماري – كما يقول البرصان – عندما دخل الاستعمار إفريقيا تحت شعار نشر النصرانية؛ مما جعل قساً من جنوب أفريقيا يقول: لقد أعطيتمونا النصرانية وسرقتم منا الأرض والثروة.
إلا إسرائيل:
يشير البرصان إلى أن المثير في هذه الخرائط أنها ترسم خرائط الدول وعليها الأعلام والمتغيرات، ولكن الشيء الثابت الذي يبقى دائماً غير متغير هي خريطة إسرائيل، فالخرائط لم تتطرق لإسرائيل، وإنما صورت دولاً طائفية وعرقية وكأن كل المتغيرات لا تعنيها، وأنها ثابتة باقية سرمدية.
من التخطيط إلى التنفيذ :
استغلال الأديان


الأكثر خطورة في قضايا الصراع هو الاستغلال الديني لإحداث الفتن بين أتباع الأديان، فتبعات ذلك أعمق وأشمل، وتتجاوز حدودها حدود الأمم والشعوب..والمصيبة هنا هي أن الغرب كان ولا يزال يستغل البعد الديني في حروبه ضد المسلمين، وفي كل زمان كان الغرب يستخدم أدواته ووسائله وحججه، وفي كل وقت له أهدافه ومصالحه، وخطابه فيتغير التعبير ولكن يظل التدمير.
في السابق كان الغرب يدعي تحرير المسيحيين من أيد المسلمين فشن حروبه الصليبية . والآن يدعي حماية الأقليات الدينية فيستغلها في تمرير خططه وأهدافه.. والأمثلة على ذلك كثيرة لا يجهلها أحد كقضايا الأقباط والقاديانية في مصر، واليهود في بعض الدول العربية، والأرمن في تركيا ونصارى اندونيسيا (أصبحت لهم دولة فيما بعد)، ونصارى جنوب السودان، وعبدة الشيطان في المغرب. وموضوعنا هنا سيكون خاصاً بقضايا مسيحيي الشرق، فهي الأقدم زماناً والأوسع مكاناً والأكثر تعقيداً والأخطر استغلالاً من جانب الغرب.
عند ما ظهر الإسلام كانت المسيحية مقسمة إلى أربعة مذاهب رئيسية (الآريوسي – النسطوري – اليعقوبي – الملكاني)، قبل أن تواصل انشقاقاتها إلى مئات المذاهب والفرق. وشهدت الانقسامات المسيحية جملة من الحروب والاضطهادات المتبادلة، وأعنفها كان في الحروب الدينية الأوروبية في العصور الوسطى والحديثة أودت بملايين البشر..وفي صدر الإسلام كانت الإمبراطورية الرومانية البيزنطية تسعى إلى فرض مذهبها على بقية المذاهب المسيحية وفي المقدمة أقباط مصر الذين عانوا من اضطهاد الدولة الرومية؛ مما دفعهم إلى اعتبار الحكم الإسلامي أهون من الهيمنة الرومية. وفي ظل ما يعانوه جاءت رسالة رسول الله إلى المقوقس تدعوه إلى الإسلام وقد أحسن الرد لكنه أصر على دينه.
وقد قيل إن معاناة الأقباط كانت سبباً مهماً في تمهيد الطريق أمام الفتح الإسلامي لمصر سنة؛ لما في الإسلام من عدل وإنصاف للبشرية جمعاء..وقد طبق الخلفاء هذا المنهج خلال مسيرة الفتوحات الإسلامية. ومن أشهر ما جاء في هذا الجانب (العُهدة العمرية) لأهل إيلياء المسيحيين سنة 15 للهجرة، وفيها حفظ الخليفة عمر بن الخطاب لأهل إيلياء نفوسهم وكنائسهم ومقدساتهم ورموزهم الدينية..والعهدة العمرية مستمدة من الشرع. والأصل بقاؤها على أسسها.
وفي غالب الأحوال ظل المسيحيون في مأمن تحت رعاية الدول الإسلامية المتعاقبة، وكانت مشكلة مسيحيي الشرق الأساسية هو النزاع المرير مع الكنيسة الغربية وتبادل الطرفان الكثير ممن قرارات التكفير والطرد الديني الصادرة عن مجامع كل طرف، ومعروف أن قرارات المجامع المسيحية تعد أصولاً لا يجوز إلغاءها إلا بقرار صادر عن مجمع ديني مماثل..وكان على رأس أولويات الكنيسة الغربية السعي إلى فرض سلطاتها على الكنيسة الشرقية الإرثوذكسية بحجة توحيد الديانة المسيحية. وبلغ الخلاف بينهما ذروته سنة 1054م حيث كان الانقسام الكبير.
ثم جاءت نكبة الحروب الصليبية التي شنتها الكنيسة الغربية على بلاد المسلمين سنة 1096م، وقبل ذلك كانت الكنيسة تهيئ المناخ الديني بين الأوروبيين لشن الحروب على المسلمين..وهو أسلوب تكرر في عصرنا على يد الإدارة الأمريكية السابقة (إدارة بوش) عندما سعت - منذ وصولها إلى السلطة - إلى تهيئة المناخ الديني الشعبي ضد العالم الإسلامي، ولم تكد أحداث 11 سبتمبر تقع حتى يعلن بوش على الملأ حربه الصليبية.
وبخصوص الحروب الصليبية القديمة كان البابا حنا العاشر (914م - 1928م) أول من نادى بطرد المسلمين من الحوض الغربي للبحر المتوسط حيث كانت الدولة الإسلامية في الأندلس..أما البابا إسكندر الثاني (1061م – 1073م) فكان أول من استخدم فكرة صكوك الغفران كورقة لتحميس الأوروبيين على حرب المسلمين..أما مؤسس فكرة الحملات الصليبية الشهيرة فهو البابا جريجوري السابع (1073م - 1088م )، لكنه مات قبل أن تبدأ.
وجاء بعده أوربان الثاني يواصل المهمة، ودعا لمؤتمر مصيري في فرنسا يوم 27 نوفمبر 1095م، وفيه أطلق صيحته الشهيرة (إنها إرادة الرب)، وأمر كل مسيحي ومسيحية بالخروج لنجدة القبر المقدس من أيدي "الكفرة" (يعني المسلمين)، ثم أفاض في حديث ملؤه الكذب والأباطيل عن الاضطهادات التي يتعرض لها النصارى والحجيج في بلاد المسلمين، وأرسل أحد الرهبان المتعصبين واسمه بطرس الناسك ليطوف أوروبا يدعوها لمحاربة المسلمين ونتيجة لخطبه المؤثرة والمخلوطة بالبكاء والعويل والأكاذيب خرج مئات الآلاف استجابة لنداء البابا ورغبة في المغفرة، وهي الحملة المعروفة باسم (حملة الرعاع) التي أبادها السلاجقة..ومنذ (حملة الأمراء) سنة 1099م – التي قتلت قرابة المليون مسلم - توالت الحملات الصليبية ضد أراضي المسلمين.
أما مسيحيو الشرق – الذين ادعت الحملات الصليبية تحريرهم - فإن بعضهم وقف مع الحملات الغربية ضد المسلمين، ومن بينهم وأشهرهم المارونيون الذين كان ميلهم للغرب المسيحي أكثر، وكانوا قد بدؤوا عمليات الانضمام للكنيسة منذ سنة 1182م، وتحقق لهم ذلك في القرن السادس عشر الميلادي.
أما من رفض من مسيحيي الشرق الوقوف مع الصليبيين والهيمنة الكنسية الغربية فإنه قد أصابهم بعض ما أصاب المسلمين..فقد تحولت الحملة الصليبية الرابعة - التي شنها البابا إنوسنت الثالث سنة 1204م - إلى القسطنطينية عاصمة بيزنطة، مع العلم أن هذا البابا كان أكثر الباباوات محاربة للمسلمين، وهو أول من شن حملات الصليب إلى مصر.
نقل سعد رستم - في كتابه (الفِرق والمذاهب المسيحية منذ ظهور الإسلام حتى اليوم) - عن المؤلف المسيحي نوفل بن نعمة الله بن جرجس قوله – في كتابه (سوسنة سليمان) -: إن البابا إنوسنت الثالث حرك قواد الصليبيين لنزع المملكة الشرقية من يد اليونان، فاقتحموا القسطنطينية سنة 1204م، وظلوا متسلطين عليها إلى سنة 1261م، فاستعملوا ما أمكنهم من الهمجية في الأرض التي امتلكوها من بلاد سورية وفلسطين؛ ليخضعوا بطاركة أورشليم، وجميع الإكليروس اليوناني بواسطة الحبس وإقفال الكنائس حتى أحوجوهم إلى أن يفضلوا موادة العرب (حكام البلاد الأصليين) على موادتهم، ويختاروا حكم شعب يتقاضى منهم جزية على أن يتسلط عليهم ملك روحي طمعه وطمع قواده لا يشبعان.
وقد يقول قائل إن الصراع المسيحي قد أصبح جزءاً من الماضي، ولم يعد العداء بين الكنيستين كما كان في السابق في ظل عمليات التقارب المستمرة بينما..هذا القول- في مجمله - صحيح من جهة انتهاء الصراع المسلح، ولكن العداء لا زال كما هو مدون في مراجعهم وكتبهم مع تغير في وسائل التعبير عن العداء أو استخدامه. أما التقارب فهو شكلي بروتوكولي استدعته الظروف لكنه لم يشمل نقاط الافتراق وربما مسائل الخلاف.
ومما يدل على بقاء هذا العداء ما جاء في وثيقة أصدرها مجمع العقيدة والإيمان بالفاتيكان يوم 10/7/2007م - ( نشرها إسلام أون لاين نقلاً عن واشنطن تايمز- تقول إن الإيمان المسيحي خارج الكنيسة الكاثوليكية ليس كاملاً، وقالت: "إن الكنائس المسيحية الأرثوذكسية كنائس حقيقية، لكنها تعاني جرحاً؛ لأنها لا تعترف بالبابا رأساً لها". وأضافت، "إن الجرح أعمق بالنسبة للكنائس البروتستانتية".
وقالت عن بقية الكنائس: "إن العقائد المسيحية الأخرى تفتقد إلى عناصر تعد ضرورية بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية، فهي ليست كنائس بمعنى الكلمة ولكنها تجمعات إكليريكية"..والملاحظ هنا أن الكنيسة الغربية لا زالت ترى في نفسها الأَوْلى بالزعامة الدينية المسيحية العالمية، ولا زالت تحِنّ إلى ماضيها العقدي الراغب في ضم مسيحيي الشرق إليها.
في 8 مايو الماضي قام بابا الفاتيكان بزيارة إلى الأردن وفلسطين، وهي زيارة دينية شملت بعض الأماكن الدينية المسيحية المهمة. وخلال الزيارة تشدق كثيراً في حديثه عن العدالة والحرية والتسامح والمحبة والتعددية.. إلى آخر ادعاءاته مع أنه مشبع بمواقفه العدائية ضد المسلمين، تجشأ ببعضها علناً منذ سنة 2006م..الملفت للنظر أن زيارته واجهت انتقادات علنية داخل المسيحيين العرب، وكانت أشدها وأكثرها عمقاً- حسب متابعتي على الأقل - الرسالة التي وجهتها الباحثة الإعلامية اللبنانية حياة الحويك عطية إلى بابا الفاتيكان.
والملاحظ أيضاً أن صاحبة الرسالة لا تتبع الكنيسة الشرقية المعروفة بعدائها التاريخي للكنيسة الغربية التي يرأسها بابا الفاتيكان، بل هي من أتباع الكنيسة المارونية المرتبطة بالفاتيكان..ولكن يبدو أن هذه المسيحية تمثل تياراً مارونياً – غير معروف كثيراً – لا زال يرفض التبعية للفاتيكان، فقد تحدثت عن جدها البطريرك الحويك بصفته "آخر بطاركة الموارنة الذين يرفضون بإصرار التبعية لروما ولبيزنطة"..وقالت إن ذلك جاء "وفاء لإرث مؤسسهم الراهب البدوي الحمصي الذي تمرد على الاثنين لوعيه العميق بأن جذور المسيحية هنا على هذه الأرض".
وربما المقصود بالراهب البدوي هو القديس يوحنا مارون (بطريرك أنطاكية 685م -707م) الذي أعطى للمارونيين استقلالاً عن الدولة البيزنطية بعد أن تمكن من هزيمة جيوشها الغازية سنة 684م. أما من الناحية الرسمية فالمارونيون ينسبون أنفسهم للقديس مار مارون المتوفى سنة 410م..أما الرسالة – المنشورة في موقع الجزيرة نت بتاريخ 12/5/2009م - فقد جاءت للرد على بعض مواقف بابا الفاتيكان، وفيها أيضاً انتقادات للسياسات الغربية تجاه مسيحيي الشرق وأبرز ما جاء فيها:
إن دعوة البابا للحفاظ على التعددية تتعارض مع الممارسات الغربية، حيث قالت: "إن الغرب الذين تعرفون، ومعه وليده الصهيوني العنصري، هم الذين يستهدفون- ومنذ عقود - هذه التعددية، بتخطيط إستراتيجي دقيق ومبرمج يهدف إلى تهجير مسيحيي العالم العربي؛ لينزعوا عنه صفته التعددية من فلسطين إلى مصر إلى السودان إلى العراق (أي فصل مرير وفاضح هو العراق! ماذا فعلتم لأجل بقاء مسيحييه على أرضهم؟)"..وقالت إنهم كعرب مسيحيين لسوا بأي حال أقلية؛ "لأننا العرب قبل الإسلام وبعده، ولا نحتاج إلى حماية إلا حمايتنا من مخططات اقتلاعنا من أرضنا ورمينا على أرصفة الغرب مادة ضغط وابتزاز ضد بلداننا. وفي أحسن الأحوال مهاجرين لا انتماء لهم ولا قضايا".
إلى أن قالت: "وإذا كنتم، يا صاحب القداسة، تصلي – كما قلت-: كي لا تشهد الإنسانية جريمة مماثلة( للهولوكوست)، فاسمح لي يا رأس الكنيسة أن أذكرك بأن جريمة أشد قسوة تدور على أرض فلسطين، ولا يمكن لرائحة دمائها إلا أن تكون قد وصلتك من فلسطين، حيث آخر الحلقات، هولوكوست غزة لم يجف بعد، أو من لبنان قبل ثلاثة أعوام"..وختمت رسالتها بمناشدة لبابا الفاتيكان: "بحق العذراء والمسيح افهمونا قليلا يا سيدي، وتوقفوا عن التعامل معنا كأتباع، عاملونا كمؤمنين مساوين في المسيح واتركوا لنا أن نعلم إخوتنا أن يكونوا كذلك".
أحداث دمشق1860م:


في سنة 1860م شهدت دمشق صراعاً طائفياً بين المسلمين ونصارى سوريا، وهي أحداث اشتهرت في التاريخ الحديث، وذهب البعض إلى اتهام الدولة العثمانية بإثارة فتنة طائفية، وكان على رأس المتهمين والي دمشق أحمد باشا الذي أعدمه السلطان العثماني مباشرة وبلا محاكمة، وفُسر هذا العمل بأنه كان محولة لتحسين صورة الحكومة العثمانية أمام الآخرين خصوصاً الغرب.
ولكن هل كانت الحكومة العثمانية - فعلاً - وراء تلك الأحداث أم أن هناك أصابع خارجية نسجت خيوطها ثم أشعلت فيها نيران الطائفية؟.
الجواب نجده في ورقة بحثية مصغرة للدكتور إلياس بولاد ألقاها على شكل محاضرة في ندوة عُقدت في مقر بطريركية الروم الكاثوليك في دمشق في يناير 2006م..تحاول الورقة إثبات أن الغرب هو من خطط لهذه الأحداث وأهمية هذه الورقة ترجع إلى أمرين:
أولها، الاعتماد الكبير على مصادر تاريخية غربية. ثانيها، كثرة الدلائل الواقعية التي دفعت الغرب لهذا العمل.
ويمكن تلخيص أهم ما جاء في الورقة على النحو التالي:
كانت دمشق قبيل عام 1860م تشكل أكبر مركز صناعي لإنتاج الحرير والاتجار به في العالم بالإضافة لصناعة بقية أنواع الأقمشة والمنسوجات. وهذه النهضة الصناعية كانت تتطور وتواكب آخر التطورات التقنية الصناعية العالمية في ذلك الوقت، أي نظام (الجاكار) الميكانيكي..وهذه النهضة الصناعية واكبها ازدهار تجاري واقتصادي كبير وتوسيع للأسواق (تصدير الأقمشة الحريرية الدمشقية إلى القدس ومصر ودول مثل تركيا وإيران وحتى إلى أوروبا نفسها).
وكانت مادة حرير الخام متوفرة بأسعار زهيدة في دمشق؛ لقربها من مراكز الإنتاج، بما لذلك من أهمية اقتصادية انعكست على رخص وجودة الإنتاج الدمشقي أكسبته شهرة عالمية ودفعت إلى زيادة الطلب عليه، وقد ساعد في هذا أيضا وجود مرفأ صيدا التجاري وقربه من دمشق، كل هذا ساهم في عملية الازدهار الاقتصادي لأبناء هذه المنطقة وأنتج التوسع الصناعي والتجاري لدمشق..وقال: إن هذه الصناعة وهذه النهضة الاقتصادية "كانت بمعظمها بأيدٍ مسيحية دمشقية".
في الطرف المقابل (أي في الغرب) شكَّل المرض الذي أصاب دودة الحرير في فرنسا والصين أواسط أعوام الأربعينات من القرن التاسع عشر أزمة كادت أن تؤدي إلى كارثة اقتصادية حقيقية في هذا القطاع، إذا استمر انقطاع تأمين الحرير كمادة أولية لمعاملها..ومن المعلوم أن المكان الوحيد الذي نجا من هذه الجائحة إنما كان هو في ذلك الوقت لبنان وسورية.
وباتت هذه المنطقة أي سوريا، منافسة قوية للغرب بأهم صناعة في القرن التاسع عشر، وهي صناعة المنسوجات الحريرية، وأصبحت تشكل خطراً حقيقياً على صناعة الغرب واقتصاده، حيث إن المادة الأولية لهذه الصناعة التي قد سلمت من الآفات كانت موجودة فيها فقط في ذلك الوقت، بحيث إنه لو استمرت الأحوال على ما هي عليه، وأدركت سوريا بمحيطها العثماني مركزها القوي باستغلال الحاجة الغربية لمادة الحرير فإنها كانت ستصبح الأقوى اقتصاديا ولكانت سيطرت على الأسواق الأوروبية والعالمية لسنوات طويلة، وبخاصة عندما يتم تطوير تصنيعها كماً ونوعا، ولكن الدولة العثمانية آنذاك كانت (الرجل المريض) الذي تسيطر عليه السفارات والقناصل الأوروبية، وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بأمور السلطنة من الأحكام القانونية إلى تعيين الولاة خدمة لأغراضها.
إلى أن قال: "من هذا الواقع التاريخي الخطير جاء التخطيط الغربي لحوادث 1860م في لبنان ودمشق، وعلى أعلى المستويات السياسية والاقتصادية، حيث رُصدت له الميزانيات الضخمة، وجرى إعداد سيناريو المذابح والأماكن المقصود تدميرها والجهات المنفذة لها.. وعن طريق بث الإشاعات الدينية وتأجيج نزعاتها. ولكن المسلمين المتنوّرين وعَوا تلك المؤامرة، وحموا إخوانهم المسيحيين".
والمؤسف - كما يقول الباحث - إن معظم المؤرخين، غربيين وشرقيين، لم يدركوا أن الهدف من وراء تلك الحوادث "كان تأمين الحصول على الحرير، واستهداف الصناعة السورية، وتقويض النهوض الحضاري لها والقضاء عليه، وفي تقديري أنه لو تم تلافي وقوع تلك الحوادث لكنا اليوم، بكل تأكيد، كما في الماضي دولة صناعية كبرى في مجال المنسوجات، وفي مجالات صناعية أخرى، وكنا دولةً لا تقل أهمية عن أية دولة أوروبية!!، ولكن حدوثها جعلنا دولاً استهلاكية تعتمد على الاقتصاد الغربي الذي كنا على قدم المساواة معه حضارياً آنذاك"..ثم تحدث عن عمليات الاستيطان الفرنسي والغربي في لبنان وسوريا وتأسيس مراكز لزراعة الحرير وصناعته؛ وذلك لتأمين هذه المادة لمصانعهم في بلدانهم دون اللجوء إلى التجار السوريين واللبنانيين.
مضيفاً: "لقد طلبت الحملة العسكرية الفرنسية التي أتت إلى بيروت في عام 1860م من البطريرك الماروني ومن يوسف بيك كرم، الذي كان يدافع عن حقوق الفلاحين الذين يزرعون دود القز لإنتاج الحرير أن تنقل بعض الفلاحين على متن بوارجها للإقامة في بلاد الجزائر حيث تؤمن لهم الأراضي الزراعية الخصبة هناك ليمارسوا زراعتها تحت حكم الفرنسـيين!!. فجاء الرفض قاطعاً"..وعلق الباحث على ذلك بقوله: "من الواضح أن الغاية تمثلت في جعل زراعة دود القز لصناعة الحرير أقرب وأرخص لهم من سواحل لبنان وجباله.. بعد 115 سنة على هذه الحادثة تكرر الأمر وهذه المرة من الأمريكان ولنفس الغاية متمثلة بنقل المسيحيين اللبنانيين على متن البوارج الأمريكية إلى أمريكا وكندا واستراليا".
ثم قال إن هناك أخرى لتلك الحوادث غير الحرير، منها:
استهداف وضرب القاعدة الاقتصادية النشطة في دمشق وبنيتها الصناعية التي كان المسيحيون الدمشقيون يحتفظون بها في أحيائهم حيث رأى الغربيون أنها المنافسة الحقيقية لصناعتهم؛ لأنها تستخدم مادة الحرير التي يريدونها رخيصة ولمعاملهم فقط.
- القضاء على أمهر الصناعيين والحرفيين وعلى ورشات عملهم ومنازلهم، حيث كان معظمهم من المسيحيين الدمشقيين وكان التركيز في هذه الحوادث على ورشات آل بولاد التي كانت تستخدم النظام المتطور للجاكار الميكانيكي لزيادة الإنتاج كماً ونوعاً.
- تهجير من تبقى من المسيحيين ممن أحرقت أحياؤهم وبيوتهم وورشات عملهم والذين تجمعوا في قلعة دمشق، حيث رُتِّبت القوافل لنقلهم إلى بيروت ثم مصر وفرنسا، وقد كانت كل قافلة تتألف من حوالي ثلاثة آلاف شخص، بحيث لا يستطيعون العودة إلى مدينتهم التي عاشوا فيها آلاف السنين، لما يحملون من ذكريات أليمة عن أحداث استهدفتهم، لم يعرفوا من كان وراءها، ولصعوبة البدء من جديد بأعمالهم وخوفهم من تكرار تلك الحوادث.
- نتيجة تلك الحوادث نجحت المؤامرة وتم القضاء على بذور المنافس الحقيقي للاقتصاد الغربي كما تم الاستحواذ على المادة الأولية (الحرير) بكل سهولة وفُتحت الأسواق السورية على مصراعيها أمام البضائع الأجنبية. وكان لا بد أمام تدفق البضائع الأجنبية من إحداث مصارف خاصة تسهل القروض للمزارعين واستيفاء الديون، وتحويل ثمن المنتجات الغربية إلى أصحابها في الغرب. مما أفضى إلى تضاعف الاستهلاك من البضائع المصنعة الغربية وبذلك ارتبط الاقتصاد السوري على المدى البعيد بالاقتصاد الغربي.
- إن الارتباط الاقتصادي الناتج عن تلك الحوادث قد مهّد في المستقبل القريب إلى احتلال سياسي وعسكري لسورية ولبنان وغيرهما من البلدان العربية تحت عناوين مثل "الانتداب" أو "الحماية" بحجة أن هذه البلاد غير مهيأة لمواكبة التمدُّن والتقدُّم الحضاري والصناعي.
- ولضرب أي أمل بعودة الترابط الاقتصادي والصناعي بين لبنان ودمشق وبلاد حوض البحر الأبيض المتوسط من بلاد عربية وأجنبية قام الانتداب الفرنسي بخلق (لبنان الكبير) عام1920م كحاجز جغرافي سياسي واقتصادي بضم ميناءي صيدا وطرابلس لهذا البلد الجديد بالإضافة إلى الأقضية الأربعة وسهل البقاع وهي المناطق الإنتاجية النشطة والغنية المحيطة بجبل لبنان المحدود الموارد بإقامة نظام سياسي فيه يعكس الوضع الطائفي السيادي للجبل بتخلف نمطية علاقاته المجتمعية والسياسية على لبنان والمنطقة، وقام الانتداب بإيجاد حدود مُصطنعة تحرص على فك الروابط الاقتصادية بين البلدين بهدف خنق دمشق والداخل السوري بقطع صلته بمناطق إنتاج الحرير وأسواقه بالمنافذ البحرية المتمثلة بصيدا، بيروت، طرابلس التي لم تزل قائمة حتى اليوم.
ثم أشار الكاتب إحدى وقائع تلك الحوادث قائلاً: "ومن هنا نتساءل مرة أخرى عن سبب استهداف الحي المسيحي في (القيمرية)، ولقبها (الهند الصغرى).. ولم يتم استهداف الحي المسيحي في نفس المدينة في حي الميدان؟!. إننا نرى أن السبب يعود إلى أن المسيحيين في حي الميدان كانوا يتعاطون تجارة الحبوب، أما في حي القيمرية فكان المسيحيون فيه يتعاطون صناعة وتجارة الحرير، وكانت تُقيم فيه الطبقة البرجوازية الصناعية التجارية، كما نتساءل أيضاً: إذا كانت تلك الحوادث بسبب الفتنة الدينية فلماذا لم تنتقل إلى مدنٍ أخرى كحلب وحمص وحماة؟. لم يحصل ذلك في رأينا لأن الهدف المحدد والمرسوم من قبل المخططين للحوادث والمذابح كان تدمير المركز الصناعي والتجاري في دمشق فقط".
وحول الدور العثماني يقول الباحث: "من المُلفت للنظر أيضاً أن الرأس المنفذ للمؤامرة - وهو والي دمشق العثماني - أحمد باشا قد أُعدم مباشرةً وبلا محاكمة"!، وهو الذي قيل بأن تعيينه والياً على دمشق قد جاء إثر مساعٍ لإحدى السفارات الأجنبية في استانبول. لم تُجرِ له أية محاكمة في حين أن الذين قتلوا البادري توما الكبوشي اللاتيني عام 1840م وعددهم على الأكثر عشرة أشخاص قد أعدت لهم محاكمة دامت شهوراً وتدخلت دول غربية عديدة لإبطال تنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم ومنها فرنسا وإنكلترا والنمسا؟!".
أمريكا والأرمن:


الأرمن طائفة مسيحية شرقية أيضاً تستغلها أمريكا منذ أكثر من 100 عام لابتزاز تركيا. وأساس القضية هي أن الأرمن يدّعون أن الدولة العثمانية ارتكبت في حقهم حرب إبادة أودت بحوالي مليون أرمني خلال الفترة ما بين 1914م و 1918م ، وتحولت القضية إلى وسيلة ضغط وابتزاز فعالة أشبه بمحرقة الهولوكوست لدى اليهود.
بدأت العلاقات التركية (العثمانية) الأمريكية خلال القرن الثامن عشر الميلادي، حسب ما ذكره الدكتور زبير خلف الله مدير مركز الدراسات العربية التركية والعثمانية باستانبول..وقال زبير – في مجلة (المجلة) – إن أمريكا بعد إعلان استقلالها عن الاحتلال البريطاني فتحت عدة قنصليات في مدن تركية، وفي سنة 1895م حدث خلاف وتوتر في العلاقات بين البلدين على إثر تعيين أمريكا ممثل قنصلي لها في مدينة أرضروم التركية التي لم يكن فيها ولا أمريكي واحد، بل فيها كثافة سكانية أرمينية. لكن أمريكا نجحت في فتح القنصلية سنة 1897م؛ وهو ما سيكون له الصدى الكبير في الأزمنة اللاحقة.
وعندما بدأت ملامح انهيار الدولة العثمانية تظهر في الأفق تحركت الدول الأوروبية إلى تقاسم ممتلكات (الرجل المريض)، وكانت أمريكا تخطط من قبل سنة 1918م في تقسيم تركيا وإنشاء كيان أرمني وآخر يهودي داخلها؛ حتى تستطيع بسط نفوذها وبشكل كبير على هذه التركة المتهاوية. ولأجل ذلك أوكل الأمر إلى رئيس الأركان الأمريكي آنذاك هاربورد، الذي بدأ يضغط على الدولة العثمانية بواسطة هيئة مكونة من 46 شخصاً مدنياً وعسكرياً، وتحمل اسماً له دلالته وأبعاده في الوقت الراهن وهو (المهمة العسكرية الأمريكية في أرمينيا)، ورصدت لهذه الهيئة ميزانية تقرب من مليار دولار في ذلك الزمن. وكان من بين أعضاء الهيئة أمريكان من أصول أرمينية كانوا يعدون العدة لتأسيس دولة أرمينية متعللين بقضية الإبادة.
ويواصل زبير القول: حصل الأرمن على دعم أمريكي كبير، وفتحت لهم الأبواب منذ سنة 1919م للهجرة إلى أراضيها، وسمحت لهم بتأسيس جمعيات ومنظمات سياسية تشتغل لصالحها وضد تركيا، ويلعبون دوراً أمريكياً كبيراً داخل تركيا..بدأت العلاقات بين البلدين تأخذ مساراً جديداً بعد سقوط الدول العثمانية وظهور تركيا الأتاتوركية العلمانية التي ابتعدت عن العالم الإسلامي، وارتمت كلية في أحضان الغرب.
لكن السياسة الأمريكية ظلت قائمة على منطق ما يسمى (العصا والجزرة)؛ فهي من ناحية تبدي تقارباً مع تركيا العلمانية، ومن ناحية ثانية تفرق هذا البلد في الديون وإحداث الفتن الداخلية حتى يسهل السيطرة عليها في الأزمنة اللاحقة..ولا شك أن قضية الأرمن واحدة من وسائل التدخل والابتزاز لكن وفق ما تقرره المصالح على اعتبار أن تركيا بلد مهم في المنطقة؛ حيث يربط بين ثلاث مناطق في غاية الأهمية هي منطقة الشرق الأوسط، ومنطقة بحر قزوين، ومنطقة آسيا الوسطى، وهي في الوقت نفسه ثلاث مناطق توتر رئيسية ومستمرة.
كما أن تركيا تعد همزة الوصل بين العالمين الإسلامي والعربي، وحاجز رئيسي أمام المد السوفييتي وبالتالي حرص الغرب ومعه أمريكا على بقاء العلاقات مع تركيا، فكان أن حصلت على عضوية الناتو سنة 1952م..ولهذا تحرص أمريكا على الموازنة بين استغلال القضية الأرمينية والمحافظة على المصالح الإستراتيجية في المنطقة، فالوقت الذي تجده أمريكا مناسباً لابتزاز تركيا تقوم باستغلال الأرمن كالذي حصل سنة 2007م عندما قبلت أمريكا تقديم المذكرة المتعلقة بإبادة الأرمن إلى مجلس الشيوخ الأمريكي، وهو ما دفع تركيا إلى رفض هذا الأسلوب واعتبره الرئيس التركي مهزلة لا تليق بأمريكا.
وحول دوافع تقديم هذه المذكرة يقول الدكتور زبير إنها نشأت بعد فوز حزب العدالة والتنمية سنة 2002م ووصوله إلى السلطة وانتهاجه سياسة خارجية ناجحة، حيث استطاعت تركيا أن تحسن علاقاتها مع سوريا التي كانت عدوة بالأمس، وحسنت علاقتها باليونان التي كانت على وشك إعلان الحرب ضد تركيا بسبب المسألة القبرصية.
كذلك نجحت تركيا في ربط علاقات مع إيران وروسيا وكثير من الدول التي كانت في نظر السياسة الأمريكية تمثل مراكز قلق بالنسبة إليها..هذا الانفتاح في السياسة الخارجية التركية أزعج أمريكا، وبدأت تنظر إلى كون تركيا تسعى مع بعض الدول المجاورة للعراق إلى تكوين حلف إستراتيجي إقليمي، ومحاصرة أمريكا إستراتيجيا، فعمدت إلى الضغط على تركيا من خلال إثارة موضوع الأرمن.
قضية ناغورني قره باغ:
نواصل الحديث – باختصار- حول المسألة الأرمينية، ولكن في قضية أخرى.
خلاصة هذه القضية – كما جاء في تقرير الجزيرة نت- هي النزاع بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم (ناغورني قره باغ) الواقع داخل الأراضي الأذربيجانية..والنزاع امتداد لعداء تاريخي بين المسيحيين الأرمن والمسلمين الأذرو الأتراك، والبعض يقول إنه صراع عرقي.
كانت أذربيجان وأرمينيا جمهوريتين تابعتين للإتحاد السوفييتي. وفي سنة 1923م قام استالين بضم إقليم (قره باغ) إدارياً إلى جمهورية أرمينيا، رغم أنه يقع في قلب أذربيجان، بالمقابل – ولكي تتم سياسة تأجيج الصراع العرقي – قام استالين بضم منطقة ناختشيفان إدارياً إلى أذربيجان، رغم أنها تقع في الأراضي الأرمينية، وجاءت سياسة (فرق تسد) التي انتهجها استالين من كون أغلب سكان (قره باغ) هم من الأرمن، وأغلب سكان ناختشيفان من الأذر، وبهذا بدأ الصراع في (قره باغ) واستمر..وتطور النزاع إلى حرب طاحنة بين أذربيجان وأرمينيا استمرت من سنة 1992م وحتى سنة 1994م، راح ضحيتها أكثر من 35 ألف شخص وتشريد حوالي مليون مواطن.
تتعامل الدول مع هذه القضية وفق مصالحها فقط؛ فروسيا تقف في صف أرمينيا، رغم أنها أحد الوسطاء الدوليين لحل الأزمة؛ وهذا ما دفع البعض إلى التساؤل عن مدى حقيقة الدور (المحايد) لروسيا في هذا الصراع..لاسيما بعدما كشف عن إمداد روسيا لأرمينيا بالسلاح خلال حرب 1992م -1994م ولروسيا قاعدة عسكرية في العاصمة الأرمينية يريفان.
أما أوروبا فلها اهتمام في حل هذه الأزمة أو على الأقل استمرار تجميدها؛ لضمان الاستقرار على هوامش أوروبا وضمان وصول نفط قزوين إلى السوق الدولية، خصوصاً بعد مد خط الأنابيب (باكو – تبليسي – جيهان)..أما الموقف الأمريكي فمتناقض بين رغبتها في المحافظة على مصالحها الحيوية هناك، وبين ضغط اللوبي الأرمني داخل أمريكا.
فواشنطن تنظر إلى أذربيجان على أنها شريك سياسي واقتصادي إستراتيجي في المنطقة، وبوابة بين أوروبا وموارد وأسواق الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وأحد الموردين الرئيسيين للنفط في أوروبا في القرن الـ 21..لكن في كثير من الأحيان تتعرض العلاقة بين البلدين للتوتر بسبب نفوذ اللوبي الأرمني القوي في الكونجرس وهو نفس اللوبي الذي يشتغل ضد تركيا.
ونتيجة للنفوذ الأرمني يخصص الكونجرس معونة خارجية لأرمينيا تجاوزت قيمتها كل موازنة أرمينيا وجعلت منها ثاني أكبر دولة منتفعة من المعونة الأمريكية بعد إسرائيل (على أساس حسابات دخل الفرد سنة 1996م). وفي الوقت نفسه لم تحصل أذربيجان على أي معونة من أمريكا.
الطائفية في لبنان:


رغم صغر مساحته (10 آلاف كم)، وقلة سكانه (قرابة الأربعة ملايين نسمة)، إلا أن هذا البلد يعد من أكثر الدول العربية – إن لم يكن أكثرها – تنوعاً طائفياً، حيث يعيش فيه 18 طائفة دينية معترف بها قانوناً..وقد شهد هذا البلد الكثير من الصراعات الدينية خلال مراحله التاريخية المختلفة، وقد أدت هذه الصراعات إلى خلق ثقافة طائفية شملت كل جوانب الحياة تقريباً..يرى البعض أن ظهور الصراع الطائفي في لبنان بدأ مع الصراع العثماني الأوروبي في المنطقة.
ولكن الواضح أن البداية الأساسية كانت أثناء الحملات الصليبية الغربية على بلاد المسلمين (1096-1291م) . ففي الوقت الذي كان المسلمون يقاومون الهجمات الصليبية، انقسم المسيحيون الشرقيون إلى فريقين فريق شارك في مقاومة الصليبيين ومن بينهم (الروم الأرثوذكس)، وكانت مقاومتهم تهدف إلى منع الصليبيين الغربيين من فرض هيمنة الكنيسة الغربية (التي قادت تلك الحملات) على الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية.
الفريق الآخر من المسيحيين الشرقيين وقف مع الحملات الصليبية وساندها في مواجهة المسلمين، وأشهر من قام بذلك (الطائفة المارونية) التي هاجرت من أنطاكيا إلى لبنان في القرن السابع الميلادي، وهي طائفة انفصلت عن الكنيسة الشرقية، وأصبحت تدين بالولاء لبابا الفاتيكان..كما وقفت هذه الطائفة في وجه الدولة العثمانية، وكانت باباً للتدخل الفرنسي في لبنان.
وبصفة عامة كانت الطائفية في لبنان ذريعة للتدخلات الأوروبية؛ بحجة حماية الطوائف خلال فترات الصراع العثماني الأوروبي. فقد عملت فرنسا على رعاية الطائفة المارونية، وروسيا على حماية الأرثوذكس والنمسا على حماية الكاثوليك، وبريطانيا على حماية الدروز، بينما بقيت الطائفتان السنية والشيعية تحت رعاية الدولة العثمانية. وكانت فرنسا أكثر الدول الغربية تدخلاً في الشأن اللبناني.
التدخل الفرنسي في لبنان:
جاء في رسالة لويس التاسع ملك فرنسا - سنة 1250م - إلى موارنة لبنان: "إننا موقنون أن هذه الأمة التي قامت تحت اسم القديس مارون، هي جزء من الأمة الفرنسية"..وترسخت الحماية الفرنسية بتعهد لويس الرابع عشر - سنة 1649م - بحماية الكنيسة المارونية وطائفتها، إذ يقول في رده على رسالة من البطريرك – "ليكن معلوماً أننا نضع تحت حمايتنا ورعيتنا بطريرك ورعايا وإكليروس المارونية المسيحية، الذين يعيشون ويعملون في جبل لبنان"..وقد جدد الملوك الفرنسيون اللاحقون هذا التعهد، حتى أصبح – في القرن الثامن عشر الميلادي- تقليداً محدد الأسس، حسب ما جاء في دراسة حول التاريخ اللبناني نشرها موقع (يا بيروت).
وفي سنة1860م نزلت في بيروت قوة فرنسية مكونة من 6 آلاف جندي لحماية الموارنة والمسيحيين من المسلمين، وتبنى المندوب السامي الفرنسي المطالب المارونية..وقد كان الاحتلال الفرنسي، وتوحيد لبنان وفرنسا، مطلباً قومياً مارونياً؛ إذ يخلصهم من السيطرة العثمانية الإسلامية..وفي ظل الدعم الفرنسي استطاع المارونيون تحقيق مكاسب سياسية مهمة جعلتهم الطائفة الأقوى في لبنان سياسياً واقتصادياً وتعليمياً.. ومما ساعد على ذلك مراحل الضعف التي مرت بها الدولة العثمانية؛ فانعكس ذلك سلباً على وضع المسلمين في لبنان.
وفي 31 أغسطس سنة 1920م أعلن المندوب السامي الفرنسي في سوريا ولبنان نشوء دولة لبنان الكبير التي ضمت المنطقة الساحلية ووادي البقاع (ذات الأغلبية المسلمة) إلى منطقة جبل لبنان (ذات الأغلبية المارونية)؛ فتحقق حلم الموازنة القديم الساعي إلى إنشاء دولة مسيحية مستقلة. بالمقابل تلاشت آمال المسلمين الراغبين في دولة عربية موحدة..وأدى إنشاء دولة لبنان الكبير إلى انقسام اجتماعي عميق، عملت فرنسا، من خلاله، على تغذية الطائفية، وبث روح الفرقة بين المسيحيين والمسلمين، سياسة (فرق تسد). كما كانت المناطقية عنصراً آخر، أعاق اندماج السكان المختلفين في بوتقة واحدة: الموارنة في شمالي لبنان ووسطه. والدروز في شرقيه وجنوبيه، في حاصبيّا وراشيّا. والشيعة في صور وجبل عامل وشمالي سهل البقاع ووسطه. والسُّنة في المدن الساحلية الرئيسية وسهل عكار. والروم الأرثوذكس في الكورة وبيروت وطرابلس. والروم الكاثوليك في جنوبي البلاد وزحلة. وتَوزَّعت بيروت (المركز السياسي والاقتصادي للبلاد) على كافة الطوائف بأعداد متساوية.
ثم جاء التدخل البريطاني المنافس للتدخل الفرنسي ليعمق الانقسام اللبناني الداخلي، إذ عمل كل من الاحتلالين على زعزعة مواقف الطرف الآخر في المنطقة العربية..فوقف البريطانيون مع العرب لتشديد شروطهم في اتفاق إنهاء الحرب مع فرنسا. ووقفت فرنسا مع مسيحيي لبنان من أجل تقوية ادعاءاتها في سوريا ولبنان..وامتد التنافس البريطاني الفرنسي إلى تقسيم بلاد الشام بينهما على شكل غنائم بعد انهيار الدولة العثمانية.
وكانت المحصلة خسارة العرب لقضيتهم الرئيسية (فلسطين)، وتعرضهم للغدر البريطاني. كذلك مسيحيو لبنان كانوا من بين الخاسرين نتيجة الدعم الفرنسي الذي تسبب في زيادة العداء بين المسيحيين والمسلمين بل وتعرض الوسط المسيحي اللبناني لحالة من النفور الداخلي جراء العناية الفرنسية الخاصة بطائفة مسيحية واحدة فقط (المارونية)؛ مما دفع بالروم الأرثوذكس إلى عدم إظهار ولائهم الكامل للدولة التي سيطر عليها الموارنة، رغم أن الروم دعموا الموارنة في إقامة دولة مسيحية داخل لبنان، ولم تكتف فرنسا بسلخ مناطق عن سورية، وضمها إلى لبنان - الدولة التي يهيمن عليها المسيحيون- بل عمدت إلى تقسيم سورية نفسها إلى دويلات، على أساس طائفي، وعيّنت عليها حكاماً فرنسيين.
فأنشأت دولة في جبل الدروز، وأخرى في اللاذقية وجبال العلويين، ودولة في لواء الإسكندرونة، وأخرى في الداخل السوري. وقد وجدت السياسة الفرنسية أرضاً خصبة في لبنان، ولاسيما بين زعماء المسيحيين، الذين استماتوا في المطالبة بالانتداب الفرنسي؛ مما أشعر سكان المناطق، التي سلخت عن سورية، وضمت إلى لبنان، بالظلم الذي سيلحق بهم، من جراء تسلط الانتداب الفرنسي، ومحاباته لفئة من أبناء وطنهم.
كذلك لم يترك الفرنسيون مجالاً لزرع الفتن بين الطوائف، إلاّ استغلّوه. فلم يترددوا في سياسة قهر المناطق الإسلامية، وحرمانها أبسط حقوقها الاقتصادية، في مقابل تنمية المناطق والقطاعات، التي تتلاءم مع أهدافهم التجارية، فحصل المسيحيون منها على نصيب الأسد..ولم يقتصر هدف الاستعمار الفرنسي على السيطرة على الاقتصاد، ونهب خيرات البلاد، وتصريف المنتجات فقط، وإنما عمد إلى إعداد بنية اجتماعية، فيها من التناقضات، ما يسمح له بالبقاء فترة طويلة. وجاءت ظروف الانقسام الطائفي، لتشكل لهذا الاستعمار أرضاً خصبة، تمكنه من تعميق التباعد بين الطوائف، على الصعيد، الثقافي والاجتماعي والسياسي. وبذلك تكون الطائفية سبب الاختلاف الاجتماعي ونتيجته..فالنضال ضدها كان يفرض استعمال كل الوسائل لخلق جيل موحَّد، ذي وطنية حقة، وهو ما عملت عكسه الإرساليات والمدارس الأجنبية؛ إذ جعلت الولاء أولاً للطائفة، وليس للوطن، ثمّ لهذه الدولة الاستعمارية أو تلك.
كذلك المؤسسات التعليمية الوطنية الطائفية التي كان معظمها يتلقى المساعدات الأجنبية ويوفَد إليها أساتذة التعليم، وكان تلاميذها يتقدمون لنيل الشهادات الأجنبية، وأغلبيتها الساحقة كانت مسيحية قدرت بنحو 650 مدرسة عام 1900م ؛ وكان التغلغل الثقافي، من طريق الإرساليات، وجهاً من وجوه الاستعمار. أدى إلى إرساء الطائفية وترسيخها في البنية الاجتماعية، حتى أصبحت عقيدة لها أتباع ومدافعون في جمعيات وأحزاب وتنظيمات، بل لها فلاسفة يبررونها، ويعزون إليها وجود لبنان، حسب ما جاء في الدراسة التي نشرها موقع (يا بيروت) بعنوان (التركيبة اللبنانية).
الدور الإسرائيلي في لبنان:
في 29 يوليو 1937م قال رئيس وزراء إسرائيل الأسبق بن جوريون - تعليقاً على لجنة بيل -: "إن إحدى الميزات الأساسية في الخطة الصهيونية، هي أنها تجعل لنا حدوداً مشتركة مع لبنان. فهو الحليف الطبيعي لفلسطين اليهودية. وهو محاط، مثلنا، ببحر إسلامي. وهو، مثلنا، جزيرة حضارية في صحراء بدائية. ولذلك، فلبنان في حاجة إلى دعمنا وصداقتنا، قدر ما نحن في حاجة إلى دعمه وصداقته. وسوف تجد الدولة اليهودية فيه حليفاً وفياً، منذ اليوم الأول لوجودها. ولن يكون مستبعداً أننا سنجد، عبْر لبنان، الفرصة لتوسيع عملنا مع جيراننا".
ولإسرائيل مطامع معروفة في جنوبي لبنان حتى نهر الليطاني تحدث عنها حاييم وايزمان في مؤتمر باريس قبل قرن من الزمان. فضلاً عما كشفته الرسائل المتبادلة بين بن جوريون وموشي شاريت (زعيم صهيوني) وإلياهو ساسون (مسؤول إسرائيلي سابق)، موضحة أن بن جوريون اقترح، عام 1954م، العمل على إنشاء دولة مارونية مستقلة في لبنان، وأن ذلك يخدم مصالح إسرائيل. ولكن موشي شاريت، عارض الفكرة. أمّا ساسون، فأبدى شكوكه في إمكانية تحقيق ذلك.
إذا كان هذا هو الموقف في الماضي، فإن الموقف، قبْل الحرب الأهلية مباشرة، عبرت عنه جريدة (هاآرتس) الإسرائيلية، في يناير عام 1975م، حين رأت أنه يجب على إسرائيل، أن تدرس الوسائل الفاعلة، لدفع نظام الحكم في لبنان إلى العمل على تقليص عمليات "المخربين" من أراضيه. وأوضح تعليق لحاييم هرتسوج، من إذاعة إسرائيل، بعد خمسة أيام، أن هناك شعوراً بأن النشاط العسكري الإسرائيلي في جنوبي لبنان، ليس فاعلاً. ولذلك، كان لا بدّ من البحث عن وسيلة أخرى. ويذكر إسحاق رابين، بعد اندلاع الحرب الأهلية، وكان رئيساً للوزارة الإسرائيلية، "أن الحرب اللبنانية، قد تركت المستعمرات الإسرائيلية على الحدود اللبنانية تحس بالأمان".
وذلك يعني - بحسب الدراسة اللبنانية السابق ذكرها-:
* أن إسرائيل ترى في موقف الموارنة حليفاً طبيعياً، منذ البداية. -* أن نشوء دولة للموارنة في لبنان، هو في مصلحة إسرائيل، التي سعت إلى تحقيقه. -*أن إسرائيل تفهمت جيداً سلبيات تجربة الحكم في لبنان، فأمكنها التعامل معها. -* أن استمرار أزمة لبنان، يحقق لإسرائيل الراحة والأمان من العمل الفدائي. -* أن ما طرحه بيار الجميل، في يناير 1975، على الساحة اللبنانية، هو عينه ما طالبت به إسرائيل.
ودحضت حقائق عدة نفي إسرائيل لأي دعم أو تنسيق، بينها وبين (الجبهة اللبنانية) (تحالف من عدة أحزاب). لعل أولاها الاجتماعات بين قيادة الجبهة وإسرائيل، إثر زيارة شربل القسيس، رئيس الرهبانيات، إلى إسرائيل، في 5 أبريل 1975م، والتي انتهت مساء 13 أبريل، أي بعد ساعات من مذبحة عين الرمانة. ثم متابعة الاجتماعات، من طريق البحر، في إسرائيل، أو في ميناء جونيه، البلدة التي عدتها (الجبهة اللبنانية) عاصمة لها. وقد أعلن عبد الحليم خدام، وزير خارجية سورية آنذاك، أن كميل شمعون (ثاني رئيس للبنان بعد الاستقلال) اتصل بإسرائيل أربع مرات، حتى 10 يناير 1976م، وأن شمعون بيريز - وزير دفاع إسرائيل سابقا - زار جونيه 3 مرات، آخرها كان في 10 أغسطس 1977م، واجتمع خلالها بكميل شمعون.
وكانت أولاها في مايو 1976م، حين تحركت ثلاث سفن صاروخية، من ميناء حيفا إلى جونيه، وكانت إحداها تحمل إسحاق رابين، رئيس وزراء إسرائيل، وشمعون بيريز، وزير الدفاع. وانضم إليها سفينتان، تحمل الأولى كميل شمعون، وكان وزيراً للداخلية. والأخرى تحمل بيار الجميل، ويقودها رجال الضفادع البشرية الإسرائيليين. كما أن الزعيمين رفضا التقاء رابين معاً. وقد طلب كلٌّ منهما التدخل الإسرائيلي المباشر في الحرب الأهلية.
وقدرت المساعدات الإسرائيلية لـ(الجبهة اللبنانية) بما قِيمته 35 مليون دولار، مساعدة مباشرة، ترتفع إلى 100 مليون، بالمساعدات غير المباشرة. ومنها نفقات فرض الحصار على الساحل اللبناني. وضمت قائمة الأسلحة، التي قدمتها إسرائيل إلى الجبهة، 110 دبابات، مع 5 آلاف بندقية آلية، علاوة على 12 ألف بندقية، إضافة إلى الملابس والمأكولات. ودربت إسرائيل في معسكراتها 1500 من متطوعي الجبهة. فضلاً عن أن ضباط إسرائيل كانوا على اتصال هاتفي مباشر مع قوات الجبهة.
وقد بلغ تدفق الأسلحة إلى (الجبهة اللبنانية) حدّاً، أقفل معه ميناء جونيه، في أول يوليو، لأسبوعين، أفرغت - خلالهما - سفينتا شحن إسرائيليتان حمولتهما من الأسلحة؛ إذ لم يقتصر دور السفن الإسرائيلية على شحن الأسلحة الإسرائيلية، بل تعداه إلى شحن أسلحة حلف شمال الأطلسي، المرسلة إلى الموارنة، وشاركتها في الشحن منظمة إيوكا القبرصية. وأكد دين براون، المبعوث الأمريكي إلى لبنان، أن إسرائيل قدمت المساعدات العسكرية إلى (الجبهة اللبنانية)، التي وجّه قادتُها خطاب شكر إلى وزير الدفاع شمعون بيريز، لدعمه قرى الجنوب اللبناني.
يتبع بإذن الله الجزء الثالث من التحليل

المصدر : http://www.awda-dawa.com/pages.php?ID=12419
إسم الموقع : مآساتنا و الحل عودة و دعوة
رابط الموقع : www.awda-dawa.com
رد مع اقتباس