عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 04-21-2009, 06:39 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي




نهاية عهد الفتوحات وبداية عهد الولاة


من أقصى بلاد المسلمين.. من دمشق .. من أمير المؤمنين " الوليد بن عبد الملك " تصل رسالة إلى موسى بن نصير وطارق بن زياد بأن يعودا أدراجهما إلى دمشق ولا يستكملا الفتح !!
أمر عجيب وغريب ! حزن له موسى بن نصير وأسف أشد الأسف ، لكن لم يكن بُدّا من الاستجابة والعودة كما أُمر .

ولنا أن نندهش مع موسى بن نصير لماذا هذا الأمر الغريب ؟! ولماذا كان في هذا التوقيت بالذات ؟! إلا أن هذه الدهشة سرعان ما تتبخر حين نعلم سبب ذلك عند الوليد بن عبد الملك ، وكان ما يلي :
1 - كان الوليد بن عبد الملك يشغله همّ توغل المسلمين بعيدا عن ديارهم ، فهو المسئول عن المسلمين الذين انتشروا في كل هذه المناطق الواسعة ، وقد رأى أن المسلمين توغلوا كثيرا في بلاد الأندلس في وقت قليل ، وخشي رحمه الله أن يلتف النصارى من جديد حول المسلمين ، فإن قوة المسلمين مهما تزايدت في هذه البلاد ، فهي قليلة وبعيدة عن مصدر إمدادها ، فأراد ألا يتوغل المسلمون أكثر من هذا .
٢- كان من الممكن للوليد بن عبد الملك أن يوقف الفتوح دون عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد ، لكن كان هناك أمر آخر عجيب قد سمعه الوليد بن عبد الملك جعله يُصرّ على عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق ، وهو أنه قد وصل إلى علمه أن موسى بن نصير يريد بعد أن ينتهي من فتح بلاد الأندلس أن يفتح كل بلاد أوروبا حتى يصل إلى القسطنطينية من الغرب.
كانت القسطنطينية قد استعصت على المسلمين من الشرق ، وكثيرا ما ذهبت جيوش الدولة الأموية إليها ولم تُوفّق في فتحها . وهنا فكر موسى بن نصير أن يخوض كل بلاد أوروبا ، فيفتح فرنسا ثم إيطاليا ثم يوغوسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم منطقة تركيا ، حتى يصل إلى القسطنطينية من جهة الغرب ؛ أي أنه سيتوغل بالجيش الإسلامي في عمق أوروبا منقطعا عن كل مدد . فأرعب هذا الأمر الوليد بن عبد الملك ، وفكر فيما لو احتاج هذا الجيش إلى مدد ؟ فالمدد على بعد شهور منه ، ويفصل بينه وبين بلاد المسلمين بحار وجبال وأراض واسعة ، فخشي الوليد بن عبد الملك على جيش المسلمين من الهلكة وعجل بأمر عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد .

هِمّـةٌ عاليـة !..


وهنا لا بد لنا أن نقف وقفة عند هذه الهمّة العالية التي كانت بادية عند موسى بن نصير ، خاصة إذا علمنا أنه عندما كان يفكر هذا التفكير كان يبلغ من العمر خمسة وسبعين سنة !!!.
فلله دره.. شيخ كبير ومع ذلك يجاهد في سبيل الله ويركب الخيول ويفتح المدينة تلو المدينة ، يحاصر أشبيليّة شهورا ويحاصر مرده شهورا ، ثم يفتح برشلونة وسرقسطة والشمال الشرقي ، ثمّ يتجه إلى الشمال الغربي ويتجه إلى الصخرة فيحاصرها ، ثم يريد أن يفتحها ويتجه إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها حتى يصل إلى القسطنطينيّة .
أي همّة هذه التي عند هذا الشيخ الكبير التي تجعله يفعل كل هذا ويؤمّل لهذا التفكير وسنهُ خمس وسبعون سنة ! إنه ليضرب المثل لرجالات المسلمين اليوم وشيوخهم الذين بلغوا سنه أو أقل منه وظنوا أنهم قد ( خرجوا على المعاش ) وانتهت رسالتهم بخروجهم هذا ، فهي رسالة واضحة لهم بأن رسالتهم في الحياة لم تنته بعد ، فمن لتعليم الأجيال ؟! ومن لتوريث الخبرات ؟! ومن لتصحيح المفاهيم ؟!
فقد بدأ موسى بن نصير فتح الشمال الإفريقي وقد تجاوز أكثر من ستين سنة ، أي تجاوز سن المعاش في زمننا هذا ، ثم وهو في سن الخامسة والسبعين يحزن حزنا شديدا ولكن على ماذا كان حزنه ؟
حزن أولا على أمر الوليد بن عبد الملك له بتركه أرض الجهاد ، فقد كان متشوقا جدا له ؛ ليتعرض للشهادة لكنها لم تصبه . ثم حزن ثانيا حزنا شديدا لأن الصخرة لم تفتح بعد ، ثم حزن ثالثا وكان حزنه أشد لأنه لم يستكمل حلم فتح القسطنطينية من قِبَل الغرب كما كان يتمنى .


عودة وأُمنية ..

لم يجد موسى بن نصير إلا أن يسمع و يطيع لأمر الوليد بن عبد الملك ، فأخذ طارق بن زياد وعاد أدراجه إلى دمشق ، وعندما وصل وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت ، وما هي إلا ثلاثة أيام حتى مات وتولى الخلافة من بعده أخوه سليمان بن الملك ، وكان على رأي أخيه في استبقاء موسى بن نصير في دمشق خوفا على هلكة جيش المسلمين في توغله داخل بلاد أوروبا نحو القسطنطينية .
وبعد عام من قدوم موسى بن نصير وسنة سبع وتسعين من الهجرة كان سليمان بن عبد الملك ذاهبا إلى الحج ، الأمر الذي وافق اشتياقا كبيرا من قِبَل موسى بن نصير ؛ فقد عاش في أرض الجهاد في شمال أفريقيا وبلاد الأندلس أكثر من عشر سنين لم يعد فيها مرة واحدة ، فما كان منه إلا أن رافق سليمان بن عبد الملك في طريقه إلى الحج في ذلك العام .
وفي طريقه إلى هناك قال موسى بن نصير : اللهم إن كنت تريد ليَ الحياة فأعدني إلى أرض الجهاد ، وأمتني على الشهادة ، وإن كنت تريد ليَ غير ذلك فأمتني في مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم. ووصل رضي الله عنه إلى الحج ، وبعد حجه وفي طريق عودته مات في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دفن مع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .

وهكذا كانت همم الصالحين وقلوب الموصولين برب العالمين، بلغ من العمر عِتِيّا إلا أنه قَدّم أكثر مما عاش ، ظل قلبه معلقا بحب ربه سبحانه وتعالى حتى دعاه فكانت الخاتمة وكانت الإجابة ، عاش بين الأسنّة في أقصى بلاد الأندلس إلا أنه مات بعد الحج في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلله دره من قائد وقدوة .

أما رفيق الدرب طارق بن زياد فقد انقطعت أخباره كلية عند هذه المرحلة عند عودته إلى دمشق مع موسى بن نصير ، ولا أحد يدري هل عاد مرة أخرى إلى الأندلس أم بقي في دمشق ؟! وإن كان هناك بعض الروايات التي لم يتوثق من صحتها تقول أنه توفي سنة مائة واثنتين أي بعد العودة من الأندلس بخمس أو ست سنين تقريبا ، لكن لم يعرف أفي دمشق أم في غيرها .


الصخرة .. والدرس الصعب

عاد موسى بن نصير وطارق بن زياد من الأندلس بعد أن تخطى المسلمون بلاد الأندلس ووصلوا بفتوحاتهم إلى غرب فرنسا ، إلا أنه كانت هناك منطقة صغيرة جدا في أقصى الشمال الغربي من بلاد الأندلس لم تفتح بعد ، ولم يخطر على بال أحد من المسلمين أنه سيأتي يوم ما وتكون تلك المنطقة هي نواة الممالك النصرانية التي ستنشأ فيما بعد ، وصاحبة اليد الطولى في سقوط الأندلس بعد ذلك بقرون .
تلك هي منطقة الصخرة التي لم يستكمل المسلمون فتحها وتهاونوا فيها ، وكان فيها طائفة كبيرة من النصارى ، و أغلب الظن أنه لو كان موسى بن نصير أو طارق بن زياد في هذا المكان ما تركوها ، إلا أننا نستطيع أن نقول : إن التهاون في أمر بسيط جدا قد يؤدي إلى ويلات عظيمة على مرور الزمن ، فلا بد أن يأخذ المسلمون كل أمورهم بالعزم والحزم وعدم الطمأنينة إلا في استكمال النهايات على أتمها .


التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 07-31-2009 الساعة 05:55 PM
رد مع اقتباس