مشكلة سبتة والعناية الإلهية
استطاع موسى بن نصير أن يتغلب على قلة عدد الجيش من خلال البربر أنفسهم ، كذلك تغلب على العقبة المتمثلة في قلة السفن نسبياً ببناء موانئ وسفن جديدة ، وبقيت أرض الأندلس كما هي أرضاً مجهولةً لهُ ، وكذلك ظلت مشكلة ميناء سبتة قائمةً لم تُحل ، وهي -كما ذكرنا - ميناءٌ حصينٌ جداً يحكمه النصراني يوليان ، وقد استنفد موسى بن نصير جهده وطاقته وفعل كل ما في وسعه ولم يجد حلاً لهاتين المشكلتين ، وهنا وفقط كان لابد للأمر الإلهي والتدبير الربانيُّ أن يتدخل : { إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } [الحج:38] . { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى } [الأنفال:17] . وهذا بالفعل ما حدث وتجسد في فعل يوليان صاحب سبتة وكان على النحو التالي :
- فكَّرَ يوليان جدياً في الأمر من حوله ، وكيف أن الأرض بدأت تضيق عليه وتتآكل من قِبَل المسلمين الذين يزدادون قوة يوماً بعد يومٍ ، وإلى متى سيظل صامداً أمامهم إن هم أتوا إليه ؟
- كان يوليان مع ذلك يحمل الحقد الدفين على لذريق حاكم الأندلس ذلك الذي قتل غيطشة صاحبه الأول ، وقد كان بينهما علاقات طيبة ، حتى إن أولاد غيطشة من بعده استنجدوا بيوليان هذا ليساعدهم في حرب لذريق ، ولكن هيهات فلا طاقة ليوليان بلذريق ولا طاقة لأولاد غيطشة أيضاً به ، ومن هنا فكان ثمة عداء متأصل بين صاحب سبتة وحاكم الأندلس ؛ ومن ثم فإلى أين سيفرُّ يوليان إن استولى المسلمون على ميناء سبتة ؟
- الأمر الأخير الذي دار في خلد يوليان هو أن أولاد غيطشة القريبين منه كان لهم من الضياع الضخمة في الأندلس الكثير والتي صادرها وأخذها منهم لذريق قاتل أبيهم ، وكان يوليان يريد أن يستردها لهم ، وكان لذريق أيضاً قد فرض على شعبه الضرائب الباهظة وأذاقهم الأمرّين ؛ فعاشوا في فقر وبؤس شديد بينما هو في نعيم دائم ومُلك يتصرف فيه كيف يشاء ؛ ومن هنا فكان شعبه يكرهه ويتمنى الخلاص منه .
عرضٌ ثمينٌ !!
ومن تدبير رب العالمين أن اختمرت هذه الأفكار جيدا ًفي عقل يوليان - وموسى بن نصير آنذاك قد استنفد جهده وحار في أمره - فإذا به يُرسل إلى طارق بن زياد والي طنجة (على بعد عدة كيلو مترات من ميناء سبتة ) برسل من قِبَله يعرض عليه عرضاً للتفاوض ، أما تدبير العناية الإلهية والمفاجأة فكانت في بنود هذا العرض وهذا الطلب العجيب الذي نص على ما يلي :
1 - نسلمك ميناء سبتة . تلك المعضلة التي حار المسلمون أعواماً في الاهتداء إلى حل لها؛ حيث كانت فوق مقدراتهم .
2 - نمدك ببعض السفن التي تساعدك في عبور مضيق جبل طارق إلى الأندلس . وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يقول : سأتم ما لم يستطع المسلمون إتمامه ووقفت عندهم قدراتهم ، حتى ولو كان ذلك من قِبَل أعدائهم ، وقد علمنا مدى احتياج موسى بن نصير لهذه السفن .
3 - نمدك بالمعلومات الكافية عن أرض الأندلس .
أما المقابل فهو : ضياع وأملاك غيطشة التي صادرها لذريق . وكان لغيطشة ثلاث آلاف ضيعة ( ضيعة تعني عقَارُ وأرضٌ مُغِلَّةُ ) ، وكانت ملكاً لأولاده من بعده ، فأخذها منهم لذريق وصادرها .
وبهذا العرض فقد أراد يوليان صاحب سبتة أن يتنازل للمسلمين عن سبتة ويساعدهم في الوصول إلى الأندلس ، ثم حين يحكمها المسلمون يسمع يوليان ويطيع ، على أن يرد المسلمون بعد ذلك ضيعات وأملاك غيطشة ، فما أجمل العرض وما أحسن الطلب ! وما أعظم السلعة وما أهون الثمن !
المسلمون لم يفكروا يوماً في مغنم أو ثروة أو مال حال فتوحاتهم البلاد ، لم يرغبوا يوماً في دنيا يملكها غيطشة أو يوليان أو لذريق أو غيرهم ، كان جلَّ هدفهم تعليم الناس الإسلام وتعبيدهم لرب العباد ، فإذا دخل الناس في الإسلام كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، بل لو لم يدخلوا في الإسلام وأرادوا دفع الجزية فحينئذ يُترك لهم كل ما يملكون ، وسنتحدث عن الجزية في الإسلام بعد قليل .
ومن هنا فكان الثمن هيناً جداً والعرض غاية الآمال ، فبعث طارق بن زياد إلى موسى بن نصير وكان في القيروان عاصمة الشمال الإفريقي آنذاك ( وهي في تونس الآن ) يخبره هذا الخبر، فسُرّ سرورا عظيما، ثم بعث موسى بن نصير بدوره إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يطلعه أيضاً الخبر ويستأذنه في فتح الأندلس .
وهنا أذن له الوليد بن عبد الملك إلا أنه شرط عليه شرطاً كان قد فكر فيه قبل ذلك موسى بن نصير نفسه، وهو : ألا تدخل بلاد الأندلس حتى تختبرها بسرية من المسلمين ، فمن أدراك أن المعلومات التي سيقدمها لك يوليان عن الأندلس ستكون صحيحة ؟ ومن يضمن لك ألا يخون يوليان عهده معك أو يتفق من ورائك مع لذريق أو مع غيره عليك ؟
التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 07-21-2009 الساعة 07:58 PM
|