7_ عبد الرحمن بن عوف
من الذين كتب الله لهم السعادة والمغفرة
وهم فى بطون أمهاتهم
يا تُرى من ذاك الرجل الذى فاز بتلك المنقبة العظيمة.
إنه مشهد مهيب يرويه ابنه.
فعن إبراهيم بن عبد الرحمن،قال:غُشىَ على عبد الرحمن بن عوف فى وجعه حتى ظنوا أنه قد فاضت نفسه،حتى قاموا من عنده، وجلَّلوه.فأفاق يكبِّر، فكبَّر أهل البيت،ثم قال لهم:غُشى علىَّ آنفاً؟ قالوا : نعم. قال: صدقتم! انطلق بى فى غشيتى رجلان أجد فيهما شدةً وفظاظة،فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين،فانطلقا بى حتى لقيا رجلاً،قال: أين تذهبان بهذا؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين.فقال: ارجعا،فإنه من الذين كتب الله لهم السعادة والمغفرة وهم فى بطون أمهاتهم، وإنه سيُمتَّع به بنوه إلى ما شاء الله، فعاش بعد ذلك شهراً(1).
إنه الصحابى الجليل عبد الرحمن بن عوف ،كان اسمه فى الجاهيلة عبد عمرو ، وقيل: عبد الحارث، وقيل : عبدالكعبة ، فسماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن.
أمة الشفاء بنت عوف أسلمت وهاجرت.
أسلم عبد الرحمن قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين ، وشهد المشاهد كلها ، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه فى غزوة تبوك(2).
هو أحد العشرة، وأحد الستة أهل الشورى ، وأحد السابقين البدريين،القرشى الزهرى.وهو أحد الثمانية الذين بادروا إلى الإسلام(3).
عفاف يعجر القلم عن وصفه
لقد كان من اهم الدعائم التى قام بها النبى صلى الله عليه وسلم دولته المسلمة تلك المؤاخاه التى أوجدها بين المهاجرين والأنصار
فعن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال:" لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع .قال لعبد الرحمن : غنى أكثر الأنصار مالاً فاقسم مالى نصفين ن ولى امراتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لى أطلقها ،فإذا انقضت عدتها فتزوجها. قال: بارك الله لك فى أهلك ومالك.أين سوقكم؟ فدلُّوه على سوق بنى قينقاع،فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغدوَّ يوماً، ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة . فقال النبى صلى الله عليه وسلم :" مهيم؟" قال: تزوجت.قال: كم سُقت إليها؟ قال: نواةً من ذهب_أو وزن نواة من ذهب_(4).
مكانتة فى قلب الصحابة- رضى الله عنهم-
لقد احتل عبد الرحمن بن عوف _رضى الله عنه_ مكانة سامقة فى قلوب الصحابة رضى الله عنهم.
فعن بن عباس_رضى الله عنهما_ قال: جلسنا مع عمر فقال: هل سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أمر به المسلم إذا سها فى صلاته،كيف يصنع؟ فقلت: لا والله ، أو ما سمعت أنت يا أمير المؤمنين من رسول الله فى ذلك شيئاً؟ فقال:لا والله.فبينا نحن فى ذلك أتى عبد الرحمن بن عوف فقال: فيما انتما؟ فقال عمر:سألته فأخبره. فقال له عبد الرحمن: ولكنى قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر فى ذلك. فقال له عمر: فأنت عندنا عدلٌ،فماذا سمعت؟قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إذا سها أحدكم فى صلاه حتى لا يدرى أزاد أم نقص،فإن كان شك فى الواحدة والثنتين،فليجعلها واحدة ،وإذا شك فى الثنتين او الثلاث، فليجعلها ثنتين، وإذا شك فى الثلاث والأربع،فليجعلها ثلاثاً حتى يكون الوهمُ فى الزيادة، ثم يسجد سجديتيت، وهو جالس،قبل أن يسلم، ثم يسلم(5).
جملة من مناقبة- رضى الله عنه-
*عن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك.قال(المغيرة): فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبلَ الغائك، فحملت معه إداوة قبل صلاة افجر،فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىَّ أخذت أهريق على يديه من الإداوة وغسل يديه ثلاث مرات ثم غسل وجهه ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه فضاق كُمَّا جبته فأدخل يديه فى الجبة حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبة وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثم توضأ على خفيه ثم أقبل.قال المغيرة:فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدَّموا عبد الرحمن بن عوف فصلى لهم فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة،فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته فأفزع ذلك المسلمين فأكثروا التسبيح فلما قضى النبى صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال:"أحسنتم" أو قال:"أصبتم" يغبطهم أن طلوا الصلاة لوقتها(6).
*ومن مناقبه أن النبى صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة ، وأهل بد الذين قيل لهم "اعملوا ما شئتم"...ومن أهل هذه الآية:{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَك َتَحْت َالشَّجَرَة} (الفتح:18)
* وعن سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف،فقال:"أثبت أُحد! فإنما عليك نبىٌ أو صدِّيقٌ أو شهيدٌ"(7).
إنفاقة فى سبيل الله
لقد عاش الصحابة رضى الله عنهم مع كل آية من آيات القرآن الكريم،بل تعايشوا معها.
فها هو عبد الرحمن بن عوف يستمع إلى قولة تعالى:{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}(آل عمران:92)
فيسرع الخُطا لينفق ماله لله_جل وعلا_ رغبة فيما عند الله وزهداً فى تلك الدنيا الفانية التى لا تساوى عند الله جناح بعوضة.
فعن أبى هريرة_رضى الله عنه_قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خيركم خيركم لأهلى من بعدى" قال(1) فباع عبد الرحمن بن عوف حديقة بأربع مائة ألف قسمها فى أزواج النبى صلى الله عليه وسلم(8).
بل لقد تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله،ثم تصدق بعد بأربعين ألف دينار،ثم حمل على خمسمائة فرس فى سبيل الله وخمسمائة راحلة، وكان اكثر ماله من التجارة وقيل:إنه أعتق فى يوم واحد ثلاثين عبداً(9).
زهده فى الدنيا ومحاسبته لنفسه
عن سعد بن إبراهيم عن أبيه:أن عبد الرحمن بن عوف _رضى الله عنه_ أُتى بطعام،وكان صائماً،فقال:قُتل مصعب بن عمير_رضى الله عنه_ وهو خير منى كُفّن فى بُردة، إن غطى رأسه بدت رجلاه،وإن غطى رجلاه بدا_أى ظهر رأيه_وأراه قال: وقُتل حمزة_رضى الله عنه_ وهو خير منى، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بسط،أو قال:أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عُجِّلت لنا، ثم جعل يبكى حتى ترك الطعام(10).
زهده فى الإمارة والخلافة
وعن عبد الرحمن بن أزهر أن عثمان اشتكى رُعافاً،فدعا حُمران فقال:أكتب لعبد الرحمن العهد من بعدى.فكتب له، وانطلق حمران إلى عبد الرحمن،فقال: البُشرى.قال:وما ذاك؟قال:إن عثمان قد كتب لك العهد من بعده.فقام بين القبر والمنبر،فدعا فقال: اللهم إن كان من تولية عثمان إياىّ هذا الأمر،فأمتنى قبله.فلم يمكث إلا ستة أشهر حتى قبضة الله(11).
تواضعه_رضى الله عنه_
عن سعد بن الحسن التميمى،قال: كان عبد الرحمن بن عوف لا يُعرف من بين عبيده.يعنى:من التواضع فى الزِّىِّ.
رضى الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين علموا فعملوا..علمو قول رسولهم صلى الله عليه وسلم:" البذاذةُ من الإيمان"(12). والبذاذةُ:دون اللباس والتواضع، ورثاثة الثياب فى الملبس والمفرش.
الدعوة إلى الله
أخرج الدارقطنى عن بن عمر_رضى الله عنهما_قال:دعا النبى صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف_رضى الله عنه_فقال:"تجهَّزْ فإنى باعثك فى سرية". فذكر الحديث، وفيه:فخرج عبد الرحمن حتى لحق بأصحابه،فسار حتى قدم دومة الجندل،فلمّا دخلها دعاهم إلى الإسلام ثلاثة أيام،فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبى_رضى الله عنه_وكان نصرانياً وكان رأسهم.فكتب عبد الرحمن مع رجل من جُهينة_يقال له رافع بن مكيث_إلى النبى صلى الله عليه وسلم يخبره،فكتب إليه النبى صلى الله عليه وسلم،أن تزوج ابنة الأصبغ،فتزوجها، وهى تماضر التى ولدت له بعد ذلك أبا سلمة بن عبد الرحمن(13).
وحان وقت الرحيل
وها هو يرحل بكل هدوء بعد حياة طويلة مليئة بالبذل والعطاء والتضحية والجهاد فى سبيل الله بالنفس والمال.
عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده أنه قال: سمعت علىّ بن أبى طالب يقول يوم مات عبد الرحمن:اذهب بن عوف فقد أدركت صفوها وسبقت رنقها(14).
عاش رضى الله عنه خمساً وسبعين سنة، وتوفى سنة اثنتين وثلاثين ودُفن بالبقيع وصلى عليه عثمان
فرضى الله عنه وعن عثمان وعن سائر الصحابة أجمعين
________________________________
(1)أخرجة الفسوى فى المعرفة والتاريخ(1/367)، واخرجه الحاكم(3/307)،وأخرجه بن سعد(3/1/95) وذكره الحافظ فى المطالب العليه(4007) وذكره صاحب الكنز(36689)
(2) صفة الصفوة(1/142)
(3)السير للإمام الذهبى(1/68)
(4)أخرجه البخارى(7/140) مناقب الأنصار
(5)رواه احمد(1/190) والترمزى(398) والحاكم(1/324-325) وصححه ووافقه الذهبى.
(6)أخرجه مسلم(274) وأبو داواد(152) وأحمد(4/249-250)
(7)رواه احمد(1/188-189) وأبو داود(4648) فى السنن والترمزى(3758) فى المناقب ،وقال: هذا حديث حسن صحيح
(8)أخرجه الحاكم فى المستدرك(3/311-312) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبى.
(9)الإصابه للحافظ بن حجر(4/91)
(10)أخرجه البخارى(1275)
(11)سير أعلام النبلاء للذهبى(1/88)
(12)رواه أحمد وبن ماجه والحاكم عن أبى امامة الحارثى، وصححه الألبانى فى صحيح الجامع(2879)
(13)الإصابة فى تراجم الصحابة(1/108)
(14)قال الأرنؤوط:رواه الطبرانى فى الكبير(236) بإسناد صحيح. والرنق: الكدر