انا لله وانا اليه راجعون... نسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة لوالد ووالدة المشرف العام ( أبو سيف ) لوفاتهما رحمهما الله ... نسأل الله تعالى أن يتغمدهما بواسع رحمته . اللهم آمـــين

العودة   منتديات الحور العين > .:: المنتديات العامة ::. > التاريخ والسير والتراجم

التاريخ والسير والتراجم السيرة النبوية ، والتاريخ والحضارات ، وسير الأعلام وتراجمهم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-11-2008, 10:09 AM
هجرة إلى الله السلفية هجرة إلى الله السلفية غير متواجد حالياً
رحمها الله رحمة واسعة , وألحقنا بها على خير
 




Islam ابن عثيمين كما عرفته

 

محاضرة
ابن عثيمين كما عرفته



لفضيلة الشيخ

خالد بن عبد الله المصلح











بسم الله الرحمن الرحيم

إِنَّالْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستغفره،وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرور أنُفْسِنَا وسَيئاتِ أعْمَالِنَا، مَنْيَهْدِهِاللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدَُأَنَّمُحَمَّدًا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ، وصفيه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنّ سير العلماء والنبلاء والصالحين وأخبارهم من أعظم ما تحيا به القلوب، ومن أعظم ما تحيا به الأرواح، وقصصهم وخبرهم يدخل في قول الله تعالىٰ:﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ([1]). فالنظر في هـٰذه السير والسماع في أخبار من غبر من سلف الأمة من أئمة الدنيا وأعلامها خير دواء للقلوب وخير جِلاء للألباب.
أيها الإخوة الكرام: إن سير السلف تفيد الناظر فيها فائدة عظيمة، فالنظر في سير العلماء والنبلاء والتعرف على مآثرهم وأخبارهم من أعظم ما يبعث في النفوس الاقتداء بهم والاهتداء بهم، فإن ذلك يمثل ترجمة عملية لما يحملونه من الحق والهدى.
قال أبو حنيفة رحمه الله: الحكايات عن العلماء أحب إليّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم، ولذلك لما قص الله تعالىٰ على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصص جملة من الأنبياء قال بعد ذلك: ﴿ أُولَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ([2]).
إن التشبه بالكرام فلاح



فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم



أيها الإخوة الكرام: إن من أعظم ما يجريه الإنسان بنظره في سير العلماء وأخبار والصالحين أن يقيس ما معه من الصلاح والإيمان، فسير هٰؤلاء معيار يزن به الإنسان ما معه من الصلاح، يقيس به ما معه من الاستقامة، يقيس به ما معه من العمل بالكتاب والسنة.
ولذلك قال حمدون النيسابوري رحمه الله: من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال.
أيها الإخوة: إن تاريخ الأعلام والترجمة للأئمة لا ينحصر في التأريخ لمولد أحدهم ولموته، وأعظم ما كان من حوادث زمانه، فإن هـٰذا أمر يشترك فيه جماعة كثيرة من الناس، وليس هـٰذا مما تجنى منه العبر، ولا مما تحصل منه الفوائد؛ فإنه أمر يلجه كل إنسان ويرد على كل واحد منا؛ لكن المهم في هـٰذه السير هو إبراز جوانب القدوة التي نراها في أشخاص هٰؤلاء، وفي سيرهم وأخبارهم.
إلا أنه من الضروري أن يقدم المرء بمقدمة يكون فيها شيء من البيان والتوضيح لبعض أخبار هٰؤلاء مما يتعلق بمولدهم وموتهم.
أيها الإخوة الكرام: بين يدي حديثي عن شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، أذكر أنه ولد رحمه الله ليلة سبع وعشرين من رمضان عام 1347 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وقد توفي رحمه الله في آخر يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال عام 1421هـ في مدينة جدة، وصلي عليه رحمه الله في عصر يوم الخميس التالي، ووُوري جثمانه الثرى في مقبرة العدل رحمه الله رحمة واسعة، ونسأل الله جل وعلا أن يجعل قبره روضة من رياض الجنة وأن يخلف على الأمة خيراً في فقدها هـٰذا العَلَم وهذا الإمام الكبير.
أيها الإخوة الكرام: إن جوانب القدوة في حياة العلماء، إن جوانب الأسوة في حياة الأئمة لا تنحصر في ناحية من نواحي حياتهم؛ بل ما أشبه الواحد منهم بما قاله الشاعر:
فلجَّته المعروف والجود ساحله



هو البحر من أي النواحي أتيته



شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله واحد من أولئك الأعلام النبلاء ومن العلماء الفضلاء، كان رحمه الله كالغيث يستبشر به الناس إذا أقبل عليهم، وينتفعون به إذا حل عندهم وتبقى آثاره فيهم إذا رحل عنهم:

هو الغيث يعطي كل غادٍ ورائحٍ عطاءً جزيلاً لا بكيئاً ولا نشفا

أيها الأحبة الكرام: لما كانت جوانب القدوة في حياة شيخنا رحمه الله كثيرة متنوعة، فهو رحمه الله نموذج لعالم عامل بعلمه في دقيق الأمر وجليله، صدق فيه قول الشافعي رحمه الله:
ليس الفقيه بنطقه ومقاله



إن الفقيه هو الفقيه بفعله




لما كانت حال شيخنا رحمه الله على هـٰذه الحال من أن سيرته متعددة الجوانب، وأن جوانب القدوة والأسوة فيها ليست منحصرة في صورة من الصور، فإنني انتخبت من تلك الجوانب ما أرى أن من المهم على طالب العلم وعلى المسلم سواء كان طالب علم أو غيره أن يتنبه إليه وأن يستفيد منه.
شيخنا رحمه الله له شأن عظيم مع كتاب الله تعالىٰ.
شيخنا صاحب تلاوة لكتاب الله تعالىٰ، كان رحمه الله حريصاً على تعاهد القرآن، عملاً بوصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسىٰ الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها))([3]). فكان رحمه الله عاملاً بهذه الوصية.
كان يختم القرآن في الشهر مرتين في غير رمضان، أما في رمضان فكان يختمه كل ثلاثة أيام، ثم لما كثرت أشغاله كان يختمه رحمه الله في كل عشرة أيام.
ومما حفظته من وصاياه رحمه الله في هـٰذا أنه من كان له حزب فليبادر به أول النهار، وهذه وصية نافعة لمن جربها، وهي وصية عالم مجرب، من كان له حزب من القرآن يقرؤه في كل يوم فليحرص على أن يكون ذلك في أول اليوم، فإنه أعون له في إدراك حزبه، وقد كان رحمه الله يقرأ حزبه في طريقه إلىٰ المسجد غدوةً وعشيّاً، وكان رحمه الله يقرأ ما بقي من حزبه في أول نهاره في أول ضحاه.
أيها الإخوة الكرام: إن العلماء في قراءتهم للقرآن ليسوا كغيرهم، لم يكونوا في قراءتهم كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب.
شيخنا من هـٰذا الصنف الذي كانت قراءته تدبراً وتفسيراً لكتاب الله تعالىٰ، فمما كان يتميز به رحمه الله في قراءته للقرآن أن قراءته كانت قراءة مفسرة للقرآن؛ فيقف حيث يكون الموقف اللائق، وكان يؤكد على ذلك في توجيهاته وفي وصاياه ونصائحه.
وآخر ما حفظته عنه ما ذكره في تفسير سورة الأنعام حيث قال رحمه الله: تجد كثيراً من الناس يقرأ القرآن قراءة مرسلة ولا ينتبه للمواقف. يقول رحمه الله: ونحن تعلمنا هذا -أي تعلمنا الوقوف عند المواقف والقراءة المتدبرة- من شيخنا عبد الرحمـٰن بن ناصر السعدي رحمه الله، كان يقوم بنا في رمضان في التراويح والقيام ويقف المواقف اللائقة، فنتعجب كيف هـٰذا -أي نتعجب من مواقفه يعني كيف يقف هـٰذا-، يقول: وكنا نقرؤه قراءة مرسلة.
وإن المدرك لشيخنا رحمه الله وكيف كانت قراءته في صلاته، لا سيما في صلاة التراويح، يرى ترجمة هـٰذا في واقعه، فإن الشيخ رحمه الله على شدة حرصه على ختم القرآن في صلاة التراويح والقيام؛ إلا أن ذلك لم يكن حاملاً له على إهمال هـٰذه الوصية والنصيحة.
فكان رحمه الله يقف عند المواقف اللائقة يذكر بها معاني هـٰذا الكتاب، وأن المقصود من كلام الله عز وجل ليس الهذ وليس القراءة المرسلة التي لا تدبر فيها ولا اتعاظ.
إنه رحمه الله كان يفسر القرآن بقراءته، وكان يعجبه القارئ الذي يقوم بها، فكان تعجبه قراءة عبد الرحمن السديس على سبيل المثال لكونه يفسر القرآن بقراءته فيقف عند المواقف اللائقة.
أيها الإخوة الكرام: إن شيخنا رحمه الله من جوانب حياته مع القرآن، أن القرآن استوعب حياته، فسلوكه ترجمة للقرآن، عمله وأخلاقه ترجمة لما في كتاب الله تعالىٰ من الوصايا والنصائح.
وإنني كثيراً ما كنت أذكر قول عائشة لسعد بن هشام بن عامر لما سألها: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت له معلمة مؤدبة: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان القرآن([4]).
عندما أرى شيخنا رحمه الله يترجم ذلك سرعان ما يتبادر إلي هـٰذا الحديث وهذا الجواب من عائشة رضي الله عنها، فإن شيخنا رحمه الله كان يترجم القرآن ويفسره في قوله، في عمله، في حاله، في معاملته.
وشواهد هـٰذا الجانب المشرق من حياة شيخنا رحمه الله كثيرة لا أكاد أحصيها، إلا أنني أذكر شواهد ما زالت عالقة بذهني مما يتكلفه بعض الناس، وكان شيخنا رحمه الله يجري منه هـٰذا التفسير سجية دون تكلف:
ذهبت معه مرة إلىٰ المعهد العلمي في محاضرة من المحاضرات التي ألقاها في المعهد رحمه الله، ولما خرجنا من المعهد كان حارس المعهد فرحاً بمجيء الشيخ وحريصاً على توديعه، فكان واقفاً عند الباب على هيئة المبتهج المسرور يودع الشيخ، فكان يودعه بصوته وفعله حتى إنه كان يقول للشيخ هكذا يرفع يديه على هيئة المودع للشيخ، وكان الشيخ بجانبي فالتفت فإذا هو يبادل الرجل نفس الإشارة التي فعلها الرجل، ثم التفت إلي رحمه الله فقال: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا([5]). إن هـٰذا المعنى الذي يترجمه عالم في حياته ومعاملته أمر يغيب عن كثير من الناس.
وإنني أذكر أننا دخلنا مجلساً من المجالس وفيه أحد الإخوان، فسلّم الشيخ رحمه الله على هـٰذا الأخ بصوت جليّ علي واضح -كعادته رحمه الله في إفشاء السلام وإظهاره والاحتفاء به- أظهره واضحاً مسموعاً، فرد الأخ الذي كان في المجلس ردّاً خافتاً فيه نوع موت، ولعل ذلك راجع إلىٰ أن الأخ وفقه الله كان فيه حياء يستحيي من رفع صوته، فقال له الشيخ موجهاً: ارفع صوتك! قال الله تعالىٰ: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا([6]).
أيها الإخوة الكرام: في إحدى المرات في هـٰذا السياق- وهو بيان الترجمة العملية للقرآن في واقع شيخنا رحمه الله- جاء شيخنا رحمه الله إلىٰ بلد كنت فيها، وجرت عادته رحمه الله أنه إذا ذهب إلىٰ بلد فيها أحد معارفه أو أقاربه أن يتصل به ويخبره بمجيئه حتى يقوم ذلك بحقه، وحتى يكون فيه جبر لخاطره وبيان للعناية به، فجاء في مرة من المرات إلىٰ بلد كنت فيها ولم يكن قد أخبرني رحمه الله، فلما وصل اتصل وأخبر بحضوره إلىٰ تلك البلدة، فقلت له: سلمك الله يا شيخ لِم لَم تخبرنا؟ وكأنه فهم رحمه الله أنها صيغة معاتب أو أنها عبارة عتاب. فقال رحمه الله ببديهته وجوابه الحاضر: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ([7]). وفي هـٰذا أيها الإخوة إشارة إلىٰ معنى مهم وأدب رفيع يستريح به الإنسان ويريح في معاملة الناس، وهو أمر كان الشيخ رحمه الله يركز عليه ويؤكده، وكان يمتثله واقعاً في حياته: أنه لا يكلف الناس أكثر مما جادت به قرائحهم.
فمن أخذ بهذا وعمل به وقبل من الناس ما سمحت به أنفسهم وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق دون أن يكلفهم ما لا يتيسر كان ذلك سعادة له وسعادة لمن يعامله.
أيها الإخوة: إني أذكر أن شيخنا رحمه الله في إحدى المرات التي كنّا قد رجعنا فيها من زيارة أحد الإخوان، بحثنا في كلام ليس له صلة لا بالتفسير ولا بالعلم، إنما كلام مرسل، وجاء في أثناء هذا الكلام أن قلت لشيخنا رحمه الله قبل نزوله: ﴿وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)([8]). فالتفت إلي قبل أن يفتح باب السيارة فقال لي: انتبه! قال الله تعالىٰ: ﴿وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا. جاء بها القرآن على صيغة الجملة الاسمية لبيان دوام علو كلمة الله على كل كلمة.
هل يا إخواني نحن ممن يتذوق هـٰذه المعاني في أثناء قراءته؟ في أثناء سماعه لقرآن رب العالمين وكلامه جل وعلا؟ إن هـٰذا في حياة كثير من طلاب العلم- فضلاً عن غيرهم من عامة الناس- قليل نادر.
أيها الإخوة: إن من النواحي التي لا بد من التنبيه إليها وهي مما يتعلق بحياة شيخنا مع القرآن أن الشيخ رحمه الله امتثل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))([9]). فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الفضيلة والسبق في تعلم القرآن وتعليمه والبذل فيه.
وكان شيخنا رحمه الله له في هـٰذا الجانب ما ليس لغيره، فقد باشر التعليم للقرآن في دروسه التي في جامعه؛ بل كان حريصاً على التعليق على كتاب الله تعالىٰ وعلى الآيات الحكيمة في دروسه التي في الحرمين، وكان كثيراً ما ينبه طلبة العلم إلىٰ وجوب الاعتناء بالتفسير والإقبال عليه؛ لما في ذلك من الفائدة الكبرى التي يغفل عنها أكثر طلبة العلم ويهتمون بأنواع من العلم وفروع من الفنون، وهم في الحقيقة يغفلون عن مصدر العلوم ومنبعها، كما قال تعالىٰ: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ([10]). أيها الإخوة إن شيخنا رحمه الله باشر ذلك بنفسه.
كما أنه أولى جمعيات تحفيظ القرآن عناية خاصة ليس في هـٰذه البلدة فحسب؛ بل عنايته طالت جميع ما يصله علمه من جمعيات، سواءٌ بالتأييد والمشاركة في حفلاتهم أو بالدعم المادي.
أما جمعية التحفيظ في هـٰذه البلدة المباركة في عنيزة فقد كان لها من اهتمام شيخنا رحمه الله النصيب الأكبر؛ فإن الشيخ رحمه الله أسس هـٰذه الجمعية ودعمها بأنواع من الدعم المادي والمعنوي، وسعى في تثمير إيراداتها وتكثير مصادر دخلها، وذلك حفاظاً على هـٰذه الجمعية، ولم يكن ذلك الاهتمام على وجه الرئاسة والتوجيه الإداري فحسب؛ بل كان يهتم بالجمعية من جهة مشاركة الحلقات وطلابها في حفلاتهم المصغرة فضلاً عن الاحتفال العام الذي يجري فيه تخريج من يخرج من الطلبة، إنما كان يذهب إلىٰ الحِلق، وكثيراً ما كنا نسمع مآذن المساجد تصدح بصوته ومشاركته لطلابه وأبنائه الذين يحتفلون بختم جزء أو ختم شيء من كتاب الله تعالىٰ.
أيها الإخوة الكرام: إن حديثنا عن شيخنا رحمه الله والقرآن طويل إلا أنني أقتصر على ما تقدم.
وأنتقل إلىٰ نقطة ثانية وهي: شيخنا وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إن من السمات البارزة التي تتجلى في شخصية شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعظيمه للسنة النبوية.
ويشهد الله أنني لم أر رجلاً كشيخنا رحمه الله في حرصه على العمل بالسنة في دقيق الأمر وجليله، فإنه رحمه الله قد فاق كثيراً من الناس -من العلماء فضلاً عن غيرهم- في حرصه على السنة، فشيخنا كان عظيم التحري لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في مأكله، في مشربه، في قيامه، في قعوده، في يقظته، في نومه، في هيئته، في لباسه، في معاملته، في سائر شأنه رحمه الله، كان شيخنا رحمه الله حريصاً على اتباع سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دقيق الأمر وجليله، وإنني انتخبت مظاهر تنبئ عن هـٰذا وإن كان الخبر أكبر من هـٰذه القصص؛ لكنها نماذج تبين شيئاً مما كان عليه شيخنا رحمه الله في إيثاره السنة والعمل بها.
أيها الإخوة الكرام: كان شيخنا رحمه الله يؤثر في لباسه لبس البياض صيفاً وشتاءً عملاً بما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم))([11]).وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وقال عنه الترمذي: حديث صحيح.
كان شيخنا رحمه الله كثيراً ما يعتذر عن ترك بعض السنن الظاهرة بسبب انشغاله، ومن ذلك تركه رحمه الله لسنة الخضاب، فإن الشيخ رحمه الله ترك ذلك لانشغاله، وكان إذا سئل: لماذا لا تخضب والسنة واضحة في الأمر بالخضاب؟ قال رحمه الله: إن لذلك مؤونة، وإن لذلك كلفة. وذلك يشغله عن ما هو أهم من الواجبات والسنن.
وكان يستأنس بقول الإمام أحمد لما سئل عن اتخاذ الشعر: هل هو سنة؟ فأجاب الإمام أحمد رحمه الله: سنة حسنة -أي اتخاذ الشعر سنة حسنة- ولو أمكننا اتخذناه، فاعتذر الإمام أحمد رحمه الله عن اتخاذ الشعر بأنه لا يمكنه فعله، وفي رواية أخرى قال رحمه الله: لو كنا نقوى عليه -أي على اتخاذ الشعر- لاتخذناه؛ ولكن له كلفة ومؤونة.
أيها الإخوة: لم أر شيخنا رحمه الله يأوي إلىٰ فراشه في يوم من الأيام إلا ويعمل بما أوصى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا أوى أحدكم إلىٰ فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه))([12]) أي ما طرأ على فراشه بعد مفارقته.
وكان شيخنا رحمه الله يحرص على فعل هـٰذا بطرف ثوبه أو بغُترته يمسح الفراش الذي ينام عليه عملاً بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أيها الإخوة: إن من الجوانب التي لا تكاد تخطئفيها هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنوار السنة النبوية، ما كان عليه شيخنا رحمه الله في عبادته، لا سيما في صلاته التي يدركها كل من صلى معه، فصلاة شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله نموذج حيّ للعمل بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه البخاري في حديث مالك بن الحويرث قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))([13]). فشيخنا رحمه الله تبصر السنة في قيامه، تبصر السنة في قعوده، في ركوعه وسجوده، في قراءته وأذكاره، وليس هـٰذا في صلاته إماماً بالناس فحسب؛ بل إنه رحمه الله كان على هـٰذه السجية وعلى هـٰذه الحال في مسجده وفي صلاته منفرداً في بيته.
أيها الإخوة الكرام: إن احتفاء الشيخ رحمه الله بالسنة لا يقتصر على هـٰذه الجوانب فحسب؛ بل كان رحمه الله في اختياراته العلمية وفي اجتهاده وفي اختياره للأقوال وترجيحه، كان يسعى إلىٰ ترجيح وأخذ ما دلت عليه سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يهمه في ذلك أن يخالف ما جرى عليه عمله قبل ذلك، أو قال به في زمن سابق، فهو رجاع إلىٰ الحق من غير تردد ولا استحياء.
شيخنا رحمه الله سمته البارزة أنه رجاع إلىٰ الحق من غير تردد ولا استحياء، إذا تبين له الحق وإذا تبينت له السنة.
وقد أخبرنا رحمه الله بأنه كان يرى في أول الأمر سنية جلسة الاستراحة، ثم إنه رحمه الله لما تأمل الأدلة وحال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبين له أنه إنما فعله لما كبر وأخذه اللحم، رأى رحمه الله أن هـٰذا إنما يكون سنة لمن كان محتاجاً إليه.
وإن مما نحفظه عنه رحمه الله أنه كان في صلاة الكسوف يخطب في أول الأمر جالساً، ثم إنه في مرة من المرات كسفت الشمس أو خسف القمر فقام الشيخ خطيباً، فبدأ بمقدمة قال فيها: إنه كان الذي عندي في خطبة الكسوف أنها تخطب جلوساً؛ لكن تبين لي أن ظاهر السنة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبها واقفاً، فلذلك وقفت.
هكذا أيها الإخوة يكون العالم الرباني الذي سلّم قياده لله ورسوله، ليس همّه ولا غرضه أن يكون قوله دائماً ثابتاً ولو كان الحق على خلاف ذلك؛ بل همه بيان سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أيها الإخوة الكرام: من مظاهر تعظيم شيخنا رحمه الله للسنة عمله بها والحرص على إظهارها والدعوة إليها، ولو كان ذلك مخالفاً لما اعتاده الناس، فإن الشيخ رحمه الله أظهر السنة في وقت كانت السنة فيه في بعض الجوانب خافية، وذلك أنه ظهر في أول ظهوره في وقت كان الناس يعظّمون فيه قول المذهب ولا يخالفونه في دقيق ولا في جليل، إلا أن الشيخ رحمه الله سلك في هـٰذا المسلك مسلك شيخه عبد الرحمـٰن بن ناصر السعدي رحمه الله ومسلك شيخه عبد العزيز بن باز رحم الله الجميع، فإنه سلك ذلك المسلك فكان لا يبالي في إظهار السنة إذا تبينت له؛ لكنه رحمه الله كان يؤكد على أهمية التفريق بين إظهار السنة ممن ليس عالماً معتبراً مقبولاً قوله، وبين إظهارها من أهل العلم الذين يصدر الناس عن أقوالهم ويأخذ الناس بآرائهم، فكان رحمه الله يوصي طلبة العلم ويوصي محبيه ويوصي الدعاة بأن يترفّقوا في إظهار السنة، لا سيما في البلاد التي لم تظهر فيها سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان الأمر على خلاف ذلك.
فكان يقول رحمه الله -لإخوانه الذين يشاورونه في إظهار سنن غير معروفة في بلدانهم-: ترفقوا بالناس، ابدؤوا أولاً ببيان السنة والترغيب فيها والحث عليها، ثم إذا وجدتم أن الناس قد لانت قلوبهم وقبلوا قولكم فلا بأس عند ذلك أن تعملوا بالسنة إظهاراً لها؛ لكن ينبغي أن لا يكون العمل بالسنة داعية إلىٰ التفريق بين الناس أو إيقاع البلابل بينهم، أو رد الحق الذي يدعوهم إليه مما هو أعلى من هـٰذا وأكبر.
أيها الإخوة الكرام: إن شيخنا رحمه الله كان يستشعر أنه إمام للناس، وكان يؤكد على هـٰذا وينبه عليه.
ومما جرى في ذلك أنه حدثنا في مرة من المرات أن أحد السائلين جاء إليه بعد صلاة من الصلوات، وقف الشيخ رحمه الله يصلي راتبة تلك الصلاة، فجلس هـٰذا الرجل ينتظر فراغ الشيخ من صلاته، فلما فرغ الشيخ من صلاته سأله ذلك الرجل عن تحريك الأصبع في التشهد متى يكون وكيف يكون؟ فأجابه الشيخ رحمه الله. فقال له السائل: لقد حسبت لك يا شيخ سبع عشرة مرة حركت فيها السبابة في تشهدك.
ثم قال لنا شيخنا رحمه الله -مستفيداً من هـٰذه القصة ومفيداً-: هـٰذا مما يؤكد الاعتناء بالسنة وإظهارها في حق من كان محط أنظار الناس يقتدون به وينظرون إليه.
فهكذا كان شيخنا رحمه الله يتعبد الله بإظهار السنة، ويتعبد الله بنقلها ونشرها للناس.
أيها الإخوة: إن شأن شيخنا رحمه الله مع السنة شأن يطول الحديث عنه؛ إلا أنني أقتصر على إلماحات وومضات تبين حرصه على السنة في عمله الخاص، كما أنه حريص على ذلك في عمله العام، فمن مظاهر حرصه على السنة مداومته على صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولم ينقطع عن هـٰذه السنة إلا في شعبان الذي تقدم وفاته؛ أي إنه قبل وفاته بشهر وبضعة أيام لم ينقطع عن عمل هـٰذه السنة والعمل بها إلا لما أنهكه المرض، رحمه الله وجعل ما أصابه رفعةً في درجاته وعلوّاً في منزلته.
أيها الإخوة: وحرصه على هـٰذا امتثال لوصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي هريرة وأبي ذر وأبي الدرداء، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى ثلاثة من أصحابه أن يصوموا ثلاثة أيام من كل شهر.
من مظاهر السنة في حياته الخاصة رحمه الله لعق الصحفة والأصابع، فقلّ أن يقوم الشيخ من مكانه الذي أكل منه إلا وتجده قد عمل بهذه السنة لعق أصابعه ولعق ما يليه من الصحفة، روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: ((إنكم لا تدرون في أيه البركة))([14]) أي في أي طعامكم البركة.
ومن هديه الظاهر الذي يدركه كل أحد عاشر الشيخ وعرفه حرصه على الشرب قاعداً، فإنه رحمه الله كان يحرص على ذلك في مجمع الناس وفي انفراده وفي السوق وفي كل مكان يتسنى له أن يجلس، فكان رحمه الله إذا أراد الشرب قعد، كما روى أنس بن مالك وأبو سعيد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه زجر عن الشرب قائماً([15])، فكان الشيخ رحمه الله حريصاً على تطبيق هـٰذه السنة إلا إذا تعذر ذلك لحاجة أو عارض.
أيها الإخوة: إن مما كان الشيخ رحمه الله يحرص عليه من العمل بالسنة في خاصة نفسه التصبح بسبع تمرات؛ لما روى البخاري ومسلم من حديث سعد بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر))([16]). وكان الشيخ رحمه الله يرى كما هو رأي شيخه عبد الرحمـٰن السعدي أن ذلك لا يختص تمر العجوة، بل يشمل كل تمر يتيسر للإنسان أكله.
أيها الإخوة: إن شيخنا رحمه الله له شأن عظيم مع الليل؛ فإنه لم يترك قيام الليل فيما أحفظ عنه لا في سفر ولا في حضر، كان رحمه الله حريصاً على قيام الليل، وعلى أن يأخذ من الليل نصيباً يتقرب فيه إلىٰ الله عز وجل، يناجي فيه ربه يطرح عليه مسائله، ويُنزل به حاجته ويستلهمه ويستهديه ويطلب منه ما عنّ له من الحوائج، فهو الكريم المنان الذي يعطي عطاءً واسعاً ويجزل العطاء.
كان رحمه الله يحرص على قيام الليل حسب ما يتيسر له، ليس له في ذلك ساعة محددة؛ أي ليس له وقت محدد من ساعة أو أكثر أو أقل، إنما كان ذلك على حسب ما يتيسّر له؛ لكن كان لا يخل بصلاة شيء من الليل في آخره.
وإنه رحمه الله كان يسهر الليل في تعليمٍ أو تعلم أو تدريس أو نظر في حوائج الناس، ومع ذلك لم يمنعه ذلك من أخذ نصيب من الليل.
وإنني لا أحفظ في سفر أو حضر أنه نام على غير وضوء؛ بل إنه رحمه الله كان يتوضأ قبل نومه ثم يصلي ما يسر الله له، ثم بعد ذلك يأوي إلىٰ فراشه.
وكان رحمه الله إذا أرق ولم يبادر النوم إلىٰ عينه بسبب انشغال أو همّ أو تفكير أو غير ذلك من الأسباب، كان يشتغل بتلاوة القرآن حتى يأتيه النوم، فلم يكن يستسلم للفراش تقلباً كحال كثير من الناس؛ بل كان ينهض يتلو كتاب الله تعالىٰ إلىٰ أن يصل به النوم منتهاه، فعند ذلك يأوي إلىٰ فراشه رحمه الله.

شيخنا وهموم الأمة

إن شيخنا رحمه الله علَم من أعلام هـٰذه الأمة في هـٰذا العصر الذي توالت فيه على الأمة أنواع من الفتن وأنواع من الكروب والنوازل الكبرى.
كان شيخنا رحمه الله متابعاً لأخبار المسلمين، وهذا الجانب جانب يخفى على كثير من الناس، فإن الناس -بل أكثر الناس- يدركون عن شيخنا رحمه الله تعليمه وبذله في العلم واهتمامه بطلبة العلم واهتمامه بالفتوى وما إلىٰ ذلك؛ لكن يخفى على كثير منهم ما يحمله هـٰذا الشيخ رحمه الله من همٍّ للإسلام والمسلمين.
كان شيخنا رحمه الله متابعاً لأخبار المسلمين وأحوالهم في شتى البقاع، لم يكن ذلك مقصوراً على أهل بلدته، ولا على أهل دولته ولا على أهل الجزيرة؛ بل كان همّه همّ المسلمين حيث كانوا، كان يهمه ما يهم أهل الإسلام ويقلقه ما نزل بهم؛ بل يشاركهم في آمالهم ويشاركهم في آلامهم ويشاركهم في أفراحهم، يوجه دعاتهم، ويجيب سائلهم ويسعى جهده في حل مشكلاتهم حسب استطاعته، وإنّ شواهد ذلك كثيرة؛ ولكنني أقتصر على شاهدين لهما ما بعدهما من التأثير عند من نظر وفكر فيهما.
أيها الإخوة: المشهد الأول الذي أذكره عن شيخنا رحمه الله ما كان منه في توجيهه للشّباب الذين خرجوا في الجزائر وقتّلوا الناس وفعلوا ما فعلوا.
إن شيخنا رحمه الله كان عظيم التوجيه لهؤلاء، والشفقة عليهم والاتصال بهم، ومنعهم مما يَهمُّ به كثير منهم من الأذى الواقع على إخوانهم المسلمين.
وكان رحمه الله من جملة ما وجه شريط سُجِّل له رحمه الله في بيته، ألقى فيه كلمة توجيهية لمن حمل السلاح في الجزائر بترك ذلك، ووجههم إلىٰ الرجوع إلى جماعة المسلمين، ونهاهم عن التورّط في سفك الدماء بغير حق.
وكرّر في ذلك وأبدأ وأعاد، وحرص أن لا تظهر صورتُه رحمه الله حتى لا يكون ذلك سبباً لردِّ هؤلاء، فإن منهم من بلغ به الرأي أن يظن أنه لو خرج الشيخ بصورته كان ذلك سبباً لعدم قبول قوله، فآثر الشيخ أن لا تخرج صورتُه وخرج مجلسه وصوته، وقد بُثّ هـٰذا عبر وسائل كثيرة من وسائل الإعلام في الجزائر، بُثت خطبته الصوتية الشهيرة عبر الإذاعة والتلفاز عدة مرات، وكان من ثمرة هـٰذا أن ألقى جماعات كثيرة من الشباب السلاح وعادوا إلىٰ جماعة المسلمين، وتركوا عنهم هـٰذا المسلك الرديء .
أيها الإخوة: إن شيخنا رحمه الله في حمله همّ الأمة لم ينس تلك المواطن الساخنة والمواقع الملتهبة والأرض المسلوبة المنهوبة كما في البوسنة والشيشان، وقبل ذلك في أفغانستان إبان الغزو الروسي؛ بل كان شيخنا رحمه الله عظيم الاتصال بهؤلاء، عظيم الدعم لهم، ولما كان الخبر ليس كالعيان فإنني أقرأ عليكم بعض ما كتبه إخوانكم في مجلس الشورى الأعلى في الشيشان، فإنهم كتبوا بياناً أصدروه تعزية في وفاة الشيخ عزوا فيه الأمة، فاستمع إلىٰ جانب لا يعلمه كثير من الناس من اهتمام شيخنا بقضايا الأمة.
بعد أن قدموا بمقدمة ذكروا فيها عظيم المصاب بفقد العلماء، وأن فقدهم رزية، وأن فقدهم بلاء وشر على أمة الإسلام قالوا رحمهم الله ووفقهم:
هـٰذا مصاب الأمة بموت علمائها عامة، يقولون في بيانهم: أما مصابنا بموت الشيخ الفقيه محمد بن صالح العثيمين فإنه أعظم؛ لأننا خاصة قد فقدنا واحداً، فقدنا من كان يحرص أشد الحرص على مناصرتنا والاتصال بنا دوريّاً، فمنه سمعنا النصح والإرشاد والإفتاء، ومنه جاءنا الدعم، فحقّاً إنه والد عطوف.
وإن ينس الناس فضل شيخنا، فلن ننسى وقوفه معنا في الحرب الأولى-أي الحرب الأولى في الشيشان- ودعمه لنا بما يستطيع أثناء الحرب، وكان بعد الحرب حريصاً على افتتاح المعاهد وإنشاء المحاكم الشرعية.
ولن ننسى مناصحته لنا وتوجيهه الدائم في شأن المحاكم وتطبيق الشريعة.
ولن ننسى وقوفه معنا أيضاً في حربنا هـٰذه التي ما زالت مستعرة إلىٰ الآن.
ولن ننسى وقوفه معنا أيضاً في حربنا هذه سواء بماله أن أرسل لنا زكاته، وقال: هي لمصرف الجهاد فقط. أو وقوفه معنا بتوجيهه الناس إلىٰ دعمنا.
ولن ننسى اتصاله اليومي أو شبه اليومي بنا ليسمع أخبارنا وينظر في حاجاتنا ومشاكلنا ومسائلنا الشرعية.
ولن ننسى دعاءه لنا في السر والعلن من فوق منبره وفي دروسه ومحاضراته وفي قيامه وسجوده.
ولن ننسى ما أخبرنا به طلابه أنه- من شدة اهتمامه بقضيتنا- كان يقرأ على طلابه في المسجد الأخبار التي ننشرها في موقعنا، ثم يختم بالدعاء لنا.
ولن ننسى -وانتبه إلىٰ هـٰذا- ولن ننسى أنه هو أول من أفتى بوجوب مناصرتنا، وأول من وضح الرؤية للناس عن أوضاعنا ومدى شرعية جهادنا، ولقد كان لفتواه تلك بالغ الأثر حتى تتابعت علينا بعد فتواه النصرة والمؤازرة.
وإن ينس الناس ذلك كله أو يجهلوه، فإننا لن ننسى مواقف الشيخ في قضايا المسلمين جميعاً، وهو الذي خصص من وقته كل أسبوع ساعة أو أكثر لقيادة المجاهدين في البوسنة، فكان يفتي لهم ويجيب حاجاتهم ويسمع أخبارهم ويستبشر بها وينشرها، وقد حدثونا عن مواقف له لا ننساها، وهو أن قيادة المجاهدين في البوسنة سألوه عن حكم قتل الخطأ وماذا يجب على القاتل؟ وبعد الإجابة قال رحمه الله، أجابهم ما الذي يجب في القتل الخطأ. ثم قال: أما دية المقتول فعلي، وسأرسلها لكم إن شاء الله.
وله قبل ذلك مواقف مشرفة مع جهاد إخواننا في أفغانستان: فمن إفتاء بدعمهم ومناصرتهم ومناصحة للقادة واهتمام بشؤونهم، إلىٰ عمل دائم يترجم فيه اهتمامه بقضايا المسلمين، ولم يكن الشيخ بعيداً عن إريتريا والفلبين لا بماله ولا فتواه ولا جهاده.
هـٰذه شهادة من قوم باشروا القضية وعاشروا الشيخ رحمه الله في هـٰذا الجانب المخفي من حياته، فإن كثيراً من الناس لا يدركون هـٰذا عن شيخنا ولا يعرفونه؛ ولكنه ما ذكره بعض أهل العلم من أنه ينبغي للإنسان أن يكون له خبيئة عمل يخفيها على الناس يرجو بها العقبى عند الله تعالىٰ.
فلعل شيخنا رحمه الله كان لا يظهر ذلك ولا يشيعه حرصاً منه على أن يكون ذلك العمل هو خبيئته التي يرجو عقباها عند رب العالمين.

شيخنا في بيته

أيها الإخوة الكرام: ملامح القدوة في شيخنا رحمه الله متعددة في هـٰذا الجانب، تنبثق كلها عن حرصه الأكيد رحمه الله على تحقيق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خيركم خيركم لأهله))([17]) فيما رواه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها.
وسأحاول جهدي تجلية هـٰذا الجانب حتى نستفيد منه أيها الإخوة.
-أول ما أذكره في هـٰذا أن صلته بأهل بيته من زوج وولد صلة ملؤها الرحمة ومراعاة المشاعر والثقة والتقدير.
-ثانياً العدل التام بينهم في المعاملة.
عملاً بما رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لوالد النعمان: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم))([18]). وليس هـٰذا العدل مقصوراً على الجانب المادي والعطاء من النقود وشبهها؛ بل هو عدل عام في المال وفي التوجيه وفي المشاعر وفي الاهتمام وفي مشاركته رحمه الله لهمومهم.
-ثالثاً القرب منهم، فالشيخ رحمه الله تميز في معاملته لأهله وفي حياته في بيته، بقربه من أولاده، بقربه من زوجه، وحرص رحمه الله على الاجتماع بهم وتفقد أحوالهم والسؤال عنهم، كما أنه لم يستكثر عليهم خروجاً في نزهة أسبوعية، وذلك قبل كثرة مشاغله رحمه الله؛ بل حتى بعد ذلك لما كثرت مشاغله وتوالت عليه الأعمال كان رحمه الله يحرص على الخروج معهم بين وقت وآخر، لا سيما في أزمنة الربيع، وكان في بعض ليالي الصيف يخرج مع أهله إلىٰ استراحات وشبهها يشاركهم فيها بهجتهم ويشاركهم فيها مناسباتهم.
حرص الشيخ رحمه الله على زيارة أبنائه في مخيماتهم توجيهاً لهم ومشاركةً لهم في خروجهم، كما أنه يهدف إلىٰ أمر وراء ذلك وهو الاطلاع على صحب أولاده، مع من يمشون ومن يعاشرون ومن يؤاكلون ومن يخالطون، وإن هـٰذا من التوجيه الخفي الحكيم الذي يغفل عنه كثير من الناس.
بعض الناس في توجيهه لولده يحاسبه مع من خرجت ومع من أتيت؛ لكنه لا يكلف نفسه أن يشارك ولده مشاركة حسية، يقف من خلالها على الواقع دون تحقيق أو دون فقد للثقة التي تكون بين الوالد وولده، وهي أساس حسن المعاملة وأساس صلاح الولد في كثير من الأحيان.
-رابعاً الشيخ رحمه الله لم يكن غائباً عن تعليم أولاده؛ بل كان رحمه الله متابعاً لأولاده ذكوراً وإناثاً في دراستهم وفي سيرهم التعليمي وفي الاهتمام بهم، حتى إنه قبل ازدحام أعماله وكثرة أشغاله كان يحرص على حضور حفلات مدارسهم ومشاركتهم في بعض أنشطتهم، كما أنه كان يدرس من يحتاج إلى تدريس، سواء كان ذلك في العلوم الشرعية والعربية؛ بل حتى في الحساب..
أيها الإخوة الكرام: إن شيخنا رحمه الله كان في مهنة أهله كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعائشة رضي الله عنها سألها الأسود: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت رضي الله عنها: كان يكون في مهنة أهله -أي في خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلىٰ الصلاة([19]).
وهـٰذا والله نموذج في شيخنا مطبق، فإن الشيخ رحمه الله إذا احتاج أهله شيئاً من أمور الدنيا أو من إصلاح ما يحتاج إلى إصلاح وجدته مبادراً إلىٰ ذلك، قائماً عليه بنفسه لا يوكل فيه أحداً؛ بل يحرص على قضاء حوائج أهله بنفسه، وعلى القيام على إصلاح ما يحتاج إلىٰ إصلاح بنفسه.
مما يذكر في جانب علاقة شيخنا -أو هـٰذا النموذج شيخنا في بيته- ما يتعلق بالاستشارة؛ فإن الشيخ رحمه الله تميز في معاملته لأهله بالاستشارة؛ يستشير الصغير والكبير، وليست استشارة استكشاف للآراء دون عمل بها؛ بل إنها استشارة تثمر عملاً إذا كان الرأي صائباً، وإذا كان الرأي متوجهاً، وإذا رأى فيه راحة له ولهم وفيه تحصيل لمصالحهم، إن هـٰذه السمة وهي استشارة الشيخ رحمه الله ليست خاصة ببيته؛ بل إن من يحضر دروسه يشاهد ذلك في دقيق الأمر وجليله من أمر الدرس، فإن الشيخ رحمه الله كان يشاور طلابه في المتون التي يقرؤونها، يشاورهم في التغيير، يشاورهم في أشياء كثيرة مما تتعلق بالدرس مما يعرفه من حضر مع الشيخ أو سمع أشرطة دروسه المسجلة.
إن الشيخ رحمه الله كان يعامل أهله معاملة الشفقة والرحمة، فكان يواسي ضعيفهم، ويبحث عن مريضهم فيزوره ويواسيه بما يحتاج من المواساة.
حتى إنني أذكر أنه كم من مرة طرق الشيخ باب بيتنا لعلمه رحمه الله بأن فلانة مريضة أو فلاناًَ مريض، وليس هـٰذا خاصّاً بي، بل مع جميع أولاده سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، فهو رحمه الله سباق إلىٰ إيصال الخير وإلى الإحسان وإلى جبر الخواطر، حتى من الصغار الذين قد لا يدركون معاني هـٰذه الزيارات وما وراءها؛ لكن الشيخ رحمه الله يتعامل في هـٰذا معاملة عالم رباني يرسِّخ ما فقهه وعلمه من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن مراعاة الشيخ رحمه الله لم تقتصر على بني آدم؛ بل إن الشيخ رحمه الله يراعي حتى البهائم، حتى الحيوانات.
وأذكر في هـٰذا أمراً: شيخنا رحمه الله كان يحرص على جمع بقايا الطعام بعد غدائه أو عشائه أو ما أشبه ذلك، فكان إذا اجتمع له ما اجتمع من هـٰذا الطعام خرج في خروجه لصلاة الفجر، خرج بهذا الطعام وأعطاه قططاً قد تعودت على الاجتماع عند بابه في وقت خروجه، فكان رحمه الله في بعض الأحيان يغفل أو لا يجد شيئاً يعطيه هـٰذه القطط، فيتعمد الخروج من باب آخر حتى لا تفقد القطط ما كانت معتادة عليه من طعام، وهـٰذا أمر حدثنا به الأخ عبد الرحمـٰن ابن الشيخ.
أيها الإخوة: إن سيرة شيخنا في بيته سيرة عطرة؛ ولكنني لا أريد أن أستأثر الحديث بهذا الجانب مع تشوف كثير من الناس إلىٰ هـٰذا الجانب؛ لأنه جانب قد يخفى بل يخفى على كثير من الناس إلا من اتصل به من أقاربه وكان عارفاً به.
أيها الإخوة: شيخنا له سهم كبير وقدح معلّى وسبق واضح في صلة الرحم، فكان سباقاً إلىٰ صلة الرحم عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ومن ذلك ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه))([20]). وهو حديث عند الإمام مسلم من حديث أنس رضي الله عنه.
فالشيخ رحمه الله كان حريصاً على مواصلة أقاربه، على الاتصال بهم، وكانت هـٰذه ليست خاصة بالمحيطين به أو بمن يكبره سنّاً؛ بل كان يواصل الكبير والصغير، البعيد والقريب، فشيخنا رحمه الله كان يزور عمته وعمه لما كانوا أحياء كل أسبوع مرة، وكان يذهب إلىٰ عمته إلىٰ آخر أيامه رحمه الله، فإنه لم يفرط في ذلك حتى مع ما أصابه من المرض الذي أشغله وأثقله وأضعفه؛ لكنه مع ذلك كان حريصاً على صلة رحمِه رحمه الله وغفر له.
أيها الإخوة الكرام: إن مما يبرز في حياة شيخنا رحمه الله أنه صاحب إكرام لأقاربه، فلم يكن ذا جفاء أو غلظة، بل كان يكرمهم ويحسن إليهم ويدعوهم عند المناسبات ويلبي دعواتهم، ويعود مريضهم ويقضي حوائجهم ويتصل بهم أسبوعيّاً، فهـٰذا لا يخص فقط القريب المباشر، بل حتى البعيد الذي خارج عنيزة كان يتصل به أسبوعيّاً رحمه الله، ويتفقد أحوالهم ويسأل عن أخبارهم، وذلك ليس خاصّاً بالكبير منهم كما ذكرت؛ بل إنه يتصل بمن يصغره سنّاً؛ بل من هو في عداد أولاده في بعض الأحيان، وذلك للقيام بما أمر به الله ورسوله من صلة الرحم والمسابقة في هـٰذا الفضل، فرحمه الله رحمة واسعة.

شيخنا وحوائج الناس

أيها الإخوة: إن شيخنا رحمه الله لم يأل جهداً في نفع الناس بوجه من الوجوه، وحوائج الناس كانت إليه تترا، ومع ذلك كانت تقابل قضاء ومبادرة إلىٰ قضاء حوائج الناس، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته))([21]). فما أن تأتي الشيخ رحمه الله في حاجة يتبين له فيها المصلحة خاصة كانت أو عامة إلا وجدته كما قال الشاعر:
ولا شاكٍ إليك من الكلال



مطيع في الحوائج غير عاصٍ




أي إنه رحمه الله يبذل بذلاً ولا يكل من كثرة السؤال، فالشيخ رحمه الله كما سماه بعض الناس (أبو المساكين)، كان يتفقد أحوالهم ويطلب حاجاتهم، كان يستضيفهم في بيته، ولا يأنف من مجالستهم بل يجلسون معه على سفرة واحدة، ومنهم من يسيء الأدب في الطعام، ومنهم من لا يكون حسن الهيئة؛ بل منهم من هو رث الهيئة؛ لكنه مع ذلك يخالطهم ويجالسهم ويقضي حوائجهم ويدخل السرور عليهم ويداعبهم ويجيب على أسئلتهم، ويعينهم بما يتيسر من الإعانة.
من معالم سعيه رحمه الله في قضاء حوائج الناس ما كان من إعانته للمنقطعين، فإنه رحمه الله إذا رأى منقطعاً حرص على إعانته.
وقد حدثني أحد الأساتذة في قسم العقيدة أنهم انصرفوا ذات ليلة من اجتماع من اجتماعات القسم ووافقوا في الطريق شخصاً قد تعطلت سيارته، فما كان من الشيخ رحمه الله إلا أن قال للقائد: قف ننظر ما حاجة هـٰذا؟ فوقفوا فإذا هو يحتاج إلى من يعينه في تشغيل سيارته دفعاً أو ما أشبه ذلك، فما كان من الشيخ ومن معه إلا أن نزلوا فأعانوه في تشغيل سيارته.
ومن ذلك أنه رحمه الله كان يسعى في إعانة من لم يحج الفريضة فيعطيه ما يكفيه لحجه، ويحرص على ذهابهم مع طلبة العلم؛ لتحصل بذلك الفريضة على وجه كامل من علم وبصيرة.
أيها الإخوة: إن من الجوانب التي لا تخفى في حياة شيخنا رحمه الله أنه إمام في الزهد؛ بل إنك تجزم أنه لا يُعرف نظيره من أقرانه على هيئته وحاله وشأنه في الزهد رحمه الله، تدرك هـٰذه الخلّة وهـٰذه الصفة وهـٰذه الخصلة في ملبسه رحمه الله، في مركبه، في مجلسه، في مأكله، في سائر شأنه، قضى رحمه الله أكثر من ستين سنة من عمره في بيت طيني تواضعاً وزهداً وقناعةً، مع كثرة ما جاءه من عروض للانتقال إلىٰ بيت من الطراز الحديث؛ لكنه آثر ذلك، ولكنه لما كثرت عليه الإلحاحات نزل عند رغبة أهله فخرج إلىٰ بيت متواضع كبيت أوساط الناس أو أقل.
لا يأنف رحمه الله من ركوب ما تيسر من مراكب حتى ولو كانت سيارة كثيرة الأعطال؛ بل ربما تعطلت في الطريق إلىٰ المسجد فشارك في إصلاحها إما بدفع أو غيره.
ومن أعظم صور زهده رحمه الله زهده في المديح، وهـٰذا يا إخواني أمر عزيز لا تكاد تجده في أكثر العلماء وطلبة العلم المعاصرين، فإنه رحمه الله يكره المدح كراهية واضحة، فكم من مرة تمعّر وجهه لمدح مادح أو ثناء مثنٍ، وكان رحمه الله يعطي في ذلك نماذج حية لا يقتصر فقط على التوجيه وعلى كراهية المدح بعد فراغ المادح من مدحه كما هو شأن كثير من الناس؛ بل كان رحمه الله يوقف المادح في كثير من الأحيان، ويقول له: هـٰذا لا يصلح. أي لا يصلح مثل هـٰذا الكلام.
ومن ذلك قوله رحمه الله في إحدى المناسبات قدم له مقدم فقال في تعريفه بالشيخ: الشيخ غني عن التعريف. فقال الشيخ رحمه الله: هـٰذا لا يصلح إلا لله، فإن الله هو الذي يستغني عن التعريف، أما الناس –البشر- فمهما كانوا فلا بد أن يعرفوا.
ومن ذلك رحمه الله أنه لما ذهب إلىٰ أمريكا وكانت سفرته علاجية محدودة الأيام إلا إنه شارك إخوانه المسلمين في تلك البلاد بأنواع من المشاركات والأنشطة، منها محاضرات ألقاها في بعض المساجد والتجمعات، ففي أحد المساجد قام أحد المشاركين في تنظيم ذلك النشاط بالتقديم للشيخ فأكثر من الكلام وكان من جملة ما قال: ونحن نشكر الشيخ على إجابته دعوتنا رغم معاناته الشديدة من المرض.
فقال له الشيخ: اجلس. ثم شرع مباشرة في محاضرته وذلك من تواضعه رحمه الله ومن حرصه على عدم المدح الزائد.
وإنني أذكر أن أحد الإخوان دخل على الشيخ رحمه الله وهو على سرير المرض في المستشفى فقال له مسرياً له: إن الناس يدعون لك ويرجون لك الشفاء وقد انتفعوا منك، ويرجون لك العاقبة الحميدة. فقال له الشيخ: اسكت اسكت، فسكّته رحمه الله مع أنه من أقرب الناس إليه.
ومما يجلي زهده رحمه الله أنه قال لأحد محبيه في زيارته الأخيرة لعنيزة لما جاء وخلص إليه هـٰذا الأخ، تحدث مع الشيخ في أمور، ثم قال له الشيخ هـٰذه الجملة -وقد حدثني بها وهو ثقة- قال: إن الشيخ رحمه الله أسر إليه قائلاً في مرض موته: والله ما ضاق صدري على شيء من الدنيا يفوت -يعني لم أكترث لشيء يفوتني من الدنيا-؛ لكن الذي أهمني أن ألقى الله وليس عندي عمل. يعني الشيخ رحمه الله أفنى عمره وأكدّ جسمه وبذل وقته في نفع الأمة ومع ذلك يقول: لكن الذي أهمني أن ألقى الله وليس عندي عمل. فكيف نقول؟ نسأل الله أن يعاملنا بعفوه، وأن يغفر له وأن يرحمه وأن يجعل ما قدمه في موازين حسناته وأن يرفع درجته في المهديين، وأن يغفر له في عباده الصالحين، وأن يلحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الإخوة: الجوانب في حياة شيخنا كثيرة، أذكر منها على سبيل الإيجاز نقطتين مهمتين، شيخنا إمام في التوسط رحمه الله، فمما تميز به الشيخ ما شهد الله به لهذه الأمة من الوسطية في سائر شأنها، قال الله تعالىٰ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ([22]). الشيخ رحمه الله تميز بتوسط فطري غير متكلف، فتوسطه ليس في جانب من جوانب العلم ولا في مأخذ من مآخذ السلوك، ولا في نوع من أنواع المعاملة، إنما كان توسطه رحمه الله في جميع جوانب حياته، في أقواله، في أعماله، في فتاواه، في آرائه، في توجيهاته، تجده دائماً ينحو إلىٰ الوسط، ويحب الوسط، ليس من أهل الشطط أو الإفراط أو التفريط؛ بل متوسط في أقواله وآرائه؛ إلا أن الشيخ رحمه الله يعلم أن الوسطية هي الأخذ بالكتاب والسنة، وليست أمراً خارجاً عن هـٰذا.
فكل من ادعى الوسطية في غير هـٰذا الإطار،في غير ما دل عليه الكتاب والسنة فإنه يضرب في عماء، ولا يصيب إلا خبالاً، ولا يجني إلا عطباً، فإن الوسطية في هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيما ذكره الله تعالىٰ في شهادته لهذه الأمة وخير قرونها: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ﴾.
أيها الإخوة الكرام: إن شيخنا رحمه الله إمام في جمع الكلمة ونبذ الفرقة، وقد كان رحمه الله يوصي بذلك كثيراً، هـٰذا دأبه في توجيهه، هـٰذا دأبه في عمله، عملاً بقول الله تعالىٰ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾([23])، عملاً بقول الله تعالىٰ: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ([24]).
إن شيخنا رحمه الله كان يوصي طلابه ويوصي محبيه بالتوسط.
وأذكر أن جماعة من الإخوان الذين كان لهم بعض العجلة في بعض الأمور زاروه في مرض موته فاستوصوه فقالوا: يا شيخ أوصنا؟ فكان الشيخ رحمه الله يركز على هـٰذا الأمر ويؤكد أهمية الوسطية وأهمية الاجتماع على ولاة الأمر والاجتماع على أهل العلم وعدم الفرقة والخلاف، حتى إن أحدهم قال: كنت أظن أن الشيخ يوجه بهذه التوجيهات تحت تأثير من أنواع من المؤثرات التي قد تؤثر؛ لكنني لما سمعته يقول ذلك وهو على سرير المرض وقد أقبل على الآخرة وأدبر عن الدنيا، علمت أنه إنما يريد الله بهذا الكلام فكان لكلامه من الأثر في نفسي ما ليس لتوجيه آخر.
شيخنا رحمه الله كان يوصي طلابه بالاجتماع والاهتمام بالعلم والاجتماع على العلماء وعدم الفرقة.
وأذكر أن من آخر ما أوصاني به بعد دخوله المستشفى رحمه الله العناية بالطلاب، فكان يوصي بهم خيراً ويوصي بالحرص على اجتماع الكلمة بين المشايخ الذين أقامهم للتدريس مقامه، وهما الشيخ عبد الرحمـٰن الدهش والشيخ سامي الصقير وفق الله الجميع.
كان رحمه الله حريصاً على البعد عن كل ما من شأنه حصول الفرقة، سواء بين طلابه أو بين أهل العلم أو بين الناس وعلمائهم وولاة أمرهم، كان يكره المنازعات، ولذلك كان إذا سأله أحد في حلقته فذكر اسم شخص من العلماء يرفض سؤاله؛ لأن ذلك سبب للفرقة وقد يفضي إلى مفسدة رابية على الجواب والتوجيه.
أيها الإخوة: إن شيخنا رحمه الله إمام عامة، وهـٰذا هو الملحظ الأخير الذي أذكره في حياة شيخنا رحمه الله وإن كان هناك جوانب قد تركتها لضيق الوقت؛ لكن الجانب المهم في هـٰذا أن ندرك أن شيخنا رحمه الله إمام عامة، يلقاه كل فرد من أفراد المجتمع متى شاء، يصلي معه في مسجده، يكلمه، يقضي حوائجه، يلقاه عبر الهاتف إذا لم يتمكن من الصلاة معه، يلقاه يوم الجمعة في خطبته وصلاته.
فالشيخ رحمه الله إمام عامة لم يكن بينه وبين الناس حواجز، كان رحمه الله يشارك جميع شرائح المجتمع في جلسات شهرية أو نصف شهرية أو أسبوعية على حسب استطاعته، وأذكر لذلك نماذج:
كان له رحمه الله جلسة أسبوعية مع القضاة.
وكان له جلسة مع طلبة العلم غير دروسه اليومية مع طلبة العلم.
وكان له جلسة مع الآمرين بالمعروف شهريّاً.
وكان له جلسة مع الخطباء شهرية.
حتى إن له جلسة مع أهل الخضرة وذلك قبل انشغاله رحمه الله، كان يجلس مع الباعة في سوق الخضار في جلسة مرتبة يقضي بها حوائجهم ويجيب أسئلتهم ويوجههم إلىٰ ما يحتاجون أن يوجههم إليه.
هـٰذا غير اتصاله بولاة الأمر على اختلاف مستوياتهم الصغير والكبير، هـٰذا غير مشاركته رحمه الله في توجيه الناس من خلال المحاضرات والدروس والندوات واللقاءات والمؤتمرات والبرامج الإذاعية والاتصالات الهاتفية.
شيخنا رحمه الله انغمس في المجتمع انغماساً تامّاً، حتى إنك لتعجب كيف يجد وقتاً يجلس مع أهله، كيف يجد وقتاً يطالع فيه ويراجع المسائل ويبحث، كيف يجد وقتاً ويجلس للتعليم؟ لكنها البركة من رب العالمين التي يمن بها على من يشاء من عباده، فبارك في وقته وبارك في جهده حتى غطى هذه الجوانب كلها.
نسأل الله سبحانه وتعالىٰ بأسمائه الحسنى وصفاته العلا وأنه بر جواد رؤوف رحيم أن يعلي درجة شيخنا في المهديين.
اللهم اغفر له وارحمه، اللهم اغفر له وارحمه.
اللهم أسكنه الفردوس الأعلى يا رب العالمين.
اللهم اجعل ما قدمه للإسلام في موازين حسناته إنك على كل شيء قدير.
اللهم إنا نسألك أن تجمعنا به مع نبينا في جنة عدن في مقعد صدق عند مليك مقتدر إنك ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

([1]) سورة : يوسف (111).

([2]) سورة : الأنعام (90).

([3]) البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده، حديث رقم: 5033.
مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضائل القرآن وباب الأمر بتعهد القرآن، حديث رقم: 791.

([4]) مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، حديث رقم: 746.

([5]) سورة : النساء (86).

([6]) سورة : النساء (86).

([7]) سورة : الأعراف (199).

([8]) سورة : التوبة (40).

([9]) البخاري: كتاب فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، حديث رقم 5027.

([10]) سورة : العنكبوت (49).

([11]) أبو داود: كتاب الطب، باب في الأمر بالكحل، حديث رقم: 3878.
الترمذي: كتاب الجنائز، باب ما يستحب من الأكفان، حديث رقم: 994. واللفظ له.
ابن ماجه: كتاب الجنائز، باب ما جاء فيما يستحب من الكفن، حديث رقم: 1476.
قال الشيخ الألباني: صحيح.

([12]) البخاري: كتاب الدعوات، باب اسم الباب؟، حديث رقم: 6320.
مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، حديث رقم: 2714.

([13]) البخاري: كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، حديث رقم: 631.

([14]) مسلم: كتاب الأشربة، باب استحباب لعق الأصابع والقصعة وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح ما يصيبها من أذى وكراهة مسح اليد قبل لعقها، حديث رقم: 2033.

([15]) مسلم: كتاب الأشربة، باب كراهية الشرب قائماً، حديث رقم: 2024.

([16]) البخاري: كتاب الطب، باب الدواء بالعجوة للسحر، حديث رقم: 5769.
مسلم: كتاب الأشربة، باب فضل تمر المدينة، حديث رقم: 2047.

([17]) الترمذي: كتاب المناقب، باب فضل أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم: 3895.
ابن ماجه: كتاب النكاح ، باب حسن معاشرة النساء، حديث رقم: 1977.
قال الشيخ الألباني: صحيح.

([18]) البخاري: كتاب الهبة، باب الإشهاد في الهبة، حديث رقم: 2587.
مسلم: كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، حديث رقم: 1623.

([19]) البخاري: كتاب الأذان، باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج، حديث رقم: 676.

([20]) البخاري: كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق، حديث رقم: 2067عن أنس، وبرقم: 5985 عن أبي هريرة.
مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، حديث رقم: 2557.

([21]) البخاري: كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، حديث رقم: 2442.
مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم:2580.

([22]) سورة : البقرة (143).

([23]) سورة : آل عمران (103).

([24]) سورة : الشورى (13).

التعديل الأخير تم بواسطة هجرة إلى الله السلفية ; 11-11-2008 الساعة 10:13 AM
رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 

منتديات الحور العين

↑ Grab this Headline Animator

الساعة الآن 10:19 AM.

 


Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
.:: جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الحور العين ::.