انا لله وانا اليه راجعون... نسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة لوالد ووالدة المشرف العام ( أبو سيف ) لوفاتهما رحمهما الله ... نسأل الله تعالى أن يتغمدهما بواسع رحمته . اللهم آمـــين

العودة   منتديات الحور العين > .:: المنتديات الشرعية ::. > ملتقيات علوم الغاية > عقيدة أهل السنة

عقيدة أهل السنة يُدرج فيه كل ما يختص بالعقيدةِ الصحيحةِ على منهجِ أهلِ السُنةِ والجماعةِ.

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-18-2008, 03:46 PM
الوليد المصري الوليد المصري غير متواجد حالياً
مراقب عام
 




افتراضي بحث ٌرائع راجعه الشيخ ياسر برهامي وعنوانه: شبهات حول الحكم بما أنزل الله.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
بحث جيد في الحكم بغير ما أنزل الله على موقع صوت السلف بإشراف فضيلة الشيخ ياسر برهامي حفظه الله بعد مراجعة الشيخ له كما ذكر في نهاية البحث
شبهات حول الحكم بغير ما أنزل الله
والرد عليها
..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ..
وبعد ؛
فإنه لمن الفتنة والابتلاء أن يؤخر الإنسان ليعيش في مثل هذا الزمان ، الذي انتشرت فيه الفتن بجميع أنواعها لبعده عن منهج النبوة فأطلت الفتنة برأسها ، ولم تعدم من يعجب بها ، بل ومن يتدين بها ، بل ومن يسعى في نشرها في أوساط المسلمين بأنها هي الصواب وما سواها باطل وضلال .
ومن تلك الفتن العمياء الصماء البكماء فتنة غياب تطبيق الشريعة الإسلامية ، التي كانت ملجأ الضعفاء وملاذ الأذلاء ؛ فالآن من لهؤلاء وقد ضاعت حقوقهم ، وليس لهم من ملجإ يلجؤون إليه سوى خالقهم وفاطرهم ، يتضرعون إليه أوقات السحر ليأخذ حقهم ممن ظلهم وينتقم ممن اعتدى وتكبر وطغى وتجبر .
فمن السبب في ضياع حقوق هؤلاء ؟ ومن السبب في غياب تطبيق حدود الله في أرضه ؟
من يقف مع هؤلاء المستضعفين ؟ ومن يقف في وجه أولئك المعتدين الظالمين ؟
..
إن السيادة والتشريع حق خالص لله عز وجل ، لا ينازعه فيه مخلوق كائنًا من كان ، فهذا من أخص خصائص توحيد الربوبية ..
ولا يسلم توحيد الألوهية إلا به ؛ ولهذا نازع فيه جميع المشركين ؛ لأنهم لو أقروا به لأقروا بكل ما أنزله الله على ألسنة رسله . فنجد في كل عصر من العصور من الجهلاء الظالمين المعتدين من يدعي ذلك الحق لنفسه ، أو يدعيه له بعض الذين سفهوا أنفسهم . ولذلك فقد كثرت الآيات والأحاديث التي تعلن النكير على من نسب لنفسه ما اختص الله به من الحكم والتشريع ، واستفاض كلام العلماء والدعاة في هذه المسألة ، حتى أفردها بعضهم في مصنفات خاصة .

ومع انتشار هذه المسألة وكثرة الكلام فيها ، انتحل بعض من لا علم عنده زي العلماء ولباس الفقهاء ، فتكلم بما لم يعلم ، فوقع في تفريط أو إفراط ، مما أدى إلى خروج فريق لا يعرف تأصيل مسألة الحكم تأصيلاً شرعيًا ، فغالى بعضهم فيها غلوًا فاحشًا ، وهون الآخرون من شأنها تهوينًا سيئًا ، جريًا وراء العاطفة أو الحماسة .
ولكن مع وجود كلام العلماء بين أيدينا ، وتأصيلهم لهذه المسألة ، انضبطت كثير من الأمور التي لم تكن واضحة عند كثير ممن يتكلم فيها ، إلا أنه قد بقيت بعض الشبهات التي يشيعها من يهون من هذه المسألة ، وهي - على سذاجتها وضعفها وسهولة الرد عليها – قد بدأت تدب بأطرافها بين أبناء الصحوة الإسلامية ، رغم ما بينه العلماء ووضحوه في مصنفاتهم .

وقد استعنت بالله تعالى في جمع هذه الشبهات والرد عليها حتى يعلم إخواننا حقيقة ما تستند إليه تلك الشبهات ، وكيفية الرد عليها ، فنسأل الله تعالى أن يبصرنا بعيوبنا ويلهمنا رشدنا ويهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه ..



مقدمة حول :
وجوب تحكيم الشريعة ونبذ ما عداها
...
قال ابن القيم رحمه الله :
الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدل كلّها ، ورحمة كلّها ، ومصالح كلّها ، وحكمة كلّها. فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدّها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث ، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ؛ فالشريعة عدل الله بين عباده ، ورحمته بين خلقه ، وظله في أرضه ، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها ، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون ، وهداه الذي به اهتدى المهتدون ، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل ، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل ، فهي قرة للعيون ، وحياة القلوب ، ولذة الأرواح ، فهي بها الحياة والغذاء والدواء و النور الشفاء والعصمة ، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها ، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها ، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم . وهي العصمة للناس وقوام العالم ، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا ، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم ، رفع إليه ما بقي من رسومها ؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة . اهـ (إعلام الموقعين عن رب العالمين : 3/3)
...
الحكم بما أنزل الله من أصول التوحيد
فهو يتبع توحيد الأسماء والصفات إذ قد قال الله تعالى : ((إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ)) (يوسف : 40) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن الله هو الحكم)) (رواه أبو داود والنسائي ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1845) . فالحكم صفة ثابتة لله تعالى لا ينازعه فيها مخلوق ، وحكمه تعالى إما أن يكون كونيًا أو شرعيًا أو جزائيًا . فالحكم الكوني مثل قوله تعالى : ((أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) (الرعد : 41) ، وقوله تعالى : ((وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)) (يونس : 109) ، والحكم الشرعي مثل قوله تعالى : ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) (الشورى : 10) ، وقوله تعالى : ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) (المائدة : 50) ، والحكم الجزائي الذي يكون يوم القيامة مثل قوله تعالى : ((اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) (الحج : 69) ، وقوله تعالى : ((ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)) (الأنعام : 62)
وهو يتبع توحيد الربوبية ، فهو حق خالص لله تعالى ، فمن ادعى هذا الحق لأحد من دون الله فقد اتخذه ربًا ، قال تعالى : ((اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة : 31) ، وعن عدي بن حاتم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية ، فقال : ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه)) (رواه الترمذي وصححه الألباني)
وهو يتبع توحيد الألوهية من جهة أن التحاكم يجب أن يكون مرده لله ورسوله ، فمن أعرض عن حكم الله متبعًا شرائع الشياطين وأهواء البشر فقد أشرك في العبادة ، كما قال تعالى : ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) (الأنعام : 121)
...
الحكم بغير ما أنزل الله من أصول الكفر بالإجماع
.
قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله :
قوله تعالى : ((وَما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)) .
ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده لا إلى غيره جاء موضحا في آيات كثيرة.
فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته قال في حكمه : ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)) ، وفي قراءة ابن عامر من السبعة : ((وَلا تُشْرِكْ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)) بصيغة النهي .
وقال في الإشراك به في عبادته : ((فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)) ؛ فالأمران سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله .
وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله ، والحرام هو ما حرمه الله ، والدين هو ما شرعه الله ، فكل تشريع من غيره باطل ، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه كفر بواح لانزاع فيه .
وقد دل القرآن في آيات كثيرة على أنه لا حكم لغير الله ، وأن اتباع تشريع غيره كفر به .
فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله تعالى : ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)) ، وقوله تعالى : ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)) , وقوله تعالى : ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)) , وقوله : ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) ، وقوله تعالى : ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)) ، وقوله تعالى : ((كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) ، وقوله تعالى ((لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) , والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقد قدمنا إيضاحها في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)) .
وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفر فهي كثيرة جدا ، كقوله تعالى : ((إِنَّما سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)) ، وقوله تعالى : ((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) ، وقوله تعالى : ((أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ)) ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، كما تقدم إيضاحه في الكهف .
مسألة :
اعلم أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرةصفات من يستحق أن يكون الحكم له ، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة ، التي سنوضحها الآن إن شاء الله ، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية ، فينظر هل تنطبق عليهم صفات مَن له التشريع ؟ . سبحان الله وتعالى عن ذلك . فإن كانت تنطبق عليهم -ولن تكون- فليتبع تشريعهم . وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغرمن ذلك ، فليقف بهم عند حدهم ، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية . سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته ، أو حكمه أوملكه .
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بهاتعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا ((وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ)) ، ثم قال مبيناً صفات من له الحكم ((ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجاً وَمِنَ ٱلاٌّنْعَـٰمِ أَزْوٰجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ * لَهُ مَقَـلِيدُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ)) ؛ فهل في الكفرة الفجرةالمشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور ويُتوكل عليه ، وأنه فاطر السماوات والأرضأي خالقهما ومخترعهما على غير مثال سابق ، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً ، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورةفي قوله تعالى ((ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ مِّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ)) ، وأنه ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ)) ، وأن ((لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ)) ، وأنه هو الذي((يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ)) أي يضيقه على من يشاء ، ((وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ)) .
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفاتمن يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم ، ولا تقبلوا تشريعاً من كافر خسيس حقير جاهل .
ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى ((فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاٌّخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)) ، فقوله فيها ((فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ)) كقوله في هذه ((فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ)) .
وقد عجب نبيه r بعد قوله ((فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ)) من الذين يدعون الإيمان مع أنهم يريدون المحاكمة إلى من لم يتصف بصفات من له الحكم، المعبر عنه في الآية بالطاغوت ، وكل تحاكم إلى غير شرع الله فهو تحاكم إلىالطاغوت ، وذلك في قوله تعالى ((أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـٰلاً بَعِيداً)) ؛ فالكفر بالطاغوت الذي صرح الله بأنهأمرهم به في هذه الآية شرط في الإيمان كما بينه تعالى في قوله ((فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ)) ؛ فيفهم منه أن من لم يكفربالطاغوت لم يتمسك بالعروة الوثقى ، ومن لم يستمسك بها فهو متردٍ معالهالكين .
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى ((لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا)) ؛ فهل في الكفرة الفجرةالمشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكلالمسموعات وبصره بكل المبصرات ؟ وأنه ليس لأحد دونه منولي ؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى ((وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءَاخَرَ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) ؛ فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد ؟ وأن كل شيء هالك إلا وجهه ؟ وأن الخلائق يرجعون إليه ؟ تبارك ربنا وتعاظم وتقدسأن يوصف أخس خلقه بصفاته .
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى ((ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـىِّ ٱلْكَبِيرِ)) ؛ فهل في الكفرة الفجرةالمشرعين النظمَ الشيطانيةَ من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي بأنه العليالكبير ؟ سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليقبكمالك وجلالك .
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : ((وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) ؛ فهل في مشرعي القوانين الوضعية من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة ، وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار مبينا بذلك كمال قدرته وعظمة إنعامه على خلقه ؟
سبحان خالق السماوات والأرض ، جل وعلا أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته أو ملكه .
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ)) ؛ فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده ، وأن عبادته وحده هي الدين القيم ؟
سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
ومنها قوله تعالى : ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)) ؛ فهل فيهم من يستحق أن يتوكل عليه وتفوض الأمور إليه ؟
ومنها قوله تعالى : ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الناسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْما لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) ؛ فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله وأنه مخالف لاتباع الهوى ؟ وأن من تولى عنه أصابه الله ببعض ذنوبه ؟ لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة ؟ وأنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يوقنون ؟
سبحان ربنا وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .
ومنها قوله تعالى : ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)) ؛ فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين ؟
ومنها قوله تعالى : ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَما وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً)) ؛ فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلا ، الذي يشهد أهل الكتاب أنه منزل من ربك بالحق ، وبأنه تمت كلماته صدقًا وعدلاً ، أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام ، وأنه لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ؟ سبحان ربنا ما أعظمه وما أجل شأنه .
ومنها قوله تعالى : ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاما وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)) ؛ فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق ، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه ؟ لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم . سبحانه جل وعلا أن يكون له شريك في التحليل والتحريم .
ومنها قوله تعالى : ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) ؛ فهل فيهم من يستحق الوصف بذلك ؟
سبحان ربنا وتعالى عن ذلك .
ومنها قوله تعالى: ((وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) ؛ فقد أوضحت الآية أن المشرعين غير ما شرعه الله إنما تصف ألسنتهم الكذب ، لأجل أن يفتروه على الله ، وأنهم لا يفلحون ، وأنهم يمتعون قليلا ثم يعذبون العذاب الأليم ، وذلك واضح في بُعد صفاتهم من صفات من له أن يحلل ويحرم .
ومنها قوله تعالى : ((قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ)) ، فقوله : ((هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ)) صيغة تعجيز ، فهم عاجزون عن بيان مستند التحريم , وذلك واضح في أن غير الله لا يتصف بصفات التحليل ولا التحريم , ولما كان التشريع وجميع الأحكام -شرعية كانت أو كونية قدرية- من خصائص الربوبية , كما دلت عليه الآيات المذكورة كان كل من اتبع تشريعا غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع ربًا وأشركه مع الله .
والآيات الدالة على هذا كثيرة ، وقد قدمناها مراراً وسنعيد منها ما فيه كفاية ، فمن ذلك -وهو من أوضحه وأصرحه- أنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقعت مناظرة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان في حكم من أحكام التحريم والتحليل . وحزب الرحمن يتبعون تشريع الرحمن في وحيه في تحريمه ، وحزب الشيطان يتبعون وحي الشيطان في تحليله . وقد حكم الله بينهما وأفتى فيما تنازعوا فيه فتوى سماوية قرآنية تتلى في سورة الأنعام .
وذلك أن الشيطان لما أوحى إلى أوليائه فقال لهم في وحيه : سلوا محمداً عن الشاة تصبح ميتة من الذي قتلها ؟ فأجابوهم أن الله هو الذي قتلها . فقالوا : الميتة إذًا ذبيحة الله ، وما ذبحه الله كيف تقولون إنه حرام ؟ مع أنكم تقولون إنما ذبحتموه بأيديكم حلال ، فأنتم إذًا أحسن من الله وأحل ذبيحة .
فأنزل الله بإجماع من يعتد به من أهل العلم قوله تعالى : ((وَلا تَأْكُلُوا مِما لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) يعني الميتة ، أي وإن زعم الكفار أن الله ذكاها بيده الكريمة بسكين من ذهب : ((وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)) ، والضمير عائد إلى الأكل المفهوم من قوله: ((وَلا تَأْكُلُوا)) ، وقوله : ((لَفِسْقٌ)) أي خروج عن طاعة الله واتباع لتشريع الشيطان ، ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)) أي بقولهم : ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام فأنتم إذًا أحسن من الله وأحل تذكية ، ثم بين الفتوى السماوية من رب العالمين في الحكم بين الفريقين في قوله تعالى : ((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) فهي فتوى سماوية من الخالق جل وعلا صرح فيها بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله ....
ومن الآيات الدالة على نحو ما دلت عليه آية الأنعام المذكورة قوله تعالى : ((إِنَّما سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)) ، فصرح بتوليهم للشيطان ، أي باتباع ما يزين لهم من الكفر والمعاصي مخالفا لما جاءت به الرسل ، ثم صرح بأن ذلك إشراك به في قوله تعالى : ((وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)) ، وصرح أن الطاعة في ذلك الذي يشرعه الشيطان لهم ويزينه عبادة للشيطان .
ومعلوم أن من عبد الشيطان فقد أشرك بالرحمن قال تعالى : ((أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً)) ، ويدخل فيهم متبعوا نظام الشيطان دخولاً أولياً ، ((أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)) ، ثم بين المصير الأخير لمن كان يعبد الشيطان في دار الدنيا في قوله تعالى : ((هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْها الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ))
وقال تعالى عن نبيه إبراهيم : ((يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً)) , فقوله : ((لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)) أي باتباع ما يشرعه من الكفر والمعاصي مخالفاً لما شرعه الله .
وقال تعالى : ((إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانا مَرِيداً)) , فقوله : ((وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانا)) يعني ما يعبدون إلا شيطاناً مريداً .
وقوله تعالى : ((وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)) ، فقوله تعالى : ((بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ)) أي يتبعون الشياطين ويطيعونهم فيما يشرعون ويزينون لهم من الكفر والمعاصي على أصح التفسيرين .
والشيطان عالم بأن طاعتهم له المذكورة إشراك به كما صرح بذلك وتبرأ منهم في الآخرة ، كما نص الله عليه في سورة إبراهيم في قوله تعالى : ((وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَما قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ...)) إلى قوله : ((... إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)) , فقد اعترف بأنهم كانوا مشركين به من قبل أي في دار الدنيا ، ولم يكفر بشركهم ذلك إلا يوم القيامة .
وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الذي بيننا في الحديث لما سأله عدي بن حاتم رضي الله عنه عن قوله : ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً)) , كيف اتخذوهم أربابا ؟ وأجابه صلى الله عليه وسلم أنهم أحلوا لهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم ، وبذلك الاتباع اتخذوهم أربابا .
ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئاً يعلمون أن الله حرمه وحرموا شيئا يعلمون أن الله أحله فإنهم يزدادون كفراً جديداً بذلك مع كفرهم الأول ، وذلك في قوله تعالى : ((إِنَّما النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)) إلى قوله : ((وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ))
وعلى كل حال فلا شك أن كل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله فقد أشرك به مع الله ، كما يدل لذلك قوله : ((وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)) , فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد .
وقوله تعالى : ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)) ؛ فقد سمى تعالى الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله شركاء ، ومما يزيد ذلك إيضاحاً أن ما ذكره الله عن الشيطان يوم القيامة ، من أنه يقول للذين كانوا يشركون به في دار الدنيا : ((إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)) ، أن ذلك الإشراك المذكور ليس فيه شيء زائد على أنه دعاهم إلى طاعته فاستجابوا له كما صرح بذلك في قوله تعالى عنه : ((وَما كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)) ، وهو واضح كما ترى . انتهى كلام الشيخ رحمه الله . (أضواء البيان : 7/47-57)

وقال رحمه الله في قوله تعالى ((وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِأَحَداً)) :
ويفهم من هذه الآيات كقوله : ((وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا)) أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله . وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر . كقوله : فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله : ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) ، فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم . وهذا الإشراك في الطاعة واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى : ((أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) ، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم : ((يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً)) ، وقوله تعالى : ((إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً)) ، أي ما يعبدون إلا شيطاناً ، أي وذلك باتباع تشريعه . ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى : ((وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ...)). وقد بين النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ...)) الآية ، فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله ، فاتبعوهم في ذلك ، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً .
ومن أصرح الأدلة في هذا : أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله ، يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون ، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب . وذلك في قوله تعالى : ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً)) .
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم ، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم .. اهـ (أضواء البيان : 4/82-83)

قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالة تحكيم القوانين :
وقد قال عزّ شأنه قبل ذلك مخاطباً نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم : ((وأَنِ احْكُمْ بَيْنهُم بما أنزل اللهُ ولا تَتَّبِعْ أهْواءهُم عَمّا جاءَك مِن الحقّ)) ، وقال تعالى : ((وأنِ احْكُمْ بَيْنهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ واحْذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إليك)) ، وقال تعالى مُخيرًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بين الحُكم بين اليهود والإعراض عنهم إنْ جاءُوه لذلك : ((فَإنْ جاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم أوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإنْ تَعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ)) . والقسط هو العدل ، ولا عدل حقا إلاّ حُكم الله ورسوله ، والحكمبخلافه هو الجور والظلم والضلال والكفر والفسوق ، ولهذا قال تعالى بعد ذلك : ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) ، ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) ، ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))
فانظر كيف سجّل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل اللهُالكفرَ والظلمَ والفسوقَ ، ومِن الممتنع أنْ يُسمِّي اللهُ سبحانه الحاكمَ بغير ماأنزل اللهُ كافرًا ولا يكون كافرًا ، بل كافرٌ مطلقًا ، إمّا كفر عمل وإما كفراعتقاد ، وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية من رواية طاوسوغيره يدلُّ أنّ الحاكم بغير ما أنزل اللهُ كافرٌ إمّا كفر اعتقاد ينقل عن الملّة، وإمّا كفر عمل لا ينقلُ عن الملّة.
أمّا الأول : وهو كفر الاعتقادفهو أنواع :
أحدها : أن يجحد الحاكمُ بغير ما أنزل الله أحقيّة حُكمِ اللهورسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو معنى ما رُوي عن ابن عباس واختاره ابن جرير ، أنّ ذلك هو جحودُ ما أنزلاللهُ من الحُكم الشرعي ، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم ؛ فإنّ الأصول المتقررةالمتّفق عليها بينهم أنّ مَنْ جَحَدَ أصلاً من أصول الدين أو فرعًا مُجمعًا عليه ،أو أنكر حرفًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعيًّا ، فإنّه كافرًا الكفرَالناقل عن الملّة.
الثاني : أنْ لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كونَ حُكم اللهِ ورسولِهِ حقًّا ، لكن اعتقد أنّ حُكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسنُ منحُكمه، وأتمّ وأشمل لما يحتاجه الناسُ من الحُكم بينهم عند التنازع ، إمّا مُطلقًا ، أو بالنسبة إلى ما استجدّ من الحوادث التي نشأت عن تطوّر الزمان وتغير الأحوال ، وهذا أيضًا لا ريب أنه كافرٌ ؛ لتفضيله أحكامَ المخلوقين -التي هي محضُ زبالةِ الأذهان وصِرْفُ حُثالة الأفكار- على حُكم الحكيم الحميد . وحُكمُ اللهِ ورسولِه لايختلف في ذاته باختلاف الأزمان وتطور الأحوال وتجدّد الحوادث ؛ فإنّه ما من قضيةكائنة ما كانت إلاّ وحُكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،نصًّا أو ظاهرًا أو استنباطًا أو غير ذلك ، عَلِمَ ذلك مَن علمه وجَهِلَه مَن جهله ، وليس معنى ما ذكره العلماء من تغيّر الفتوى بتغير الأحوال ما ظنّه مَن قلَّ نصيبُه أو عُدم من معرفة مدارك الأحكام وعِلَلها ، حيث ظنّوا أنّ معنى ذلك بحسب ما يُلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية وأغراضهم الدنيوية وتصوّراتهم الخاطئة ؛ ولهذا تجدُهم يحامون عليها ، ويجعلون النصوص تابعة لها منقادة إليها مهما أمكنهم ، فيحرفون لذلك الكَلِم عن مواضعه .
وحينئذٍ معنى تغيُّر الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مرادالعلماء منه : ما كان مُستصحَبه فيه الأصول الشرعية والعلل المرعية والمصالح التيجِنْسُها مرادٌ لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم . ومن المعلوم أنّ أربابالقوانين الوضعية عن ذلك بمعزل ، وأنهم لا يقولون إلاّ على ما يلائم مراداتهم ، كائنةما كانت ، والواقع أصدقُ شاهدٍ .
الثالث : أنْ لا يعتقد كونَه أحسن من حُكم الله ورسوله ، لكن اعتقد أنه مثله . فهذا كالنوعين اللذين قبله في كونه كافرًا الكفر الناقل عن الملّة ؛ لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق والمناقضة والمعاندة لقوله عزّ وجلّ : ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء)) ، ونحوها من الآيات الكريمة الدالّة على تفرُّدِ الربّ بالكمال وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال والحُكم بين الناس فيمايتنازعون فيه .
الرابع : أنْ لا يعتقد كون حُكم الحاكم بغير ما أنزل اللهمماثلاً لحكم الله ورسوله ، فضلاً عن أنْ يعتقدَ كونه أحسن منه ، لكن اعتقد جواز الحُكم بما يخالف حُكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . فهذا كالذي قبله يصدُقُ عليه ما يصدق عليه ؛لاعتقاده جوازَ ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه .
الخامس : وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندةً للشرع ، ومكابرةً لأحكامه ، ومشاقّةً لله ورسوله ،ومضاهاةً بالمحاكم الشرعية ، إعدادًا وإمدادًا وإرصادًا وتأصيلًا ، وتفريعاً وتشكيلًا وتنويعاً ، وحكماً وإلزاماً ، ومراجع ومستندات . فكما أنّ للمحاكم الشرعية مراجعَمستمدّاتٍ ، مرجعها كلُّها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلهذهالمحاكم مراجع ، هي القانون المُلفّق من شرائعَ شتى وقوانين كثيرة ، كالقانونالفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني ، وغيرها من القوانين ، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك .
فهذه المحاكم في كثير منأمصار الإسلام مهيّأةٌ مكملةٌ مفتوحةُ الأبواب ، والناس إليها أسرابٌ إثْر أسراب ،يحكُمُ حُكّامُها بينهم بما يخالف حُكم السُنّة والكتاب ، من أحكام ذلك القانون ،وتُلزمهم به ، وتُقِرُّهم عليه ، وتُحتِّمُه عليهم ؛ فأيُّ كُفر فوق هذا الكفر ، وأيُّمناقضة للشهادة بأنّ محمدًا رسولُ اللهِ بعد هذه المناقضة .
وذِكْرُ أدلّةجميع ما قدّمنا على وجه البسْطِ معلومةٌ معروفة ، لا يحتمل ذكرها في هذا الموضع.
فيا معشر العُقلاء ، ويا جماعات الأذكياء وأولي النهى ؛ كيف ترضون أنْ تجري عليكم أحكامُ أمثالكم وأفكارُ أشباهكم ، أو مَن هم دونكم مِمّن يجوز عليهم الخطأ ، بل خطأهم أكثرُ من صوابهم بكثير ، بل لا صواب في حُكمهم إلاّ ما هو مُستمدٌّ من حُكم اللهِ ورسولهِ ، نصًّا أو استنباطًا ، تَدَعونهم يحكمون في أنفسكم ودمائكم وأبشاركم وأعراضكم ، وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم ، وفي أموالكم وسائر حقوقكم؟؟ ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحُكم الله ورسوله ، الذي لا يتطرّق إليه الخطأ ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد !!
وخُضوع الناس ورضوخهم لحكم ربِّهم خضوعٌ ورضوخٌ لِحُكم مَنْ خلقهم تعالى ليعبدوه ، فكما لا يسجد الخلقُ إلاّ للهِ ، ولا يعبدونَ إلاّ إياه ، ولا يعبدون المخلوق ؛ فكذلك يجب ألا يرضخوا ولا يخضعوا أو ينقادوا إلاّ لحُكم الحكيم العليم ، الحميد الرؤوف الرحيم ،دون حُكم المخلوق الظلوم الجهول ، الذي أهلكته الشكوكُ والشهواتُ والشبهات ، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات .
فيجب على العُقلاء أن يربأوا بنفوسهم عنه ؛ لما فيه من الاستعباد لهم ، والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض والأغلاط والأخطاء ، فضلاً عن كونه كفرًا بنصِّ قوله تعالى : ((ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرون))
السادس : ما يحكُم به كثيرٌ من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم ، من حكايات آبائهم وأجدادهم ، وعاداتهم التي يسمُّونها "سلومهم" ، يتوارثون ذلك منهم ، ويحكمون به ويحُضُّون على التحاكم إليه عند النزاع ، بقاء على أحكام الجاهلية ، وإعراضًا ورغبةًعن حُكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله .
وأمّا القسم الثاني من قسمي كُفر الحاكم بما أنزل الله ، وهو الذي لا يُخرجُ من الملة فقد تقدّم أنّ تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عزّ وجلّ : ((ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرون)) قد شمل ذلك القسم ، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية : (كُفر دون كفر) ، وقوله أيضًا : (ليس بالكفر الذي تذهبون إليه) وذلك أنْ تَحْمِلَهُ شهوتُه وهواهُ علىالحُكم في القضية بغير ما أنزل الله ، مع اعتقاده أنّ حُكم الله ورسوله هو الحقّ ،واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى ، وهذا -وإنْ لم يُخرِجْه كُفْرُه عن الملّة-فإنه معصية عُظمى أكبرُ من الكبائر ، كالزنا وشُرب الخمر والسّرِقة واليمينالغموس وغيرها ؛ فإنّ معصيةً سمّاها اللهُ في كتابه كفرًا أعظمُ من معصية لميُسمِّها كُفرًا .
نسأل الله أنْ يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه انقيادًا ورضاءً ، إنّه وليُّ ذلك والقادر عليه . (انتهى كلامه رحمه الله)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر ، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب . (مجموع الفتاوى : 28/524)

وقال رحمه الله :
ومعلوم أن من أسقط الأمر والنهي الذي بعث الله به رسله فهو كافر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى . (مجموع الفتاوى : 8/106)

قال ابن كثير رحمه الله في البدايةوالنهاية :
فمن ترك الشرع المحكمالمنزل علىمحمد بن عبد الله خاتم الأنبياء r وتحاكم إلى غيره منالشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكمإلى الياسق وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين . اهـ (البداية والنهاية : 13/119)
..


وبعد هذه المقدمة في بيان وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية ونبذ ما عداها ، نأتي إلى الشبهات المثارة حول هذه القضية في هذا العصر . وتلك الشبهات تتلخص فيما يلي :
1- قولهم : الكلام في الحاكمية بدعة ، وأول من تكلم فيها هم الخوارج ، ومن المعاصرين سيد قطب .
2- قولهم : أصل دعوة الرسل هو التحذير من شرك الدعاء ، وهذا الكلام يهون من شأنه .
3- قولهم : آيات تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله أنزلت في أهل الكتاب .
4- قولهم : الحكم بغير ما أنزل الله كفر أصغر لا أكبر ، ويشترط الاستحلال للتكفير .
5- قولهم : لا يكفر الحاكم حتى ينسب تشريعه للدين .
6- قولهم : الحكم بغير ما أنزل الله مسألة خلافية ولا إجماع فيها .
7- قولهم : أنتم تكفرون بإطلاق دون تفصيل .
8- قولهم : يلزم من تكفير الحاكم تكفير كل من سكت ولم يعرف له إنكار من شعبه .
9- قولهم بإمامة الحكام بغير ما أنزل الله ووجوب السمع والطاعة لهم حتى يكفروا عينًا ، بل إن بعضهم يبالغ فيوجب ذلك حتى مع الكافر عينًا .
10- قولهم : الكلام في تكفير الحاكم يدعو إلى التهييج وإثارة الفتن والحث على الخروج .


تلك عشرة كاملة من الشبهات
ولعلها هي أكثر ما نسمعه من ذلك الفريق الآنف الذكر ..
وهذا جواب مختصر لكل شبهة منها
فعلى الله توكلت وبه اعتصمت وإليه التجأت
فأسأل الله العلي العظيم أن يهديني وإخواني لما اختلف فيه من الحق بإذنه
إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
لتحميل بقية البحث
http://www.salafvoice.com/article.ph...Vnb3J5JmM9MTUx
للتحميل المباشر
http://rapidshare.com/files/154395814/shubuhat.doc.html
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10-18-2008, 04:23 PM
الوليد المصري الوليد المصري غير متواجد حالياً
مراقب عام
 




افتراضي


الشبهة الأولى :
قولهم : الكلام في الحاكمية بدعة ، وأول من تكلم فيها هم الخوارج ، ومن المعاصرين سيد قطب .

وقد رُمي بذلك كثير من مشايخنا وعلمائنا ممن اشتهر عنهم الكلام في ذلك ؛ كالشيخ العلامة عبد الرحمن عبد الخالق والشيخ العلامة محمد عبد المقصود وشيخنا العلامة ياسر برهامي حفظهم الله جميعًا ..
فالجواب عن ذلك : أن التقسيم إما أن يكون شرعيًا ، وإما أن يكون اصطلاحيًا .
فالتقسيم الشرعي هو ما نص عليه الكتاب أو السنة . مثل : تقسيم الشرك إلى أكبر وأصغر ، وتقسيم المعاصى إلى كبائر وصغائر ، وتقسيم الناس إلى مؤمن وكافر ، وتقسيم أركان الإسلام إلى خمسة وأركان الإيمان إلى ستة .
فكل ذلك لا يتجاوز به إلى غيره ما دام قد ثبت فيه الدليل . والزيادة عليه من الابتداع في دين الله عز وجل .
ومن أمثلة ذلك : ما ابتدعه المعتزلة بالحكم على مرتكبي الكبائر بالمنزلة بين المنزلتين ، وما ابتدعه بعض المعاصرين بالحكم على مستور الحال بجهالة الحكم فلا يحكم له بإسلام ولا كفر .

أما النوع الآخر من التقسيم وهو التقسيم الاصطلاحي ؛ وهو ما اصطلح عليه أهل كل فن للضبط أو للتيسير أو لجمع المسائل ، وذلك من خلال استقراء النصوص وسبر الأدلة .
ومن ذلك : تقسيم الفقه إلى عبادات ومعاملات ، وتقسيم أحكام الصلاة إلى شروط وأركان وواجبات وسنن ، وتقسيم العلوم إلى عقائد وفقه وأصول ومصطلح وغيرها .
ولا حرج من هذا النوع من التقسيم ما لم يُبْنَ عليه حكم شرعي ؛ كتقسيم الدين إلى أصول وفروع وأن الخلاف في الأصول غير سائغ والخلاف في الفروع سائغ ، أو أنه يعذر بالجهل في الفروع دون الأصول ، أو مثل ما يفعله بعض طلبة العلم من الاهتمام بعلم الحديث وترك الحد الأدني لالتزامه بالدين من العلوم الأخرى .
فهذا هو البدعة ؛ لأن أصل التقسيم ليس عليه دليل فكيف يجعل هو دليلاً على غيره ؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق ، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده ، أو لم يتمكن من فهمها ، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها . فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان ، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية ، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وجماهير أئمة الإسلام ، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها . فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع ؛ فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام ، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع ، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم ، وهو تفريق متناقض . (مجموع الفتاوى : 23/346)

وعند تأمل هذا النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نجد إنكاره لهذا التقسيم إنما هو إنكار لما بُني على ذلك من أحكام في التكفير والتبديع والتفسيق ، وليس إنكارًا للتسمية ؛ فإن شيخ الإسلام رحمه الله قد نقل عنه إقراره له في مواضع أخر ، بل له رسالة سماها (معارج الوصول إلى أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول) ، ولكنه لما رأى أن البعض قد بنى الأحكام على أساس هذا التقسيم بين لهم أنه تقسيم حادث ليس عليه دليل فكيف يصلح أن يكون هو دليلاً ؟؟
..
وما نحن بصدده من تقسيم التوحيد يدخل بلا شك في النوع الثاني ؛ وهو التقسيم الاصطلاحي .
فبعض العلماء يقسم التوحيد إلى ثلاثة أنواع : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات . وبعضهم يقسمه إلى نوعين فقط : توحيد المعرفة والإثبات ، وتوحيد القصد والطلب . وأشهر من عرف عنه ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، فهما أول من أشاع تقسيم التوحيد إلى ذلك . فلا يجوز أن يُجعل ذلك هو الأصل وما سواه باطل ؛ إذ إن كلامهما ليس بوحي ولا نص ؛ فما جاز لهما جاز لغيرهما ، وما لم يجز لغيرهما لم يجز لهما .
فمن قسم التوحيد إلى نوعين فلا حرج عليه ، ومن قسمه إلى ثلاثة أيضًا لا حرج ، ومن قسمه إلى أربعة أيضًا لا حرج ، وكل ذلك مشروط بعدم بناء الأحكام الشرعية عليه .

فإفراد الله تعالى بالحكم من حقوق الله عز وجل بلا شك عند من شم أدنى رائحة من علم نبوي . فمن أدخله ضمن أنواع التوحيد الثلاثة المشهورة لا حرج عليه ، ومن جعله نوعًا مفردًا لا حرج عليه كذلك . وسواء سميناه توحيد الحاكمية أو توحيد الطاعة أو توحيد الأمر ، فكلها أسماء لمسمى واحد وهو إفراد الله تعالى بالحكم والتشريع . وكل ذلك ما لم يُبن على التقسيم حكم شرعي ؛ كأن يقال أن شرك الحاكمية لا يعذر فيه بموانع التكفير ويعذر في شرك القبور ، أو العكس .. فهذا هو البدعة الضلالة .
وأما جعل مجرد التقسيم بدعة ؛ فيلزم منه تبديع تقسيم التوحيد أصلاً ، بل يلزم منه تبديع كل تقسيم اصطلاحي ليس عليه دليل .
فهل يلتزم أصحاب هذا القول ذلك ؟

وإن كنا مع ما سبق نختار الإبقاء على ما اشتهر بين العلماء من تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام فقط ، وهي توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، مع بيان أن الحكم بما أنزل الله تابع للأنواع الثلاثة ولا يختص بأحدها ، كما سبق الكلام عليه مفصلاً في المقدمة . فقد قلنا في المقدمة :
فهو يتبع توحيد الأسماء والصفات إذ قد قال الله تعالى : ((إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ)) (يوسف : 40) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن الله هو الحكم)) (رواه أبو داود والنسائي ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1845) . فالحكم صفة ثابتة لله تعالى لا ينازعه فيها مخلوق ، وحكمه تعالى إما أن يكون كونيًا أو شرعيًا أو جزائيًا . فالحكم الكوني مثل قوله تعالى : ((أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) (الرعد : 41) ، وقوله تعالى : ((وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)) (يونس : 109) ، والحكم الشرعي مثل قوله تعالى : ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) (الشورى : 10) ، وقوله تعالى : ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) (المائدة : 50) ، والحكم الجزائي الذي يكون يوم القيامة مثل قوله تعالى : ((اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) (الحج : 69) ، وقوله تعالى : ((ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)) (الأنعام : 62)
وهو يتبع توحيد الربوبية ، فهو حق خالص لله تعالى ، فمن ادعى هذا الحق لأحد من دون الله فقد اتخذه ربًا ، قال تعالى : ((اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة : 31) ، وعن عدي بن حاتم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية ، فقال : ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه)) (رواه الترمذي وصححه الألباني)
وهو يتبع توحيد الألوهية من جهة أن التحاكم يجب أن يكون مرده لله ورسوله ، فمن أعرض عن حكم الله متبعًا شرائع الشياطين وأهواء البشر فقد أشرك في العبادة ، كما قال تعالى : ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) (الأنعام : 121)
فما محل تلك الآيات إذن عند من يدع الكلام في الحكم ، وكيف يفسرونها ؟؟ ...
..
أما كون الخوارج هم أول من دعا إليها ومن المعاصرين سيد قطب فنقول :
1- نقول -مع تنزيهنا لسيد رحمه الله أن يكون من الخوارج كما يتهمه غلاة التصنيف- فقد سبق الخوارج قديمًا وسيد قطب حديثًا في الكلام عن ذلك من هو خير منهم ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فعن شريح بن هانئ عن أبيه ، أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ((إن الله هو الحكم ؛ فلم تكنى أبا الحكم ؟)). قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين بحكمي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما أحسن هذا . فما لك من الولد ؟)) قال : لي شريح ومسلم وعبد الله . قال : ((فمن أكبرهم ؟)) قال : قلت شريح . قال : ((فأنت أبو شريح)) رواه أبو داود والنسائي ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1845) . فإذا كان هذا في مجرد المشابهة في الاسم فقط ؟ فكيف بمن يدعي هذ الحق لنفسه ؟ وكيف يقال أن هذا الكلام حادث بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
2- أيضًا قد سبق سيد قطب كثير من العلماء الذين فصلوا تلك المسألة تفصيلاً دقيقًا وبينوها أتم بيان ، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن كثير وغيرهم . وكلامهم معروف في ذلك ، ثم تتابع العلماء المعاصرون على تأصيل ذلك وتوضيحه مؤيدًا بالأدلة من الكتاب العزيز والسنة النبوية ، فلم يكن سيد قطب سابقًا لأحد في كلامه ذلك ، بل ما هو إلا رجل دعته غيرته إلى إنكار منكر عم البلاء به ، وتتابع الناس للوقوع فيه ، ولم يكن كلامه بذاك التأصيل العلمي الموجود في كتب أهل العلم حتى يقال أن هؤلاء تبع له في ذلك ، بل كان كلامه إنكارًا عامًا على واقع الناس دون تفصيل في قضية الحكم متى يكون الخلاف فيها مخرجًا من الملة ومتى لا يكون كذلك ، مما تجده مبثوثًا في تصانيف العلماء كالشيخ العلامة أحمد شاكر وأخيه محمود شاكر ، والشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ . وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى .
3- عندما رفع الخوارج شعار (إن الحكم إلا لله) هل من أحد من أهل العلم على مختلف الأعصار أنكر هذه الكلمة ؟؟ وكيف ينكرها وهي آية من كتاب الله تعالى ، لها معنى ومضمون ولوازم ، وينبغي تدبرها والعمل بها ككل آيات القرآن ؟؟ بل إن الذين أنكروا على الخوارج هذه الكلمة ، أنكروا عليهم سوء فهمهم لها وتطبيقهم لمضمونها ، وليس على مجرد رفعهم لها ، فإن عليًا رضي الله عنه لما أنكر عليهم قال : كلمة حق أريد بها باطل . فهو قد أنكر إرادتهم ونيتهم دون أحقية تلك الكلمة وفهمها على وجهها .
4- ثم ؛ مَن مِن المفسرين نبه على عدم الدعوة لإفراد الله بالحكم لئلا يُظن أنه من الخوارج ؟
..
كلام الشيخ الألباني رحمه الله في الحاكمية
قال رحمه الله :
وختاما أيها الإخوة ؛ لست أريد من كلمتي هذه أن أحملكم على أن تكونوا جميعا أئمة مجتهدين وفقهاء محققين - وإن كان ذلك يسرني كما يسركم - إذ إن ذلك غير ممكن عادة لضرورة اختلاف الاختصاصات وتعاون المتخصصين بعضهم مع بعض ، وإنما أردت منها أمرين اثنين ؛ الأول : أن تنتبهوا لأمر خفي على كثير من الشباب المؤمن المثقف اليوم فضلا عن غيرهم ، وهو أنهم في الوقت الذي علموا فيه - بفضل جهود وكتابات بعض الكتاب الإسلاميين مثل السيد قطب رحمه الله تعالى والعلامة المودودي حفظه الله وغيرهما ، أن حق التشريع إنما هو لله تعالى وحده لا يشاركه فيه أحد من البشر أو الهيئات وهو ما عبروا عنه بـ (الحاكمية لله تعالى) ، وذلك صريح تلك النصوص المتقدمة في أول هذه الكلمة من الكتاب والسنة . أقول : في الوقت هذا نفسه فإن كثيرًا من هؤلاء الشباب لم يتنبه بعد أن المشاركة المنافية لمبدأ الحاكمية لله تعالى لا فرق فيها بين كون البشر المشرع من دون الله مسلماً أخطأ في حكم من أحكام الله أو كافرًا نصب نفسه مشرعًا مع الله وبين كونه عالماً أو جاهلًا كل ذلك ينافي المبدأ المذكور الذي آمن به الشباب والحمد لله تعالى . فهذا الذي أردت لكم أن تتنبهوا له وأذكركم به . فإن الذكرى تنفع المؤمنين . (الحديث حجة بنفسه ص96)
قلت : ومقصود الشيخ الألباني رحمه الله أن تحليل الحرام وتحريم الحلال ينافي كون الحاكمية لله تعالى بغض النظر عن حال قائله .
...
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10-18-2008, 04:25 PM
الوليد المصري الوليد المصري غير متواجد حالياً
مراقب عام
 




افتراضي

الشبهة الثانية :
أصل دعوة الرسل هو التحذير من شرك الدعاء ، وهذا الكلام يهون من شأنه

ونقول :
هذه شبهة باطلة عارية عن الصحة فقيرة إلى الدقة في تدبر أحوال الرسل مع أقوامهم ؛ فلو تأملنا ما دعا إليه الرسل ما وجدنا شرك الدعاء فقط هو ما نهوا عنه أقوامهم ، بل كانت دعوتهم شاملة لكل جوانب التوحيد ، والتحذير من كل أنواع الشرك .
فلو نظرنا إلى حكاية الله عن دعوة رسله وتأملنا قوله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)) (الأنبياء : 25) لوجدنا أن هذا إخبار عن مجمل دعوة الرسل من الدعاء إلى العبادة بمفهومها العام ، وهي كل ما يتقرب به العبد إلى الله على ألسنة رسله .. وليس ذلك مقصورًا على الدعاء فقط . أَوَليس من العبادة التزام أمر الله تعالى وعدم رده ؟
ثم إننا لو تأملنا أحوال الأمم في القرآن لوجدنا أن أكثرها لم يكن شركهم في الدعاء . وكأني بهؤلاء الذين يثيرون هذه الشبهة يتهمون الأنبياء من حيث لا يشعرون بالتقصير في بيان دعوتهم كاملة لأقوامهم .

يقول الله تعالى عن فرعون : ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي)) (القصص : 38) ، وقال تعالى : ((فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) (النازعات : 23-24) إذن فلم يكن كفره بسبب إظهار دعاء غير الله وإن وجد فيهم ذلك -على قول بعض المفسرين- ، وإنما تكلم القرآن عن كفره بسبب ادعاء حق الله لنفسه ، كما قال العلامة الألوسي رحمه الله : وأراد اللعين تفضيل نفسه على كل من يلي أمورهم . اهـ
وقال تعالى عن لوط وقومه : ((وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)) (العنكبوت : 29) . إذن فلم يكن كفرهم بسبب دعاء غير الله ، وإنما برد أمر الله وعدم قبوله وتكذيب رسله .
وقال تعالى عن بني إسرائيل : ((اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة : 31) . وهؤلاء ما كانوا يصلون لهم ، ولا ذَكَر الله أنهم كانوا يصرفون لهم الدعاء من دونه ، فعن عدي بن حاتم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية ، فقال : ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه))(رواه الترمذي وصححه الألباني) .
وسئل حذيفة رضي الله عنه عن هذه الآية : أكانوا يصلون لهم ؟ . قال : لا ، ولكنهمكانوا يحلون لهم ما حرم الله عليهم فيستحلونه ، ويحرمون عليهم ما أحل الله لهمفيحرمونه ؛ فصاروا بذلك أربابا . (صححه الألباني في الصحيحة : 7/865)
وهذا يوسف عليه السلام يفصل لمن دعاهم الأمر ويبين لهم أن إفراد الله تعالى بالحكم كإفراده بالدعاء فقال جامعًا بين الاثنين: ((مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)) (يوسف : 40)
بل لنتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار ، وكان أول من سيب السوائب)) (متفق عليه) تجد فيه إشارة واضحة إلى شرك التشريع والطاعة بتحريم ما أحل الله من تسييب السوائب للمعبودات الباطلة .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجَوْن : ((يا أكثم ؛ رأيت عَمْرو بن لُحَيّ بن قَمعَةَ بن خِنْدف يجر قُصْبه في النار ، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ، ولا به منك)) . فقال أكثم : تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله ؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا ؛ إنك مؤمن وهو كافر ؛ إنه أول من غَيّر دين إبراهيم ، وبحر البحيرة ، وسيّب السائبة ، وحمى الحامي)) . (رواه ابن جرير في تفسيره ، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة : 4/243) .

فقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين تغييره دين إبراهيم وبين تبديله شرع الله تعالى ليبين أن حكمهما سواء ، وأن فعله هذا من جنس فعل اليهود والنصارى الذين حرموا ما أحل الله ؛ فسماهم الله بذلك أربابًا .
...
فبعد هذه الأدلة الصريحة في بيان أن شرك الطاعة كشرك الدعاء ، ليس لأحد أن يزعم - بجهله - أن دعوة الرسل قائمة على التحذير من شرك الدعاء فقط .
نعم .. إن أول شرك وقع على ظهر الأرض كان في قوم نوح بدعاء غير الله من الصالحين .. ولكن أول شرك وقع مطلقًا هو شرك إبليس عندما عبد هواه وعظم نفسه ، فرد حكم الله تعالى ، ولم يقبل أمره .. فكيف يراد منا أن نحذر الناس من شرك العبادة ونترك شرك الطاعة ؟؟؟ أوليس كل منهما حقًا خالصًا لله تعالى لا ينازعه فيه أحد ؟؟ .. فما لكم كيف تحكمون ؟؟
...
قال شيخنا الدكتور ياسر برهامي حفظه الله تعالى :
فالكبر من أعظم الأمور شركًا ؛لأن الإباء معارضة ومنازعة في أصل العبودية . وقد حصلت مناظرات في أي النوعين أعظم خطرًا ؛ عبادة القبور أم عدم التحاكم للشريعة ، فقالت طائفة : أصل التوحيد عبادةالله وحده ودعاؤه وحده ، أماالتحاكم إلى غير الشريعة فهو مخالفة في أصل الطاعة فقط فعارضتها طائفة أخرى في ذلك . وقد كان نشأ ذلك أيام الاحتلالالانجيزي لبلاد الهند عندما قام أبو الأعلى المودودي رحمه الله بالدعوة إلى ضرورةالتحاكم إلى الشريعة وأن التشريع لابد أن يكون من الله ، فعارضه آخرون وقالوا : بل العبادة أصلاً معناه الدعاء والطلب ؛ فلابد أن تكون دعوتنا علىأساس هذا .
وهذا من الخلط ؛ فكلا النوعين شرك وكفر لابد منمحاربته . ففي زماننا يُحاكَم أناس في بعضبلاد المسلمين بتهمة الدعوة لتطبيق الشريعة ، فمجرد الدعوة جُرم تجب محاكمة صاحبه عندهم ، وهذه علة إبليسية ؛ فإن هؤلاء يقولون : هذا الدين لا دخللنا به ولا حاجة لنا إليه ولننعود إليه أبدًا ، قد تبنا منه وتبرأنا ، ونبذناه وأهله . وهم مع ذلك لا يدْعون أحدًا من دون الله ولا يعبدون القبور .
وإبليس كان شركه في الإباء والاستكبار عن أمر الله ، لم يكن شركه أنه يجعل بينه وبين الله في دعائه إليه واسطة مثلاً ، ولا أنه كان يدعو أحدًا من دونالله ، وشركه أصل كل شرك وكل شر فيالأرض .
وعادة الناس أنها تأبى الكبروترفضه ، ولا تجدهم في العادةيقبلون قول قائل متكبر ، ولكنهمفي الحقيقة يقبلون هذا القول وتلك الدعوة تحت أستار ودعاوى . غير أن الشرك في الدعاء أكثرانتشارًا فهو أشد بلية . وهذانالنوعان من الكفر خطران جاثمان شديدان عظيمان .
ويقال أيضًا : الاختلاف لا يفيدفي مثل ذلك عند حسن التأمل بمقتضىالنظر الصحيح والفهم السليم . فإن دعوة التوحيد متكاملة لا يجوز تقطيع أوصالها ، فإخلاص العبادة لله توحيد ، والتحاكم إلى شريعة الله توحيد ، وطاعة الله ورسوله توحيد كذلك . وكذلك الحب في الله والبغض فيه والموالاة والمعاداة فيه كل ذلك من التوحيد . اهـ (الكواشف المضية ص107)

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10-18-2008, 04:26 PM
الوليد المصري الوليد المصري غير متواجد حالياً
مراقب عام
 




افتراضي

الشبهة الثالثة
قولهم : آيات تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله أنزلت في أهل الكتاب فقط .

ونجيب عن ذلك فنقول :
أولاً : إن الآيات التي بينت حكم من يحكم بغير ما أنزل الله جاءت بلفظ العموم ؛ ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))(المائدة : 44) ، ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))(المائدة : 45) ، ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))(المائدة : 47) . وكما هو معلوم في علم الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ولفظ (مَنْ) من أقوى صيغ العموم .

ثانيًا : قال الشيخ عطية سالم رحمه الله في تعقيبه على أضواء البيان : قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر المتبادر من سياق الآيات أن آية : ((فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) نازلة في المسلمين ؛ لأنه تعالى قال قبلها مخاطباً لمسلمي هذه الأمة ((فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً)) ، ثم قال : ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) ؛ فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية . اهـ (أضواء البيان : 1/407)
قلت : قد نقل الشيخ الشنقيطي رحمه الله عن بعض الصحابة والتابعين ترجيح هذا القول مثل ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعبي .
ثالثًا : عند تأمل سبب نزول الآيات أصلاً نجد أن أول هذه الآيات نزلت في المنافقين الذين تابعوا أهل الكتاب على الحكم بغير ما أنزل الله ، فأنزل الله تعالى حكمًا بكفرهم بل وصفهم بالمسارعة في الكفر ، فقال عز وجل : ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (المائدة : 41)
قال ابن كثير رحمه الله : نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر ، الخارجين عن طاعة الله ورسوله ، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله ، عز وجل ((مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)) أي : أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وقلوبهم خراب خاوية منه ، وهؤلاء هم المنافقون ، ((وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا)) أعداء الإسلام وأهله . وهؤلاء كلهم ((سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ)) أي : يستجيبون له منفعلون عنه ((سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ)) أي : يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد . اهـ (تفسير ابن كثير : 3/113)
رابعًا : كذلك قد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات بعينها بين المسلمين ، فعن أنس رضي الله عنه قال : كسرت الرُّبَيِّع -وهي عمة أنس بن مالك- ثنية جارية من الأنصار ، فطلب القوم القصاص ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص . فقال أنس بن النضر -عم أنس بن مالك- : لا والله لا تكسر سنها يا رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يا أنس ؛ كتاب الله القصاص)) ، فرضي القوم وقبلوا الأرش ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)) (متفق عليه)
قال النووي رحمه الله : وهذا وإن كان شرعًا لمن قبلنا ، وفي الاحتجاج به خلاف مشهور للأصوليين ، فإنما الخلاف إذا لم يرد شرعنا بتقريره وموافقته . فإن ورد كان شرعاً لنا بلا خلاف ، وقد ورد شرعنا بتقريره في حديث أنس هذا . والله أعلم . (شرح صحيح مسلم : 11 / 164)
خامسًا : بل إن حذيفة رضي الله عنه قد أنكر على من ظن اختصاص قوله تعالى : ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) ببني إسرائيل ، فقال رضي الله عنه : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لكم كل حُلْوة ولهم كل مُرَّة ، ولتسلُكُنَّ طريقَهم قِدَى الشِّراك . (تفسير الطبري : 10 / 348) . وقال الحسن : نزلت في اليهود ، وهي علينا واجبةٌ . وقال إبراهيم النخعي : نزلت في بني إسرائيل ، ورضي لكم بها . (تفسير الطبري : 10/357)
سادسًا : ومع كل ذلك ، لو كان هذا الحكم خاصًا ببني إسرائيل فإن الآيات الأخرى في إفراد الله بالحكم والتشريع تؤكد عمومه لمن عداهم ممن فعل فعلهم . والأحاديث الناهية عن التشبه بأهل الكتاب تقتضي انطباق هذا الحكم لمن تشبه بهم في ذاك الفعل .
...
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 10-18-2008, 04:28 PM
الوليد المصري الوليد المصري غير متواجد حالياً
مراقب عام
 




افتراضي

الشبهة الرابعة :
قولهم : الحكم بغير ما أنزل الله كفر أصغر لا أكبر ، ويشترط الاستحلال للتكفير
فالقائلون بذلك يجعلون الحكم بغير ما أنزل الله معصية كسائر المعاصي وكبيرة من الكبائر لا يكفر مرتكبها ما لم يستحلها ..
بل إن بعضهم يبالغ ويرمي المخالفين له بأنهم خوارج .
..
ولعل هؤلاء قد غاب عنهم التلازم الشديد بين ربوبية الله سبحانه وبين حقه تعالى في السيادة والتشريع ، بل في حقيقة الأمر هو أحد معاني ربوبيته سبحانه ، كيف لا وقد أنكره المشركون خوفًا من إلزامهم بتوحيد الألوهية ، كما أن التحاكم لشرع الله هو أحد العبادات التي يجب صرفها لله وحده ، وصرفها لغير الله شرك . فلا يثبت توحيد الربوبية إلا بإثبات حق التشريع والسيادة والأمر والنهي ، كما أنه لا يثبت توحيد الألوهية إلا بالتحاكم إلى شرع الله وقبوله والرضا به ظاهرًا وباطنًا .
وقد بين الله سبحانه أن من يتبع غيره في تحليل الحرام وتحريم الحلال فقد اتخذه ربًا ؛ إذ لا فرق بين شرك الطاعة وشرك الدعاء ، إلا في ذهن من لم يفهم التوحيد حق الفهم .
قال تعالى : ((اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (التوبة : 31)
وقال الله تعالى مبينًا أن إفراد الله تعالى بالحكم كإفراده بالدعاء فقال جامعًا بين الاثنين : ((مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)) (يوسف : 40)
وقال عز وجل ((وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) (الأنعام : 121)
وهذا في طاعة المشركين في رد أمر واحد من أوامر الله تعالى ، فكيف بمن أطاعهم في استبدال الشرع كله أو معظمه بكلام البشر ؟؟
وكيف يكون الشرك في الدعاء شركًا أكبر مخرجًا من الملة ، ولا يكون الشرك في التشريع كذلك ؟ وهل كان شرك إبليس إلا في رد أمر الله ؟ وهل كان كفر قوم لوط إلا في رد أمر الله وتكذيب رسله ؟ فما من موضع في القرآن ذكر فيه عن إبليس ولا قوم لوط أنهم صرفوا الدعاء لغير الله .
فهذان النوعان من الشرك متآلفان ، متجانسان حكمًا واحدًا في الكتاب والسنة ، فكيف يُفصل بينهما دون أدنى أثارة من علم ؟
ثم ما نحن فيه الآن من هجر لأحكام الإسلام جملة هل ينتظر فيه تصريح بالاستحلال ؟ وهل يقول ذلك مسلم يعيش ذلك الواقع فضلاً عن كونه عالمًا ؟
فمن يفرض القوانين الوضعية الإنجليزية أو الفرنسية أو الأمريكية على الشعوب الإسلامية ، ويحعلها أصل الحكم في القضاء في الأموال والدماء وسائر أحكام البرية ، بل ويعاقب من يطالب بتطبيق الشريعة الربانية ، هل ننتظر منه بعد ذلك أن يعلن بلسانه أنه مستحل ؟ وهل بعد استحلاله هذا استحلال ؟
فإذا كان من الاستحلال اعتقاد حل الحكم بغير ما أنزل الله ، فكيف بمن يوجبه ويلزم به ، بل ويعاقب من تركه ؟؟!! أوليس هذا قد تخطى مرحلة الاستحلال إلى ما هو أشد منه ؟؟
...


قال شيخنا الدكتور ياسر برهامي حفظه الله :
فمن المعلوم أن الكفر الأكبر في هذا الباب وفى غيره هو الأقوال والأفعال التي تدل على انخرام الباطن لقوله تعالى : ((وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا)) (النحل: 106) ، وهذه قد يعبر عنها بالاستحلال ، ولكن متى ذكرنا الاستحلال بهذا المعنى فهو يشمل كل صور انخرام الباطن سواء بالتكذيب أو الإعراض أو الاستحلال . وأما من قصد الاستحلال على تسمية الحرام حلالاً فقط فيوجد أنواع من الكفر الأكبر لا ينطبق عليها وصف الاستحلال ، كما في كفر إبليس الذي اعترض على الله عز وجل ورد حكمه ، وإن لم يكذب ربه عز وجل ، ولم يسم فعله حلالاً ، ولكنه رأى أن حكمه هو أحسن من حكم الله . فهذا مما لا بد من التأكيد عليه في معنى الاستحلال .
ولا شك أن تبديل الشريعة لا يكون إلا استحلالاً بالمعنى الذي بيناه لكلمة الاستحلال ، فإن المبدل للشرع كتشريع عام للناس لا يتصور أن يفعل ذلك إلا إذا كان يجحد أن لله حكماً في هذه المسألة التي يشرع فيها ، أو يقر بوجود حكم في دين الله ولكن يرى أن هذا الحكم الوضعي أحسن منه ، أو مساوٍ ، أو على الأقل يرى أنه لا يلزمه أن يحكم بشرع الله ، وكل هذا ينطبق عليه وصف الاستحلال . وأما إذا ضم إلى ذلك إلزام الغير به ، فهذا قد تجاوز مرحلة استحلال الحكم بغير ما أنزل الله إلى تحريم الحكم بما أنزل الله . وهذه هي الأنواع الخمسة التي ذكرها الشيخ محمد بن إبراهيم في فتواه المشهورة في ذلك (تحكيم القوانين) ، وضم إليها عادات البدو حتى لا يتوهم متوهم أن من شرط القانون الذي يحكم عليه بأن تشريعه كفر أكبر أن يكون مكتوباً ، بل من الممكن أن يكون متعارفاً عليه .
وهذا الذي ذكره الشيخ محمد بن إبراهيم تابع فيه أهل العلم قبله ، بل تابع فيه إجماع أهل العلم قبله ، ووافقه عليه طائفة كبيرة من أهل العلم بعده . فممن ذكر أن التبديل استحلال وأنه كفر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية ، حيث يقول :
(ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر ، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر ، فإنه ما من أمة إلا وهى تأمر بالحكم بالعدل ، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرها ، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله سبحانه وتعالى كسوالف البادية ، وكأوامر المطاعين فيهم ، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة ، وهذا هو الكفر . فكثير من الناس أسلموا ، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون ، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك ، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار وإلا كانوا جهالاً) (منهاج السنة النبوية : 5/64) . وهذا النقل عن شيخ الإسلام يوضح بجلاء أن كل من جعل شرعاً عاماً متبعاً ، فإنه لم يجعله كذلك إلا لأنه يراه هو العدل ، ولذلك يسمى مستحلاً . (بتصرف يسير من فتاوى شيخنا ياسر برهامي حفظه الله على موقع صوت السلف/ فتوى بعنوان : القوانين الوضعية كفر فهل يشترط الاستحلال ؟)
...
وفي بيان اللجنة الدائمة عن كتاب خالد العنبري (الحكم بما أنزل الله) حيث ذكر أنه أهل السنة مجمعون على اشتراط الاستحلال في التكفير في الحكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام ، وأن الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ له كلام آخر في ذلك بخلاف كلامه في رسالة تحكيم القوانين ، فكذبت اللجنة ذلك . وإليك نص البيان :






بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
بشأن كتاب بعنوان : (الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير) لكاتبه خالد على العنبري
الحمد للهوحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد
فقد اطلعتاللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على كتاب بعنوان (الحكم بغير ماأنزل الله وأصول التكفير) لكاتبه خالد على العنبري ، وبعد دراسة الكتاب اتضح أنهيحتوي على إخلال بالأمانة العلمية فيما نقله عن علماء أهل السنة والجماعة ، وتحريف للأدلة عن دلالتها التي تقتضيها اللغة العربية ومقاصد الشريعة . ومن ذلكما يلي :
1- تحريفه لمعاني الأدلة الشرعية ، والتصرف في بعض النصوصالمنقولة عن أهل العلم ، حذفاً أو تغييراً على وجه يُفهم منها غير المراد أصلاً .
2- تفسير بعض مقالات أهل العلم بما لا يوافق مقاصدهم .
3- الكذبعلى أهل العلم ، وذلك في نسبته للعلامة محمد بن إبراهيم آل شيخ - رحمه الله - ما لميقله .
4- دعواه إجماع أهل السنة على عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله فيالتشريع العام إلا بالإستحلال القلبي كسائر المعاصي التي دون الكفر . وهذا محض إفتراء على أهل السنة ، منشؤه الجهل أو سوء القصد نسأل الله السلامة والعافية .
وبناء على ما تقدم ، فإن اللجنة ترى تحريم طبع الكتاب المذكور ونشره وبيعه، وتُذَكر الكاتب بالتوبة إلى الله تعالى ومراجعة أهل العلم الموثوقين ليتعلم منهمويبينوا له زلاته ،
ونسأل الله للجميع الهداية والتوفيق والثبات على الإسلام والسنة .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء :
الرئيس : عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ .. عضو : عبد الله بن عبد الرحمن الغديان
عضو : بكر بن عبد الله أبو زيد .. عضو : صالح بن فوزان الفوزان
صورة البيان

ثم إن كثيرًا من أصحاب هذه الشبهة يستندون إلى أثري ابن عباس وأبي مجلز في تأويل آية المائدة
في الحكم بغير ما أنزل الله أنه كفر أصغر .
ونقول :
إن أصل الحكم في ذلك العصر -عصر بني أمية- هو الحكم بالإسلام مع المخالفة في قضايا بعينها في تحقيق المناط ، فقد خالفوا فيها حكم الله مع اعترافهم أن حكم الله غير ذلك وأنهم آثمون مستحقون للإثم والعقاب . وأما في عصرنا فأصل الحكم عند العلمانيين بالقوانين الطاغوتية وسيادة الدستور وحرية الشعب ، وتكون المخالفة في ظل ذلك .
فكيف يجعل هذا كذلك ؟؟..

وقد أجاب الشيخ محمود شاكر عن تلك الشبهة جوابًا شافيًا كافيًا فقال رحمه الله :
اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة . وبعد ؛ فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا ، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله ، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه ، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام . فلما وقف على هذين الخبرين ، اتخذهما رأيًا يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله ، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها ، والعامل عليها .
والناظر في هذين الخبرين لا محيص له عن معرفة السائل والمسئول ، فأبو مجلز (لاحق بن حميد الشيباني السدوسي) تابعي ثقة ، وكان يحب عليا رضي الله عنه . وكان قوم أبي مجلز - وهم بنو شيبان - من شيعة علي يوم الجمل وصفين . فلما كان أمر الحكمين يوم صفين ، واعتزلت الخوارج ، كان فيمن خرج على علي رضي الله عنه ، طائفة من بني شيبان ، ومن بني سدوس بن شيبان بن ذهل . وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز ، ناس من بني عمرو بن سدوس ، وهم نفر من الإباضية ، والإباضية من جماعة الخوارج الحرورية ، هم أصحاب عبد الله بن إباض التيمي ، وهم يقولون بمقالة سائر الخوارج في التحكيم ، وفي تكفير علي رضي الله عنه إذ حكم الحكمين ، وأن عليًا لم يحكم بما أنزل الله ، في أمر التحكيم . ثم إن عبد الله بن إباض قال : (إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك) ، فخالف أصحابه ، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين تجري على من خالفهم .
ثم افترقت الإباضية بعد عبد الله بن إباض الإمام افتراقًا لا ندري معه - في أمر هذين الخبرين- من أي الفرق كان هؤلاء السائلون ، بيد أن الإباضية كلها تقول : إن دور مخالفيهم دور توحيد ، إلا معسكر السلطان فإنه دار كفر عندهم . ثم قالوا أيضًا : إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان ، وأن كل كبيرة فهي كفر نعمة ، لا كفر شرك ، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها.
ومن البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء ؛ لأنهم في معسكر السلطان ، ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه ، ولهذا قال لهم في الخبر الأول : ((فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا)) وقال لهم في الخبر الثاني : ((إنهم يعملون ما يعملون ويعلمون أنه ذنب)) ؛ وإذن فلم يكن سؤالهم عمااحتـج بهمبتـدعة زماننا ، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام ، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام ، بالاحتكام إلى حكم غير الله في كتابه وعلى لسان نبيه r ، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ، ورغبة عن دينه وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم اللهسبحانه وتعالى ، وهذا كفر لا يشك أحد من اهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه .
والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلااستثناء، وإيثار حكم غير حكمه في كتابه وسنة نبيه r ، وتعطيل لكل ما فيشريعة الله ، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة ، وادعاء المحتجين بذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا ، ولِعِلَلٍ وأسباب انقضت فسقطت الأحكام كلها بانقضائها .
فأين هذا مما بيناه منحديث أبي مجلز ، والنفر من الإباضية من بني عمرو بن سدوس ؟!!
لو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز أنهمأرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة ، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها ، هذه واحدة، وأخرى أن الحاكم الذي حكم فيقضية بعينهابغيرحكم الله فيها ، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل ، فهذا أمره أمر الجاهلبالشريعة ، وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية فهذا ذنب تناله التوبة وتلحقه المغفرة، وإما أن يكون حكم به متأولاً حكماً يخالفه به سائر العلماء فهذا حكمه حكم كلمتأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب ، وسنة رسول الله r . وأما أن يكون في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر ، جاحداً لحكم من أحكام الشريعة ، أو مؤثراً لأحكام أهل الكفر على أحكام أهلالإسلام ، فذلك لم يكن قط ؛ فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه .
فمن احتج بهذين الأثرينوغيرهما في غير بابهما ، وصرفهما إلى غير معناهما رغبة في نصرة سلطان أو احتيالاً على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده ، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد بحكم من أحكام الله : أن يستتاب ، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله ، ورضي بتبديلالأحكام فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهلهذا الدين . اهـ (تفسير الطبريبتحقيق أحمد شاكر : 10/348)
..
وهذه بعض النقول عن أهل العلم في تلك القوانين الوضعية
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
إن الحاكم إذاكان ديِّنًا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار ، وإن كان عالمًا لكنه حكم بخلافالحق الذي يعلمه كان من أهل النار ، وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون منأهل النار ، وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص ، وأما إذا حكم حكمًا عامًا في دين المسلمين ، فجعل الحق باطلاً والباطل حقًا والسنة بدعة والبدعة سنة والمعروف منكرًا والمنكر معروفًا ،ونهى عما أمر الله به ورسولهrوأمر بما نهى الله عنه ورسولهr، فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلينمالك يوم الدينالذي ((لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) ، ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) . اهـ (مجموع الفتاوى : 35 / 338)

وقال رحمه الله :
والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء . (مجموع الفتاوى : 3 / 267)

قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) :
ينكر تعالى على من خرجعن حكم الله المشتمل على كل خير ،الناهي عن كل شر ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعهاالرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهلالجاهلية يحكمون به من الضلالاتوالجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم ، وكما يحكمبه التتار من السياسات الملكيةالمأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق ،وهو عبارة عن كتابٍ مجموعٍ من أحكام قداقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها ، وفيها كثير منالأحكام أخذها من مجرد نظرهوهواه ، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدّمونه على الحكمبكتاب الله وسنة رسوله r ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله r فلا يُحَكِّم سواه في قليل ولاكثير ، قال تعالى : ((أَفَحُكْمَ الجاهليةِ يَبْغون)) أي : يبتغون ويريدون ، وعن حكم الله يعدلون ، ((ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يوقِنونَ)) أي : ومن أعدل من الله في حكمه ، لِمَن عَقَل عنالله شرعه وآمن به وأيقن ، وعلِم أنّ الله أحكمُ الحاكمين ، وأرحمُ بخلقه من الوالدة بولدها ، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء ، القادر على كل شيء ، العادل في كل شيء . اهـ (تفسير ابن كثير : 3/131)

وقال رحمه الله في البدايةوالنهاية :
فمن ترك الشرع المحكمالمنزل علىمحمد بن عبد الله خاتم الأنبياء r وتحاكم إلى غيره منالشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكمإلى الياسق وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين . اهـ (البداية والنهاية : 13/119)

قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله معلقًا على كلام ابن كثير في الآية السابقة :
أقول : أَفَيَجُوز -مع هذا- في شرع الله تعالى أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عنتشريعات أوربة الوثنية الملحدة؟ بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة، يغيّرونهويبدلونه كما يشاؤون، لا يبالي واضعه أَوَافق شِرعة الإسلام أم خالفها؟
إن المسلمينلم يُبلوا بهذا قط -فيما نعلم من تاريخهم- إلاّ في ذلك العهد عهد التتار ، وكان منأسوأ عهود الظلم والظلام ، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له ، بل غلب الإسلام التتار ، ثممزجهم فأدخلهم في شِرعته ، وزال أثر ما صنعوا بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم ،وبأن الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك ، لم يندمج فيه أحد منأفراد الأمم الإسلامية المحكومة ، ولم يتعلّموه ولم يعلّموه أبناءهم ، فما أسرع مازال أثره .
أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير -في القرن الثامن- لذاك القانون الوضعي ، الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان؟ ألستم ترونه يصف حالالمسلمين في هذا العصر، في القرن الرابع عشر الهجري؟ إلاّ في فرق واحد أشرنا إليهآنفاً : أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام أتى عليها الزمن سريعاً فاندمجت في الأمةالإسلامية وزال أثر ما صنعت .
ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً ، وأشد ظلماً وظلاماً منهم ؛ لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة ، والتي هي أشبه شيء بذاك "الياسق" الذي اصطنعه رجلٌ كافرٌ ظاهرُ الكفر ، هذه القوانين التي يصطنعها ناس ينتسبون للإسلام، ثم يتعلّمها أبناء المسلمين ويفخرون بذلك آباءًوأبناء ، ثم يجعلون مردّ أمرهم إلى معتنقي هذا "الياسق العصري" ويُحَقِّرون منيخالفهم في ذلك ، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم "رجعياً" و "جامداً" إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة .
بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقي في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى "ياسقهم" الجديد بالهوينا واللين تارة ،وبالمكر والخديعة تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطات تارات، ويصرّحون ولا يستحيونبأنهم يعملون على فصل الدولة من الدين!
أفيجوز إذن -مع هذا- لأحد من المسلمين أنيعتنق هذا الدين الجديد ، أعني التشريع الجديد ؟ أو يجوز لأب ان يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به ، عالمًا كان الأب أو جاهلاً ؟
أَوَيَجوز لرجل مسلم أن يليَ القضاءفي ظل هذا "الياسق العصري" وأن يعمل به ويُعرِض عن شريعته البيّنة؟ ما أظنّ أنرجلاً مسلماً يعرف دينه ويُؤمن به جملة وتفصيلا ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله اللهتعالى على رسوله صلي الله عليه وسلم كتاباً مُحكماً لا يأتيه الباطل من بين يديهولا من خلفه ، وبأن طاعته وطاعة الرسول صلي الله عليه وسلم الذي جاء به واجبة قطعيةالوجوب في كل حال ، ما أظنه يستطيع إلاّ أن يجزم غير متردد ولا متأول ، بأن ولايةالقضاء في هذه الحال باطلة بطلاناً أصلياً ، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة .
إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كُفرٌ بواح ، لا خفاء فيه ولا مداورة ، ولا عُذر لأحد ممن ينتسب للإسلام -كائناً من كان- في العمل بها ، أو الخضوع لها أوإقرارها ، فليحذر امرؤٌ لنفسه ، وكل امرئٍ حسيبُ نفسه .
ألا فليصدع العلماء غير هيابين ، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه ، غير موانين ولا مقصرين .
سيقول عني عبيد هذا "الياسق العصري" وناصروه أني جامد وأني راجعي ، وما إلى ذلك من الأقاويل . ألا فليقولوا ما شاؤوا ، فما عبأت يومًا بما يقال عني . ولكني قلت ما يجب أن أقول .(عمدة التفسير : 4/173)

قال الشيخ محمد حامد الفقى رحمه اللهمعلقاً على كلام ابن كثير السابق :
ومثل هذا وشر منه مناتخذ منكلام الفرنجة قوانين يتحاكم إليها في الدماء والفروجوالأموال ، ويقدمها على ما علم وتبين له من كتاب الله وسنة رسوله r ، فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله ، ولاينفعه أي اسمتسمى به،ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها .اهـ(فتح المجيد : هامش ص348)

قال الدكتور عمرسليمان الأشقر حفظه الله :
ولعل مراد أبي عبيد القاسم بن سلام بقوله : (إن الحكمبغير ما أنزل الله ليس كفراً مخرجاً من الملة) هو حكم القاضي أو الحاكمالمسلم في قضيةما بالهوى ، مع حكمه في بقية الأمور بحكم الله ،أما هؤلاء الذينجاؤونابالقوانين الكافرة ، وطبقوها على الشعوب الإسلامية بقوة الحديد والنار ، وحاربوا وعذبوا كل من نادى بتطبيق الإسلام ،فهؤلاء ليسوا من الإسلام فيشيء ((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)) (النساء : 65) . اهـ
(العقيدة في اللهص28-29)

قال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله :
وهذا الحكم لا خلاف فيه بتاتاً ، أعني كفر من ردّ حكماً من أحكام الله الثابتة في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، خاصة إذا كان هذا الرد معللاً بأن هذا التشريع لا يناسب الناس ، أو لا يوافق العصر ، أو أنه وحشية ، أو غير ذلك ؛ لأن حقيقة عيب التشريع هي عيب المشرع ، والذي شرع هذا وحكم به هو الله سبحانه وتعالى .
ولا يشك مسلم في أن عيب الله أو نسبة النقص أو الجهل له كفر به وخروج عن ملّة الإسلام ؛ ولذلك فالأمر الأول الذي ينبغي أن يتعلمه الذين يردّون هذا الحكم أنهم ليسوا من جماعة المسلمين ، ولا ينتمون إلى هذه الأمة أصلاً ، إلاّ أن يعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى الله سبحانه وتعالى . (وجوب تطبيق الحدود الشرعية ص10)

قال الشنقيطي رحمه الله في قوله تعالى ((وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِأَحَداً)) (الكهف : 26) :
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم ، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم .. اهـ (أضواء البيان : 4/82-83)

قال الشيخ محمد بن إبراهيم آلالشيخ رحمه الله في رسالة تحكيمالقوانين :
إنّ من الكفر الأكبر المستبين ،تنزيل القانوناللعين ، منزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد r ليكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين ، في الحكم به بينالعالمين ،والرّدِّ إليه عند تنازع المتنازعين ، مناقضة ومعاندة لقول الله عزّ وجلّ ((فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)) . وقدنفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمن لميُحَكِّموا النبي rفيما شجربينهم ، نفيًا مؤكدًابتكرار أداةالنفي وبالقسم ، قال تعالى ((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)) اهـ

وقال رحمه الله :
وتأملقوله عز وجل ((وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ)) تعرف منهمعاندةالقانونيين، وإرادتهمخلاف مراد الله منهم حول هذا الصدد ،فالمرادمنهم شرعًا والذي تعبّدوا به هو الكفربالطاغوت لا تحكيمه ((فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ)) ، ثم تأمل قوله ((وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ)) ، كيف دلَّ على أنّ ذلك ضلالٌ ،وهؤلاءالقانونيون يرونه من الهدى ، كما دلّت الآية على أنّه منإرادةالشيطان ، عكس ما يتصور القانونيونمن بُعدهممن الشيطان ، وأنّ فيه مصلحة الإنسان ، فتكون على زعمهم مرادات الشيطان هي صلاحالإنسان ، ومراد الرحمن ومابُعث به سيدُ ولد عدنان معزولاً من هذا الوصف ، ومُنحًّىعن هذا الشأن . وقد قال تعالى منكرًا على هذا الضرب من الناس ، ومقرراابتغاءهم أحكامالجاهلية ، وموضحًا أنه لا حُكم أحسن من حُكمه ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) اهـ

وقال رحمه الله في النوع الخامس منأنواع الكفر الأكبر في الحكم بغير ما أنزلالله :
الخامس : وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندةللشرع ،ومكابرة لأحكامه ، ومشاقّة لله ورسوله ، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية ،إعداداًوإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً ، وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً ، وحكماً وإلزاماً ، ومراجعومستنداتٍ ،فكما أنّ للمحاكم الشرعية مراجعَ مستمدّات ، مرجعهاكلُّها إلى كتاب الله وسنة رسوله r ، فلهذه المحاكم مراجع ، هي : القانون المُلفّق من شرائعَ شتى وقوانين كثيرة ، كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني وغيرها من القوانين ، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعةوغيرذلك . فهذه المحاكمفي كثير من أمصار الإسلام مهيّأة مكملة، مفتوحةُ الأبواب ، والناس إليهاأسرابٌ إثْر أسراب ، يحكُمُ حُكّامُها بينهم بما يخالفحُكم السُنّة والكتاب ،من أحكام ذلكالقانون ، وتُلزمهم به ، وتُقِرُّهمعليه ، وتُحتِّمُه عليهم ؛ فأيُّ كُفر فوق هذا الكفر ،وأيُّ مناقضة للشهادة بأنّمحمدًا رسولُ اللهِ بعد هذهالمناقضة . اهـ

وقال رحمه الله :
‏وأما الذي قيل فيه أنهكفر دونكفر ، إذا تحاكمإلى غير الله مع اعتقاد أنه عاصٍ وأنَّ حكم الله هو الحق ،فهذاالذي يصدر منه المرة ونحوها‏. وأما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع ، فهوكُفرٌ وإن قالوا‏ :‏ أخطأنا وحكمُ الشرع أعدل ؛ فهذا كفر ناقل عن الملة . اهـ . (مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم : 12/280)

قال الشيخابن باز رحمه الله في نقد القومية العربية :
الوجه الرابع منالوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال : إن الدعوةإليها ، والتكتل حول رايتها ، يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكمالقرآن ؛ لأن القوميين غيرالمسلمين لن يرضوا بتحكيم القرآن ، فيوجب ذلك لزعماءالقومية أن يتخذوا أحكاما وضعيةتخالف حكم القرآن ، حتى يستوي مجتمع القومية في تلكالأحكام ، وقد صرح الكثير منهمبذلك كما سلف ،وهذا هو الفساد العظيم ،والكفر المستبين والردة السافرة،كما قال تعالى ((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)) ، وقال تعالى ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) ، وقال تعالى ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) ، وقال تعالى ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) ، وقال تعالى ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) .
وكل دولة لا تحكمبشرع الله ، ولاتنصاع لحكم الله ، ولا ترضاه فهي دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة ، بنص هذه الآيات المحكمات ،يجب علىأهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله ، وتحرم عليهم مودتهاوموالاتها حتى تؤمن بالله وحده ، وتحكم شريعته ، وترضى بذلك لها وعليها،كما قالعز وجل ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)) . اهـ

وقال رحمه الله:
إن من أقبح السيئات وأعظم المنكرات : التحاكم إلى غير شريعة الله من القوانين الوضعية والنظم البشرية وعادات الأسلاف والأجداد وأحكام الكهنة والسحرة والمنجمين التي قد وقع فيها الكثير من الناس اليوم وارتضاها بدلا من شريعة الله التي بعث بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم , ولا ريب أن ذلك من أعظم النفاق ومن أكبر شعائر الكفر والظلم والفسوق وأحكام الجاهلية التي أبطلها القرآن وحذر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم , قال الله تعالى : ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)) ، ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)) ، ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) ، وقال عز وجل : ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) ، ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) ، ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) . وهذا تحذير شديد من الله سبحانه لجميع العباد من الإعراض عن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتحاكم إلى غيرهما , وحكم صريح من الرب عز وجل على من حكم بغير شريعته بأنه كافر وظالم وفاسق ومتخلق بأخلاق المنافقين وأهل الجاهلية . فاحذروا أيها المسلمون ما حذركم الله منه , وحكموا شريعته في كل شيء , واحذروا ما خالفها وتواصَوا بذلك فيما بينكم , وعادوا وأبغضوا من أعرض عن شريعة الله وتنقصها أو استهزأ بها وسهل في التحاكم إلى غيرها , لتفوزوا بكرامة الله وتسلموا من عقاب الله , وتؤدوا بذلك ما أوجب الله عليكم من موالاة أوليائه , الحاكمين بشريعته , الراضين بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومعاداة أعدائه الراغبين عن شريعته المعرضين عن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . (مجموع فتاوى ابن باز : 2/142)

قال الشيخ عبدالرزاق عفيفيرحمه الله :
إن منكانمنتسباً للإسلام عالماً بأحكامه ،ثم وضعللناس أحكاماً وهيأ لهم نظماً ليعملوابها ويتحاكموا إليها ، وهو يعلم أنها تخالف أحكام الإسلام ، فهو كافر خارج من ملة الإسلام ،وكذا الحكم فيمن أمربتشكيل لجنة أو لجان لذلك ،ومن أمر الناسبالتحاكم إلي تلك النظم والقوانين أو حملهم على التحاكم إليها وهويعلم أنها مخالفة لشريعة الإسلام ،وكذا من يتولى الحكم بهاويطبقها في القضايا ،ومن أطاعهم في التحاكمإليهاباختياره مع علمه بمخالفتها للإسلام ، فجميع هؤلاء سواء في الإعراض عن حكم الله ،لكن بعضهم بوضع تشريع يضاهى به تشريعالإسلام ويناقضه على علم منه وبينة ، وبعضهمبالأمربتطبيقه أو حمل الأمة على العمل به أو وَلِيَ الحكمَ به بين الناس أو تنفيذالحكمبمقتضاه ،وبعضهم بطاعة الولاة والرضا بما شرعوا لهمبما لم يأذن به الله ولم ينزل به سلطاناً ، فكلهم قد اتبع هواه بغير هدى من الله ، وصدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه وكانوا شركاء في الزيغ والإلحاد والكفر والطغيان ،ولا ينفعهم علمهم بشرع الله واعتقادهم ما فيه من إعراضهم عنه وتجافيهم لأحكامه وإتيانهم بتشريع من عند أنفسهم وتطبيقه والتحاكم إليه ، كمالم ينفع إبليس علمه بالحق واعتقاده إياه مع إعراضه عنه وعدم الاستسلام والانقيادله . اهـ (فتاوى ورسائل سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله تعالى / 265)

قال الشيخ ابنعثيمين رحمه اللهفي جواب عن مسألة الحكم بغير ما أنزلالله :
الحكم بغير ما أنزل اللهينقسم إلىقسمين :
القسم الأول : أن يُبطَل حكمُ الله ليحَل محله حكمٌ آخرُ طاغوتي . بحيث يُلغى الحكم بالشريعة بين الناس ، ويُجعل بدله حكم آخر من وضع البشر،كالذين يُنحونالأحكام الشرعية في المعاملة بينالناس ، ويحلون محلها القوانين الوضعية ، فهذالاشك أنه استبدال بشريعة الله سبحانهوتعالى غيرها ، وهو كفر مخرج من الملة؛ لأن هذا جعل نفسه بمنزلة الخالق حيثشرع لعباد الله ما لم يأذن به الله ، بل ما خالف حكم الله عز وجل وجعله الحكمالفاصل بين الخلق ، وقدسمى الله تعالى ذلك شركاً في قوله تعالى ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ)) .
القسم الثاني : أن تبقى أحكام الله عز وجل على ما هي عليه وتكون السلطة لها ، ويكون الحكم منوطاً بها، ولكن يأتي حاكم من الحكامفيحكم بغير ما تقتضيه هذهالأحكام،أي يحكم بغير ما أنزل الله : فهذا له ثلاث حالات :
الحال الأولى : أن يحكم بما يخالف شريعة الله معتقداً أنذلك أفضل من حكم الله وأنفع لعباد الله ، أو معتقداً أنه مماثل لحكم الله عز وجل ،أو يعتقد أنه يجوز له الحكم بغير ما أنزل الله ، فهذا كفر يخرج به الحاكم من الملة، لأنه لم يرض بحكمالله عز وجل ، ولم يجعل الله حكماً بين عباده .
الحال الثانية : أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقداً أنحكم اللهتعالى هو الأفضل والأنفع لعباده ، لكنه خرج عنه ،وهو يشعربأنه عاص لله عز وجل إنما يريد الجور والظلم للمحكوم عليه ، لما بينه وبينه من عداوة ، فهو يحكم بغير ما أنزل الله لا كراهةً لحكم الله ولا استبدالاً به ، ولااعتقادًا بأنه أي الحكم الذي حكمبه أفضل من حكم الله أو مساو له أو أنه يجوز الحكم به ،لكن من أجل الإضرار بالمحكوم عليه حكم بغير ما أنزل الله ، ففي هذه الحال لا نقولإن هذا الحاكم كافر ، بل نقول إنه ظالم معتد جائر .
الحال الثالثة : أن يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أنحكم الله تعالى هو الأفضل والأنفع لعبادالله ، وأنه بحكمه هذا عاص لله عز وجل، لكنه حكم لهوى في نفسه ، لمصلحة تعود له أو للمحكوم له ، فهذا فسق وخروج عن طاعة الله عز وجل .
وعلى هذه الأحوال الثلاث يتنـزل قول الله تعالى في ثلاث آيات ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) ، وهذا يتنـزل على الحالة الأولى . ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) ، يتنـزل على الحالة الثانية . ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) ، يتنـزل على الحالة الثالثة . اهـ (فقهالعبادات ص:60،61)

قال الشيخ صالح الفوزان فيكتابالتوحيد تحت عنوان (حكم من حكم بغير ما أنزل الله) :
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم ‏:‏ ‏وأما الذي قيل فيه أنهكفر دونكفر،إذا تحاكمإلى غير الله مع اعتقاد أنه عاصٍ ، وأنَّ حكم الله هو الحق ،فهذاالذي يصدر منه المرة ونحوها‏، وأما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع ، فهو كُفرٌ وإن قالوا ‏:‏ أخطأنا وحكمُ الشرع أعدل ؛ فهذا كفر ناقل عن الملة .

ثم عقب على ذلك قائلاً
ففرق رحمه الله بين الحكم الجزئي الذي لا يتكرر وبين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام أو غالبها ، وقرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقًا ؛ وذلك لأن من نحى الشريعة الإسلامية وجعل القانون الوضعي بديلاً منها فهذا دليل على أنه يرى أن القانون أحسن وأصلح من الشريعة ، وهذا لا شك أنه كفر أكبر يخرج من الملة ويناقض التوحيد . اهـ
...
خلاصة ما سبق
1- الحكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام ليس حكمه كحكم المعاصي والكبائر عند أهل السنة ، بل إفراد الله تعالى بالحكم ركن ركين من توحيد الربوبية ، كما أن التحاكم إلى شرع الله ركن ركين من توحيد الألوهية وأحد أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله تعالى .

2- من كلام العلماء السابق يتبين لك الفرق بين من يلزم الناس بتشريع عام مخالف لأحكام الله تعالى ، وبين من خالف في قضية معينة -وإن تكررت- لأجل شهوة أو رشوة أو منصب دنيوي ، مع بقاء شريعة الله تعالى عالية في الحكم بين الناس .
فالصورة الأولى كفر أكبر مخرج من الملة ، والصورة الثانية كفر دون كفر ، وعليه يحمل كلام ابن عباس وأبي مجلز في حكام بني أمية إذ كانوا يحكمون بالإسلام أصلاً وخالفوا في قضايا عينية .
وعلى ذلك فليس المقصود بالتشريع العام هو التكرار كما فهمه البعض ، بل هو تعميم الحكم به بدلاً من حكم الله تعالى ، فهذا كفر أكبر ، ولو كان في أمر واحد ، وإن لم ينفذه مرة واحدة . وأما تكرار الحكم في الوقائع العينية -مع الاعتراف باستحقاق الإثم والعقوبة وعدم تبديل حكم الله تعالى كتشريع عام- فهذا كفر دون كفر ، كما سبق بيانه .

3- قولنا في صورة الكفر الأصغر أنها المخالفة في قضية معينة لأجل شهوة ، هذا ليس معناه أنها صارت كفرًا أصغر لأجل الشهوة ، بل لأن غالب حال مرتكب المعصية دون الكفر الشهوة وليس الاستحلال . ولو أن رجلاً ارتكب الكفر الأكبر لأجل شهوة أو منصب فهو كافر بالله قطعًا بلا خلاف نعلمه .
قال تعالى : ((مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)) (النحل : 106-109)
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم ؛ يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) .

4- ينبغي أن يُعلم أن كلام العلماء السابق في تكفير من يشرع القوانين الوضعية ويحكم بغير ما أنزل الله إنما هو للنوع لا للعين ، فلا يكفر عينًا حتى تقام عليه الحجة ، إلا إذا أنكر معلومًا من الدين بالضرورة . وراجع ذلك في الجواب عن الشبهة الثامنة ..
...
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 10-18-2008, 04:30 PM
الوليد المصري الوليد المصري غير متواجد حالياً
مراقب عام
 




افتراضي

الشبهة الخامسة :
قولهم : لا يكفر الحاكم حتى ينسب تشريعه للدين

وأصل هذه الشبهة وعمدتهم فيها أن الله تعالى حكم على اليهود بالكفر لأنهم بدلوا حكم الله في التوراة ونسبوا إليها ما ليس منها .
ونقول :
1- إن الدليل الذي استندوا إليه هو نفسه حجة عليهم ، فعن عبد الله بن عمر أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟)) . قالوا : نفضحهم ويُجلدون . قال عبد الله بن سلام : كذبتم ؛ إن فيها الرجم . فأَتَوا بالتوراة فَنَشَروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك . فرفع ، فإذا فيها آية الرجم . فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم . فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما . (متفق عليه)
ففي هذا الحديث دليل على أن اليهود بدلوا حكم الله المنـزل في التوراة ، مع إقرارهم بأن حكم الله بخلاف ما استبدلوه ، ومع ذلك لم ينفعهم هذا الإقرار مع تبديل حكم الله تعالى ، وأنزل الله تعالى حكمًا بكفرهم بل وصفهم بالمسارعة في الكفر ، فقال عز وجل : ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)) (المائدة : 41-43)
وهذه الآيات صريحة الدلالة على أن من بدل حكم الله تعالى على سبيل التشريع فهو كافر لرده حكم الله وإن أقر به ، وفي هذا رد على من يشترط الاستحلال في الحكم بغير ما أنزل الله في التشريع العام .

2- كذلك ليس الحكم بالكفر قاصرًا على من نسب تشريعه للدين ، فمن الآيات الواضحة في هذا الموضع قوله تعالى : ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ ..)) (الأنعام : 93) ، فإنها صريحة على أن من أوجب على الناس تشريعًا كتشريع الله تعالى فهو كافر ، وإن أقر أنه مخالف لشرع الله ، بل إن هذا أشد كفرًا ممن يلزم الناس بتشريع وينسبه لدين الله تعالى ؛ إذ كونه يستقل بتشريع نفسه ملزمًا للناس به مع إعلانه أنه مخالف لشرع الله دليل على كِبْرِه وَرَدِّهِ للأمر ومضاهاته شرع الله ، بخلاف ما لو ابتدع تشريعًا ونسبه للشرع ، فهو مستغل لحب الناس للشرع ، مع عدم مجاهرته بالمخالفة ؛ فإذا كان هذا كفرًا فما قبله أشد منه وأغلظ بلا شك .
ونزيد إيضاحًا فنقول : إن إبليس ( كان أعظم شركًا من سائر المشركين إذ كِبْرُهُ هو الذي استوجب كل أنواع الشرك الأخرى فحمل مثل أوزارهم جميعًا ، وكذلك شرك الذين يأبون الانقياد لشرع الله ويتكبرون عليه ويحتقرونه ويعاندونه -والعياذ بالله- أعظم من شرك الذين يتخذون الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله ومن شرك الأحبار والرهبان أنفسهم ؛ إذ كونهم ينسبون ما يشرعونه للدين مع كونه شركًا أكبر وافتراءًا للكذب على الله فيه شيء من الإقرار بأن الحق في الأمر والنهي والتشريع لله ، ثم ادعوا لأنفسهم حق التعديل عليه ، فأغلظ منه بلا شك من ليس يقر بذلك الحق لله أصالة ، بل يرى ذلك حقًا لنفسه ولأمثاله من الكفرة والمنافقين .. فكيف يزعم عاقل أنه إن لم ينسبه إلى الدين لم يكن شركًا كما يقوله بعض مبتدعة زماننا ، سبحانك هذا بهتان عظيم ) اهـ
(من كلام شيخنا ياسر برهامي حفظه الله في كتاب الكواشف المضية ص110)
...
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10-18-2008, 04:31 PM
الوليد المصري الوليد المصري غير متواجد حالياً
مراقب عام
 




افتراضي

الشبهة السادسة :
قولهم : الحكم بغير ما أنزل الله مسألة خلافية ولا إجماع فيها

ومستند أكثر هؤلاء القول المنسوب للشيخ ابن باز رحمه الله في عدم اعتبار الإجماع الذي نقله ابن كثير رحمه الله في تكفير من تحاكم إلى الياسق لدى التتار .

ونقول :
1- قد سبق من كلام الشيخ ابن باز رحمه الله ، ما يخالف ذلك الكلام المنسوب إليه .
2- الكلام المنقول عن الشيخ ابن باز والذي فُهم منه معارضته للإجماع الذي نقله ابن كثير ، إنما هو جواب على من فهم أن الإجماع يشمل كل صور الحكم بغير ما أنزل الله . وكلام الشيخ رحمه الله ذكره في الصورة التي هي كفر أصغر ، وكلام ابن عباس رضي الله عنه في هذه الصورة كذلك . وأما الصورة التي ذكرها ابن كثير وهي الإعراض عن شرع الله تعالى إلى غيره من الشرائع ، فهي كفر أكبر بالإجماع كما ذكره ابن كثير ، ونقله عنه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالته .
ومما يوضح ذلك كثير من فتاوى الشيخ ابن باز التي تؤيد ذلك ، فنذكر بعضًا منها :

س : ما رأيكم في المسلمين الذين يحتكمون إلى القوانين الوضعية مع وجود القرآن الكريم والسنة المطهرة بين أظهرهم ؟
ج: رأيي في هذا الصنف من الناس الذين يسمون أنفسهم بالمسلمين , في الوقت الذي يتحاكمون فيه إلى غير ما أنزل الله , ويرون شريعة الله غير كافية ولا صالحة للحكم في هذا العصر - هو ما قال الله سبحانه وتعالى في شأنهم حيث يقول سبحانه وتعالى : ((فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) ، ويقول سبحانه وتعالى : ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) ، ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) ، ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) .
إذًا فالذين يتحاكمون إلى شريعة غير شريعة الله , ويرون أن ذلك جائز لهم , أو أن ذلك أولى من التحاكم إلى شريعة الله لا شك أنهم يخرجون بذلك عن دائرة الإسلام , ويكونون بذلك كفارا ظالمين فاسقين , كما جاء في الآيات السابقة وغيرها, وقوله عز وجل : ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) . والله الموفق . (مجموع فتاوى ابن باز : 1/271)

وقال رحمه الله: إن من أقبح السيئات وأعظم المنكرات : التحاكم إلى غير شريعة الله من القوانين الوضعية والنظم البشرية وعادات الأسلاف والأجداد وأحكام الكهنة والسحرة والمنجمين التي قد وقع فيها الكثير من الناس اليوم وارتضاها بدلا من شريعة الله التي بعث بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم , ولا ريب أن ذلك من أعظم النفاق ومن أكبر شعائر الكفر والظلم والفسوق وأحكام الجاهلية التي أبطلها القرآن وحذر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم , قال الله تعالى : ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)) ، ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)) ، ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)) ، وقال عز وجل : ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) ، ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) ، ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) . وهذا تحذير شديد من الله سبحانه لجميع العباد من الإعراض عن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتحاكم إلى غيرهما , وحكم صريح من الرب عز وجل على من حكم بغير شريعته بأنه كافر وظالم وفاسق ومتخلق بأخلاق المنافقين وأهل الجاهلية . فاحذروا أيها المسلمون ما حذركم الله منه , وحكموا شريعته في كل شيء , واحذروا ما خالفها وتواصَوا بذلك فيما بينكم , وعادوا وأبغضوا من أعرض عن شريعة الله وتنقصها أو استهزأ بها وسهل في التحاكم إلى غيرها , لتفوزوا بكرامة الله وتسلموا من عقاب الله , وتؤدوا بذلك ما أوجب الله عليكم من موالاة أوليائه , الحاكمين بشريعته , الراضين بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومعاداة أعدائه الراغبين عن شريعته المعرضين عن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . (مجموع فتاوى ابن باز :2/142)

وقال رحمه الله : فالواجب على جميع حكام المسلمين أن يلتزموا بحكمه سبحانه , وأن يُحكموا شرعه بين عباده ، وألا يكون في أنفسهم حرج من ذلك , وأن يحذروا اتباع الهوى المخالف لشرعه , وألا يطيعوا من دعاهم إلى تحكيم أي قانون أو نظام يخالف ما دل عليه كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبين سبحانه أنه لا إيمان لأهل الإسلام إلا بذلك , فكل من زعم أن تحكيم القوانين الوضعية المخالفة لشرع الله أمر جائز أو أنه أنسب للناس من تحكيم شرع الله , أو أنه لا فرق بين تحكيم شرع الله وتحكيم القوانن التي وضعها البشر المخالفة لشرع الله عز وجل ، فهو مرتد عن الإسلام كافر بعد الإيمان إن كان مسلما قبل أن يقول هذا القول أو يعتقد هذا الاعتقاد , وكما صرح بذلك أهل العلم والإيمان من علماء التفسير وفقهاء المسلمين في باب حكم المرتد . (مجموع فتاوى ابن باز : 6/159)

وقال رحمه الله في قوله تعالى ((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ .....)) (النساء : 65) :
وهذا الإيمان المنفي هو أصل الإيمان بالله ورسوله بالنسبة إلى تحكيم الشريعة والرضا بها والإيمان بأنها الحكم بين الناس , فلا بد من هذا . فمن زعم أنه يجوز الحكم بغيرها أو قال إنه يجوز أن يتحاكم الناس إلى الآباء أو إلى الأجداد أو إلى القوانين الوضعية التي وضعها الرجال ، سواء كانت شرقية أو غربية ، فمن زعم أن هذا يجوز فإن الإيمان منتف عنه ويكون بذلك كافرا كفرا أكبر , فمن رأى أن شرع الله لا يجب تحكيمه ولكن لو حكم كان أفضل , أو رأى أن القانون أفضل , أو رأى أن القانون يساوي حكم الله فهو مرتد عن الإسلام . وهي ثلاثة أنواع : النوع الأول : أن يقول إن الشرع أفضل ولكن لا مانع من تحكيم غير الشرع . النوع الثاني : أن يقول إن الشرع والقانون سواء ولا فرق . النوع الثالث : أن يقول إن القانون أفضل وأولى من الشرع . وهذا أقبح الثلاثة , وكلها كفر وردة عن الإسلام . (مجموع فتاوى ابن باز : 6 / 192)

قلت : كل هذه النقول عن الشيخ ابن باز رحمه الله تبين كفر من يرى جواز أو أفضلية التحاكم إلى القوانين الوضعية . فكيف لو أوجبه وألزم الناس به بل وعاقب من طالب بالحكم بالشرع ؟

ولو افترضنا أن الشيخ رحمه الله له قولان في المسألة ، فالمشهور عنه ما أيدته اللجنة الدائمة ولم تذكر خلافًا ، بل اعتبرت غيره خلافًا لأهل السنة والجماعة -كما في ردها على العنبري- . والواجب علينا حمل كلامه على التوافق ؛ لأن الأصل أن قوله واحد قديمًا وحديثًا ، ثم على ما وافق أقوال العلماء لا على ما خالفها ، ولذا يحمل كلامه على صورتين مختلفتين إحداهما كفر أكبر والأخرى كفر أصغر كما ذكره أهل العلم .
ولو افترضنا أن الشيخ رحمه الله ليس له إلا القول باشتراط الاستحلال ، فقد بينا أن صورة الحكم بغير ما أنزل الله الموجودة في كثير من الدول ، هي ذاتها استحلال ، كما سبق في الرد على الشبهة الرابعة .
ولو افترضنا -بعد كل هذا- وجود خلاف من المعاصرين فالإجماع السابق حجة على المتأخر ، كما بينه العلماء .
قال الآمدي في الإحكام: وأما الإجماع السابق على الخلاف فهو حجة على المخالف . (الإحكام للأمدي : 4/187)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكل قول حادث بعد الإجماع فهو باطل مردود . (مجموع الفتاوى : 6/501)
...
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 10-18-2008, 04:33 PM
الوليد المصري الوليد المصري غير متواجد حالياً
مراقب عام
 




افتراضي

الشبهة السابعة :
قولهم : أنتم تكفرون بإطلاق دون تفصيل

أقول : إن هذا من البهتان العظيم الذي أراد قائله أن يصرف توجه الناس عن العلماء الربانيين ووصفهم بالبدعة ؛ فلقد أكثر العلماء في مصنفاتهم وبينوا أتم بيان وأحسنه في تقسيم الحكم بغير ما أنزل الله إلى كفر أكبر وكفر أصغر .
..
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الفرق بين الحكم العام وبين الحكم في قضايا معينة . وبين ذلك أيضًا الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالته الموسومة (رسالة تحكيم القوانين) ، وكذلك في فتاواه التي جمعها الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله .
وقد نقل الشيخ صالح الفوزان شيئًا من كلام الشيخ ابن إبراهيم في الفتاوى ، ثم قال معقبًا :
(ففرَّقَ رحمه الله بينَ الحكم الجزئي الذي لا يتكرر ، وبين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام أو غالبها ، وقرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقًا ؛ وذلك لأن من نحى الشريعة الإسلامية وجعل القانون الوضعي بديلًا منها ؛ فهذا دليل على أنه يرى أن القانون أحسن وأصلح من الشريعة ، وهذا لا شك أنه كفر أكبر يُخرجُ من الملَّة ويُناقضُ التوحيد)

ولا أعلم من علمائنا من لا يفصل في تلك المسألة ، بل هم جميعًا يقولون بالتفصيل المذكور .
وقد بين ذلك شيخنا ياسر برهامي حفظه الله في رسالة منة الرحمن وفي كتاب فضل الغني الحميد ، ونقل فيهما كلام الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالته ، فقال في رسالة (منة الرحمن) :
والحكم بغير ما أنزل الله من أصول الكفر ، قال تعالى : ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) ، وهو ينقسم إلى كفر أكبر وكفر أصغر ... إلخ اهـ . ثم نقل الشيخ ملخصًا لكلام الشيخ محمد بن إبراهيم وتفصيله في رسالته . وكذلك بين الشيخ ذلك بيانًا شافيًا في كتابه (فضل الغني الحميد) مع مزيد نقول عن أهل العلم في ذلك ، فليراجع فإنه مهم في هذا الباب .
وكذلك بين ذلك بيانًا جليًا الشيخ الفاضل محمد بن شاكر الشريف في رسالته القيمة (إن الله هو الحكَم) .

..
ولكن ما نريد أن نوضحه لإخواننا أن العالم قد يتكلم باعتبار الواقع فيذكر ما عمت به البلوى دون ما نَدُرَ ، فكيف يُنسب له أنه لا يفصل في ذلك لأنه لم يتعرض لصورة يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفرًا أصغر ؟؟

ولكن من المفارقات العجيبة أن أحدًا من هؤلاء أصحاب تلك الشبهة لم يجرؤ أن يتكلم في الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عندما تكلم في المشرعين القانونيين ووصفهم بالكفر –هكذا بإطلاق- عند تفسيره لقوله تعالى ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) (الشورى : 10) . (وقد سبق كلامه في ذلك في المقدمة)
..
ومن الجدير بالذكر أيضًا أن أهل العلم -مع تفصيلهم لأنواع الكفر في الحكم بغير ما أنزل الله- قد تكلموا في أنواع من الحكم ليست من الكفر أصلاً ، بل هي جائزة لعدم دخولها في مخالفة حكم الله تعالى ، بل هي منوطة بمصالح العباد والبلاد .

وقد أوضح ذلك الشيخ الشنقيطي في تفسيره أضواء البيان (4/84) ، ونقله عنه الشيخ ياسر برهامي في كتاب الفضل ص125 . فقال رحمه الله : اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضى تحكيمه الكفر بخالق السموات والأرض ، وبين النظام الذي لا يقتضى ذلك . وإيضاح ذلك أن النظام قسمان : إداري ، وشرعي .
أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع ، فهذا لا مانع منه ، ولا مخالف فيه من الصحابة ، فمن
بعدهم . وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ، ما كانت في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم ، كَكَتْبِهِ أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط ومعرفة من غاب ومن حضر ، كما قدمنا إيضاح المقصود منه في سورة بني إسرائيل في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ ، مع أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك صلى الله عليه وسلم . وكاشترائه -أعني عمر رضي الله عنه- دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة ، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر . فمثل هذا -من الأمور الإدارية التي تُفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع- لا بأس به ، كتنظيم شؤون الموظفين ، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع . فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به ، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة .
وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض ، فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض ، كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف ، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث ، وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم ، وأن الطلاق ظلم للمرأة ، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان ، ونحو ذلك . فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السموات والأرض ، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها ، وهو أعلم بمصالحها ، سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)) ، ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)) . اهـ
...
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 10-18-2008, 04:35 PM
الوليد المصري الوليد المصري غير متواجد حالياً
مراقب عام
 




افتراضي

الشبهة الثامنة :
قولهم : يلزم من تكفير الحاكم تكفير كل من سكت ولم يعرف له إنكار من شعبه .

فالجواب عن هذا : أن التكفير المقصود هو تكفير النوع وليس تكفير العين ، فأما تكفير العين فموكول إلى أهل العلم الذين ينظرون إلى أهلية الشخص ؛ ليتبينوا من تحقق شروط التكفير وانتفاء موانعه ، ثم يحكموا عليه بعد ذلك ..
وكثير من أحكام هذه المسألة التي نحن بصدد الكلام عنها يخفى حكمها على العوام ؛ نظرًا لتلبيس علماء السوء ، وتحريفهم لما أمروا ببيانه ، فلا يجوز تعميم القول بالتكفير في هذه المسألة ، بل وفي غيرها من المسائل ، ما لم يكن معلومًا من الدين بالضرورة .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :وإذا عُرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم ، بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار ، لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل ، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر . وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين ، مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض ، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض ، فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط ، حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة . ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك ؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة . (مجموع الفتاوى : 12/500)

قال ابن قدامة رحمه الله في المغني : وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله ، لا يحكم بكفره حتى يُعرف ذلك ، وتزول عنه الشبهة ، ويستحله بعد ذلك . وقد قال أحمد : من قال : الخمر حلال ، فهو كافر يستتاب ، فإن تاب ، وإلا ضربت عنقه . وهذا محمول على من لا يخفى على مثله تحريمه ؛ لما ذكرنا . (المغني : 12/ 277)

قال ابن ابي العز الحنفي رحمه الله : ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب ، ولكن من تأول حكم الكتاب بشبهة عرضت له ، يبين له الصواب ليرجع إليه. (شرح الطحاوية : ص223)

فإذا أقيمت الحجة وتبين فعلاً كفر الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله ، فلا يلزم من هذا كفر الساكت لأن الساكت لا ينسب له قول لم يتكلم به ، بل لا يلزم منه كفر من رضي بذلك جاهلاً ، ولم تُقم عليه الحجة بعد ، وهذا أمر متفق عليه عند أهل السنة .

وتأمل الفتوى التي صدرت في تكفير القذافي من هيئة كبار العلماء ، هل يلزم منها تكفير كل من رضي بحكم القذافي ؟؟
بيان من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بشأنالقذافيالحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآلهوصحبه ومن اقتدى بهديه وبدعوته وبعد :
فإن مجلس هيئة كبار العلماء - بدورته التاسعة عشرة المنعقدة في الفترة ابتداء من يوم 11- 5- 1402هـ - قد اطلع على بعض مانشرته إذاعة حكومة ليبيا في برنامجها المحدَث المسمى (أعداء الله) ، وما تعرض فيه لأئمة الدعوة السلفية رحمهم الله في هذه المملكة العربية السعودية من علماء وحكام بالطعن الكاذب ، ومحاولة التشكيك في عقيدتهم التي اعترف فيها ، وأنها تجديد للدعوةالإسلامية بحق أهل العدل والإنصاف في كافة أرجاء العالم الإسلامي ، بل اعترف بفضلها المنصفون من علماء الغرب ولم يحاول أحد من أعدائها التشكيك بأصالة القائمين بها ، حتىقام عقيد ليبيا القذافي الذي أفسح المجال لإذاعته ووسائل إعلامه بلا عقل ولا حياء ولا دين إذ تتجرأ حتى على مقام رب العالمين وتستهزئ به - سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علواً كبيراً - ، وتنكر شطراً عظيماً في شريعته وتتحدث عن الله جل جلاله بكل وقاحة وجرأة بشِعر حديث وكلام فاحش ولكن الله يملي للظالم لا يهمله .
ورغبة فيبيان حقيقة الأمر بمن لا يعرف بوضوح ما أثبته بتوفيق الله جهود حماة هذه الدعوة وقادتها وأئمة القرآن في بلادها من آثار لم يتوفر مثلها في بقية العالم الإسلامي ، أعرب المجلس بعض ما من الله به على هذه المملكة من النعم العظيمة - أعلاها وأجلها - كتب الإسلام والدعوة إليه قولاً وعملاً ، وتحكيم شريعة الله في الدماء والأموال والأعراض والمحافظة على ما قرره أهل العلم أنه من الضروري لقيام المجتمعات السليمة مما يسمي بالضروريات الخمس ، مما عاد على هذه البلاد بحمد الله بالطمأنينة والأمن والرخاء والاحترام العالمي العام للترابط بين الحاكم والمحكوم ، مما كان لهأحسن الأثر في نفوس أهل الصلاح والإصلاح والتقوى والفضيلة والعدل والإنصاف في مختلفأنحاء العالم ، يضاف إلى ذلك ما تتمتع به هذه البلاد من نهضة علمية وثقافية واجتماعيةواقتصادية وعمرانية ، وما تقوم به حكومتنا في سبيل الدعوة إلى الله والوقوف بجانبالمسلمين من بعض الدعاة إلى الله في أنحاء العالم وإقامة المساجد والمراكزالإسلامية والمستشفيات ، وغير ذلك مما جعلها محط أنظار الجميع ورمز احترامهموتقديرهم .
لقد استعرض المجلس ذلك كله ، كما استعرض الاتجاهات العدائية التيتقوم بها صحائف منحرفة في اتجاهاتها وعقائدها ، يحدوها الحقد والحسد ، ويسيّر اتجاهاتهاالآثمة المنحرفة عناصر ذات مشارب متشابهة في رداء الإسلام والمسلمين ترى في هذهالبلاد القاعدة الكبرى للإسلام والمسلمين ، وفي طليعة هذه الطوائف المنحرفة والموجهةطاغية ليبيا معمر القذافي، ذلك الرجل الذي نذر نفسه لخدمةالشر وإشاعة الفوضى وإثارة الشغب والتشكيك في الإسلام .
لقد استعرض المجلسأطوار هذا الرجل وسرعة استجابته لعناصر الشر والكيد والحسد ، حيث صار يهذي في أجهزةإعلامه يما يستحي من ذكره من له ذوق سليم أو عقل مستقيم , يتضح ذلك في أقوالهوأفعاله وتقلباته في جميع ميادين عمله داخل بلاده وخارجها وفي مقدمة ذلك تعرضهللعقيدة الإسلامية ، فلقد أقبر هذا الرجل السنة النبوية ، وسخر من الحج إلى بيت اللهالحرام ومن المسلمين الذين يقفون في عرفات ، وصدرت بتفنيذه فتاوى شرعية من هيئات ومجالس إسلامية عليا ، ومع ذلك لا يزال هذا المسكين يتخبط في متاهات من الزيف والضلالتعطي القناعة التامة أنهضال ملحد .
إن مجلس هيئةكبار العلماء وهو يستنكر تماديهذا الدعي على الإسلام والمسلمينليقرر ويؤكد أنه بإنكاره لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزاءه بالحجواستهانته ببعض التعاليم الإسلامية واتجهاته الآثمة الباطلةيعتبربذلككافراًوضالاً مضلاً .
فضلاً عن ظلمه وطغيانه وإجرامه ، وتجريح عباد الله ورميه إياهم زوراً وبهاتاً بالصفات الذميمة مما يصدر عن عاقل يعتبر نفسه عاقلاً وإنسانياً ، ومن ذلك تجريحه دعاة الإسلام وعلماءه الذين قاموا بنصرة هذا الدين والدعوة إليه وبذلوا نفوسهم وأموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله ، وعلىرأسهم الإمام محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله وأنصارهما وأتباعهما منالدعاة إلى الله والهادين إلى سبيله .وإنا لله وإنا إليه راجعون وهو حسبنا ونعمالوكيل ولاحولة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
التواقيع :
2- عبد الله خياط
4- عبد الله بنمحمد بن حميد
6- عبد العزيز بن صالح
8- راشد بن حميد
10- إبراهيم بن محمد آلالشيخ
12- صالح بن غصون
14- عبد الله بن قعود
16- صالح بن اللحيدان

1- رئيس الدورة : محمد بن علي الحركان
3- عبد العزيز بن عبد الله بن باز
5- سليمان بن عبيد
7- عبد الرزاقعفيفي
9- محمد بن جبير
11- عبد الله بن غديان
13- عبد المجيد حسن
15- عبد الله بن منيع










الرياض في 22 جمادي الأولى 1402هـ...
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 10-18-2008, 04:38 PM
الوليد المصري الوليد المصري غير متواجد حالياً
مراقب عام
 




افتراضي

الشبهة التاسعة :
قولهم بإمامة الحكام بغير ما أنزل الله ووجوب السمع والطاعة لهم حتى يكفروا عينًا .
بل إن بعضهم يبالغ فيوجب ذلك حتى مع الكافر عينًا .
والجواب عن ذلك :
أننا نؤمن أن من تولى بمقتضى الدساتير والقوانين الوضعية أنهم ليسوا ولاة أمور شرعيين ، مسلمين كانوا أو كفارًا ، أقيمتعليهم الحجة أو لم تُقم ، بل هم أنفسهم لا يقولون عن أنفسهم أنهم ولاة أمور شرعيون، ولم يدَّعوا يومًا أنهم أخذوا بيعة من أحد ، بل ما هو إلا قسم يقسم عليه أناس أغلبهم من الفسقة والمنافقين في تثبيت ملك كبيرهم ، يقسمون فيه على احترام الدستور وسيادة القانون ، فهل يقول عاقل فضلاَ عن عالم أن هذه بيعة ، بل وينسبها للشرع ؟؟!!
فلسنا هنا بصدد الحديث عن إسلام فلان أو كفر علان ، إنما نرد على من نصَّب محاربي الدين ولاية الأمر ، وألبس مغتصبي البلاد والعباد حلل الخلافة ، مستخدماً في ذلك النصوص على غير مرادقائليها ، ومُنـزلها على غير الواقع الذي قيلت فيه ، فنوضح له بالأدلة الشرعيةوالعقلية أن هؤلاء الحكام ليسوا من الإمامة الشرعية في شيء ، وأن إسلامهم وكفرهملا علاقة له بصحة إمامتهم في هذه الحالة ..
فإن المتغلب بالسيف تثبت له الولاية الشرعية ، مع أن هذه الطريقة ليست بالطريقة الشرعية، إذ إن العلماء حرموها ، ولكنهم قالوا أنه لو حدث وقهر ذو الشوكة المسلمين بالسيفنثبت له الولاية الشرعية لأجل مصلحة المسلمين من حفظ دينهم وأعراضهم ودمائهم ،فطالما أن هذا المتغلب ستتحقق منه المقاصد الشرعية من الإمامة من إقامة للدين وسياسة للدنيا به ، وطالما أنه سيقود الأمة بكتاب الله وسيقيم في الأمة الصلاة ؛لذلك ستثبت له الإمامة الشرعية بهذه الطريقة غير المأذون فيها شرعاً .
أماإن كان المتغلب قد تغلب وقهر المسلمين وليس في قهره لهم أي تحقيق لمقاصد الإمامة ،بل في قهره لهم تضييع لمقاصد الإمامة وتضييع لمصالح المسلمين وإبعادهم عن دينهموإجبارهم على التحاكم بشرع الكفار ، فهو يقود الأمة بأحكام الكافرين ، ولا يقيمفيهم الصلاة ، ويحملهم على البعد عن دين الله حملاً ، فلا يقول عالم بل عاقل بأن هذا المتغلب سنحكم له بالولاية الشرعية لا سيما أنه انتزعها بغير حق وبطريق غيرشرعي .
والعمدة في ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)) (رواه مسلم) ، وفي رواية للترمذي وأحمد: ((ما أقام لكم كتاب الله)) . فشرط لصحة الإمامة أن يحكم بشرع الله وإن كان فاسقاً .
وعلى ذلك تحمل الأحاديث المطلقة الواردة في طاعة الأئمة مثل حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس)). قال : قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : ((تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)) (رواه مسلم)

قال البغوي رحمه الله :
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا . (معالم التنزيل 2/240)
قال النووي رحمهالله :
فأمر صلى الله عليه وسلم بطاعة ولي الأمر ولو كان بهذه الخساسة ما دام يقودنا بكتاب الله تعالى ، قال العلماء معناه ما داموا متمسكين بالإسلام والدعاءإلى كتاب الله تعالى على أي حال كانوا في أنفسهم وأديانهم وأخلاقهم . (شرح النووي على مسلم : 4/422)

وكذلك فإن الأنظمة المدنية الحديثة تقسم السلطات إلى تشريعية وقضائية وتنفيذية ، بخلاف النظام الإسلامي الذي يجعل لولي الأمر سلطات تشمل جوانب متعددة ولا قيد عليها إلا التزام شرع الله تعالى ، فمتى قلنا عن الأنظمة المدنية أنهم ولاة أمور بالمعنى الشرعي ، فهل يجوز لنا شرعًا مقاضاتهم -وهم يجيزون ذلك- ؟؟ أم أننا سنمتنع من مقاضاتهم شرعًا وإن سمحوا هم به ؟ ، كالذي رأى أن من يرشح نفسه للرئاسة خارج عن الإمام وإن كان النظام المدني يفتخر فيه رئيس الدولة بتطبيق الديموقراطية وخوض انتخابات تعددية !!
لذلك نقول أن المتغلب بالقهر لا تثبت الإمامة له بهذا التغلب المجرد، وإنما ينبغي أن تراعَى مقاصد الإمامة في ذلك ، وإلا للزمنا القول بإمامةقطاع الطرق الذين يقهرون الناس إمامة شرعية ، فلو أن عصابة قامت بالهجوم على قريةمن القرى النائية واستطاعوا أن يقهروا أهلها فإنهم سيكونون بهذا التغلب المجرد أئمةشرعيين تجب لهم الطاعة في أعناق أهل القرية ، وينبغي على أهل القرية أن يصبرواعليهم وإن أخذوا مالهم وجلدوا ظهورهم لأنهم متغلبين ، ولم يقل بذلك عاقل ، فماالفرق إذن بين هؤلاء وهؤلاء ؟!! الجواب : لا فرق ..
هذا هو محل الخلاف الحقيقي . فنحن لا نختلف في حكم إمامة المتغلب ، ولكن لا يجوز تعميمها على الذين استولوا على بلاد الله ليقودوا الناس إلى الهاوية لا بكتاب الله ،وهذا شرط واضح قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وشرحه العلماء .

ومما يؤكد ما قلناهما ذكره النووي رحمه الله في شرح حديث حذيفة في الفتن ، إذ قال رحمه الله :
قوله صلى الله عليه وسلم : ((دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)) ، قال العلماء : هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال آخر كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة . (شرح صحيح مسلم : 6/37)
فتأمل كيف حكم على الخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة أنهم دعاة على أبواب جهنم لا يسمع لهم ويطاع ، مع ما كان فيه بعض هؤلاء من تغلب على بعض البلاد الإسلامية ، فتأمل حال مبتدعة زماننا ممن يظاهرون الدعاة على أبواب جهنم !!
...
ولنتأمل فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التتار ، إذ نقل الإجماع على وجوب قتالهم ، لعدم التزامهم ببعض الشرائع ، مع نطقهم للشهادتين ظاهرًا . مع التنبيه على أنه لم يحكم لجميعهم بالكفر بل نقل أن فيهم الفاسق والمبتدع والزنديق . وسيأتي بيان حكم الطائفة الممتنعة مفصلاً من كلام شيخ الإسلام رحمه الله ..

سئل رحمه الله : ما تقول الفقهاء أئمة الدين في هؤلاء التتار الذين قدموا سنة تسع وتسعين وستمائة ، وفعلوا ما اشتهر من قتل المسلمين وسبي بعض الذراري والنهب لمن وجدوه من المسلمين ، وهتكوا حرمات الدين من إذلال المسلمين وإهانة المساجد لا سيما بيت المقدس) وأفسدوا فيه وأخذوا من أموال المسلمين وأموال بيت المال الحمل العظيم وأسروا من رجال المسلمين الجم الغفير وأخرجوهم من أوطانهم ، وادعوا مع ذلك التمسك بالشهادتين وادعوا تحريم قتال مقاتلهم لما زعموا من اتباع أصل الإسلام ولكونهم عَفَوْا عن استئصال المسلمين . فهل يجوز قتالهم أو يجب وأيما كان فمن أي الوجوه جوازه أو وجوبه ؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم ، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه ، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه ، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة . وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما ، فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة . وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج ، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله : ((تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم)) .
فعُلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال . فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة . فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب .
فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج ، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا والميسر أو عن نكاح ذوات المحارم ، أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته - التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها - التي يكفر الجاحد لوجوبها ، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها ، وهذا ما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء . وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر والأذان والإقامة - عند من لا يقول بوجوبهما - ونحو ذلك من الشعائر . هل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا ؟. فأما الواجبات والمحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها .
وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته ؛ كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه . فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين أو خارجون عليه لإزالة ولايته ، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام ؛ بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه . ولهذا افترقت سيرة علي رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة والشام وفي قتاله لأهل النهروان ، فكانت سيرته مع أهل البصرة والشاميين سيرة الأخ مع أخيه ومع الخوارج بخلاف ذلك . وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق وقتال الخوارج ، بخلاف الفتنة الواقعة مع أهل الشام والبصرة ؛ فإن النصوص دلت فيها بما دلت والصحابة والتابعون اختلفوا فيها . على أن من الفقهاء الأئمة من يرى أن أهل البغي الذين يجب قتالهم هم الخارجون على الإمام بتأويل سائغ ؛ لا الخارجون عن طاعته . وآخرون يجعلون القسمين بغاة . وبين البغاة والتتار فرق بين . فأما الذين لا يلتزمون شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة ؛ فلا أعلم في وجوب قتالهم خلافا .
فإذا تقررت هذه القاعدة فهؤلاء القوم المسئول عنهم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين ، وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام - وهم جمهور العسكر - ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم ويعظمون الرسول ، وليس فيهم من يصلي إلا قليلًا جدا ، وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة ، والمسلم عندهم أعظم من غيره ، وللصالحين من المسلمين عندهم قدر ، وعندهم من الإسلام بعضه وهم متفاوتون فيه . لكن الذي عليه عامتهم والذي يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها ؛ فإنهم لا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه ؛ بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه وإن كان كافرًا عدوا لله ورسوله ، وكل من خرج عن دولة المغول أو عليها استحلوا قتاله وإن كان من خيار المسلمين ، فلا يجاهدون الكفار ولا يلزمون أهل الكتاب بالجزية والصغار ، ولا ينهون أحدا من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك ، بل الظاهر من سيرتهم أن المسلم عندهم بمنزلة العدل أو الرجل الصالح أو المتطوع في المسلمين ، والكافر عندهم بمنزلة الفاسق في المسلمين أو بمنزلة تارك التطوع . وكذلك أيضا عامتهم لا يحرمون دماء المسلمين وأموالهم ؛ إلا أن ينهاهم عنها سلطانهم أي لا يلتزمون تركها ، وإذا نهاهم عنها أو عن غيرها أطاعوه لكونه سلطانا لا بمجرد الدين . وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات ؛ لا من الصلاة ولا من الزكاة ولا من الحج ولا غير ذلك . ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله ؛ بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارة وتخالفه أخرى . وإنما كان الملتزم لشرائع الإسلام الشيزبرون وهو الذي أظهر من شرائع الإسلام ما استفاض عند الناس . وأما هؤلاء فدخلوا فيه وما التزموا شرائعه . وقتال هذا الضرب واجب بإجماع المسلمين ، وما يشك في ذلك من عرف دين الإسلام وعرف حقيقة أمرهم ؛ فإن هذا السِّلم الذي هم عليه ودين الإسلام لا يجتمعان أبدا . وإذا كان الأكراد والأعراب وغيرهم من أهل البوادي الذين لا يلتزمون شريعة الإسلام يجب قتالهم وإن لم يتعد ضررهم إلى أهل الأمصار فكيف بهؤلاء ؟.
نعم يجب أن يسلك في قتاله المسلك الشرعي من دعائهم إلى التزام شرائع الإسلام إن لم تكن الدعوة إلى الشرائع قد بلغتهم ، كما كان الكافر الحربي يدعى أولا إلى الشهادتين إن لم تكن الدعوة قد بلغته . فإن اتفق من يقاتلهم على الوجه الكامل فهو الغاية في رضوان الله وإعزاز كلمته وإقامة دينه وطاعة رسوله ، وإن كان فيهم من فيه فجور وفساد نية بأن يكون يقاتل على الرياسة أو يتعدى عليهم في بعض الأمور وكانت مفسدة ترك قتالهم أعظم على الدين من مفسدة قتالهم على هذا الوجه : كان الواجب أيضا قتالهم دفعا لأعظم المفسدتين بالتزام أدناهما ؛ فإن هذا من أصول الإسلام التي ينبغي مراعاتها . ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر ؛ فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار أو مع عسكر كثير الفجور ، فإنه لا بد من أحد أمرين ؛ إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضررا في الدين والدنيا ، وإما الغزو مع الأمير الفاجر فيحصل بذلك دفع الأفجرين وإقامة أكثر شرائع الإسلام وإن لم يمكن إقامة جميعها . فهذا هو الواجب في هذه الصورة وكل ما أشبهها ؛ بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والمغنم)) ، فهذا الحديث الصحيح يدل على معنى ما رواه أبو داود في سننه من قوله صلى الله عليه وسلم : ((الغزو ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل)) وما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة)) إلى غير ذلك من النصوص التي اتفق أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف على العمل بها في جهاد من يستحق الجهاد مع الأمراء أبرارهم وفجارهم ؛ بخلاف الرافضة والخوارج الخارجين عن السنة والجماعة ، هذا مع إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه : ((سيلي أمراء ظلمة خونة فجرة ، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض . ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه . وسيرد علي الحوض)) .
فإذا أحاط المرء علما بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد الذي يقوم به الأمراء إلى يوم القيامة وبما نهى عنه من إعانة الظلمة على ظلمهم ، علم أن الطريقة الوسطى التي هي دين الإسلام المحض جهاد من يستحق الجهاد كهؤلاء القوم المسئول عنهم مع كل أمير وطائفة هي أولى بالإسلام منهم إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك ، واجتناب إعانة الطائفة التي يغزو معها على شيء من معاصي الله ، بل يطيعهم في طاعة الله ولا يطيعهم في معصية الله إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديما وحديثا . وهي واجبة على كل مكلف . وهي متوسطة بين طريق الحرورية وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم وبين طريقة المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقا وإن لم يكونوا أبرارا . ونسأل الله أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل . والله أعلم . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . (مجموع الفتاوى : 28/502-508)

يتبين لنا من فتوى شيخ الإسلام هذه ما يلي :
1- أن التتار مع تغلبهم لم يعتبرهم أحد من أهل العلم ولاة أمور واجبي الطاعة .
2- الإجماع على وجوب قتال التتار ومن هم على شاكلتهم في الامتناع عن التزام بعض شرائع الدين كالعلمانيين .
3- أن قتالهم واجب حتى مع أئمة الجور ؛ لأنهم أولى بالإسلام منهم .
4- أن شيخ الإسلام رحمه الله جعل حكم هؤلاء المذكورين كحكم الخوارج ومانعي الزكاة ، وهم عنده ليسوا كالبغاة المتأولين وليسوا كالمرتدين عن أصل الإسلام ، بل هم نوع ثالث خارجون عن بعض شرائع الدين . وأنه لا يحكم بالكفر إلا لمن وقع منهم في الكفر فعلاً دون باقي أفرادهم بعد إقامة الحجة عليهم .
...
حكم الطائفة الممتنعة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
واختلفوا في قتل أسيرهم واتباع مدبرهم والتذفيف على جريحهم إذا كان لهم فئة يلجئون إليها . فجوز ذلك أبو حنيفة ومنعه الشافعي ، وهو المشهور في مذهب أحمد ، وفي مذهبه وجه أنه يتبع مدبرهم في أول القتال . وأما إذا لم يكن لهم فئة فلا يقتل أسير ولا يذفف على جريح كما رواه سعيد وغيره عن مروان بن الحكم قال : خرج صارخ لعلي يوم الجمل لا يُقتلن مدبر ولا يُذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن . فمن سلك هذه الطريقة فقد يتوهم أن هؤلاء التتار من أهل البغي المتأولين ويحكم فيهم بمثل هذه الأحكام كما أدخل من أدخل في هذا الحكم مانعي الزكاة والخوارج . وسنبين فساد هذا التوهم إن شاء الله تعالى .
والطريقة الثانية أن قتال مانعي الزكاة والخوارج ونحوهم ليس كقتال أهل الجمل وصفين ، وهذا هو المنصوص عن جمهور الأئمة المتقدمين ، وهو الذي يذكرونه في اعتقاد أهل السنة والجماعة ، وهو مذهب أهل المدينة كمالك وغيره ومذهب أئمة الحديث كأحمد وغيره . وقد نصوا على الفرق بين هذا وهذا في غير موضع حتى في الأموال . فإن منهم من أباح غنيمة أموال الخوارج ، وقد نص أحمد في رواية أبي طالب في حرورية كان لهم سهم في قرية فخرجوا يقاتلون المسلمين فقتلهم المسلمون فأرضهم فيء للمسلمين ، فيقسم خمسه على خمسة وأربعة أخماسه للذين قاتلوا يقسم بينهم أو يجعل الأمير الخراج على المسلمين ولا يقسم مثل ما أخذ عمر السواد عنوة ووقفه على المسلمين . فجعل أحمد الأرض التي للخوارج إذا غُنمت بمنزلة ما غُنم من أموال الكفار .
وبالجملة فهذه الطريقة هي الصواب المقطوع به ؛ فإن النص والإجماع فرق بين هذا وهذا وسيرة علي رضي الله عنه تفرق بين هذا وهذا ، فإنه قاتل الخوارج بنص رسول الله وفرح بذلك ، ولم ينازعه فيه أحد من الصحابة . وأما القتال يوم صفين فقد ظهر منه من كراهته والذم عليه ما ظهر ، وقال في أهل الجمل وغيرهم : إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف وصلى على قتلى الطائفتين . وأما الخوارج ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب . قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة)) . وفي صحيح مسلم عن زيد بن وهب أنه كان في الجيش الذي كانوا مع علي الذين ساروا إلى الخوارج فقال علي : أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء ، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم ، لا تجاوز صلاتهم تراقيَهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان محمد نبيهم لنكلوا عن العمل ، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض )) . قال فيذهبون إلى معاوية وأهل الشام ويتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم . والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس فسيروا على اسم الله . قال : فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب رئيسًا ، فقال لهم : ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من حقوتها فإني أناشدكم كما ناشدوكم يوم حروراء ، فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف وسحرهم الناس برماحهم ، قال : وأقبل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان . فقال علي : التمسوا فيهم المخدج ، فالتمسوه فلم يجدوه ، فقام على سيفه حتى أتى ناسًا قد أقبل بعضهم على بعض ، قال : أخروهم ، فوجدوه مما يلي الأرض ، فكبر ثم قال : صدق الله وبلغ رسوله . قال : فقام إليه عبيدة السلماني . فقال : يا أمير المؤمنين . الله الذي لا إله إلا هو أسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ . قال : إي والله الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه ثلاثا وهو يحلف له أيضا . فإن الأمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم وإنما تنازعوا في تكفيرهم . على قولين مشهورين في مذهب مالك وأحمد وفي مذهب الشافعي أيضا نزاع في كفرهم . ولهذا كان فيهم وجهان في مذهب أحمد وغيره على الطريقة الأولى : أحدهما أنهم بغاة . والثاني أنهم كفار كالمرتدين ، يجوز قتلهم ابتداء وقتل أسيرهم واتباع مدبرهم ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل ، كما أن مذهبه في مانعي الزكاة إذا قاتلوا الإمام عليها ، هل يكفرون مع الإقرار بوجوبها ؟ على روايتين ، وهذا كله مما يبين أن قتال الصديق لمانعي الزكاة وقتال علي للخوارج ليس مثل القتال يوم الجمل وصفين . فكلام علي وغيره في الخوارج يقتضي أنهم ليسوا كفارا كالمرتدين عن أصل الإسلام وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين بل هم نوع ثالث . وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم . (مجموع الفتاوى : 28 / 514)

وقال رحمه الله :
وأما قتال الخوارج ومانعي الزكاة وأهل الطائف الذين لم يكونوا يحرمون الربا ؛ فهؤلاء يقاتلون حتى يدخلوا في الشرائع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء إذا كان لهم طائفة ممتنعة فلا ريب أنه يجوز قتل أسيرهم واتباع مدبرهم والإجهاز على جريحهم ؛ فإن هؤلاء إذا كانوا مقيمين ببلادهم على ما هم عليه فإنه يجب على المسلمين أن يقصدوهم في بلادهم لقتالهم حتى يكون الدين كله لله . فإن هؤلاء التتار لا يقاتلون على دين الإسلام ؛ بل يقاتلون الناس حتى يدخلوا في طاعتهم ، فمن دخل في طاعتهم كفوا عنه وإن كان مشركا أو نصرانيا أو يهوديا ، ومن لم يدخل كان عدوا لهم وإن كان من الأنبياء والصالحين . وقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا أعداءه الكفار ويوالوا عباده المؤمنين . فيجب على المسلمين من جند الشام ومصر واليمن والمغرب جميعهم أن يكونوا متعاونين على قتال الكفار وليس لبعضهم أن يقاتل بعضا بمجرد الرياسة والأهواء . فهؤلاء التتار أقل ما يجب عليهم أن يقاتلوا من يليهم من الكفار وأن يكفوا عن قتال من يليهم من المسلمين ويتعاونون هم وهم على قتال الكفار . وأيضا لا يقاتل معهم غير مكره إلا فاسق أو مبتدع أو زنديق كالملاحدة القرامطة الباطنية وكالرافضة السبابة وكالجهمية المعطلة من النفاة الحلولية ، ومعهم ممن يقلدونه من المنتسبين إلى العلم والدين من هو شر منهم ؛ فإن التتار جهال يقلدون الذين يحسنون به الظن وهم لضلالهم وغيهم يتبعونه في الضلال الذي يكذبون به على الله ورسوله ويبدلون دين الله ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق . (مجموع الفتاوى : 28 / 551)

فمن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق ذكره يتبين لنا أن قتال الطائفة الممتنعة عن بعض شرائع الدين ليس من جنس قتال البغاة المتأولين ، وليس كذلك من جنس قتال المرتدين عن أصل الإسلام ، وإنما هم نوع ثالث يقاتلون عمومًا ، دون ثبوت حكم الكفر لجميع أفرادهم ، فإن منهم الفاسق والمبتدع والزنديق كما مر في كلام شيخ الإسلام رحمه الله .
..

ولكن قد ورد في كلام شيخ الإسلام رحمه الله إطلاق لفظ الردة عليهم ، مثل قوله : ( وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان ، وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة ؛ فلهذا كانوا مرتدين ، وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله ) (مجموع الفتاوى : 28 / 519) . فما بيان كلامه ذلك ؟

نقول :
هذا الكلام محمول على من ثبتت ردته عن أصل الإسلام منهم ، فإن منهم الفاسق والمبتدع والزنديق كما سبق . وقد يحمل الكلام على ارتدادهم عن بعض الشرائع بمعنى امتناعهم عن أدائها . وقد ورد في كلام شيخ الإسلام رحمه الله ما يشهد له . وقد سبق كلامه في الحكم عليه بأنهم ليسوا كالبغاة وليسوا كالمرتدين ، بل هم نوع ثالث .

قال رحمه الله :
وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين ، فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه ؛ ولهذا كان كل مؤمن يعرف أحوال التتار ويعلم أن المرتدين الذين فيهم من الفرس والعرب وغيرهم شر من الكفار الأصليين من الترك ونحوهم ، وهم بعد أن تكلموا بالشهادتين مع تركهم لكثير من شرائع الدين خير من المرتدين من الفرس والعرب وغيرهم ، وبهذا يتبين أن من كان معهم ممن كان مسلم الأصل هو شر من الترك الذين كانوا كفارا ؛ فإن المسلم الأصلي إذا ارتد عن بعض شرائعه كان أسوأ حالا ممن لم يدخل بعد في تلك الشرائع ، مثل مانعي الزكاة وأمثالهم ممن قاتلهم الصديق . وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقهاً أو متصوفاً أو تاجراً أو كاتباً أو غير ذلك فهؤلاء شر من الترك الذين لم يدخلوا في تلك الشرائع وأصروا على الإسلام . (مجموع الفتاوى : 28 / 535)
ففي كلامه السابق بيان لما قد يساء فهمه من بعض كلامه أنه يحكم على التتار بالكفر بالعموم ، بل قد سبق حكمه فيهم صريحًا أنهم ليسوا كالمرتدين عن أصل الإسلام ، وإن كان يطلق عليهم مرتدين عن بعض شرائعه ، ولكن ذلك لا يقتضي الحكم عليهم بالكفر بالعموم ؛ فالردة هنا بالمعنى اللغوي بمعنى امتناعهم عما كانوا يفعلونه –وسيأتي كلام الخطابي في ذلك- . وقد اتضح مقصود شيخ الإسلام رحمه الله هاهنا في تفرقته بين الردة عن أصل الدين وبين الردة عن بعض الشرائع ، وأيضًا في قوله ( المرتدين الذين فيهم .. ) فإن فيه إشارة إلى أنه ليسوا كلهم مرتدين ، بل بعضهم مرتد عن أصل الدين وبعضهم مرتد عن بعض شرائعه ، ليس حكمه كالأول .
قال الإمام الخطابي رحمه الله :
وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافا ؛ منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره ، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها ، وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفارا ؛ ولذلك رأى أبو بكر رضي الله عنه سبي ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة . واستولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه جارية من سبي بني حنيفة فولدت له محمدا الذي يدعى ابن الحنفية . ثم لم ينقضِ عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يُسبى . فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ، ولم يسموا على الانفراد منهم كفارا وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين ؛ وذلك أن الردة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه فقد ارتد عنه ، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق ، وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح بالدين وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقا . (شرح صحيح مسلم : 1 /204)

فهذا الإمام الخطابي رحمه الله يحكم لهم بإطلاق اسم الردة وإن لم يكونوا مرتدين بالمعنى الشرعي الذي يعني الخروج من الإسلام ، وإنما معناه الخروج عن بعض الشرائع . إلا أنه جعلهم أهل بغي ، وقد بينا الراجح في ذلك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمها الله .
..
تنبيه مهم :
قتال الطائفة الممتنعة تابع للمصلحة والمفسدة والقدرة والعجز ، فلا يجب قتالهم على من تغلبوا عليه ولم تتحقق له القدرة لقتالهم ، بل هو كالأسير بالنسبة لهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع . وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت ، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة ، فينظر في المعارض له فإن كان الذي يَفُوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به ؛ بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ؛ لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقل أن تُعْوِزَ النصوص من يكون خبيرًا بها وبدلالتها على الأحكام . (مجموع الفتاوى : 28/129)
وسيأتي بيان ذلك مفصلاً في الرد على الشبهة العاشرة إن شاء الله تعالى .
...
باقي أقوال العلماء في بيان مقاصد الإمامة الشرعية
قال الماوردي رحمه الله في بيان ما يجب على الإمام :
والذي يلزمه (أي الإمام) من الأمور العامة عشرة أشياء :
أحدها : حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة ، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ، ليكون الدين محروسًا من خلل والأمة ممنوعة من زلل .
الثاني : تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة ، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم .
الثالث : حماية البيضة والذب عن الحريم ؛ ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال .
والرابع : إقامة الحدود ؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك ، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك .
والخامس : تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة ؛ حتى لا تظفر الأعداء بغِرة ينتهكون فيها محرمًا ، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا .
والسادس : جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يُسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله .
والسابع : جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًا واجتهادًا من غير خوف ولا عسف .
والثامن : تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير .
التاسع : استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال ، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة .
العاشر : أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة ، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة ، فقد يخون الأمين ويغش الناصح ...... إلخ (الأحكام السلطانية : 26-30)

قال النووي رحمه الله:
(قال القاضي : فلو طرأ عليه كفر وتغييرللشرعأو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليهوخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك ، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيامبخلع الكافر ، ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه فإن تحققوا العجز لميجب القيام ، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفر بدينه . قال : ولا تنعقد لفاسق ابتداء ، فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم يجب خلعه إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب ، وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين : لا ينعزل بالفسقوالظلم وتعطيل الحقوق ، ولا يخلع ، ولا يجوز الخروج عليه بذلك ، بل يجب وعظه وتخويفهللأحاديث الواردة في ذلك . قال القاضي: وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذاالإجماع ، وقد رد عليه بعضهم هذا بقيام الحسن وابن الزبير وأهل المدينة على بنيأمية وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث ،وتأول هذا القائل قوله : (أن لا ننازع الأمر أهله) في أئمة العدل ،وحجةالجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق بل لما غير من الشرع وظاهر منالكفر . قال القاضي: وقيل أن هذا الخلاف كان أولاً ثم حصل الإجماع على منعالخروج عليهم . والله أعلم . (شرح النووي على مسلم : 6/314)
قال القرطبي رحمه الله :
قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام؛ من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب . هذا ما لا خلاف فيه . وقد مدح الله المؤمنين بقوله: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) ، قال أعرابي: ما غُبنت قط حتى يُغبن قومي؛ قيل: وكيف ذلك؟ قال: لا أفعل شيئا حتى أشاورهم . وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون ، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين ، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها . وكان يقال: ما ندم من استشار . وكان يقال: من أعجب برأيه ضل . (تفسير القرطبي : 4/250)
قال الشوكاني رحمه الله :
لما أمر الله سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق أمر الناس بطاعتهم هاهنا ، وطاعة الله تعالى هي امتثال أوامره ونواهيه ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه ، وأولو الأمر هم الأئمة والسلاطين والقضاة ، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية ، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله .. (فتح القدير: 2/166)

وقال رحمه الله رحمه الله :
والحاصل أن الغرض المقصود للشارع من تنصيب الأئمة هو أمران ؛ أولهما وأهمهما إقامة منار الدين وتثبيت العباد على صراطه المستقيم ودفعهم عن مخالفته والوقوع في مناهيه طوعا وكرها ، وثانيهما تدبير المسلمين في جلب مصالحهم ودفع المفاسد عنهم ، وقسمة أموال الله فيهم وأخذها ممن هي عليه وردها فيمن هي له ، وتجنيد الجنود ، وإعداد العدة لدفع من أراد أن يسعى في الأرض فسادا من بغاة المسلمين وأهل الجسارة منهم من التسلط على ضعفاء الرعية ونهب أموالهم وهتك حرمتهم وقطع سبلهم ، ثم القيام في وجه عدوهم من الطوائف الكفرية إن قصدوا ديار الإسلام ، وغزوهم إلى ديار الكفر إن أطاق المسلمون ذلك ووجدوا من العدد والعدة ما يقوم به .
فهذا هو موضوع الإمام الذي ورد الشرع بنصبه . وعلى المسلمين إخلاص الطاعة له في غير معصيةالله وامتثال أوامره ونواهيه في المعروف غير المنكر ، وعدم منازعته وتحريم نزع أيديهم من طاعته إلا أن يروا كفرا بواحا ، كما وردت بذلك الأدلة المتواترة التي لا يشك في تواترها إلا من لا يعرف السنة المطهرة . (السيل الجرار : 3/332)

ويقول العلامة ابنحجر آل بوطامي رحمه الله في كتابه القيم (العقائد السلفية)
ولكن ينعزل الإمام ولا تكون له ولاية على مسلمإذا أتى بما يلي :
فذكر 1- الكفر والردة بعد الإسلام . واستدلالشيخ رحمه الله بالقرآن والسنة وكلام أهل العلم ، وهذه الحالة مُجْمَععليها .
ثم ذكر 2- ترك الصلاة والدعوة إليها . وذكر حالين : إما بالجحود وهذا كفر ، وإما تهاونًا وكسلًا ؛ فذكر الخلاف في كونها كبيرةمن الكبائر أم كفرًا .
ثم قال : ( فعلى أي الحالين يجب عزل الإمام الذي يترك الصلاة عملًا بالأحاديث الواردةفي ذلك ، والتي نهت عن منابذة أئمة الجور ، ونقض بيعتهم ، وعن مقاتلتهم بشرطإقامتهم الصلاة ) . وذَكَرَ الشيخ ذِكْرَ القاضي عياض إجماع العلماء على عزل الإمام لو تركإقامة الصلاة والدعوة إليها .
ثم ذكر الحالة الثالثة: 3- ترك الحكم بما أنزل الله .
ثمقال الشيخ رحمه الله تحت هذا العنوان :
(ويشترط للسمع والطاعة أن يقود الإمام رعيته بكتاب الله . أما إذا لم يُحكم فيها شرع الله، فهذا لا سمع له ولا طاعة ، وهذا يقتضي عزله ، وهذا من صور الحكم بغير ما أنزل الله المفسقة ،أما المكفِّرة فهي توجب عزله ولو بالمقاتلة) .. انتهى (العقائد السلفية ص726)
...
بل إنه قد ذهب بعض أهل العلم إلى بطلان الإمامة بالفسق الطارئ :
قال الجصاص في قوله تعالى ((قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) :
فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة ، وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس اتباعه ولا طاعته . (أحكام القرآن : 1/170)

قال الماوردي رحمه الله :
(فصل) وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم ، ووجب له عليهم حقان الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله . والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان : أحدهما جرح في عدالته والثاني نقص في بدنه . فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين : أحدهما ما تابع فيه الشهوة . والثاني ما تعلق فيه بشبهة ، فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيما للشهوة وانقيادا للهوى ، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها ، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلا بعقد جديد . وقال بعض المتكلمين : يعود إلى الإمامة بعوده إلى العدالة من غير أن يستأنف له عقد ولا بيعة لعموم ولايته ولحوق المشقة في استئناف بيعته . (الأحكام السلطانية ص30)

قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله :
ويقال لهم : ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصارى جنده ، وألزم المسلمين الجزية ، وحمل السيف على أطفال المسلمين ، وأباح المسلمات للزنا ، أو حمل السيف على كل من وجد من المسلمين وملك نساءهم وأطفالهم ، وأعلن العبث بهم ، وهو في كل ذلك مقر بالإسلام معلن به لا يدع الصلاة ؟. فإن قالوا : لا يجوز القيام عليه ، قيل لهم : أنه لا يدع مسلماً إلا قتله جملة ، وهذا إن ترك أوجب ضرورة ألا يبقى إلا هو وحده وأهل الكفر معه ، فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإسلام جملة وانسلخوا منه ، وإن قالوا : بل يقام عليه ويقاتل -وهو قولهم- قلنا لهم : فإن قتل تسعة أعشار المسلمين أو جميعهم إلا واحداً وسبى من نسائهم كذلك وأخذ من أموالهم كذلك ، فإن منعوا من القيام عليه تناقضوا ، وإن أوجبوا سألناهم عن أقل من ذلك ، ولا نزال نحطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحد أو على امرأة واحدة ، أو على أخذ مال أو على انتهاك بَشَرة بظلم ، فإن فرقوا بين شيء من ذلك تناقضوا وتحكموا بلا دليل ، وهذا ما لا يجوز ، وإن أوجبوا إنكار كل ذلك رجعوا إلى الحق . (الفِصَل : 2 / 15)

ثم قال رحمه الله :
قال أبو محمد : والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قل أن يُكلم الإمام في ذلك ويُمنع منه ، فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البَشَرة أو من الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه ، وهو إمام كما كان لا يحل خلعه . فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق ؛ لقوله تعالى : ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) ، ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع . وبالله تعالى التوفيق .
..
والجواب عما ذكره هؤلاء العلماء من بطلان الإمامة بالفسق :
1- قد قدمنا أن بعض العلماء نقل الإجماع على عدم بطلان الإمامة بالفسق .
2- ما ذكره ابن حزم من وجوب القيام على الأئمة لأدنى شيء من الجور ، فنقول : إن الحد الذي يفرق به بين وجوب الصبر على الجور ولزوم القيام عليهم هو ما إذا زادت مفسدة الظلم والغَشَم على مفسدة الخروج كما بين ذلك الإمام النووي رحمه الله .
قال النووي رحمه الله :
قال إمام الحرمين رحمه الله : ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة وإن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح . فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان . قال : وإذا جار والي الوقت ، وظهر ظلمه وغَشَمُه ، ولم ينزجر حين زُجر عن سوء صنيعه بالقول ، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب . هذا كلام إمام الحرمين . وهذا الذي ذكره من خلعه غريب ، ومع هذا فهو محمول على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه . (شرح صحيح مسلم : 2/25)
والكلام على المصالح والمفاسد سيأتي تامًا في الرد على الشبهة العاشرة إن شاء الله تعالى .
3- ادعى ابن حزم نسخ الأحاديث القاضية بوجوب الصبر على أئمة الجور مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ((تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)) (رواه مسلم) .
والجواب عن ذلك أن بعض هذه الأحاديث فيها الإخبار عن أمور مستقبلية في الفتن ، مثل الإخبار عن الدعاة على أبواب جهنم ، وكسر باب الفتن بمقتل عمر ، وغيرها ، فهذه الأحاديث لا تنسخ ، خاصة مع ثبوت الإجماع بموافقتها .
4- كلام ابن حزم رحمه الله يصدق على من علم من حاله أنه قتل المسلمين لأجل إسلامهم ، فإن هذا كفر وردة ولو قتل مسلمًا واحدًا ، بخلاف ما لو ظلم مسلمًا أو أكثر ، أو أخذ أموالهم أو ضربهم أو قتلهم ، مع تعظيمه للإسلام جملة وإقامته للدين .
...

وبعد ذلك ، حُق لنا أن نتساءل ؛
بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كلام العلماء رحمهم الله فيما يجب على الإمام وما تصح به ولايته وما ينقضها ، هل لأحد أن يقول بصحة ولاية من تغلب رافعًا الراية الجاهلية العلمانية المعاندة للإسلام ؟؟
وإذا كان ما ذكره العلماء رحمهم الله هو في انتقاض ولاية من كان يقيم الشرع وينفذ الحدود ، فكيف بمن تغلب وهو غير مبال بأحكام الله وحدوده ولا معظم لدماء المسلمين وأعراضهم . كيف يصح أن تُنسب تلك الولاية للشرع مع ما يقوم به هؤلاء من إبطال للشرع ؟؟ ..
...
فإن قيل
: فما الواجب على المسلمين في حال عدم وجود الإمام الشرعي الذي يقود الأمة بكتاب الله ؟
نقول :
إن الأمة الإسلامية مطالبة بالأوامر الشرعية التي يسميها العلماء فروض الكفاية ، وهى في أكثرها لا يمكن لفرد ولا لأفراد متفرقين القيام بها ، بل الأمة في مجموعها مطالبة بها ، والأئمة وكلاء عنها في إقامتها ، وهى تشمل إقامة الجمع والجماعات والحسبة والإمارة والخلافة والجهاد بنوعيه الدفع والطلب ونظام القضاء والحكم بين الناس بمقتضى الشريعة الإسلامية ، وتنفيذ هذه الأحكام من حدود وحقوق وتعزيرات وغيرها ، ونظام المال الإسلامى القائم على سد حاجات المسلمين وخاصة فقراءهم وأراملهم وأيتامهم وغيرهم ، ووجود أنواع المهن والصناعات التي يحتاج إليها المسلمون وغير ذلك مما بينه أهل العلم . وأدلة ذلك كتاباً وسنة وإجماعاً من أوضح الأدلة .
وهى كما يرى كل منصف مضيعة في واقعنا الحاضر جزئياً أو كلياً في الأقطار المختلفة ، إما واقعياً في البلاد التي يتولى حكامها زمام الأمور باسم الإسلام ، أو واقعياً ورسمياً معاً في البلاد التي يتولى حكامها زمام الأمور باسم القانون والدستور ويقسمون على احترامه وحمايته ، فالعقد بينهم وبين ممثلى الأمة في زعمهم لم يتم على إقامة هذا الدين .
فهل تسقط هذه الفروض عن المسلمين ؟ أم هل يمكن للأفراد المتفرقين القيام بها ؟
ونحن بلاشك لا ننكر إمكانية القيام ببعض هذه الصور دون قيادة كغسل ميت وتكفينه ، ولكن هل يتصور إقامة الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإقامة الخلافة إلا باجتماعٍ وطاعةٍ وقيادة . ولاشك أن هذه الأمور لا توجد في الأمة بين يوم وليلة ، بل هى من أشق الأمور في التربية والتنشئة ، ولابد من السير على مبادئها للوصول إلى غاياتها . ومن يتصور الوصول إلى الغايات وهو يهدم المبادئ وينكرها فلا شك أنه يتناقض .
والصورة المثلى لعودة الخلافة من غيبتها أن يكون أهل الحل والعقد من أهل السنة والجماعة مجتمعين على مطاع هو أمثل أهل العلم منهم للقيام بالمقدور عليه من فروض الكفاية ، فإن تعذر ذلك استقل كل أهل بلد بعالمهم إلى أن يتيسر جمعهم ، وإن كان لابد لهم أن يأخذوا بالأسباب التي تؤدى إلى جمعهم لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . (بتصرف من بحث العمل الجماعي/ مجلة صوت الدعوة)
ودليل ما ذكرناه :
1- قول الله عز وجل : ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) (المائدة : 2)
2- قول الله عز وجل : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)) . (النساء : 59)
وأولو الأمر هم العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله كما ذكره ابن كثير في تفسيره (2/345) ، والطبري في تفسيره (8/495) ، والبغوي في تفسيره (2/239) . وسيأتي بيانه في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
3- حديث غزوة مؤتة . قال الحافظ ابن حجر : قال الطحاوي : هذا الأصل يؤخذ منه أن على المسلمين أن يقدموا رجلاً إذا غاب الإمام يقوم مقامة إلى أن يحضر . (فتح الباري : 7 / 513)
4- ما رواه أبو داود في سننه عن عقبة بن مالك قال : بعث النبي صلي الله عليه وسلم سرية ، فسلحت رجلاً منهم سيفاً فلما رجع قال : لو رأيت ما لامنا رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ((أعجزتم إذا بعثت رجلاً منكم فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضى لأمري)) (حسنه الألباني)

...
وإليك أقوال العلماء في بيان ما قلناه
قال الإمام البغوى في شرح السنة :
إن الأمور الموكولة إلى الأئمة إذا غابوا عنها ، فإنه يتولاها من وجد من المسلمين ، من غير إمرة من الأئمة والخلفاء . اهـ

قال أبو المعالي الجوينى رحمه الله :
فإذا شغر الزمان عن الإمام ، وخَلِيَ عن سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية ، فالأمور موكولة إلى العلماء . وحقٌ على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم ، فإن فعلوا ذلك فقد هُدوا إلى سواء السبيل ، وصار علماء البلاد ولاة العباد ، فإن عَسُر جمعهم على واحد استبد أهل كل صُقع وناحية باتباع عالمهم ، وإن كثر العلماء في الناحية فالمتبع أعلمهم ، وإن فُرض استواؤهم -وفرضهم نادر لا يكاد يقع- فإن اتفق فإصدار الرأي عن جميعهم مع تناقض المطالب والمذاهب محال ، فالوجه أن يتفقوا على تقديم واحد منهم ، فإن تنازعوا وتمانعوا وأفضي الأمر إلى شجار وخصام ، فالوجه عندي في قطع النزاع الإقراع ، فمن خرجت له القرعة قُدم . (غِيَاث الأمم ص391)

وقال رحمه الله :
أما ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم ، ولكن الأدب يقتضي فيه مطالعةَ ذوي الأمر ومراجعةَ مرموق العصر ؛ كعقد الجمع وجر العساكر إلى الجهاد واستيفاء القصاص في النفس والطرف ، فيتولاه الناس عند خلو الدهر .
ولو سعى عند شغور الزمان طوائفُ من ذوي النجدة والبأس في نقض الطرق والسعاة في الأرض بالفساد ، فهو من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإنما ينهى آحاد الناس عن شهر الأسلحة استبدادًا إذا كان في الزمان وَزَرُ قَوَّام على أهل الإسلام .
فإذا خلى الزمان عن السلطان وجب البَدَار على حسب الإمكان إلى درء البوائق عن أهل الإيمان .
ونَهْيُنا الرعايا عن الاستقلال بالأنفس من قبيل الاستحثاث على ما هو الأقرب إلى الصلاح والأدنى إلى النجاح ؛ فإن ما يتولاه السلطان من أمور السياسة أوقع وأنجح وأدفع للتنافس وأجمع لشتات الرأي . وفي تمليك الرعايا أمور الدماء وشهر الأسلحة وجوه من الخبل لا ينكره ذوو العقل .
وإذا لم يصادف الناس قَوَّامًا بأمورهم يلوذون به ، فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد ؛ فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عم الفساد البلاد والعباد ، وإذا أُمروا بالتقاعد في قيام السلطان كفاهم ذو الأمر المهمات ، وأتاها على أقرب الجهات .
وقد قال العلماء : لو خَلِيَ الزمان عن السلطان ؛ فحق على قُطان كل بلده وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحِجَى من يلتزمون امتثال إشارته وأوامرِه وينتهون عن مناهيه ومزاجِرِِه ، فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ترددوا عند إلمام المهمات ، وتبلدوا عند إظلال الواقعات .
ولو انتُدب جماعة في قيام الإمام للغزوات وأوغلوا في مواطن المخافات ؛ تعين عليهم أن ينصبوا من يرجعون إلى رأيه ؛ إذ لو لم يفعلوا ذلك تَهَوًّوْا في ورطات المخافات ، ولم يستمروا في شيء من الحالات . اهـ (غِيَاث الأمم ص387)

قال العز بن عبد السلام رحمه الله :
لا يتصرف في أموال المصالح العامة إلا الأئمة ونوابهم . فإذا تعذر قيامهم بذلك وأمكن القيام بها ممن يصلح لذلك من الآحاد ، بأن وجد شيئا من مال المصالح ، فليصرف إلى مستحقيه على الوجه الذي يجب على الإمام العدل أن يصرفه فيه ، بأن يقدم الأهم فالأهم ، والأصلح فالأصلح ، فيصرف كل مال خاص في جهاته أهمها فأهمها ، ويصرف ما وجده من أموال المصالح العامة في مصارفها أصلحها فأصلحها ؛ لأنا لو منعنا ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال إلى مستحقيها ، ولأثم أئمة الجور بذلك وضمنوه ، فكان تحصيل هذه المصالح ودرء هذه المفاسد أولى من تعطيلها . وإن وجد أموالا مغصوبة، فإن عرف مالكيها فليردها عليهم، وإن لم يعرفها فإن تعذرت معرفتهم بحيث يئس من معرفتهم صرفها في المصالح العامة أولاها فأولاها، وإنما قلنا ذلك لأن الله قال: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)) , وهذا بر وتقوى . وقال صلى الله عليه وسلم : ((والله في عون العبد ما كان في عون أخيه)) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((كل معروف صدقة)) ، فإذا جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف ، مع كون المصلحة خاصة ، فلأن يجوز ذلك في المصالح العامة أولى ، ولا سيما عند غلبة الظلمة للحقوق . ولا شك أن القيام بهذه المصالح أتم من ترك هذه الأموال بأيدي الظلمة يأكلونها بغير حقها ، ويصرفونها إلى غير مستحقها . ويحتمل أن يجب ذلك على من ظفر به ، كمن وجد اللقطة في مضيعة ، وإذا جوز الشرع لمن جحد حقه أن يأخذ من مال جاحده إذا ظفر به إن كان من جنسه ، وأن يأخذه ويبيعه إن كان من غير جنسه ، مع أن هذه مصلحة خاصة ، فجواز ما ذكرناه مع عمومه أولى . وقد خير بعض أصحاب الشافعي واجد ذلك بين أن يصرفه في مصارفه ، وبين أن يحفظه إلى أن يلي المسلمين من هو أهل يصرف ذلك في مصارفه . وينبغي أن يتقيد بما ذكره بعض الأصحاب بوقت يتوقع فيه ظهور إمام عدل . وأما في مثل هذا الزمان المأيوس فيه من ذلك فيتعين على واجده أن يصرفه على الفور في مصارفه ، لما في إبقائه من التغرير به وحرمان مستحقيه من تعجيل أخذه ، ولا سيما إن كانت الحاجة ماسة إليه بحيث يجب على الإمام تعجيلها. (قواعد الأحكام في مصالح الأنام ص70)

وقال رحمه الله في ذكر أمثلة تعارض المصالح والمفاسد :
المثال السابع والعشرون: تصحيح ولاية الفاسق مفسدة ، لما يغلب عليه من الخيانة في الولاية ، لكنا صححناها في حق الإمام الفاسق والحاكم الفاسق ؛ لما في إبطال ولايتهما من تفويت المصالح العامة ، ونحن لا ننفذ من تصرفاتهم إلا ما ينفذ من تصرف الأئمة المقسطين والحكام العادلين ، فلا نبطل تصرفه في المصالح لأجل تصرفه في المفاسد ، إذ لا يترك الحق المقدور عليه لأجل الباطل . والذي أراه في ذلك أنا نصحح تصرفهم الموافق للحق مع عدم ولايتهم لضرورة الرعية ، كما نصحح تصرفات إمام البغاة مع عدم إمامته ؛ لأن ما ثبت للضرورة تقدر بقدرها ، والضرورة في خصوص تصرفاته ، فلا نحكم بصحة الولاية فيما عدا ذلك ، بخلاف الإمام العادل فإن ولايته قائمة في كل ما هو مفوض إلى الأئمة .
المثال الثامن والعشرون: تولي الآحاد لما يختص بالأئمة مفسدة ، لكنه يجوز في الأموال إذا كان الإمام جائراً يضع الحق في غير مستحقه ، فيجوز لمن ظفر بشيء من ذلك الحق أن يدفعه إلى مستحقيه ؛ تحصيلًا لمصلحة ذلك الحق الذي لو دفع إلى الإمام الجائر لضاع ، ولكان دفعه إليه إعانة على العصيان ، وقد قال الله تعالى: ((وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) . (قواعد الأحكام في مصالح الأنام ص91)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وأما إذا كان الذنب لحقِّ الله كالكذب والفواحش والبدع المخالفة للكتاب والسنة أو إضاعة الصلاة بالتفريط وواجباتها ونحو ذلك فهذا لا بد فيه من التوبة . وهل يشترط مع التوبة إظهار الإصلاح في العمل ؟ على قولين للعلماء . وإذا كان لهم شيخ مطاع فإن له أن يعزر العاصي بحسب ذنبه تعزيرا يليق بمثله أن يفعله بمثله ، مثل هجره مدة كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة المخلفين . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون : يسوسون الناس في دينهم ودنياهم ، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور ، فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر ، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين . وهؤلاء أولو أمر تجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التي هم أولو أمرها . وهو كذلك فسر أولو الأمر في قوله : ((أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)) بأمراء الحرب : من الملوك ونوابهم وبأهل العلم والدين الذين يعلمون الناس دينهم ويأمرونهم بطاعة الله ؛ فإن قوام الدين بالكتاب والحديد كما قال تعالى : ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)) . وإذا كان ولاة الحرب عاجزين ومفرطين عن تقويم المنتسبين إلى الطريق كان تقويمهم على رؤسائهم ، وكان لهم من تعزيرهم وتأديبهم ما يتمكنون منه إذا لم يقم به غيرهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وهو أضعف الإيمان)) (مجموع الفتاوى : 11/551)
وقال رحمه الله :
خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطاباً مطلقاً ، كقوله تعالى : ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ)) ، وقوله تعالى : ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا)) ، وقوله تعالى : ((وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ)) ، وكذلك قوله تعالى : ((وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً)) . لكن قد عُلم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادراً عليه ، والعاجزون لا يجب عليهم ، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد ، بل هو نوع من الجهاد ، فقوله : ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ)) ، وقوله : ((وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ)) ، وقوله : ((إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ)) ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين ، والقدرة هي السلطان ؛ فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه .
والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه . فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة ، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق ؛ ولهذا قال العلماء : إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل . وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا ، لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم . فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم . وكذلك لو لم يتفرقوا ، لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة ، فإن ذلك أيضا إذا أسقط عنه إلزامَهم بذلك لم يُسقط عنهم القيامَ بذلك ، بل عليهم أن يقيموا ذلك . وكذلك لو فُرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق ، أو إضاعته لذلك ، لكان ذلك الفرض على القادر عليه . وقول من قال : (لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه) إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل ، كما يقول الفقهاء : (الأمر إلى الحاكم) إنما هو العادل القادر . فإذا كان مضيعا لأموال اليتامى أو عاجزا عنها ، لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه . وكذلك الأمير إذا كان مضيعًا للحدود أو عاجزًا عنها ، لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه . والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه ، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين ، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها ؛ فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه . والله أعلم . (مجموع الفتاوى : 34 / 175)

قال الشوكاني رحمه الله :
وينبغي أن تعلم أن تنصيب الأئمة الثابت في هذه الشريعة ثبوتا لا ينكره من يعرفها من أقواله صلى الله عليه وسلم ثم وقوعه بالفعل بعد موته صلى الله عليه وسلم من الصحابة فمن بعدهم ليس فيه ما ينفي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أفراد المسلمين ، وإن كان الأئمة هم المقدمون في ذلك والأحقَوْن به ، لكن إذا فعلوا كان ذلك مسقطا لهذا الفرض المعلوم بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة والمجمع عليه من جميع الأمة ، وإن لم يفعلوا أو لم يطلعوا على ذلك فالخطاب باق على أفراد المسلمين لا سيما على العلماء ؛ فإن الله سبحانه قد أخذ عليهم البيان للناس فقال : ((وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)) ، وقال في الآية التي بعدها : ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)) . فإذا كان البيان لا يتم إلا بإيقاع حكم الله بالحكم مع التمكن من ذلك ؛ فما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه .
ثم قال رحمه الله : وإذا كان الأمر هكذا فليس ها هنا ما يسقط وجوب الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر والقيام ببيان حجج الله والإرشاد إلى فرائضه والزجر عن مناهيه ، ولا يصلح وجود الإمام مسقطا لذلك ، لكنه إذا قام بشيء منه وجب على المسلمين معاضدته ومناصرته ، وإن لم يقم به فالخطابات المقتضية لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المسلمين على العموم باقية في أعناقهم ، معدودة في أهم تكليفاتهم ، لا خلوص لهم عنها إلا بالقيام بها على الوجه الذي أمر الله به وشرعه لعباده ، وهكذا العلماء ؛ فإنه بعد دخولهم في هذا التكليف دخولا أوليا مخاطبون بتكليف البيان على الوجه الذي ذكرناه وإذا تقرر لك مجموع ما ذكرناه عرفت الصواب ولم يبق بينك وبين دركه حجاب . اهـ (السيل الجرار : 3/331)

قال ابن قدامة رحمه الله :
وأمر الجهاد موكول إلى الإمام ، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك .... فإن عُدم الإمام لم يؤخر الجهاد ؛ لأن مصلحته تفوت بتأخيره . وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب الشرع . (المغنى : 10 / 368)

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
وفي بكرة يوم الجمعة المذكور ؛ دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات ، فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور ، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش ، ففرح الناس بذلك . (البداية والنهاية : 14 / 13)

وقال رحمه الله :
وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مستهل هذا الشهر -وكان يوم السبت- إلى نائب الشام في المرج ، فثبتهم وقوى جأشهم وطيب قلوبهم ، ووعدهم النصر والظفر على الاعداء ، وتلا قوله تعالى : ((وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)) ، وبات عند العسكر ليلة الأحد ، ثم عاد إلى دمشق وقد سأله النائب والأمراء أن يركب على البريد إلى مصر يستحث السلطان على المجئ ، فَسَاقَ وراء السلطان -وكان السلطان قد وصل إلى الساحل- فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة وتفارط الحال ، ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام إن كان لهم به حاجة ، وقال لهم فيما قال : إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن . (البداية والنهاية : 14 / 18)
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 

منتديات الحور العين

↑ Grab this Headline Animator

الساعة الآن 03:59 PM.

 


Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
.:: جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الحور العين ::.