وقفت ريـم على بابِ المدينةِ تُنادي : مَن يشتري قلبي ..؟ مَن يشتري قلبي ..؟
أخذ الناسُ يمرُّون بها ، وينظُرون إليها مُتَعَجِّبين ، منهم مَن يَظُنُّها مجنونة ، ومنهم مَن يَظُنُّها مُستهزِئةً ساخِرة ، ومنهم مَن يدعـوا لها بالشِّفاء .
حتى مَرَّت بها صديقتُها أمـل ، وسَمِعَت نِدائَها ، فأقبلَت عليها ، وسألتها : بِكَم تبيعين قلبَكِ يا ريـم ؟
ريـم : بوزنِهِ ذهبًا .
أمـل : وهل تريْنَ هـذا الثَّمَنَ كافيًا ..؟
ريـم : لا ، لَكِنِّي أُريدُ أنْ أبيعَـه .
أمـل : وهل تَظُنِّينَ أنَّ أحدًا يشتريـه ..؟!
ريـم : ولِمَ لا ..؟! ومَن لا يشتري قلبًا كقلبي ..؟!
أمـل : وهل القُلوبُ تُباع يا ريـم ..؟!
ريـم : نعم ، تُباعُ لِمَن يستحِقُّها ، ويستطيعُ أنْ يُحافِظَ عليها .
أمـل : وهل يُوجَدُ في هـذا العالَمِ مَن يُمكنه فِعلُ ذلك ..؟!
ريـم : لا أدري ، لكنْ لا نَعـدِمُ الخيرَ في المُسلمين .
أمـل : ولِمَ تُريدين بيعَ قلبِكِ ..؟!
ريـم : لأنَّه أتعبني ، ونغَّصَ عليَّ حياتي .
أمـل : وهل تفقَّدتيه قبل بيعِـه ..؟!
ريـم : لا .
أمـل : ألم يكُن مِن الأفضلِ أنْ تتفقَّدي قلبَكِ قبل أنْ تُفكِّري في بيعِهِ ، وتُنظِّفيه مِمَّا أصابَه مِن شوائِبَ وأدران ..؟!
ريـم : أُريدُ أنْ أبيعَهُ كما هو بما يحويه مِن حِقدٍ وحسدٍ وغِلٍّ وبُغضٍ وآلام .
أمـل : تبعين قلبًا يَحمِلُ كُلَّ هـذا ..؟!
ريـم : لا وقتَ عندي لتنظيفِه ، بل أُريدُ التَّخَلُّصَ منه ، وشِراءَ قلبٍ جديدٍ نظيف .
أمـل : ولِمَن تُريدينَ بيعَـه ..؟!
ريـم : لأيِّ أحـد .
أمـل : إذًا مَن يشتريه إمَّا أنْ يَشقَى به ، أو يُشقِيَهُ ويُشقي به غيرَه .
ريـم : كَفَى يا أمـل ، لا أُحِبُّ فلسفَتَكِ .
أمـل : ليست فلسفة ، بل حقيقة .
ريـم : دعيني أُنادي .. مَن يشتري قلبي ..؟ مَن يشتري قلبي ..؟
أمـل : توقَّفي يا ريـم ، لا تُنادي ، لا تُضحِكي الناسَ عليكِ ، لا نجعليهم يستهزِئون بكِ ، ويَسخرون مِنكِ .
ريـم : هـذا قلبي ، مِلكي ، أفعلُ به ما أشاء ، أبيعُه ، أُسلِّفُه ، أُلقيه في القِمامة ، أنا حُـرَّة ، وليس لأحـدٍ أنْ يتدخَّلَ في شئوني .
أمـل : يا لِغرابةِ ما أسمعُ مِنكِ يا ريـم ..! ألِهَـذِهِ الدرجةِ فقدتِ وَعْيَكِ ..؟! وهل تملكين قلبَكِ حقيقةً حتى يكونَ لكِ التَّصَرُّفُ الكامِلُ فيه ..؟!
ريـم : نعم ، أملكُه ، ولا شأنَ لَكِ بي وبأفعالي .
أمـل : لا ، قلبُكِ ليس مِلككِ ، ولا يُمكنُكِ التَّصَرُّفُ فيه ، بل هو أمانةٌ عندكِ ، لا بُدَّ أنْ تُحافظي عليها ؛ لأنَّكِ ستُحاسبين على هـذا القلبِ في الآخرة .
ريـم : أُحاسَبُ على قلبي ..!! وَضِّحي كلامَكِ يا أمـل .. لا تُحَدِّثيني بالألغاز .
أمـل : ألم تقرأي قولَ رَبِّكِ سُبحانه وتعالى : ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ الإسراء/36 ..؟!! ألم يَمُرُّ بكِ قولُ نبِّيكِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : (( إنَّ قلوبَ بني آدمَ كُلَّها بين إصبعين مِن أصابع الرَّحمَن ، كقلبٍ واحدٍ ، يُصرِّفُه حيثُ يشاء )) رواه مُسلم ..؟!! فكيف يكونُ لَكِ إذًا تَصَرُّفٌ فيه أو ملكٌ كامِلٌ له ..؟!!
ريـم : لكنَّه داخل جسدي ، أشعرُ بنبضاتِهِ ، وأتألَّمُ بآلامِه .
أمـل : ومَن خَلَقَكِ ، وخَلَقَ كُلَّ أعضاءِ جِسْمِكِ ..؟! أليس اللهُ سُبحانَهُ وتعالى ..؟!
ريـم : بلى ، لكنْ ماذا أفعلُ بقلبي هـذا الذي أتعبني ..؟!
أمـل : حاولي أنْ تُطَهِّريه مِمَّا أصابَه .. اغسليه بالتَّقوى ، واملأيه بالإيمان ، وبحُبِّ اللهِ عَزَّ وجلَّ ، وحُبِّ نبيِّهِ مُحمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ، وحُبِّ المُسلمين .. واعلمي يا ريـم أنَّكِ تستطيعين تنظيفَ قلبِكِ وتطهيرَهُ ، ليُصبِحَ مولودًا جديدًا بريئًا ، لكنَّكِ لا تستطيعين بيعَه أو استبدالَه .. وبمُحافَظَتِكِ عليه وتفقُّدِكِ الدَّائِمِ له تستطيعين بَذْرَ الخَيْرِ فيه ، وتجديدَ نشاطِهِ وحيويَّتِه ؛ ليكونَ عَونًا لَكِ على طاعةِ اللهِ سُبحانه وتعالى .. وتوجَّهي إلى اللهِ سُبحانه وتعالى بهـذه الأدعية : ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ آل عِمران/8 ، (( اللهم مُصَرِّف القلوب ، صَرِّف قلوبَنا على طاعتِك )) رواه مُسلم ، (( يا مُقلِّبَ القلوب ثَبِّت قلبي على دِينِك )) السلسلة الصحيحة .
ريـم : صدقتِ يا أمـل .. لقـد غاب عَنِّي كُلُّ هـذا ، وظننتُ أَنِّي ببيعي لقلبي سأعيشُ في راحةٍ وسعادة ، لكنْ اتَّضَحَ لي مِن كلامِكِ العكس ، فالحمدُ للهِ الذي جعلكِ تأتينَ إليَّ وتُرشديني .
أمـل : فلترجعي لبيتِكِ الآن بقلبِكِ الجديـدِ النَّظيف ، ولا تنسي أنْ تستغفِري اللهَ عَزَّ وجلَّ أثناءَ سيرِكِ .
ريـم : بإذن الله يا أمـل .. سأذهبُ الآن .. السَّلامُ عليكِ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه .
أمـل : وعليكِ السَّلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه .
بقلم أُختِكُنَّ في الله / السَّاعِيَةُ إلى الجَنَّة .
الجُمُعة .. 18 ربيع أول 1433 هـ .
10 فبرايـر 2012 م .
الساعة التَّاسِعة مساءً