عشتُ في بيْت أبي حياةً لا رُواءَ فيها، أتلظَّى من قسوة البَيْداء القاحلة التي فرضتْها عليَّ زوجةُ أبي، التي لم تعرِفْ أنَّ هناك في مكانٍ ما من قاموس الإنسانية كلمةً تعني الرحمة، فلم تكتفِ بالسطو المسلَّحِ على مشاعري التي ذَبُلتْ قبل تفتُّحها، بل حالتْ بيني وبيْن أبي، وشرعَتْ من أول يوم لها في بيتنا في بناء حواجزَ فولاذيةٍ مِن الجفاء والقطيعة بيْننا، رغم محاولاتي المستميتة للوصول إلى قَلْبِه، ولكنَّها كانتْ قد أحكمتْ إغلاقَه في وجهي بجدارة.
تربَّيْتُ في هذا الجفاف أُعاني سنواتٍ من الجدب بلا قَطرةِ ماء تروي عطشَ قلْبي لكلمةٍ حانية، أو ضمَّة مطمئنَّة، وحلقة ضيِّقة، تكاد تُجهِز على نفسي المتطلِّعة للغدِ "المُنِقذ" بجسد مُسهِد، وعين أجهدها الأرَق، ورُوح ثائِرة تتمنَّى أن تحلِّق بعيدًا في سماء ليستْ كهذه السماء، وأرْض لم يطأها غيري؛ هربًا من تبعات قانون الطوارئ الذي كانت تُطبِّقه عند أي بادرة خطأٍ مني، وفي أيِّ وقت!
وتزوجتُ بعدَ نزيف للعَقْل والقَلْب، ومجاهدةٍ أشبهَ بهدم قلعة مُحصَّنة بعدَ اقتتالٍ مرير، خرجتْ منه رُوحي منهكَةً تكاد قَدمِي تحملني وأنا أدخل بيتَ الزوجية، ولحسن حظِّي أنِّي وجدتُ زوجي رجلًا كريمًا حنونًا، ولم يكنْ يقِف في وجه سعادتي سوى تدخُّلِ أمِّه الدائم في حياتي، فقد كنَّا نسكن في الطابق الذي يعلو بيتَ أمِّه في العقار الذي يمتلكه والدُه، فكانت تتفرَّغ لإحداثِ المشكلات بيْني وبيْنه، فكان في عودته اليوميَّة لا يحمل لي كيسًا من الفاكِهة، وإنما يحمل الكَدَر، ووجهًا عابسًا رُسِمتْ على ملامحِه مشكلةٌ صدَّرتها لي والدتُه، التي كانت تتربَّص بي، وتُعدِّد أمامَه عيوبي، والتي تراها بعين الأمِّ التي استولتْ على ابنها الوحيد، فمرَّةً لا أجيد الطبخ، ومرةً ملابسي تفتقر إلى الذَّوْق، ومراتٍ لا أهتمُّ بها !
وهكذا تدقُّ أجراسُ الحرْب اليومية في بيتي الهادئ، وزوجي يتأثَّر أحيانًا، وأحيانًا يلتزم الصمتَ، وأنا غارقة في حَيْرتي، فعقدتُ العزم ألا تكونَ حياتي امتدادًا لوخْز الألَم النفسي المتصاعِدة وتيرتُه كل يوم، لا بدَّ من العلاج.
فلَمْ أقِفْ طويلًا أمام طنين الحرْب، واشتعال أجيجها، ورُحتُ أُدير عقلي في كلِّ اتجاه كيف أُنقِذ بيتي من جحيم الغزو، والتلويح اليومي بالهجوم؛ كي أحتفظَ بزوجي الحبيب، فطيبتُه تستحقُّ مني المحاولة، وسعادةُ بيتي تستحقُّ اتخاذَ قرارات جادَّة وحاسمة، ووضْع ضمادة حولَ الجرح؛ كي يقفَ هذا النزفُ اليومي، فلَمْ أجدْ سوى الحبِّ سلاحي؛ لوقف أسلحة الدمار الشامِل الصاعدة لي كلَّ يوم كي تضعَ الحرب أوزارها.
فعقدتُ اتفاقيةً لوقْفِ هذا النزف من التدخُّلِ اليومي في حياتي الزوجيَّة، وجلستُ جِلسة وُدٍّ مع حماتي، وأخذتُ معي طبقًا من (البسبوسة الغارقة في القشدة) التي تُفضِّلها، وسبقَتْني ابتسامتي، ففتحتْ لها قلبي، وكيف أني حُرمتُ من أمِّي صغيرةً، وذقت مرارةَ الفقد، وأريد أن تُعوِّضني بحنانها، وتُزوِّدني بحِكمتها، وأن يكون حديثُها معي إذا وجدتْ ما يَضيرها مني وليس مع الزوج العائدِ منهكًا من عملِه، واتفقْنا على أن نُصبِحَ صديقتَيْن، ووقَّعْنا عقد الوفاء بكتابة أولِ سطر في فصول الهُدنة، وبدأْنا بتطبيق البنود، ووضعْنا قوانينَها أن نجعل يوم إجازتِنا من العمل نقضيه كلَّه معها، فتحوَّل مقياس ريختر -الذي فاق العَشرة وكان لا يتوقَّف عن زلزلة حيَاتي- إلى الصِّفر!
والآن دخل حلبة السباقَ ليُصبحَ في أدْنى معدلاته لتتوقَّفَ الزلزلة نهائيًّا، ويعود زوجي لابتسامةِ الرِّضا الذي فارقتْه طويلًا، والآن أصبحتْ حماتي لا ترتاح سوى بالحديث معي، ولا يَطيبُ لها الخروجُ إلا برفقتي، وأصبحتْ تناديني باسم دلالي -كما يفعل زوجي- ودائمًا تقول عني: إنِّي الابنة التي لم تلدْها، فدخلتُ قلْب زوجي مِن باب أمِّه المتسع لي.
عزيزتي:
اجعلي الكلمةَ الطيبة سلاحَكِ، أشهريه في وجْه الأحباء؛ لتزدادَ المحبَّة، ووجهِ الأعداء؛ لتكون مصدًّا لسهامهم، وتذكَّري دائمًا أنَّ الحماةَ أُمٌّ أخرى، قد تقسو وقد تحنو.
موقع الألوكة