انا لله وانا اليه راجعون... نسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة لوالد ووالدة المشرف العام ( أبو سيف ) لوفاتهما رحمهما الله ... نسأل الله تعالى أن يتغمدهما بواسع رحمته . اللهم آمـــين

العودة   منتديات الحور العين > .:: المنتديات الشرعية ::. > ملتقيات علوم الغاية > الفقه والأحكــام

الفقه والأحكــام يُعنى بنشرِ الأبحاثِ الفقهيةِ والفتاوى الشرعيةِ الموثقة عن علماء أهل السُنةِ المُعتبرين.

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-01-2016, 05:08 PM
كامل محمد محمد محمد عامر كامل محمد محمد محمد عامر غير متواجد حالياً
عضو مميز
 




افتراضي أحكام التقليد لغير المتخصصين

 

من وحى أهل الحديث
أحكام التقليد
لغير المتخصصين
إعداد
دكتور كامل محمد عامر
مختصر بتصرف من كتاب
الإحكام في أصول الأحكام
للإمامالمحدثالحافظأبيمحمدعليبنأحمدبنسعيدالأندلسيالقرطبي
1435هـ ــــ 2014م
(الطبعة الأولي)
التقليد: هوأن يعتقد المرء قولاً لأن بعض الناس قالوه.
فيقال لمن قلد إنساناً بعينه: ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدته، بل قلد من هو أعلم منه وأفضل ؟
فإن قال بتقليد كل عالم كان قد جعل الدين هملاً، وأوجب الضدين معاً.
مناقشة
قالوا: إن الأعمى يُدَلُّ على القبلة والراكب في السفينة يَدُلُّه الملاحون على القبلة، وعلى الوقت.
قيل: هذا لا حجة فيه لأنه من باب قبول الخبر، لا من باب قبول الفتيافي الدين بلا دليل.
وقالوا: يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125].
والجواب:أن الشيء الذي يأمر الله سبحانه وتعالى به ليس تقليداً، ولكنه برهان ضروري، والتقليد إنما هو اتباع من لم يأمرنا عزَّ وجلَّ باتباعه.
واحتجوا: بأننا نتبع الإمام وحكم الإمام لا ينقض فأبوبكر ساوى بين الناس وعمر فاضل بينهم، فلم يرد أحد ما أعطاه أبو بكر.
وهذا خطألأن ما ذكروا من مساواة أبي بكر ومفاضلة عمر ليس حكماً، وإنما هي قسمة مالموكولة إلى اجتهاد الإمام، مباح له أن يفاضل ومباح له أن يسوي وليس هذا شريعة تحليل ولا تحريم ولا إيجاب.
وأما وجوب طاعة الأئمة فذلك حق كل إمام عدل كان أو يكون إلى يوم القيامة وإنما ذلك فيما وافق طاعة الله عزَّ وجلَّ وكان حقاً، وليس ذلكفي أن يشرعوا لنا قولاً لم يأتنا به نص ولا إجماع.
واحتجوا: بما روى عن ابن مسعود قال: "ألا لا يقلدن رجل رجلاً دينه، إن آمن آمن، وإن كفر كفر فإن كان مقلداً لا محالة، فليقلد الميت ويترك الحي فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة".
وهذا حديث باطل منقطع مع أنه كلام فاسد، لأن الميت أيضاً لا تؤمن عليه الفتنة إذا أفتي بما أفتي، ولا فرق بينه وبين الحي في هذا.
واحتجوا: بقبول قول المقومين لأثمان المتلفات.
وهذا من باب الشهادة والخبر لا من باب التقليد، لأن الله عز وجل قد أمرنا بأخذ الحق من المعتدي بمثل ما اعتدى فيه، وقول المُقَوِّمِ ليس شريعة حرمها الله ولا أوجبها، ولكنا علمناه عالماً بتلك السلعة أو تلك الجُرحة، فقبلنا شهادته في ذلك وقد أُمِرنا بذلك وكل ما أُمِرنا به فليس تقليداً.

واحتجوا: بأن الصحابة رضي الله عنهم شهدوا أسباب الأوامر وما خرج منها على رضى، وما خرج منها على غضبٍ،فوجب اتباعهم في فتاويهم لذلك.
والجواب: إن رسول الله عليه السلام إنما بعث مبيناً لكل من يأتي إلى يوم القيامة، لا لأصحابه وحدهم، فكل سبب من غضب أو رضى يوجب حكماً فقد نقلوه إلينا،ولزمهمأن يبلغوهفرضاًبقوله صلى الله عليه وسلم "فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ" [البخاري: كِتَاب الْحَجِّ بَاب الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى] فقد نقلوا كل ما شهدوه من ذلك إذ لم يكونوا في سعة من كتمانه، وقد أعاذهم الله من ذلك، كما نقلوا إليناغضبه على الأنصاري الذي أراد أن يقول بالخصوص في قبلة الصائم، وغضبه على معاذ في تطويله الصلاة إذا كان إماماً، وغضبه على من تنزه عما فعل ، وغضبه على اليهود إذ قال: والذي اصطفى موسى على البشر، وإعراضه عن عمار إذ تخلق، وعن عائشة وفاطمة إذ علقتا السترين المزينين، وسروره بقول مجزز المدلجي في أسامة بن زيد، وسروره باجتماع الصدقة بين يديه إذ أمر بالصدقة إذا أتاه القوم المجتابون للثمار، وحياءه من الأنصارية المستفتية في غسل المحيض، وإشارته على كعب بن مالك بيده في إسقاط النصف من دينه على ابن أبي حدرد، وتعجبه بنظره وهيئة وجهه من العباس إذ احتمل المال الكثير دون أن يكون منه في ذلك كلام، وضربه بعود في يده بين الماء والطين في حديث أبي موسى، ومثل هذا كثير جداً.
فلم يكن له عليه السلام هيئة ولا حال يوجب حكماً من كراهة أو نهي أو إباحة أو ندب أو أمر، إلا وقد نُقِلَت إلينا، لأن كل ذلك مما بَيَّن به مراد ربِه تعالى، ولو كتموا ذلك عنا، لما بَلَّغوا كما لزمهم، ولو اقتصروا على تبليغ بعض ذلك دون بعض لدخلوا في جملة من يكتم العلم، ولسقطت عدالتهم بذلك، وقد نزههم الله تعالى عن هذا وحفظ دينه، وقضى بتبليغه إلينا جيلاً بعد جيل.
وقد علموارضي الله عنهم أن فتاويهم لا تلزمنا، وإنما يلزمنا قبول ما نقلوا إلينا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد خالف عددٌ من التابعين الصحابةَ بحضرتهم، فما أنكر الصحابة عليهم ذلك، كما أنكروا عليهم مخالفة ما رووه:
كفعل ابن عمر في ابنه، إذ روى حديث الخذف، وحديث النهي عن منع النساء إلى المساجد، فقال ابنه: لا تفعل ذلك، فأنكر ابن عمر ذلك إنكاراً شديداً وكان لا ينكر على من خالفه في فتياه.
وكإنكار ابن عباس على عروة وغيره معارضة حديث النبي بأبي بكر وعمر ، وكقول أبي هريرة: إذا حدثتك عن النبي فلا تضرب له الأمثال، في حديث الوضوء مما مست النار.
ووجدنا ابن عباس لم ينكر على عكرمة مخالفته له في الذبيح، ولم ينكر أبو هريرة على من خالفه بحديث النبي في إفطار من أصبح جنباً، وجميعهم رضي الله عنهم على هذا السبيل، لا ينكر على من يخالفه في فتياه، وينكر على من خالف روايته عن النبي أشد الإنكار.
وقد غلط قومفسموا الأخذ بما قاله رسول الله وبما اتفق عليه علماء الأمة، تقليداً، فيوقعوا على الحق اسم الباطل، لينفروا عنه الناس،ويوقعوا على الباطل اسم الحق، ليوقعوا فيه من أحسن الظن بهم.
كما يحكى عن فساق باعة الدواب أنهم يسمون أواريّهم [الآرى محبس الدابة] بأسماء البلاد، فإذا عرض الحِمَارُ للبيع أقسم بالله: إنه البارحة نزل من بلد كذا وكذا، وهو يعني الآري الذي اعتلف فيه ويظن المبتاع أنه من جلب المذكور، فهذا فعل أهل الشر والفسق.وفاعل هذا في الديانة أسوأ حالاً وأعظم جرماً من فاعله في سائر المعاملات.
فقبول ما صح بالنقل عن النبي عليه السلام وقبول ما أوجبه القرآن بنصه وظاهره، وقبول ما أجمعت عليه الأمة، ليس تقليداً، ولا يحل لأحد أن يسميه تقليداً،لأن التقليد على الحقيقةإنما هو قبول ما قاله قائل دون النبي عليه السلام بغير برهان. فحرام أن يسمى الحق باسم الباطل، والباطل باسم الحق، وقد أنذر عليه السلام بقوم يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها.
واحتجوا: بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]قالوا: فقد أوجب الله تعالى على الناس قبول نذارة المنذر لهم، قالوا وهذا أمر منه تعالى بتقليد العامي للعالم.
وهذا لا حجة لهم فيه،لأن الله تعالى لم يأمر قط بقبول ما قال المنذر مطلقاً، لكنه يقال: إنما أمر بقبول ما أخذ ذلك في تفقههم في الدين عن النبي وعن الله عز وجل، ومن تأول ذلك على الله عز وجل، وأجاز لأحد من المخلوقين أن يشرع شريعة غير منقولة عن النبي عليه السلام فقد كفر وحل دمه وماله، وقد سمى الله من فعل ذلك مفترياً فقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس: 59]
قالوا:قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
قيل:صدق الله تعالى، وكذب محرف قوله، فأهل الذكرهم رواة السنن عن النبي والعلماء بأحكام القرآن، فالله تعالى إنما أمرنا بسؤالهم ليخبرونا بما عندهم من القرآن والسنن؛ لا لأن يُشَّرِعوا لنا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، بآرائهم.
مناقشــــة
يقال لمن قلد:ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت؟ فإن أخذ يحتجفي فضل من قلد ووصف سعة علمه،سئل: أكان قبله أحد أفضل منه وأعلم؟ أم لم يكن قبله أحداً أعلم منه ولا أفضل منه؟.
فإن قال:لم يكن قبله أحد أفضل منه، كذب رسول الله في قوله: إننا لا ندرك بإنفاقنا مثلَ أُحُدٍ ذهباً مُدَّ أُحَد من أصحابه ولا نصيفه فَعنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ [البخاري: كِتَاب الْمَنَاقِبِ؛ بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا] ، وبقوله:" ما من عام إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم " [قال الألباني في " السلسلة الصحيحة " أخرجه الترمذي و قال : " حديث حسن صحيح " قلت (الالبانى) : و إسناده صحيح على شرط الشيخين]وبقوله عليه السلام: "لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ" فعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ فَقَالَ اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [البخاري صحيح: كِتَاب الْفِتَنِ؛ بَاب لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ] وقائل هذا مخالف للإجماع، وخارج عن سبيل المؤمنين.ولا شك عند كل مؤمن أن أبا بكر وعائشة وعليّاً وعمر ومعاذاً وأُبيّاً وزيداً وابن مسعود وابن عباس ــــ أعلم بما شاهدوا من نزول القرآن وحكم رسول الله ، وأفضل من سفيان الثوري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وابن القاسم وداود ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وأبي ثور. وهؤلاء الفقهاء رحمهم الله هم الذين قلدتهم الطوائف بعدهم ما نعلم الآن على ظهر الأرض أحداً يُقَلَّد غيرهم،وقد ذكر ابن حزم عن الهيثم بن جميل قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً وضعوا كتباً يقول أحدهم: حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا، وحدثنا فلان عن إبراهيم بكذا، ونأخذ بقول إبراهيم. قال مالك:صح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم. فقال مالك: هؤلاء يستتابون.
فإن قال:بلى، قد كان بعدهم وقبلهم أفضل منهم وأعلم بالدين.قيل له: فلم تركت الأفضل والأعلم، وقلدت الأنقص فضلاً وعلماً؟.فإن قال: لأنه أتى بعد الأولين متعقباً، قيل له:فقلد من أتى بعدهم أيضاً متعقباً على هؤلاء.فإن كان مالكياً، أو شافعياً، أو حنفياً، أو سفيانياً، أو أوزاعياً قيل له: فقلد أحمد بن حنبل، فإنه أتى هؤلاء ورأى علمهم وعلم غيرهم، وتعقب على جميعهم ولا خلاف بين أحد من علماء أهل السنة، أصحاب الحديث منهم وأصحاب الرأي، في سعة علمه وتبحره في حديث النبي ، وفتاوى الصحابة والتابعين، وفقهه وفضله وورعه وتحفظه في الفتيا، أو قلد إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، فقد كان كذلك مع دقة النظر وصحة الفهم، أو قلد أبا ثور، فقد كان غاية في ذلك كله.
وإن كان حنبلياً فقيل له: قلد محمد بن نصر المروزي، فإنه أتى متعقباً بعد أحمد، ولقد لقي أحمد وأخذ عنه وحوى علمه، ولقي أصحاب مالك والشافعي وأصحاب أصحاب أبي حنيفة، وأخذ علمهم، وقد كان في الغاية التي لا وراء بعدها في سعة العلم بالقرآن والحديث والآثار والحجاج ودقة النظر، مع الورع العظيم والدين المتين، أو محمد بن جرير الطبري، فكان في علمه ودينه بحيث عرف، أو الطحاوي فقد كان من العلم، أو داود بن علي، فكان من سعة الرواية والعلم بالقرآن والحديث والآثار والإجماع والاختلاف ودقة النظر والورع بحيث لا مزيد، وقد أتى متأخراً متعقباً مشرفاً على مذهب كل من تقدمه. فإن قلد داود قيل له: قلد من أتى بعده متعقباً عليه ومخالفه، كولده، وابن سريج، وكالطبري، وكمحمد بن نصر المروزي، والطحاوي، وهكذا أبداً يقلد الآخر فالآخر وهذا خروج عن المعقول والقياس، وعن الدين جملة.
وحتى لو مالوا إلى تقليد الأفضل لبطل عليهم بأن الأفاضل على خلاف ذلك، فقد رجع عمر إلى قول المرأة من عرض النساء، إذ هم بالمنع من المغالاة في الصداق، وعمر أفضل منها بلا شك، وقد كان أبو بكر وعمر يجمعان الصحابة ويسألانهم، فلو كان قول الأفضل واجباً أن يتبع، لما كان لجمعهما الصحابة معنى لأنهما أفضل ممن جمعا ليعرفا ما عندهم، ولكانا في ذلك مخطئين. وكل هذا أقوال فاسدة بلا برهان على صحة شيء منها، وليس طريق الفضل من طريق الاتباع في شيء، فقد يخطىء الفاضل فيحرم اتباعه على الخطأ ولا ينقص ذلك من فضله شيئاً، وقد قال رسول الله لأبي الدرداء: «سَلْمَانُ أَفْقَهُ» إذ منعه سلمان من قيام جميع الليل ومن مواترة الصيام، فكان سلمان أفقه من أبي الدرداء. وكان أبو الدرداء أفضل من سلمان، فأبو الدرداء بدري عقبي، وأول مشاهد سلمان الخندق، فقد شهد أن الأنقص فضلاً أتم فقهاً، وقد قال : «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» . وقد قال : «وَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» وإنما خاطب بذلك الصحابة، فغير منكر ما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.
وحدثنا عبد الرحمن بن سلمة، ثنا أحمد بن خليل، ثنا خالد بن سعد، ثنا أحمد بن خالد، أنا يحيى بن عمر، أنا الحارث بن مسكين، ثنا ابن وهب قال: سمعت مالكاً وقال له ابن القاسم: ليس أحد بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر، قال له مالك : من أين علموا ذلك؟ قال: منك يا أبا عبد الله، قال مالك : ما أعلمها أنا، فكيف يعلمونها هم؟
قال أبو محمد: كيف وقد أغنانا الله تعالى عن قولهم في ذلك بما نص في كتابه من إبطال التقليد فمن قول الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ، ثم قال الله تعالى على أثر هذه الآية: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ } . قال أبو محمد: فمن اتخذ رجلاً إماماً يعرض عليه قول ربه وقول نبيه ، فما وافق فيه قول ذلك الرجل قبله، وما خالفه ترك قول ربه تعالى وقول نبيه ، وهو يقر أن هذا قول الله عز وجل وقول رسوله ، والتزم قول إمامه فقد اتخذ دون الله تعالى وليّاً، ودخل في جملة الآية المذكورة. اللهم إننا نبرأ إليك من هذه الفعلة، فلا كبيرة أعظم منها. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
قال أبو محمد: ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلاً بعينه عياراً من كلام الله تعالى وكلام رسوله وكلام سائر علماء الأمة، وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يلَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ * وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ } ، وقال تعالى: {فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
قال أبو محمد: فمن لم يأت بكتاب الله تعالى شاهد لقوله، أو ببرهان على صدق قوله، وإلا فليس صادقاً، لكنه كاذب آفك، مفتر على الله عز وجل، ومن أطاع سادته وكبراءه وترك ما جاءه عن الله تعالى وعن رسوله فقد ضل، بنص القرآن واستحق الوعيد بالنار، نعوذ بالله منها وما أدى إليها.
وقال تعالى حاكياً عن الجن الذين أسلموا مصدقاً لهم ومثبتاً عليهم {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً } فبطل ظن من ظن ذلك في رئيس قلده لم يأمر الله تعالى بأن يقلده. وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ } . قال أبو محمد: هكذا والله يقول هؤلاء الفضلاء الذين قلدهم أقوام قد نهوهم عن تقليدهم، فإنهم رحمهم الله تبرؤوا في الدنيا والآخرة من كل من قلدهم ، وفاز أولئك الأفاضل الأخيار، وهلك المقلدون لهم بعد ما سمعوا من الوعيد الشديد، والنهي عن التقليد، وعلموا أن أسلافهم الذين قلدوا قد نهوهم عن تقليدهم، وتبرؤوا منهم إن فعلوا ذلك. ومن ذلك ما حدثنا أحمد بن عمر، ثنا علي بن الحسن بن فهر، حدثنا أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي، ثنا جعفر بن محمد الفريابي، ثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، ثنا مالك قال: كان ربيعة يقول لابن شهاب: إن حالي ليس يشبه حالك، أنا أقول برأيي، من شاء أخذه وعمل به، ومن شاء تركه. وقد ذكرنا قول مالك وندامته على القول به. وقال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي، من أتانا بخير منه قبلناه منه. وقال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } .
قال أبو محمد: وهذا نص ما فعل خصومنا بلا تأويل ولا تدبر، بل تعرض عليهم الآية والحديث الصحيح، الذي يقرون بصحته، وكلاهما مخالف لمذاهب لهم فاسدة، فيأبون قبولها، لا بفارق ما وجدنا عليه آباءنا وكبراءنا، فقد أجابهم تعالى جواباً كافياً ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } .
قال أبو محمد: هذه صفة ظاهرة من كل مقلد، يعرفها من نفسه ضرورة لأنه هوى تقليد فلان فقلده بغير علم، ووجدناه لا ينتفع بسمعه فيما يسمع من الآي والسنن المخالفة لمذهبه. ولا انتفع بصره فيما أري من ذلك، ولا بعقله فيما علم من ذلك، ووجدناه ترك طلب الهدى من كتاب الله تعالى، وكتاب نبيه ، وطلب الهدى ممن دون الله تعالى، فضل ضلالاً بعيداً فواحسرتاه عليهم وواأسفاه لهم. وقال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } . قال أبو محمد: وهذا نص فعل المقلد، لأنه التزم اتباع من لا ينفعه ولا يضره ولا يشفع له يوم القيامة، ولا ينيله من حسناته حسنة، ولا يحط عنه من سيئاته سيئة، وكذلك دعاه أصحابه إلى الهدى بزعمهم فأكذبهم تعالى وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } فلم يجعل هدى إلا ما جاء من عنده تعالى.
وقال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . وهكذا فعل المقلدون فإنهم أباحوا لحوم السباع والحمر الأهلية، وقد جاء أمر الرسول بتحريمها، وآخذوا الناسي، وألزموا شريعة الكفارة المخطىء، وقد جاء نص القرآن والسنة بإسقاط ذلك كله، فلما أخبروا أن ذلك كله فواحش قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها.
وقال تعالى ذاماً لقوم قلَّدُوا أسلافهم، وحاكياً عنهم أنهم قالوا: {بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } .
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } وقال تعالى: {يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } .
ومن قلد فقد قال على الله ما لا يعلم، وهذا نص كلام رب العالمين، الذي إليه معادنا، وهو سائلنا عما أمرنا به من ذلك، ومجازينا بحسب ما أطعنا أو عصينا، فليتق الله على نفسه أمرؤ يعلم أن وعد الله حق، وأن هذه عهود ربه إليه، وليتب عن التقليد وليفتش حاله، فإن رأى فيها هذه الصفات التي ذمها الله تعالى، فليتدارك نفسه بالتوبة من ذلك، وليرجع إلى بشرى قبول قول ربه تعالى إذ يقول:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}[الزمر:17،18]فالمحروم من حرم هذه البشرى، وخرج عن هذه الصفة المحمودة، نسأل الله أن يكتبنا في عداد أهلها، وأن يثبتنا في جملتهم آمين فقد فاز من وصفه الله تعالى بأنه هداه، وبأنه مبشر، وأنه من أولي الألباب، وهذه صفة من استمع الأقوال فلم يقلد، واختار أحسنها، والأحسن هو ما شهد الله عز وجل ورسوله بالحسنى، مما وافق القرآن والسنة، وبالله تعالى التوفيق.
فقد صح بنص كلام الله تعالى بطلان تقليد الرجال والنساء جملة، وتحريم اتباع الآباء والرؤساء البتة، وعلى هذا كله السلف الصالح.
أخبرنا محمد بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر غندر، ثنا شعبة، عن عاصم الأحول، عن الشعبي: أن أبا بكر قال في الكلالة: أقضي فيها، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله منه بريء وهو ما دون الولد والوالد، فقال عمر بن الخطاب: إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر. قال أبو محمد: هذا هو الحديث الذي موَّهوا به، واستحلوا الكذب بإبراء مفرداً مما قبله، وإنما استحى عمر من مخالفة أبي بكر رضي الله عنهما في اعترافه بالخطأ، وأنه ليس كلامه كله صواباً، لا في قوله في الكلالة. وبرهان ذلك أن عمر أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء، وقد اعترف بأنه لم يفهمها قط، وحتى لو صح أنه وافق أبا بكر في الكلالة في الحديث المذكور لما كانت فيه حجة، لأن الشعبي راوي الحديث لم يدرك عمر، وأبعد روايته، فعن عليّ على اختلاف في رؤيته أيضاً. وأما الاضطراب عن عمر في الجد، فإن محمد بن سعيد أخبرني، عن أحمد بن عون الله، عن قاسم بن أصبغ، عن الخشني، عن بندار، عن ابن أبي عدي شعبة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر بن الخطاب حين طعن: إني لم أقض في الجد شيئاً.
وأما الاختلاف عنه رضي الله عنه في الكلالة، فهو أن حماماً حدثني قال: ثنا ابن مفرج، عن عبد الأعلى بن محمد بن الحسن قاضي صنعاء، عن الديري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب كتب في الجد والكلالة كتاباً، فمكث يستخير الله يقول: اللهم إن علمت فيه خيراً فأمضه، حتى إذا طعن دعا بالكتاب فمحي، فلم يدر أحد ما كان فيه فقال: إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتاباً وكنت أستخير الله فيه فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه. قال عبد الرزاق: وحدثنا ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب أوصى عند الموت فقال: الكلالة كما قلت، قال ابن عباس: وما قلت؟ قال: من لا ولد له. قال أبو محمد: هذا أصح سند يرد في هذا الباب عن عمر، لاتصاله وعدالة ناقليه وإمامتهم وصحة سماع بعضهم من بعض، وهو كما ترى مخالف لرأي أبي بكر في الكلالة، لأن أبا بكر كان يقول: الكلالة من لا ولد له ولا والد، وعمر عند الموت يقول: الكلالة من لا ولد له فقط بالسند الذي لا داخلة فيه، فبطل بهذا ما رواه الشعبي الذي أبعد ذكره رؤيته عليّاً رضي الله عنه بالكوفة يتوضأ في الرحبة، هذا إن صح أنه رآه أيضاً، أخبرنا محمد بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر غندر، ثنا شعبة، عن عاصم، عن الشعبي قال: سئل عبد الله بن مسعود، عن امرأة توفي عنها زوجها، ولم يفرض لها؟ فاختلف إليه شهراً، فقال: ما سئلت عن شيء منذ توفي رسول الله أشد عليَّ منه، لم ينزل فيه قرآن ناطق ولا سنة ماضية، أقضي فيها فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن الشيطان، والله منه بريء وذكر الحديث.
قال أبو محمد: فهذا ابن مسعود يعترف بالخطأ وبمغيب السنن عنه، وفي هذه القصة سنة صحيحة خفيت عنه، ثم علمها بعد ذلك، ولا سبيل إلى أن يوجد عن أحد من الصحابة والتابعين غير الاعتراف بجواز الخطأ عليهم. والصحيح من رواية الشعبي في الخبر الذي ذكرنا هو ما أخبرناه محمد بن سعيد بن نبات، عن أحمد بن عون الله، عن قاسم بن أصبغ، عن الخشني عن بندار، عن غندر، ثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد التيمي تيم الرباب قال: ثلاث وددت أن رسول الله لم يقض حتى يبين لنا فيهن أمراً ينتهي إليه: الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا، فهذا هو المتصل من طريق الشعبي. ثم إنا نقول: إن العجب ليطول ممن اختار أخذ أقوال إنسان بعينه لم يصحبه من الله عز وجل معجزة، ولا ظهرت عليه آية، ولا شهد الله له بالعصمة عن الخطأ، ولا بالولاية وأعجب من ذلك إن كان من التابعين فمن دونهم، ممن لا يقطع على غيب إسلامه، ولا بيد مقلده أكثر من حسن الظن به، وأنه في ظاهر أمره فاضل من أفاضل المسلمين، لا يقطع له على غيره من الناس بفضل، ولا يشهد له على نظارته بسبق إن هذا لهو الضلال المبين. فليت شعري ما الذي أوجب عليه أن يميل إليه دون أن يميل إلى غيره ممن هو مثله في الظاهر، أو أفضل منه في الظاهر، أو في الحقيقة من سابقي الصحابة، حتى صاروا يتدينون بقوله في دينهم الذي هو وسليتهم إلى الله تعالى، لا يرجون النجاة من عذاب الآخرة بسواه؟ ونجدهم، المساكين، في أمور دنياهم لا يقلدون أحداً، ولا يبتاع أحدهم شيئاً فما دونه أو فما فوقه، إلا حتى يقيسه ويتأمل جددته ويتقي الغبن فيه، وهو لا يتقي الغبن في دينه الذي فيه هلاكه أو نجاته في الأبد، فتجده قد قبله مجازفة وأخذه مطارفة: هات ما قال مالك وابن القاسم وسحنون إن كان مالكيّاً، أو ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن إن كان حنفيّاً، أو ما قال الشافعي إن كان شافعيّاً، ولا مزيد. ووالله لو أن هؤلاء، رحمهم الله، وردوا عرصة القيامة بملء السموات والأرض حسنات، ما رحموه منها بواحدة، ولو أنه ــــ المغرور ــــ ورد ذلك الموقف بملء السموات والأرض سيئات، ما حطوا منها واحدة، ولا عرجوا عليه، ولا التفتوا إليه، ولا نفعوه بنافعة. ونجده يضرب عن كلام نبيه الذي لا يرجو شفاعة سواه، ولا أن ينقذه من أطباق النيران، بعد رحمة الله تعالى، إلا اتباعه إياه فأين الضلال إن لم يكن في فعل هؤلاء القوم.
ثم ننحط في سؤالهم درجة فنقول: ما الذي دعاكم إلى التهالك على قول مالك وابن القاسم، فهلا تبعتم أقوال عمر بن الخطاب وابنه فتهالكتم عليها؟ فهما أعلم وأفضل من مالك وابن القاسم عند الله عز وجل بلا شك، ونقول للحنفيين. ما الذي حملكم على التماوت على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن؟
فهلا طلبتم أقوال عبد الله بن مسعود وعليّ فتماوتم عليها؟ فهما أفضل وأعلم من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن عند الله تعالى بلا شك. ونقول لمن قلد الشافعي رحمه الله: ألم ينهكم عن تقليده، وأمركم باتباع كلام النبي حيث صح؟. فهلا اتبعتموه في هذا القولة الصادقة التي لا يحل خلافها لأحد؟ أو ليس قد قال رحمه الله ــــ وقد ذكر حديث النبي فيمن مات وعليه صيام صام عنه وليه، فقال رحمه الله: إن صح هذا الحديث فبه أقول؟ ونبرأ من كل مذهب خالف حديث النبي ، والحديث المذكور في غاية الصحة من طريق عائشة رضي الله عنها، ثم أنتم دأباً تتحيلون في إبطاله بأنواع من الحيل الباردة ونهاكم عن قبول المرسل. ثم أنتم تأخذون به في تحريم بيع اللحم بالحيوان، تقليداً لغلطه رحمه الله الذي لم يعصم منه أحد، فقد كان تقليد ابن عباس أولى بكم إذ ولا بد، لأنه أفضل وأعلم عند الله عز وجل من الشافعي.
قالوا:نحن لم نرزق من العقل والفهم ما يمكننا أن نأخذ الفقه من القرآن، وحديث النبي عليه السلام.
فيقال لهم:أمنعكم الله تعالى العقل الذي تفهمون به عندما ألزمكم فهم آياته سبحانه وتعالى إذ يقول عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } .
وقد سمعتموه عز وجل يقول: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
وسمعتموه سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }
وسمعتموه عز وجل يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
فلولا أن في وسعكم الفهم لأحكام القرآن ما أمركم سبحانه وتعالى بتدبره، ولولا أن في وسعكم الفهم لكلام النبي عليه السلام ما أمره سبحانه وتعالى بالبيان عليكم ولا أمركم بطاعته، هذا إن كنتم تصدقون كلام ربكم.
فليت شعري كيف قصرت عقولكم عن فهم ما افترض الله تعالى عليكم تدبره والأخذ به واتسعت عقولكم للفهم عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وما أمركم الله تعالى قط بالسماع منهم خاصة دون سائر العلماء ولا ضمن لكم ربكم تعالى قط العون على فهم كلامهم، كما ضمن لكم في فهم كلامه إنه لا يكلفكم إلا وسعكم. وقد أيقنا أن الله عز وجل لا يأمرنا بشيء إلا وقد سبب لنا طرق الوصول إليه وسهلها وبينها، فقد أيقنا بلا شك عندنا أن وجوه معرفة أحكام الآي والأحاديث التي أمرنا بقبولها بينة لمن طلبها، إن صدقتم ربكم، وإن كذبتم كفرتم. وأما ما لم نؤمر باتباعه من رأي مالك ، وأبي حنيفة، وقول الشافعي، فلا سبيل إلى أن نقطع بأن فهمه ممكن لنا.
دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم = الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين (ص: 242)
دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم = الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين (ص: 241)
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: " أَتَيْتُ النَّبِيَّ (وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ ". وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ. ((1) .
يعني أنهم لم يتخذوهم أربابا لأنهم عبدوهم، بل لكونهم أطاعوهم في التحليل والتحريم.
وقال سبحانه: {..وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26] ، فسمى التحاكم لغيره شِركًا (2) ،
وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب} [الشورى:10] ، وكلمة (شيء) نكرة في سياق النفي وهذا من صيغ العموم، فكل شيء نختلف فيه فالحكم فيه لله، ثم أكد على إرادة العموم بـ (من) التي تفيد التأكيد (3) .
والله سبحانه لا يحكم ولا يقضي إلا بالحق، فمن رد حكم الله وشرعه فإنما رد الحق {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ... } [يونس:32] .
قال جل جلاله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ... } [المائدة:48] .
وقال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ... } [النساء:105] .
وقال سبحانه: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ... } [الإسراء:105] ، فهو متلبس بلبوس الحق على كل أحواله (4) .
والله تعالى لا يظلم ولا يحيف في الحكم (5) ( ... أَمْ يَخَافُونَ
_________
(1) أخرجه الترمذي (كتاب التفسير، باب سورة التوبة، رقم:3095) وحسنه الألباني (صحيح الترمذي (3/56) رقم:2471) . سنن الترمذي (10/ 361)
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ غُطَيْفِ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ
أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ }
قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ
قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ وَغُطَيْفُ بْنُ أَعْيَنَ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي الْحَدِيثِ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } قال أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث
فعن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: «يَا ابْنَ حَاتمٍ أَلْقِ هذَا الوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ» فألقيته. ثم افتتح سورة براءة فقرأ حتى بلغ قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فقلت: يا رسول الله: ما كنا نعبدهم: فقال النبي : «كَانُوا يُحِلُّونَ لَكُمُ الحَرَامَ فَتَسْتَحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمُ الحَلالَ فَتُحَرِّمُونَهُ» قلت: بلى، قال: «فَتِلْكَ عِبَادَتُكُمْ» .
قال أبو محمد: فسمى النبي اتباع من دون النبي في التحليل والتحريم عبادة، وكل من قلد مفتياً يخطىء ويصيب، فلا بد له من أن يستحل حراماً ويحرم حلالاً، وبرهان ذلك تحريم بعضهم ما يحله سائرهم، ولا بد أن أحدهم مخطىء. أفليس من العجب إضراب المرء عن الطريق التي أمره خالقه بسلوكها، وضمن له بيان نهج الصواب فيها. وأمره أن يكون همه نفسه لا ما سواها، فيترك ذلك كله، ويقصد إلى طريق لم يؤمر بسلوكها، ولا ضمن له نهج الصواب فيها، بل قد نهي عن ذلك وعيب عليه، ولامه ربه عز وجل على ذلك أشد الملامة مع أن الذي قلدوه ينهاهم عن تقليده، فمن أضل من هؤلاء.

وقد احتج بعض من قلد مالكاً بأنه المعني بقول رسول الله في إنذاره بزمان يأتي لا يوجد فيه عالم أعلم من عالم المدينة. أخبرنا عبد الله بن ربيع التميمي، عن محمد بن معاوية، عن أحمد بن شعيب، أنا علي بن محمد، ثنا محمد بن كثير، عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزناد، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «يَضْرِبُونَ أَكْبَادَ الإِبْلِ وَيَطْلبُونَ العِلْمَ فَلا يَجِدُونَ عَالِماً أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ المَدِينَةِ» . فقال النسائي: قوله «أبو الزناد» خطأ، إنما هو «أبو الزبير» . قال أبو محمد: وهكذا حدثناه أحمد بن عبد الله الطلمنكي، ثنا ابن مفرج قال: ثنا محمد بن أيوب الصموت، ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، ثنا عمرو بن علي، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جريح، عن أبي الزبير، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «يُوشَكُ أَنْ تُضْرَبَ أَكْبَادُ المطِيِّ فَلاَ يُوجَدُ عَالِمٌ أَعْلَمُ مِنْ عَالِمِ المَدِينَةِ» قال البزار: لم يرْوِ ابن جريج عن أبي صالح غير هذا الحديث. حدثنا أحمد بن عمر، ثنا علي بن الحسن بن فهر، أنا محمد بن علي، ثنا محمد بن عبد الله البَيِّع إجازة، أنا أبو النضر الفقيه أحمد بن محمد العنزي، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا أبو مسلم، عن عبد الرحمن بن يونس المستلمي، نا معن بن عيسى، حدثني زهير أبو المنذر التميمي، ثنا عبيد الله بن عمر بن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله : «يَخْرُجُ نَاسٌ مِنَ المَشْرِقِ فِي طَلَبِ العِلْمِ فَلاَ يَجِدُونَ عَالِماً أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ المَدِينَةِ» وقال عالم أهل المدينة. حدثنا أحمد بن عمر، ثنا فهر، نا ابن أحمد بن إبراهيم بن فراس، ثنا ابن الأعرابي، ثنا محمد بن إسماعيل الصوفي، ثنا علي بن المديني، ثنا سفيان بن عيينة، فذكر الحديث فقال ابن عيينة: وضعناه على مالك بن أنس، قال ابن فراس: ثنا محمد بن أحمد اليقطيني، نا محمد بن أحمد بن سلم الحراني، ثنا أبو موسى الأنصاري وذكر هذا الحديث فقال: بلغني عن ابن جريج أنه كان يقول: نرى أنه مالك بن أنس. قال أبو محمد: هذا حديث لم يقنعوا بقبيح فعلهم في التقليد، حتى أضافوا إلى ذلك الكذب على رسول الله في الصفة المذكورة في الحديث المذكور، على أن في سنده أبو الزبير وهو مدلس ما لم يقل: «حدثنا» أو: «أخبرنا» ومع ذلك فليست تلك الصفة موجودة في عصر مالك، لأنه كان في عصره ابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن الماجشون، وسفيان الثوري، والليث، والأوزاعي، وكل هؤلاء لا يمكن لمن له أقل إنصاف وعلم أن يفضله في علمه وورعه على واحد منهم، ولا في فهمه للقرآن، ولا لحديث النبي ، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وليت شعري ما الذي دلهم على أنه مالك، دون أن يقولوا إنه سعيد بن المسيب الذي كان أفقه من مالك وأفضل؟.

وذكروا عن سفيان بن عيينة أنه قال: كانوا يرونه مالكاً، قالوا: فإنما عنى سفيان بذلك التابعين. قال أبو محمد: فزادوا كذبة، وما دليلهم على أن سفيان عنى بذلك التابعين؟ لو صح عن سفيان؟ ولعله عنى بذلك مقلدي مالك من صغار أصحابه. قال أبو محمد: هذا بارد وكذب، وليت شعري أي شيء من إدراك سفيان للتابعين مما يوجب أنه عناهم بهذا القول؟ فكيف يصح عن سفيان إلا ما رويناه آنفاً من أنه ظن منه، ومثل هذا من الإقدام على القطع بالظنون لا يستسهله إلا من يستسهل الكذب، نعوذ بالله من ذلك.
ومما يوضح كذبهم في هذا على سفيان بن عيينة ما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس العذري، ثنا أحمد بن عيسى بن إسماعيل البلوي، ثنا غندر، ثنا خلف بن القاسم الحافظ، ثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي، ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري، قال محمد بن أبي عمر: قال سفيان بن عيينة: لو سئل أي الناس أعلم؟ لقالوا سفيان، يعني الثوري، فهذا سفيان بن عيينة يقطع بأنهم كانوا يقولون سفيان أعلم الناس، فدخل في ذلك مالك وغيره. وأما الرواية عن أبي جريج فلا يدرى عمن هي، وإنما هي بلاغ ضعيف كما ترى. وبالله تعالى التوفيق. وقد ضربت آباط الإبل أيام عمر في طلب العلم حقّاً، الذي هو العلم بالحقيقة وهو القرآن وسنن رسول الله ، وهاجر الناس في خلافته إلى المدينة، متعلمين للعلم، ومتفقهين في الدين، وما كان في أقطار البلاد يومئذ أحد يقطع على أنه أعلم من عمر، لا سيما مع شهادة النبي له بالعلم والدين، وأقصى ما يمكن أن يشك، هل يساويه في العلم عليّ وعائشة ومعاذ وابن مسعود؟ وأما أن يقطع بأنهم أعلم منه جملة، فلا أصلاً. وأما الإكثار من الرأي فليس علماً أصلاً، ولو كان علماً لكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن أعلم من مالك، لأنهم أكثر فتيا ورأياً منه فإذاً ليس الرأي علماً، وإنما العلم حفظ سنن رسول الله وأقوال الصحابة والتابعين، فقد كان في عصر مالك من هو أوسع علماً منه كشعبة وسفيان، ومن هو مثله كسفيان بن عيينة والأوزاعي وهشيم وغيره، فظهر كذب من كذب في الحديث المذكور، وبالله تعالى التوفيق.
ثم لو صح، وصح أنه مالك باسمه ونسبه، لكان إنما فيه أنه لا يوجد أعلم منه قط، وليس فيه أنه لا يوجد مثله في العلم، فبطل احتجاجهم، ولم يمنع وجود مثله في العلم، وعارضهم بعض الشافعيين بما حدثناه هشام بن سعيد الخير بن فتحون قال: ثنا عبد الجبار المقرىء بمصر، نا الحسن بن الحسين النجيرمي، ثنا جعفر بن محمد الأصبهاني، نا يونس بن حبيب، نا أبو داود الطيالسي، نا جعفر بن سليمان، عن النضر بن معبد، عن الجارود، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : «لاَ تَسُبُّوا قُرَيْشاً فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلأُ الأَرْضَ عِلْماً، اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَذَقْتَ أَوَّلَهَا عَذَاباً أَوْ وَبَالاً فَأَذِقْ آخِرَهَا نَوَالاً» . فقالوا: هذه صفة الشافعي، فما ملأ الأرض علماً قرشي غيره، وحدثنا أحمد بن محمد بن الجسور قال: نا ابن أبي دليم، نا ابن وضاح، نا أبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد الأعلى، عن معمر الأزهري، عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله قال: «تَعلَّمُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَلاَ تُعَلِّمُوهَا، وَقَدِّمُوا قُرَيْشاً وَلاَ تُؤَخِّرُوها. فَإِنَّ للِقُرشِيِّ قُوَّةَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ» . قال أبو محمد: وهذا حديث صحيح، أصح من حديثهم الذي شنعوا به.
وأما الحقيقة في ذلك الحديث فهي: أن الصفة التي بيَّن في ذلك الحديث لم تأت بعد هذا، إن صح الحديث المذكور، لأن الزمان إلى الآن لم تكن قط فيه البلاد عارية من عالم يضاهي علماء المدينة، فقد كان في عصر الصحابة بالعراق ابن مسعود وعلي وسليمان، وكان بالشام معاذ وأبو الدرداء، وكان بمكة ابن عباس، ولا يحل لذي ورع وعلم أن يقول: إن عمر وعائشة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت كانوا أفقه من علي وابن مسعود ومعاذ وما ابن عباس بمتأخر عمن ذكرنا. ثم أتى التابعون، فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول: إن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار كانا أفقه من عطاء والحسن وعلقمة والأسود، ثم أتى صغار التابعين، فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول: إن ربيعة والزهري وأبا الزناد كانوا أفقه من إبراهيم النخعي، وعامر والشعبي وسعيد بن جبير وأيوب السختياني وعمر بن عبد العزيز، ثم أتى عصر مالك، فكان معه ابن أبي ذئب وسفيان الثوري والأوزاعي وابن جريج والليث، وليس أحد ممن ذكرنا دونه في رواية ولا دراية ولا ورع، ثم هكذا إلى أن انقطع الفقه من المدينة جملة. واستقر في الآفاق. فإنما ذلك الحديث، إن صح، إذا قرب قيام الساعة، وأرز الإيمان إلى المدينة ومكة، وغلب الدجال على الأرض، حاشا مكة والمدينة، فحينئذ يكون ذلك، وإنما حتى الآن فلم تأت صفة ذلك الحديث، وهذا بين ظاهر. وأما الإنذار بما ذكرنا فكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم، عن أبي زيد المروزي، عن محمد بن يوسف، عن محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا إبراهيم بن المنذر، نا أنس بن عياض، حدثني عبيد الله، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأْزِرُ إِلَى المَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إِلَى حُجْرِهَا» .
وكما حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، ثنا محمد بن رافع والفضل بن سهل الأعرج، ثنا شبابة بن سوار قال: ثنا عاصم بن محمد العمري، عن أبيه عن ابن عمر عن النبي : «إِنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ المَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا» . وكما حدثنا حمام بن أحمد، عن عبد الله بن إبراهيم، عن أبي زيد، عن الفربري، عن البخاري، ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا أبو عمرو الأوزاعي، ثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك، عن النبي قال: «لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلاَّ مَكَّةَ وَالمَدِينَةَ» وذكر باقي الحديث. ثم نقول لهم، هبكم، حتى لو صح الحديث المذكور، ثم لو صح أنه مالك بلا شك، أي شيء كان يكون فيه مما يوجب اتباعه دون غيره من العلماء؟ ولا شك عند أحد من نقلة الحديث في صحة الحديث المسند إلى رسول الله أنه رأى رؤيا فيها: أنه أعطي قدحاً فشرب منه حتى رأى الري يجري في أظفاره ثم ناول فضله عمر، فقيل له: يا رسول الله ما أولت ذلك فقال : «العلم» وصحة الحديث، أنه : «أُرِيَ أُمَّتَهُ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ بَعْضُهَا إِلَى الثَّدْيَيْنِ، وَعَلَى عُمَرَ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ» ؛ وأنه أخبر أن ذلك الدين فقد صح عن النبي أن عمر من أعلم أمته وأصحابه، ومن أئمتهم ديناً. ولا خلاف بين أحد المسلمين أن عمر وعليّاً وابن مسعود وعائشة. أعلم من مالك بلا شك، وليس ذلك يوجب تقليد أحد ممن ذكرنا، ولا اتباعه على جميع أقواله، كما فعلوا هم بمالك، فبطل تعلقهم بالحديث المذكور لو صح، وتأولهم فيه كذب بحت، لا يحل لأحد نسبته إلى رسول الله . وما الفرق بينهم في الإقدام وبين الشافعيين لو استحلوا أن يقولوا: إن قول رسول الله : «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هذَا الأَمْرِ بِرُّهُمْ لِبِرِّهِمْ وَفَاجِرُهُمْ لِفَاجِرِهِمْ» ــــ إن المراد بهذا هو الشافعي، لأنه قرشي النسب، فيجب أن يكون الناس تبعاً له؟ وبين الداوديين لو أنهم استحلوا فقال: إن قول رسول الله : «لَوْ أَنَّ العِلْمَ ــــ أَوْ هذَا الدِّينَ ــــ بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رَجُلٌ أَوْ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسٍ» المراد بهذا داود وأبو حنيفة، لأنهما من أبناء فارس؟ هذا على أن هذين الحديثين صحيحان لا شك في صحتهما، وحديث عالم المدينة معلول لا يصح. فإن قالوا: قد كان في قريش علماء غير الشافعي، وفي الفرس علماء غير داود وأبي حنيفة، قيل لهم: وقد كان بالمدينة علماء غير مالك بلا شك، وكان هذا استحلال للكذب على رسول الله ، لا يستجيزه ذو ورع.
قال أبو محمد: وأما احتجاجهم بقول مالك: هذا العمل ببلدنا، فهذا لا معنى له، لأن العمل بالمدينة قبل مولد مالك بثلاث وعشرين سنة لم يجز إلا بالظلم والجور والفسق، ولا وليهم إلا الفساق من عمال بني مروان، ثم عمال بني العباس كالحجاج وحبيش بن دلجة، وطارق وعبد الرحمن بن الضحاك وغيرهم ممن لا يعتد بهم. وما أدرك مالك قط بالمدينة بعقله عمل أمير ووال يقتدي به أصلاً، ولقد كان التغيير بدأ في السنن من قبل ما ذكرنا كقول مروان: ذهب ما هنالك. ودليل ما ذكرنا تركهم عمل عمر وعثمان في نصوص الموطأ، فبطل الاحتجاج بالعمل جملة، ولا يبق إلا الرواية التي رواها ثقات العلماء عن أمثالهم، إذ لم يمكن الظالمين أن يحولوا بينهم وبين ألسنتهم، كما حالوا بينهم وبين العمل، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ومن البرهان اللائح على بطلان التقليد أن أهل العصر الأول والعصر الثاني والعصر الثالث: وهي القرون التي أثنى عليها النبي كما حدثنا عبد الله بن ربيع، عن محمد بن إسحاق بن السليم، عن ابن الأعرابي، عن أبي داود، عن مسدد وعمرو بن عون قالا: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله : «خَيْرُ أُمَّتِي القَرْنُ الَّذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَالله أَعْلَمُ أَذَكَرَ الثَّالِثَ أَمْ لاَ، ثُمَّ يَظْهَرُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذُرُونَ ولاَ يُوفُونَ، وَيحربونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيُفْشُونَ فِيهِمُ السمن» . قال أبو محمد: وهكذا في كتابي، والصواب: يخونون ولا يؤتمنون. و «بلفظة» يخونون، رويناه من طريق مسلم، عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة، عن أبي حمزة، عن زهدم، عن عمران، عن رسول الله ــــ فكان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة يطلبون حديث النبي والفقه في القرآن، ويرحلون في ذلك إلى البلاد، فإن وجدوا حديثاً عنه عملوا به واعتقدوه، ولا يقلد أحد منهم أحداً البتة، فلما جاء أهل العصر الرابع تركوا ذلك كله، وعولوا على التقليد الذي ابتدعوه ولم يكن قبلهم، فاتبع ضعفاء أصحاب أبي حنيفة أبا حنيفة، وأصحاب مالك مالكاً، ولم يلتفتوا إلى حديث يخالف قولهما، ولا تفقهوا في القرآن والسنن، ولا بالوا بهما، إلا من عصمه الله عز وجل وثبته على ما كان عليه السلف الصالح في الأعصار الثلاثة المحمودة، من اتباع السنن عن رسول الله والتفقه في القرآن وترك التقليد.
خلاف الاصحاب للفقهاء الاربعة
أفاضل أصحاب أبي حنيفة ومالك فما قلدوهما، فإن خلاف ابن وهب وأشهب وابن الماجشون والمغيرة وابن أبي حازم، لمالك أشهر من أن يتكلف إيراده، وقد خالفه أيضاً ابن القاسم، وكذلك خلاف أبي يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد لأبي حنيفة أشهر من أن يتكلف إيراده، وكذلك خلاف أبي ثور والمزني للشافعي رحمه الله. وكذلك خالف أصبغ وسحنون ابن القاسم، وخالف بن المواز أصبغ، وكذلك خالف محمد بن علي بن يوسف المزني في كثير، وكذلك خالف الطحاوي أيضاً أبا حنيفة وأصحابه.
ابن فراس، نا محمد بن علي بن علي بن زيد، نا سعيد بن منصور، نا هشيم، أنا ابن أبي ليلى، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل: أن رجلاً مات وترك ابنته وابنة ابنه وأخته لأبيه وأمه، فأتوا أبا موسى الأشعري فسألوه عن ذلك فقال: لابنته النصف، والنصف الباقي للأخت، فأتوا ابن مسعود فذكروا ذلك له فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين إن أخذت بقول الأشعري وتركت قول رسول الله . فهذا ابن مسعود يسمي القول من الصاحب إذا خالف النص: ضلالاً وخلافاً للهدى. وحدثنا أحمد بن عمر، نا أبو ذر، نا عبد الله بن أحمد، نا إبراهيم بن خزيم، نا عبد بن حميد، نا أبو نعيم، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: سئل حذيفة عن قوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } قال: لم يكونوا يعبدونهم، ولكن إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه.
قال أبو محمد: هذه صفة المقلدين لأبي حنيفة ومالك والشافعي، ولا يحرمون إلا ما جاء عن صاحبهم تحريمه، ولا يحلون إلا ما جاءهم عن صاحبهم تحليله، نبرأ إلى الله تعالى من مثل هذا الاعتقاد، ونعوذ به منه في أحد من ولد آدم، حاشا رسول الله . حدثنا عبد الرحمن بن سلمة، نا أحمد بن خليل، نا خالد بن سعد، أخبرني أسلم بن عبد العزيز القاضي، وسعيد بن عثمان العناني قالا: نا يونس بن عبد الأعلى، نا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ليس من أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي . كتب إلي يوسف بن عبد الله النمري، أنا عبد الوارث بن سفيان، نا قاسم بن أصبغ، نا ابن وضاح، نا دحيم، نا ابن وهب، نا ابن لهيعة، عن بكير بن الأشج أن رجلاً قال للقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: عجباً لعائشة كانت تصلي في السفر أربعاً ورسول الله كان يصلي ركعتين، فقال: يا ابن أخي عليك بسنة رسول الله حيث وجدتها، فإن من الناس من لا يعاب. كتب إلي النمري: ثنا سعيد بن نصر، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن إسماعيل الترمذي، نا الحميدي، نا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه: قال عمر بن الخطاب: إذا رميتم الجمرة بسبع حصيات وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء. قال سالم: قالت عائشة: أنا طيبت رسول الله لحله قبل أن يطوف بالبيت، قال سالم: فسنة رسول الله أحق أن تتبع.
قال أبو محمد: فنحن نسألهم أن يعطونا في الأعصار الثلاثة المحمودية، عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابعي التابعين، رجلاً واحداً قلد عالماً كان قبله، فأخذ بقوله كله ولم يخالفه في شيء، فإن وجدوه، ولن يجدوه والله أبداً لأنه لم يكن قط فيهم، فلهم متعلق على سبيل المسامحة، ولم يجدوه فليوقنوا أنهم قد أحدثوا بدعة في دين الله تعالى لم يسبقهم إليها أحد. وليعلموا أن عصابة من أهل العصر الرابع ابتدعوا في الإسلام هذه البدعة الشنعاء إلا من عصم الله تعالى منهم، والبدع محرمة عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ [شرح النووي على مسلم:الضَّمِير فِي قَوْله : ( يَقُول صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ ) عَائِد عَلَى مُنْذِر جَيْش] وَيَقُولُ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" ثُمَّ يَقُولُ أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ"[مسلم: كِتَاب الْجُمُعَةِ بَاب تَخْفِيفِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ] وليعلموا أن طلاب سنن رسول الله حيث كانت، والعاملين بها والمتفقهين في القرآن الذين لا يقلدون أحداً، هم على منهاج الصحابة والتابعين والأعصار المحمودة، وأنهم أهل الحق في كل عصر، والأكثرون عند الله تعالى، بلا شك، وإن قل عددهم، وبالله تعالى التوفيق. وهذه البدعة العظيمة، نعني التقليد، إنما حدثت في الناس وابتدىء بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة، وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عاماً بعد وفاة رسول الله وأنه لم يكن قط في الأسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعداً على هذه البدعة، ولا وجد فيهم رجل يقلد عالماً بعينه، فيتبع أقواله في الفتيا، فيأخذ بها ولا يخالف شيئاً منها، ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم، ثم لم تزل تزيد حتى عمت بعد المائتين من الهجرة عموماً طبق الأرض، إلا من عصم الله عز وجل، وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون، وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم.
عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَوْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لِأَبِي مَسْعُودٍ مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي "زَعَمُوا" قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا" [سنن أبي داود: كِتَاب الْأَدَبِ بَاب فِي قَوْلِ الرَّجُلِ زَعَمُوا] [قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" هذا إسناد صحيح متصل]
وقد نص رسول الله في حديث عذاب القبر على أن المنافق أو المرتاب يقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ" [البخاري: كِتَاب الْجَنَائِزِ بَاب مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ]، فهذا التقليد مذموم في التوحيد، فكيف ما دونه. وقال ابن مسعود: لا يكونن أحدكم إمعة، يقول: إنما أنا مع الناس، ليوطن أحدكم نفسه إن كفر الناس ألا يكفر وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا" [قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ][ سنن الترمذي: كِتَاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ بَاب مَا جَاءَ فِي الْإِحْسَانِ وَالْعَفْوِ]
وعن الحميدي قال: قال سفيان: ما زال أمر الناس معتدلاً حتى غير أبو حنيفة بالكوفة والبتي بالبصرة، وربيعة بالمدينة. قال أبو محمد: وصدق سفيان، فإن هؤلاء أول من تكلم بالآراء، ورد الأحاديث، فسارع الناس في ذلك واستحلوه، والناس سراع إلى قبول الباطل والحقُ مرٌّ ثقيلٌ.
عن عدي بن حاتم قال:"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) قال أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه" [ صحيح وضعيف سنن الترمذي (7/ 95) ( سنن الترمذي ) 3095.تحقيق الألباني :حسن]وهذه هي العبادة.
ولا جرم، فقد حرم مقلدو مالك شحوم البقر والغنم إذا ذبحها يهودي، وحرموا الجمل والأرنب، إذا ذكاهما يهودي، تقليداً لخطأ مالك في ذلك، وردوا قول الله تعالى في ذلك بعينه: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [المائدة: 5] وأحل أصحاب أبي حنيفة ثمن الكلب الذي حرمه رسول الله ، وحرم من اتبعه منهم المساقاة التي أحلها الله تعالى، تقليداً لخطأ أبي حنيفة في ذلك، وردوا كلام النبي وإخباره في ثمن الكلب أنه سحت وتحريمه إياه، وهذا نص ما حرم الله تعالى ورسوله من فعل اليهود والنصارى، وقد أنذر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ [قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ][سنن الترمذي:كِتَاب الْفِتَنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنن بَاب مَا جَاءَ لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ[ صحيح وضعيف سنن الترمذي (5/ 180)] [تحقيق الألباني : صحيح ظلال الجنة ( 76 ) ، المشكاة ( 5369 )]
ماذا يفعل العالم إذا سئل عن مسألة فأعيته ؟
يجب على العالم أن يسأل الرواة عن أقوال العلماء في تلك المسألة النازلة، ثم يعرض تلك الأقوال على كتاب الله تعالى، وكلام النبي كما أمره الله تعالى:
إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل: 43]
وإذ يقول سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[الشورى: 10]
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] ولم يقل تعالى فردوه إلى مالك وأبي حنيفة والشافعي.
فإن قال قائل:فما وجه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل: 43]
قيل له وبالله تعالى التوفيق:إنه تعالى:
أمرنا أن نسأل أهل العلم عما حكم به الله تعالى في هذه المسألة، وما روي عن رسول الله فيها.
ولم يأمرناأن نسألهم عن شريعة جديدة يحدثونها لنا من آرائهم. وقد بيَّن ذلك بقوله عليه السلام : «فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ» [البخاري:كِتَاب الْحَجِّ بَاب الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى] وبينه تعالى بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3] فالدين قد كمل، فلا مدخل لأحد فيه بزيادة ولا نقص ولا تبديل، وكل هذا كفر ممن أجازه.
وقد أمر تعالى المتفقهين أن ينفروا لطلب أحكام الدين، ولم يأمرهم أن يقولوا من عند انفسهم شيئاً، بل حرم تعالى ذلك بذمه قوماً شرعوا لهم في الدين ما لم يأذن به الله فقال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [الشورى: 21]. فإنما نحن دعاة إلى تفهم القرآن وكلام النبي ، ومبلغون من ذلك إلى من تقدمناه في الطلب، ما بلغه إلينا من تقدمنا، ومعلمون إياه، ومعاذ الله من التزيد في هذا أو من تبديله أو من النقص منه.
كيف يصنع العامي إذا نزلت به النازلة؟.
إن الله تعالى حرَّم التقليد جملة، ولم يخص الله تعالى بذلك عاميّاً من عالم، ولا عالماً من عامي، وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد، فالتقليد حرام على العاميّ كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق.
والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله، في كل ما خص المرء من دينه، لازم للعامىّ كلزومه للعالم المتبحر ولا فرق، فمن قلد فقد عصى الله عز وجل، وأثم ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع لقوله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }[البقرة: 286] ولقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فعلى كل أحد حظه من الاجتهاد، على قدر طاقته؛فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاهأن يقول له:هكذا أمر الله ورسوله؟ فإن قال له: نعم، أخذ بقوله، ولم يلزمه أكثر من هذا البحث، وإن قال له: لا، أو قال له: هذا قولي، أو قال له: هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو الشافعي أو أحمد أو داود أو سمى له أحد من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي ، أو انتهره أو سكت عنه:فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه، وفرض عليه أن يسأل غيرهمن العلماء وأن يطلبه حيث كان، إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى وحكم رسوله عليه السلام في ذلك، وما يجب في دين الإسلام في تلك المسألة، ولو علم أنه يفتيه بغير ذلك لتبرأ منه وهرب عنه.
وفرض على الفقيه إذا علم أن الذي أفتاه به هو في نص القرآن والسنة عن رسول الله أو الإجماع أن يقول له: نعم، هكذا أمر الله تعالى رسوله ، وحرام عليه أن ينسب إلى الله تعالى وإلى رسوله شيئاً، قاله بقياس أو استحسان أو تقليد لأحد دون النبي ، فإنه إن فعل ذلك كان بذلك كاذباً على رسوله عليه السلام، ومقولاً له ما لم يقل، وقد وجبت له النار يقيناً، بنص قوله عليه السلام : « لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجْ النَّارَ » [البخاري:كِتَاب الْعِلْمِ بَاب إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]وهذا الذي قلنا لا يعجز عنه واحد وإن بلغ الغاية في جهله، لأنه لا يكون أحد من الناس مسلماً حتى يعلم أن الله تعالى ربه، وأن النبي عليه السلام، وهو محمد بن عبد الله، رسول الله.
فإن أفتاه الفقيه بفتيا منسوخة أو مخصوصة، أو أخطأ فيها فنسبها إلى النبي وليست من قوله، سهواً أو تعمد ذلك، فما الذي يلزم العامي من ذلك؟
عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي رحمه الله الرجل تنزل به النازلة وليس يجد إلا قوماً من أصحاب الحديث والرواية لا علم لهم بالفقه، وقوماً من أصحاب الرأي من يسأل؟
فقال يسأل أصحاب الحديث، ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث خير من الرأي.
النص المنسوخ الذي لم يبلغ المرء نسخه
من بلغه خبر منسوخ، أو آية منسوخة، ولم يعلم بنسخ ذلك، فالعامي والعالم في ذلك سواء، والواجب عليهما بلا شك العمل بذلك المنسوخ، ولم يؤمرا قط بتركه إلا إذا بلغهما النسخ، قال تعالى: { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } ، فأخبر تعالى أنه لا تلزم النذارة إلا من بلغه الأمر، فما دام النسخ لم يبلغه فلم يلزمه. وليس في وسع أحد أن يعرف الشريعة قبل أن تبلغه، وقد لزمه الأمر الأول بيقين، فلا يسقط عنه إلا ببلوغ الناسخ إليه.
وهكذا كان الصحابة الذين بأرض الحبشة، والصلاة قد فرضت بمكة إلى بيت المقدس وعرفوا ذلك فصلوا كذلك بلا شك، ثم حولت القبلة إلى الكعبة بالمدينة بعد ستة عشر شهراً من الهجرة، ولا خلاف بين أحد أنهم لم يلزمهم التحول إلى الكعبة ولا سقط عنهم فرض الصلاة، ولا كان لهم أن يصلوا إلى غير القبلة التي صح عندهم الأمر بها، ما لم يبلغهم النسخ، وقد سمى الله تعالى صلاة من مات قبل أن يبلغهم بالنسخ إيماناً، فقال تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } وهكذا فعل أهل قباء صلوا نصف صلاتهم إلى بيت المقدس، ولا شك أنهم لم يبتدئوها إلى بيت المقدس إلا والقبلة قد نسخت، لكن لما لم يعلموا ذلك، لم يلزمهم ما لم يعلموا، ولا سقط عنهم ما كان لزمهم إلا بعد بلوغ النسخ إليهم. وهكذا القول في كل ما صح نسخه، ولم يصح عند بعض الناس. وأما إن قامت عليه الحجة فعاند تقليداً ففاسق.
ومن أفتى آخر بفتيا صحيحة إلا أنه لم يأته عليها بدليل
فإنه إن عمل بها مقلداً فهو آثم في تقليده مأجور إن شاء الله تعالى بعمله بها إن أراد الله تعالى.
وعمدة القول في هذا الباب كله:
أن الإثم ساقط عن المرء فيما لم يبلغه
والإثم لازم له فيما بلغه فخالفه عمداً أو تقليداً
وأنهلا يجب على المرء إلا ما جاء به النص أو الإجماع حقّاً، لا ما أفتاه به المفتون، مما لم يأت به نص ولا إجماع، وأخبر بأنه نص أو إجماع.
وأنه مأجور على نيته ومثاب عليها، فإن كانت خيراً، فخير وإن كانت شراً فشر.
وإن المرء لا يأثم بعمل ما أمر به وإن لم يعلم أنه مأمور به ولا يأثم بترك ما لم يؤمر به. وإن لم يعلم أنه ليس مأموراً به، وإن ظن أنه مأمور به لأن النية غير العمل، إلا أن يبلغه نص فيخالفه، وإن كان مخصوصاً أو منسوخاً بعد أن يبلغه الناسخ أو المخصص.
ومن هذا الباب:
من لقي امرأة فراودها عن نفسها فأجابته فوطئها، وهو يظنها أجنبية، فإذا بها امرأته، ولم يكن عرفها بعد ولا كان دخل بها.
أو لقي إنساناً فقتله وهو يظنه مسلماً حرام الدم، فإذا به قاتل أبيه عمداً أو كافر حربي.
أو انتزع مالاً من مسلم كرهاً، فإذا به ماله نفسه.
فكل هذاإن كان مستسهلاً للزنى أو لغصب المال وقتل النفس فهو آثم بتلك النية فاسق بها عاص لله عز وجل، ولا إثم عليه في وطئه، ولا أخذه ماله. ولا قتله الحربي ولا قاتل أبيه، لأنه لم يواقع في ذلك إلا مباحاً له.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ
فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَاكَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً
فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَاكَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ
وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَاكَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً
فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَاكَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً [البخاري: كِتَاب الرِّقَاقِ بَاب مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ بِسَيِّئَةٍ]
وهذا الحديث بين أن الذي لا يكتب عليه إثم فهي السيئة التي لم يعملـها، وهذا ما لا شك فيه، ولم يقل إن إثم الـهم بالسيئة لا يكتب عليه، والـهم بالشيء غير العمل به؛ قال ضابىء بن الحارث البرجمي: هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائلـه ثم استدركنا هذا، وتأملنا النصوص فوجدناها مسقطة حكم الـهم جملة، وأنه هو اللمم المغفور جملته.
فإن قال قائل: فقد صح عن النبي أنه أخبر أن: «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» قيل لـه: قد صح ذلك، وأخبر أن: «الأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى» فمن هم بسيئة ثم تركها قاصداً بتركها إلى اللـه تعالى، كتبت لـه حسنة بهذه النية الجميلة، فإن تركها لا لذلك لكن ناسياً أو مغلوباً أو بدا لـه فقط، فإنها غير مكتوبة عليه، لأنه لم يعملـها ولا أجر لـه في تركها، لأنه لم يقصد بذلك اللـه تعالى. ولا يكون من همَّ بالسيئة مصرّاً إلا من تقدم منه مثل ذلك الفعل، قال اللـه تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فصح أن لا إصرار إلا على من قد عمل بالشيء الذي هو مصر عليه، وهو عالم بأنه حرام عليه، وأما من هم بقبيح ولم يفعلـه قط، فهو هام به لا مصرٌّ عليه، بالنصوص التي ذكرنا.
فإن قال قائل: ما تقولون في حربي كافر لقي مسلماً فدعاه المسلم إلى الإسلام فأسلم، ثم علمه الشرائع، وقال لـه: هذه شرائع الإسلام، أيلزمه العمل بما أخبره من ذلك أم لا؟
قيل لـه وباللـه تعالى التوفيق: الكلام في هذا كالكلام فيما تقدم. وهو أن ما كان مما أمره به موافقاً للنص أو الإجماع، فهو واجب عليه قبولـه، ومأجور فيه إن عملـه أجران، وعاص فيه إن لم يفعلـه، وما كان من ذلك بخلاف النص فهو غير واجب عليه، ولا يأثم في ترك العمل به، إلا إن استسهل خلاف ما ورد عليه من النص، فهو آثم في هذه النية فقط، فلو عمل بذلك أجر أجراً واحداً بقصده إلى الخير فقط، ولم يؤجر على ذلك العمل، ولا إثم فيه، لأنه ليس حقّاً فيؤجر عليه، ولم يقصد عمل الخطأ وهو يعلمه فيأثم عليه، وهذا
حكم العامي في كل ما أفتاه فيه فقيه من الفقهاء
حكم العالم فيما اعتقده، وأفتى به، باجتهاد لا يوقن فيه أنه مصيب
إنسان عمل بالحق وهو يدري أنه حق، فله أجران: أجر النية وأجر العمل
آخر عمل الباطل وهو يدري أنه باطل، فله إثمان: إثم النية وإثم العمل، فالنية عمل النفس المجرد، والعمل على الجوارح بتحريك النفس لها، فهما عملان متغايران
وثالث عمل بالحق وهو يظنه باطلاً، أو ترك الباطل وهو يظن أن ذلك الباطل الذي ترك حق، فلا إثم عليه فيما عمل، ولا فيما ترك، لأنه لم يعمل محرماً عليه، ولا ترك واجباً عليه، ولا يؤجر أيضاً في شيء من ذلك، لأنه لم يقصد بنيته في ذلك وجه الله تعالى، فإن نوى في ذلك استسهال مخالفة الحق فهو آثم بهذه النية فقط، لا بما فعل ولا بما ترك.
ورابع عمل بالباطل وهو يظنه حقّاً أو ترك الحق وهو يظنه باطلاً، فهذا مأجور في نيته للخير أجراً واحداً، ولا إثم عليه فيما فعل ولا فيما ترك ولا أجر أيضاً، لأنه لم يعمل صواباً فيؤجر ولا قصد الباطل وهو يعلمه باطلاً فيأثم.
العامي يسأل فقيهين
إذا سأل العامي فقيهين فصاعداً فاختلفوا عليه:
· فقد قال قوم يأخذ بالأخف.
· وقال قوم: يأخذ بالأثقل.
· وقال قوم: لا يلزمه منها.
· وقال قوم: هو مخير يأخذ ما يشاء من ذلك.
أما من قال: هو مخير، فقد أمره باتباع الهوى، وذلك حرام لأنه جعل الدين مردوداً إلى اختيار الناس يعمل بما شاء، وأجاز فيه الاختلاف، والله تعالى يقول: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء: 82]
أما من قال: يأخذ بالأثقل فلا دليل على صحة قوله أيضاً، وكذلك قول من قال: يأخذ بالأخف، وكل قول بلا دليل فهي دعوى ساقطة، فإن احتج بقول الله عز وجل: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] فقد علمنا أن كل ما ألزم الله تعالى فهو يسر.
والصواب إنه إن أفتاه فقيهان فصاعداً بأمور مختلفة نسبوها إلى رسول الله ، فهو غير فاسق بتركه قبول شيء منها، لأنه إنما يلزمه ما ألزمه النص في تلك المسألة، وهو لم يدره بعده، فهو غير آثم بتركه ما وجب مما لم يعلمه، لكنه يتركهم ويسأل غيرهم؛ ويطلب الحق. مثال ذلك: رجل سأل: كيف أحج؟ فقال له فقيه: أفرد، فهكذا فعل رسول الله في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها. وقال له آخرون: اقرن، فهكذا فعل رسول الله في حجته التي لم تكن له بعد الهجرة غيرها. وقال له آخرون: تمتع، فهكذا فعل رسول الله في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها، ففرض عليه أن يتركهم ويستأنف سؤال غيرهم، ويكون العامي حينئذ بمنزلة عالم لم يبين له وجه الحكم في مسألة ما، فحكمه التوقف والتزيد من الطلب والبحث، حتى يلوح له الحق، أو يموت وهو باحث عن الحق ولا يؤاخذه الله تعالى بتركه أمراً لم يلح له الحق فيه فالشريعة لا تلزم إلا من بلغته وصحت عنده.
والأصل إباحة كل شيء بقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وبقوله عليه السلام : « إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ » [البخاري: كِتَاب الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِيهِ ] والأصل ألا يلزم أحداً شيء إلا بعد ورود النص وبيانه، وبقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } وبقوله عليه السلام: «لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ فَاتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ» وبقوله في قيام رمضان: «خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» فمن علم أن عليه الحج ولم يدر كيف يقيمه، فلا يؤاخذ من تركه ما وجب عليه من عمل الحج إلا بما علم، لا بما لا يعلم، ولكن عليه التزيد في البحث حتى يدري كيف يعمل ثم حينئذ يلزمه الذي علم، ولا يؤاخذ الله تعالى أحداً بشيء لم تقم عليه الحجة، ولا صح عنده وجهه، لأنه لم يبلغه ذلك الحكم، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } .
الناس فيما يعتقدونه لا يخلون من أحد أربعة أوجه لا خامس لها
إما أن يكون المرء طلب الصواب فأداه اجتهاده إلى الصواب حقّاً فاعتقده على بصيرة.
وإما أن يكون طلب الصواب فحرم إدراكه لبعض العوارض التي سبقت له في علم الله تعالى.
وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الصواب.
وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الخطأ.
فأما الوجهان الأولان فقد قضى رسول الله بأن من اجتهد فأصاب فله أجران، وأن من اجتهد فأخطأ فله أجر، وقوله : «إِذَا اجْتَهَدَ الحَاكِمُ» عموم لكل مجتهد، لأن كل من اعتقد في مسألة ما حكماً ما فهو حاكم فيها لما يعتقد، هذا هو اسمه نصّاً لا تأويلاً، لأن الطلب غير الإصابة، وقد يطلب من لا يصيب على ما قدمنا، ويصيب من لا يطلب، فإذا طلب أجر فإذا أصاب فقد فعل فعلاً ثانياً، يؤجر عليه أجراً ثانياً أيضاً. فإن أشكل عليه بعد طلبه، فلم يأت محرماً عليه ولا اعتمد معصية، فلا إثم عليه ولم يفعل ما أمر به من الإصابة فلا أجر له فيما لم يفعل، وله بالطلب أجر واحد.
ولكن الطلب يختلف، فمنه طلب أمر به، وطلب لم يؤمر به، فالطلب الذي أمر به هو الطلب في القرآن والسنن ودليلهما، فمن طلب في هذه المعادن الثلاثة فقد طلب كما أمر. فله أجر الطلب، لأنه مؤد لما أمر به منه على ما ذكرنا. والطلب الذي لم يؤمر به هو الطلب في القياس، وفي دليل الخطاب وفي الاستحسان وفي قول من دون النبي ، فلم يطلب كما أمر، فلا أجر له على طلب ذلك لكن لما كانت نيته بذلك القصد إلى الله عز وجل وطلب الحق وابتغاءه، كان غير قاصد إلى الخطأ وهو يدري أنه خطأ، فله من ذلك نية من هم بخير وهم بحسنة، وهي الطلب الذي لم يفعله. وقد صح عن رسول الله أنه قال: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَإِنَّهَا تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ» والحسنة بلا شك أجر، فالأجر هنا يتفاضل، فمن همَّ بالطلب ثم طلب كما أمر فله عشر حسنات، لأنه هم بحسنة فعملها، ومن همَّ بالطلب كما أمر، فله حسنة واحدة، لأنه لم يعملها كما أمر. حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا أبو كريب، ثنا أبو خالد الأحمر، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْراً إِلَى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ، وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ» .
وبه إلى مسلم: حدثنا شيبان بن فروخ، ثنا عبد الوارث ــــ هو ابن سعيد التنوري، عن الجعد أبي عثمان، ثنا أبو رجاء العطاري، عن ابن عباس/ عن رسول الله فيما يروي عن ربه تعالى قال: «إِنَّ الله كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافَ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلها كَتَبَهَا الله سَيِّئَةً وَاحِدَةً» . قال أبو محمد: وأما القسم الثالث: وهو المقلد المصيب، فهو في تقليده عاص لله عز وجل، لأنه فعل أمراً قد نهاه الله عنه وحرمه عليه، فهو آثم بذلك ويبعد عنه أجر المعتقد للحق، لأنه لم يصبه من الوجه الذي أمره الله تعالى به، وكل من عمل عملاً بخلاف أمر الله تعالى فهو باطل.
ولا شك أن المجتهد المخطىء أعظم أجراً من المقلد المصيب وأفضل، لأن المقلد المصيب آثم بتقليده غير مأجور بإصابته والمجتهد المخطىء مأجور باجتهاده غير آثم لخطئه، فأجر متيقن وأجر مضمون أفضل من أجر محروم وإثم متيقن بلا شك. فإن قال قائل: فردوا شهادة كل مسلم لم يعرف الإسلام من طريق الاستدلال لأنه مقلد، والمقلد عاص، قيل له: ليس من اتبع من أمره الله تعالى باتباعه مقلداً، بل هو مطيع فاعل ما أمر به، محسن، وإنما المقلد من اتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه. فهذا عاص لله تعالى ثم لو علمنا أن هذا المسلم إنما اعتقد من الإسلام تقليداً لأبيه وجاره ولمن نشأ معه، ولو أنه نشأ من غير المسلمين لم يكن مسلماً، لما جاز قبول شهادته، وهذا لا يبعد من الكفر، بل إن عقد نيته على هذا فهو كافر بلا شك. وكذلك أخبر النبي إذ وصف فتنة الناس في قبورهم، فقال : «وَأَمَّا المُنَافِقُ أَوِ المُرْتَابُ ــــ لا ندري أسمى أي ذلك قال ــــ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي. سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئَاً فَقُلْتُهُ» وهذا نص ما قلنا، والمسلمون ــــ بحمد الله ــــ في أغلب أمورهم مبعدون عن هذا، بل تجد منهم الأكثر من عقد قلبه على أنه لو كفر أبوه وأهل مصره ما كفر هو ولو أحرق بالنار فهذا ليس مقلداً والحمد لله رب العالمين.
وكذلك من قلد في فتيا أو نحلة وقامت عليه الحجة فَعَنَدَ فهو فاسق مردود الشهادة، ولو لم يفهمها فهو معذور، ولا يضر ذلك شهادته، قال الله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } فذم عز وجل من عَنَدَ بعد أن تبين له الحق، وعذر النبي . عمر إذ لم يفهم آية الكلالة، فهذا فرق ما بين الأمرين، وبالله تعالى التوفيق، وأما القسم الرابع، وهو المقلد المخطىء، فله إثم معصية التقليد، وإثم المعصية باعتقاده الخطأ، فعليه إثمان. وقد يخرج على القسم الثالث الحديث المأثور عن النبي : «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلاَةَ وَمَا لَهُ مِنْهَا إِلاَّ نِصْفُهَا، ثُلُثُهَا، رُبْعُهَا» فيكون ذلك على قدر ما وافق فيه الحق من أحكام صلاته. وقد بينا فيما خلا كيفية اجتهاد طالب الفقه، وما يلزمه من معرفة الرواة والثقات والمجرحين والمسند المرسل، وبناء النصوص بعضها على بعض من الآي والأحاديث والاستثناء، والإضافة، وزيادات العدول، والناسخ والمنسوخ، والمحكم، والعام، والخاص، والمجمل والمفسر، والإجماع والاختلاف وكيفية الرد إلى القرآن والسنة، وفهم البراهين والشغب، على حسب ما تنتهي إليه طاقته، وبينا في هذا الباب وجه اجتهاد العامي.
من أباح للعامي أن يقلد
وأما من أباح للعامي أن يقلد فقد أخطأ بالبراهين التي قدمنا، من نهي الله تعالى عن التقليد جملة، ومع خطئه فقد تناقض، لأن القائل بما ذكرنا قد أوجب على العامي البحث عن أفقه أهل بلده، وهذا النوع من أنواع الاجتهاد، فقد فارق التقليد وتركه، ولم يقل أحد أن العامي يقلد كل من خرج إلى يده. فقد صح معنى ترك التقليد من العامي وغيره بإجماع لما ذكرنا آنفاً، وإن أجاز لفظه مجيزون ناقضون في إجازتهم إياه، وكل من أقر بلفظ وأنكر معناه فقد أقر بفساد مذهبه، وأيضاً فإنه إن بحث عن أفقه أهل بلده لم يكد يجد اتفاقاً على ذلك، بل في الأغلب يدله قوم على رجل، ويدله آخرون على آخر. وأيضاً فقد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه، ومن لا يعلم عنده، ومن غيره أعلم منه، وقد شهدنا نحن قوماً فساقاً حملوا اسم التقدم في بلدنا، وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة، ولا يجوز قبول شهادتهم. وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا، وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافاً، ويتخذ في منزله الصور ذوات الأرواح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق فتيا، وعلى العدو فتيا ضدها، ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى وانحرافه عليه، شاهدنا نحن هذا عياناً، وعليه جمهور أهل البلد، إلى قبائح مستفيضة، لا نستجيز ذكرها لأننا لم نشاهدها. هذا مع ما فشا في الناس من فتيا من يسمونه في الفقه: بالتقليد والقياس والاستحسان، وإنما أوقع العامة في سؤالهم حسن الظن بهم أنهم لا يقدمون على الفتيا بغير علم، ولا بما لا يصح عندهم عن النبي ، ولو علمت العامة أنهم ليس عندهم في أكثر ما يفتونهم به علم عن الله عز وجل، ولا عن رسول الله وأنهم يوقعونهم في مخالفة القرآن والسنة، ما سألوهم ولا استفتوهم، بل لعلهم كانوا يقدمون عليهم إقداماً يتلفهم.
من استفتى فقيهينفقال له أحدهما: كذا قال الله عز وجل، وقال الآخر: كذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاللازم له أن يأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لقوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل: 44]، ولأنه لا يخالف ربه عز وجل، لكنه يبين مراده تعالى، فلا خلاف بين أحد من المسلمين في وجوب الرجم على الزاني المحصن، وليس ذلك في القرآن، ولا في عدد الصلوات وكيفية أخذ الزكوات، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها ــــ إلا من شذ عن الحق في ذلك، وليس في القرآن شيء من ذلك أصلاً. وهكذا سائر الأحكام والعبادات كلها، وبالله تعالى التوفيق، وبرهان هذاما روى عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه عن النبي أنه قال: «لاَ أَلفيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئاً عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ بِمَا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي، مَا وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ الله تَبِعْنَاهُ»[سنن الترمذي: كِتَاب الْعِلْمِ بَاب مَا نُهِيَ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ][" قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح" تحقيق الألباني :صحيح] .
سنن الترمذي (10/ 361)
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: "أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ" سنن الترمذي قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ
أن يعتقد المرء قولاً أو أكثرلا يخلو من أحد وجهين:
إما أن يكون اعتقده بعد دراسة وبحث وتأكد له صدق ذلك الاعتقاد أو يكون اعتقده بغير دراسة وبحث.
فإن كان اعتقده بعد دراسة وبحث فلا يخلو أيضاً من أحد وجهين:
إما أن يكون اعتقده بعد دراسة عميقة وبحث صادق ببرهان صحيح في ذاته.
وإما أن يكون اعتقده بشيء يظن أنه دراسة وبحث وبرهان وليس كذلك كمن اعتمد فى بحثه ومنهجه على القياس والمرسل، والمقطوع، وما رواه الضعفاء.
وأما ما اعتقده المرء بغير دراسة وبحث وبرهان صحيح فإنه لا يخلو من أحد وجهين:
إما أن يكون اعتقده لشيء استحسنه بهواه كمن اعتمد على الرأي والاستحسان ودعوى الإلهام.
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِقال: قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمِّرْ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ عُمَرُ بَلْ أَمِّرْ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي قَالَ عُمَرُ مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الحجرات: 1] حَتَّى انْقَضَتْ [البخاري:كِتَاب الْمَغَازِي بَاب قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ غَزْوَةُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ]
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطُفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ وَإِذَا سَبَبٌ وَاصِلٌ مِنْ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا بِهِ ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ ثُمَّ وُصِلَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَاللَّهِ لَتَدَعَنِّي فَأَعْبُرَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْبُرْهَا قَالَ أَمَّا الظُّلَّةُ فَالْإِسْلَامُ وَأَمَّا الَّذِي يَنْطُفُ مِنْ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ فَالْقُرْآنُ حَلَاوَتُهُ تَنْطُفُ فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ تَأْخُذُ بِهِ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ ثُمَّ يُوَصَّلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِفَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا" قَالَ فَوَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ قَالَ "لَا تُقْسِمْ" [البخاري: كِتَاب التَّعْبِيرِ بَاب مَنْ لَمْ يَرَ الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ إِذَا لَمْ يُصِبْ]
واحتجوا: بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } فهذه الآية مبطلة للتقليد إبطالاً لا خفاء به، لأنه تعالى إنما أمر بطاعتهم فيما نقلوه إلينا جميعهم، عن رسول الله لأن الله عز وجل لم يقل وبعض أولي الأمر منكم، وإنما أمرنا باتباع أولي الأمر منا، وهم أهل العلم كلهم فإذا أجمعوا على أمر مَّا فلا خلاف في وجوب اتباعهم، وقد بين تعالى ذلك في الآية نفسها، فقال تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } فأسقط تعالى عند التنازع الرد إلى أولي الأمر، وأوجب الرد إلى القرآن والسنة فقط، وإنما أمر بطاعة أولي الأمر منا ما لم يكن تنازع.
وأما الرواية: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي» فحديث لا يصح
وإنما الصحيح في هذا الباب ما روى عن ابن عباس قال: قال النبي : «اعْقَلُوا أَيُّهَا النَّاسُ قَوْلِي، فَقَدْ بَلَّغْتُ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَا إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ الله وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنٍ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا أَبَداً مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا أَوْ عَمِلْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ الله وَسُنَّتِي، وَلَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ» . عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال "إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله" وسنة نبيه [وقال الالبانى "صحيح رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد (صحيح الترغيب والترهيب للألبانى : كتاب السنة الترغيب في اتباع الكتاب والسنة)]
النهى عن التقليد
ويقال لهمفيما رُوِيَ من الأمر بإلتزام سنة الخلفاء الراشدين المهديين هذا حجة عليكم، لأن سنة الخلفاء الراشدين المهديين كلهم ألا يقلدوا أحداً، وألا يقلد بعضهم بعضاً، وأن يطلبوا سنن رسول الله حيث وجدوها فينصرفوا إليها ويعملوا بها، وقد أنكر عمر رضي الله عنه أشد الإنكار على رجل سأله عن مسألة في الحج، فلما أفتاه قال له الرجل، هكذا أفتاني رسول الله ، فضربه عمر بالدرة وقال له: سألتني عن شيء قد أفتى فيه رسول الله لعلي أخالفه.
عن عبد الله بن سليمة يقول: قال معاذ بن جبل: يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث:دنيا تقطع أعناقكم،وزلة عالم،وجدال المنافق بالقرآن؟فسكتوا، فقال معاذ:
أما العالمفإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وإن افتتن فلا تقطعوا منه أناتكم،فإن المؤمن ــــ أو قال المسلم ــــ يفتتن ثم يتوب.
وأما القرآن فإن له مناراً كمنار الطريق لا يخفى على أحد، فما علمتم منه فلا تسألوا عنه أحداً، وما لم تعلموا فكلوه إلى عالمه.
وأما الدنيافمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح، ومن لا فليست بنافعته دنياه.(أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" "رقم 1872" بسند حسن، وقد روي مرفوعًا، ولا يصح، والموقوف هو الصحيح؛ كما قال الدارقطني في "العلل" "6/ 81/ رقم 992".
وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: "كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثٍ: زَلَّة عَالِمٍ، وَجِدَالِ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ، فَأَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ، فَإِنِ اهْتَدَى؛ فَلَا تُقلَّدوهُ دِينَكُمْ، تَقُولُونَ: نَصْنَعُ مِثْلَ مَا يَصْنَعُ فُلَانٌ، وَنَنْتَهِي عَمَّا يَنْتَهِي عَنْهُ فُلَانٌ، وَإِنْ أَخْطَأَ، فَلَا تَقْطَعُوا إِيَاسَكُمْ مِنْهُ، فتُعينوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ"وفى علل الدارقطني سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُعَاذٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ ثَلَاثٌ، جدال منافق بالقرآن، وزلة عالم، ودينا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ.فَقَالَ: يَرْوِيهِ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُعَاذٍ.وَرَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ مَرْفُوعًا، تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ مَعْمَرُ بْنُ زَائِدَةَ، وَكَانَ قَائِدًا الْأَعْمَشُ عَنْهُ.وَوَقَفَهُ شُعْبَةَ، وَغَيْرُهُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُعَاذٍ، وَالْمَوْقُوفُ هُوَ الصَّحِيحُ).
قال العباس، ويل للأتباع من عثرات العالم.قيل له:كيف ذلك؟قال:يقول العالم من قبل رأيه، ثم يبلغه عن النبي فيأخذ به، وتمضي الأتباع بما سمعت.
قال حماد بن زيد: حدثنا النعمان بن راشد قال:كان الزهري ربما أملى علي حتى إذا جاء الرأي ووقفته عليه فأكتبه فيقول: اكتب إنه رأي ابن شهاب، وإنه لعلك أن يبلغك الشيء فتقول ما قاله ابن شهاب إلا بأثر، فَلِيُعْلَم أنه رأيي.
قال ابن حزم رحمه الله: لم يدعا رضي الله عنهما من البيان شيئاً إلا أتيا به:
فأعلمك ابنعباس أن كاتب رأي العالم والآخذ به له الويل، وأن العالم يقول برأيه: وأنه يلزمه ترك ذلك الرأي إذا سمع عن النبي خلافه.
وأعلمك الزهري أنه يقول برأيه، وينهاك عن أن تقول فيما أتاك عنه: إنه لم يقله إلا بأثر.
وهكذا يفعل بعض الناس فإنهم يقولون:لم يقل هذا مالك وفلان وفلان إلا بعلم كان عندهم عن النبي ، فيكذبون على النبي ويحكمون بالظن ويتركون اليقين
واحتجوا بالحديث الذي فيه: «إن ابني كان عسيفاً على هذا» قالوا فقد كان الناس يفتون ورسول الله حي.
(عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ تَكَلَّمْ قَالَ إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا وَأَمَرَ أُنَيْسًا الْأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الْآخَرِ فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا) [البخاري:كِتَاب الْحُدُودِبَاب إِذَا رَمَى امْرَأَتَهُ أَوْ امْرَأَةَ غَيْرِهِ بِالزِّنَا]
وهذا أعظم حجة في إبطال التقليد،لأن المفتين اختلفوا في تلك المسألة ورسول الله حي، فأفتى بعضهم على الزاني غير المحصن بالرجم، وأفتى بعضهم عليه بجلد مائة وتغريب عام، فكان هذا التنازع لما وقع قد وجب فيه الرد إلى الرسول ، فرد الأمر إليه فحكم بالحق وأبطل الباطل.
وهكذا الأمر الآن،قد اختلف المفتون حتى الآن في تلك المسألة بعينها فقال أبو حنيفة: عليه الجلد ولا تغريب عليه حرّاً كان أو عبداً، وقال مالك: عليه الجلد والتغريب إلا أن يكون عبداً، وقلنا نحن وأصحاب الشافعي: عليه الجلد والتغريب على العموم، عبداً كان أو غير عبد، فوجب أن يرد هذا التنازع الذي بيننا إلى القرآن والسنة، فوجدنا نص السنة يشهد لقولنا فوجب الانقياد له،فهذا الحديث يبطل التقليد جملة.
قال ابن حزم رحمه الله:"نحن لم ننكر فتيا العلماء للمستفتين، وإنما أنكرنا أن يؤخذ بها بدون برهان يعضدها، ودون رد لها إلى نص القرآن والسنة، لأن ذلك يوجب الأخذ بالخطأ، وإذا كان في عصره من يفتي بالباطل فهم من بعد موته عليه السلام أكثر وأفشى، فوجب بذلك ضرورة أن نتحفظ من فتيا كل مفت، ما لم تستند فتياه إلى القرآن والسنة والإجماع".
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 

منتديات الحور العين

↑ Grab this Headline Animator

الساعة الآن 03:09 AM.

 


Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
.:: جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الحور العين ::.