#1
|
|||
|
|||
دروس دورة السيرة ( رسولنا قدوتنا )
بسم الله الهادي سواء السبيل ، والحمد لله لا نقبل له بديل ، وصلاة وسلاماً على أشرف الخَلْقِ صاحب الخُلُقِ الجميل وبعد .. فهذا طَرْقٌ مني لبابِ علمٍ هو من أَجَلِّ العلوم ، ألا وهو سيرة خير الخلق أجمعين ، محمد النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم – سيدنا وحبيبنا وشفيعنا وهادينا ومخرجنا من الظلمات إلى النور .. نحاول أن نتعرف في هذه الصفحات على سيرته العطرة الطيبة حتى نعرف كيف نتّبعه ، فقد قال ربنا جل في علاه (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) آل عمران (31) فقد علّق ربنا تعالى حبه وطاعته باتباع نبيه صلوات ربي وسلامه عليه . وقد جرت العادة بين أهل أي علم أن يقدموا بين يديه قبل أن يشرعوا في كتابهم ، فعلى خطواتهم نسير ، وآثارهم نحاول أن نقتفي . نبدأ رحلتنا بالتعرف على تلك المقدمات ، أسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق والسداد ، كما أسأله سبحانه الإخلاص في القول والعمل . ولكن قبل البدء أذكركم بقول الشافعي : العلم صيد والكتابة قيده ***** قيد صيودك بالحبال الواثقة فمن البلاهة أن تصيد غزالة ***** وتفكها بين الخلائق طالقة ولذلك أرجو منكم تدوين عناصر هذه الدروس حتى يتحقق النفع إن شاء الله بسم الله نبدأ .. · تعريف السيرة لغةً واصطلاحاً : - تأتي السيرة في اللغة بمعانٍ متعددة ، منها : 1. السيرة بمعنى السنة : قال الشاعر : فلا تجزعنّ من سُنّةٍ أنت سِرتَها ********** فأول راضٍ سُنّةً من يَسِيرها وقوله ( أنت سرتها ) أي جعلتها سائرة في الناس . 2. السيرة : الطريقة : سار بهم سيرةً حسنة . 3. السيرة : الهيئة : قال تعالى (قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ) (طه 21) السيرة في الاصطلاح : ( حياة النبي - صلى الله عليه وسلم – وطريقته من يوم مولده إلى يوم وفاته ) · ضرورة تعلم السيرة النبوية : لقد حث السلف على تعلم سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم – ومغازيه ( أي سيرته ) ، وبيّنوا فضل تعلمها ومن أقوالهم في ذلك ما روي عن علي ( زين العابدين ) بن الحسين بن علي بي أبي طالب قوله : " كنا نُعَلّم مغازي النبي – صلى الله عليه وسلم - كما نُعَلّم السورة من القرآن " · الفوائد والثمرات المرجوة من دراسة السيرة النبوية : 2. توضح حياة النبي - صلى الله عليه وسلم – وتبيّنه كيف كان أباً وزوجاً وقائداً ومربياً وداعياً ....... إلخ ، ومن ثَمّ يجد الإنسان صورة للمَثَل الأعلى في كل شأن من شئون الحياة . 1. تُمكّننا من اتباع النبي – صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به . 3. التعرف على حياة الصحابة الكرام تأسياً بهم واتباعاً لهم ، فهم أفضل الخلق بعد الرسل – وصفهم عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - قائلاً " أبَرُّ الناس قلوباً ، وأعمقهم علماً ، وأقلهم تكلفاً ، فاعرفوا لهم حقهم ، واقتدوا بهديهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم " قاتل الله من عاداهم . 4. معرفة قَدْرِ النبي - صلى الله عليه وسلم – ومكانته ، وكيف أن الله – تبارك وتعالى – عصمه من الناس ، ومعرفة قدره تثمر حبه واتباعه . 5. الوقوف على التطبيق العملي لأحكام الإسلام التي تضمنتها الآيات والأحاديث في مجالات الحياة المختلفة . · وصف عام لحال البشرية قبل مبعث النبي – صلى الله عليه وسلم - : روى الإمام مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال " ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا ( قال الله تعالى ) : كل مالٍ نحلته عبداً حلالٌ ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحَرّمَت عليهم ما أحْلَلَتُ لهم ، وأمَرَتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب . وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك .. " فقوله " وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعَجَمَهُم ، إلا بقايا من أهل الكتاب " فيه إشارة إلى انحراف البشرية عن منهج الرسل ، فكثر الشرك والفساد وعَمّ الظلم وعُبِدت المخلوقات . · ومن صور الجهل والضلال الشديد الذي عُرف عن العرب قبل الإسلام : 1. ما رواه الإمام أحمد عن السائب بن عبد الله – وكان فيمن بني الكعبة في الجاهلية – قال : " ولي حَجَر نحته بيدي أعبده من دون الله ، فأجيء باللبن الخائر ( الذي اشتد وثخن ) الذي أنفسه على نفسي ( أي أبخل به ) فأصبه عليه ، فيجيء الكلب فيلحسه ثم يشغر ( يرفع إحدى رجليه ) فيبول .. " الحديث 2. وعن أبي رجاء العطاردي قال : " كنا نعمد إلى الرمل فنجمعه ، ونحلب عليه ، فنعبده ، وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده زماناً ثم نُلقيه " (1) نكتفي بهذا القدر ونكمل الدرس القادم إن شاء الله (1) محاضرات في السيرة النبوية المطهرة ، د.طه عبد المقصود عبد الحميد (ص5-7 بتصرف)
|
#2
|
|||
|
|||
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه– وبعد .. نكمل بمشيئة الله دروسنا وهذا هو الدرس الثاني نشأة مكة هاجر إبراهيم - عليه السلام - من العراق إلى الشام ، ثم إلى مصر . وكانت ترافقه زوجته سارّة وكانت امرأة جميلة ، وكان من عادة مَلِك مصر أن يستأثر لنفسه بكل امرأة جميلة ، وشاء الله أن يصرفه عن سارّة ، وتنقلب منه بجارية لتخدمها ، وهي هاجر أم إسماعيل - عليه السلام - . ولما كانت سارة عقيماً وطعن إبراهيم في السن وابيض شعره ، رأت أن تهب له هاجر ليتزوجها ، وشاء الله أن تلد هاجر إسماعيل . فاشتدت غيرة سارة بعدما ولدت هاجر إسماعيل ، فحلفت لتقطعن منها ثلاثة أعضاء ، فهربت هاجر بابنها مع زوجها ، ووضعهما إبراهيم عند مكان البيت الحرام وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ، ووضع عندها جراباً فيه تمر وسقاءً فيه ماء ، ثم رجع فتبعته هاجر قائلة : " يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء " وكررت كلامها وهو لا يلتفت لها ، فقالت له : آلله الذي أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا . فانطلق إبراهيم حتى إذا كان لا يُرى استقبل بوجهه مكان البيت ثم دعا قائلاً : (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) فلم يلبث أن نفد ما عند هاجر من ماء ، فعطشت هي وابنها وكرهت أن ترى ابنها يتلوى من العطش ، فانطلقت حتى قامت على أقرب جبل منها وهو الصفا ، ثم استقبلت الوادي فلما لم تر أحداً هبطت إلى الوادي ثم رفعت طرف ثوبها ، وسعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليه فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات - وذلك سعي الناس بينهما كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم – وفي نهاية المرة السابعة جاءها جبريل وأخذ يبحث بجَنَاحه عند موضع زمزم ، حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه ، وفي ذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم – " يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم " أو قال " لو لم تغرف من زمزم لكانت زمزم عيناً معيناً " . وبينما هي على هذا الحال ، مر بها أهل بيت من قبيلة جرهم اليمانية القحطانية وعندما وجدوا الماء استأذنوها في النزول عندها ، فأذنت لهم بشرط ألا يكون لهم نصيب في الماء فوافقوا وأرسلوا إلى بقية أهليهم فنزلوا معهم ولما شب الغلام ( إسماعيل عليه السلام ) تعلم العربية منهم – وكان أول نبي يتكلم العربية - فلما كبر زوجوه امرأة منهم فلما شكت حالهما إلى إبراهيم - في القصة المشهورة - طلب إبراهيم – عليه السلام - منه أن يطلقها فطلقها وتزوج غيرها صالحة . (1) وبهذا كانت الحياة في أرض مكة قبل نزول هاجر صحراء جرداء لا زرع بها ولا ماء ، ومن ذرية سيدنا إسماعيل جاء الحبيب محمد صلوات ربي وسلامه عليه . فائدة : لا شك أن جرهم اتبعت دين إبراهيم في عبادة الله وحده لاسيما أن سيدنا إسماعيل كان بين أَظْهُرِهم ، فما الذي وجّه الناس لعبادة الأصنام حتى وصل الأمر لما ذكرناه من أن الحياة قبل مبعث النبي – صلى الله عليه وسلم - قد انتشر فيها الفساد وعبادة الأوثان ؟ أول من جلب الأصنام لأرض مكة كان عمرو بن لُحَي الخزاعي من الشام ودعا الناس لعبادتها ، والنبي صلى الله عليه وسلم بيّن أنه رآه في المنام يجرّ قصبه في النار ، وأنه أوّل من سيّب السوائب التي ذكرها الله تعالى في كتابه (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) وهو تحريم ظهر الأنعام فلا يُحمل عليها شيء نذراً للأصنام فتسيب فلا تحبس عن مرعى ولا ماء ولا يركبها أحد ، وهذا تحريم ما لم يأذن به الله حتى لو لم يقترن بالنذر للأصنام ، وأما مع الاقتران فهو الشرك . (2) فائدة : القاعدة الأولى من القواعد الأربع للإمام محمد بن عبد الوهاب قال فيها : أن تعلم أنّ الكفّار الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقِرُّون بأنّ الله تعالى هو الخالِق المدبِّر، وأنّ ذلك لم يُدْخِلْهم في الإسلام، والدليل: قوله تعالى(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)[يونس:31] (3) انتهى ، فلننتبه رحمني الله وإياكم إلى أن نعبد الله على مراده وعلى سُنَّةِ رسوله ، ولنعلم أن من شروط قبول العمل أن يكون خالصاً صواباً ، يعني أن يكون خالصاً لله وحده – نسأل الله الإخلاص – وأن يكون صواباً على الهيئة التي جاء بها المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه . صفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان رسول الله من أحسن الناس وجهاً – قلت : بل أحسن الناس - ، أبيض اللون بياضاً مزهراً ، مستدير الوجه ، مَلِيحًهُ ، واسع الفم ، طويل شِق العينين ، رَجِلَ الشعر يصل إلى شحمة أذنيه ، وأحياناً بين أذنيه وعاتقه ، وقد يمتد حتى منكبيه أحياناً أخرى ، ولم يَشِب شعره الأسود إلا اليسير منه ، حيث قُدِّر شيبه في أواخر عمره بعشرين شعرة موزعة في الرأس وتحت الفم والصدغين ، ويميل اللون إلى الحمرة في بعض شعره من أثر الطِّيب . وكان متوسط القامة ، متوسط الوزن ، ليس بالنحيف ولا الجسيم ، عريض الصدر ضخم اليدين والقدمين ، مبسوط الكفين ، كفّاه لينتان ، قليل لحم العقبين ، يحمل في أعلى كتفه اليسرى خاتم النبوة وهو شعر مجتمع كالزُّرِّ . وهذه الصفات الجسمية تدل على جمال المظهر ، واكتمال الجسم وقدرته على النهوض بالواجبات العظيمة التي أنيطت به ، فلم ير أعداؤه في مظهره ما يعيبونه عليه أو يلقبونه به على سبيل الانتقاص ، وإضافة لحسن خِلقته وسلامة حواسه وأعضائه ، فقد اعتنى بمظهره من النظافة وحسن الهيئة والتطيب بالطيب . أما صفاته الخُلُقية ، فقد وصفه القرآن الكريم ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ، قالت أُمّنا عائشة – رضي الله عنها - : ( كان خلقه القرآن ) (4) نسبه الشريف ( صلى الله عليه وسلم ) نسب نبينا – صلى الله عليه وسلم – ينقسم إلى ثلاثة أجزاء : جزء اتفق عليه كافة أهل السير والأنساب ، وهو الجزء الذي يبدأ منه - صلى الله عليه وسلم – وينتهي إلى عدنان . وهذا النسب كما ذكره البخاري في صحيحه – كتاب مناقب الأنصار ، قال : " محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصي بن كلاب بن مُرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خُزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مُضَر بن نِزار بن مَعَدّ بن عدنان " وجزء آخر كثر فيه الاختلاف، حتى جاوز حد الجمع والائتلاف، وهو الجزء الذي يبدأ بعد عدنان وينتهي إلى إبراهيم عليه السلام فقد توقف فيه قوم، وقالوا: لا يجوز سرده، بينما جوزه آخرون وساقوه. إلا أن الجميع متفقون على أن عدنان من صريح ولد إسماعيل عليه السلام. أما الجزء الثالث فهو يبدأ من بعد إبراهيم عليه السلام وينتهي إلى آدم عليه السلام، وجل الاعتماد فيه على نقل أهل الكتاب، وعندهم فيه من بعض تفاصـيل الأعمـار وغيرهـا ما لا نشك في بطلانه، بينما نتوقف في البقية الباقية. (5) شرف النسب النبوي روى مسلم في صحيحه عن واثلة بن الأسقع قال : سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " فائدة : وقد اجتهد بعض الباحثين في استخراج الحكمة من شرف النسب النبوي فقالوا : لقد كان ومازال شرف النسب له المكانة في النفوس ، لأن ذا النسب الرفيع لا تنكر عليه الصدارة ، نبوة كانت أو ملكاً ، ويُنْكَر ذلك على وضيع النسب فيُعرِض الكثير من الانضواء تحت لوائه والطاعة له . (6) الواجب الأُسْبُوعي س1 : من أول من دعا الناس لعبادة الأصنام ؟ س2 : على أي شيء تنص القاعدة الأولى من القواعد الأربع للإمام محمد بن عبد الوهاب ؟ س3 : ما هي الحكمة - التي استنبطها العلماء - من شرف نسب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ نكمل الدرس القادم سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك (1) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، د.مهدي أحمد (ص47-49 بتصرف)
(2) السيرة النبوية الصحيحة ، د.أكرم ضياء العمري (ص83 بتصرف) (3) القواعد الأربع ، الإمام محمد بن عبد الوهاب (4) السيرة النبوية الصحيحة ، د.أكرم ضياء العمري (ص88-89 بتصرف) (5) الرحيق المختوم (ص49-50) (6) محاضرات في السيرة النبوية المطهرة ، د.طه عبد المقصود عبد الحميد (ص23) |
#3
|
|||
|
|||
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه– وبعد .. نكمل بمشيئة الله دروسنا وهذا هو الدرس الثالث مولده - صلى الله عليه وسلم – وقد صح أن مولده – صلى الله عليه وسلم – كان في يوم الاثنين ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن أعرابياً قال : يا رسول الله ، ما تقول في صوم يوم الاثنين ؟ فقال : " ذاك يوم وُلِدت فيه ، وأُنزل عليّ فيه " ، وتفيد أقوى الروايات التي وصلت إلينا أن مولده كان عام الفيل ، وقد اختلف المؤرخون في تاريخ يوم مولده وشهره ، فقيل في ربيع الأول واختلف في أي يوم منه ، وهذا مما يؤكد بدعية الاحتفال بالمولد النبوي ، والأصل أنه لم يحتفل به صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة ولا التابعين ، ولكن السُنّة في ذلك هي صوم يوم الاثنين من كل أُسبوع كما كان يفعل – صلى الله عليه وسلم – فهلّا يعقل المبتدعة ذلك ؟ إرهاصات النبوة ما صح منها وما لم يصح حكت كتب السيرة الكثير من العلامات التي وقعت يوم مولده أو قبله أو بعده تدل على نبوته – صلى الله عليه وسلم ، منها ما صح ومنها ما هو غير صحيح أولاً : ما صح من إرهاصات ( أي علامات ) نبوته صلى الله عليه وسلم 1 – النور الذي خرج من أمه – صلى الله عليه وسلم : روى أحمد في مسنده بإسناد حسن ، والحاكم في المستدرك - وقال صحيح ووافقه الذهبي – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام " . قال بن رجب رحمه الله : مبيناً الحكمة من خروج النور : " وخروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض ، وزالت به ظلمة الشرك منها كما قال تعالى " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) (المائدة) . 2 – خروج نجمه : روى بن إسحاق بإسناد حسن عن حسان بن ثابت قال " والله إني لغلام يفعة ( وهو الذي شب ولم يبلغ ) بن سبع سنين أو ثمان أعقل كل ما سمعت ، إذ سمعت يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمة ( أي حصن ) يثرب : يا معشر يهود ! حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له : ويلك مالك ؟! قال : طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به " 3 – ومن الإرهاصات التي ذكرها العلماء أيضاً حادث الفيل – ذكر هذا الماوردي ، بن تيمية وبن كثير – قالوا أن هذا الحادث لم يقع نصراً لقريش ولا تشريفاً لهم ، لأنهم يومئذ مشركين ، وإنما كان تشريفاً للبيت وللنبي صلى الله عليه وسلم ، وحتى لا يجري على النبي السبي حملاً ووليداً ، لأن أبرهة وجيشه لو انتصروا لَسَبُوا النساء والأطفال . ثانياً : ما لا يصح من علامات وليس فيها حديث ثابت 1 – أن أمه آمنة لم تجد مشقة في وضعه . 2 – أنه وقع معتمداً على يديه ، رافعاً رأسه إلى السماء . 3 – أنه ولد مختوناً مسروراً ( قطعت سرته ) . 4 – أنه لم ير أحدٌ سوأته . 5 – انفلاق البُرمة التي وضعها النساء عليه نصفين ، والبُرمة هي قِدر من الحجارة . 6 – مناغاته القمر وإشارته إليه بإصبعه . 7 – خرور ( أي وقوع ) كثير من الأصنام على وجهها وسقوطها من أماكنها . 8 – ارتجاس إيوان كسرى ( أي زلزلته ) وسقوط شرفاته . 9 – خمود نيران المجوس ، ولم تخمد قبل ذلك منذ ألف سنة . 10 – أن بحيرة ساوة غاضت ، وانهدمت الكنائس من حولها . 11 - رؤيا الموبذان ( حاكم المجوس ) ، حيث رأى إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً ، وقد قطعت دجلة ( النهر ) وانتشرت في بلادها . كل ذلك من العلامات لا يصح ولم يثبت فيه حديث . أسماء النبي – صلى الله عليه وسلم – وكنيته عن محمد بن جُبير بن مُطعم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لي خمسة أسماء : أنا محمد وأحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب " وقوله " وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي " أي على أَثَري ، إشارة إلى أنه ليس بعده نبي ، وقوله " وأنا العاقب " أي " أنا الذي ليس بعدي نبي " وقد ذكر العلماء أسماء كثيرة منها ما ورد في القرآن مثل ( المزمل، المدثر، الهادي، الشهيد، النذير ) وغيرها مشهور مثل ( المصطفى، الصادق، الشفيع، المشفع ) والحقيقة أن أكثر ما ذكر ألقاب وصفات وليست أسماء ، وأما كنيته فهي ( أبو القاسم ) ، وقد ورد في البخاري عن جابر – رضي الله عنه - قال : ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم ، فقالوا لا نكنيه حتى نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال " سمّوا باسمي ولا تَكَنّوا بكنيتي " وقال بعض العلماء أن النهي يختص بحياته صلى الله عليه وسلم ، ولكن بعد مماته فلا حرج . رضاعه – صلى الله عليه وسلم – لقد صح أن ثويبة – مولاة أبي لهب – أرضعته وكانت أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وأرضعت بعده أبا سلمة المخزومي ، فهما أخواه من الرضاعة . وأما رضاعه من حليمة السعدية (سميت بالسعدية لأنها من بني سعد) والذي رُوي عن بن إسحاق فقد قال بعض العلماء بعدم ثبوتها وضعّف الإمام الألباني الخبر ، غير أن رضاعه في بني سعد ثابت من الأحاديث ، وكذلك حادثة شق الصدر – والتي سنتكلم عنها لاحقاً إن شاء الله – حدثت في بني سعد . فائدة : الحكمة من الرضاعة في البادية : نشأة الطفل في البادية سبيل الصحة لهوائها الطلق وشمسها الساطعة ، والبادية سبيل لسلامة الفطرة وصفاء الفكر لخلوها من أدواء (جمع داء) المدينة التي تلوث الفطرة ، والبادية تربي الطفل على الخشونة والشجاعة والاعتماد على النفس .ولماذا في بني سعد ؟ لأنهم كانوا مشهورين بالفصاحة والبيان وهذا مهم لنبي سيُبعث في قوم أهل فصاحة وبيان . يُتْمِه - صلى الله عليه وسلم – فائدة : توفي والده وهو في بطن أمه ، وقضى معظم طفولته الأولى في بني سعد ، ثم ما لبث أن توفيت أمه ، وبعدها بمدة يسيرة توفي جده عبد المطلب وقد قال بعض العلماء في حكمة ذلك منها : حتى لا يكون للمشككين والمبطلين سبيل أن يقولوا أن محمداً – صلى الله عليه وسلم – أُرشد منذ الصغر لاصطناع النبوة حتى يستكمل مجد قومه ، كذلك من الحكم أن يكون يُتمه أسوة للأيتام في كل مكان وزمان أن اليتم ليس نقمة وأنه لا يجب أن يقعد بصاحبه عن بلوغ أسمى المراتب . معجزة شق الصدر وقعت أحداث شق صَدْر النبي – صلى الله عليه وسلم – وغسله ولَأْمِهِ مرتين ، الأولى عندما كان طفلاً في الرابعة – وقيل في الخامسة – من عمره ، يلعب في بادية بني سعد ، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه حادثة الشق الأولى عن أنس بن مالك " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقةً فقال : هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طَسْت من ذهب بماء زمزم ، ثم لَأَمه ، ثم أعاده في مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعني مرضعته – فقالوا إن محمداً قد قُتل ، فاستقبلوه وهو منتقع اللون . قال أنس : وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره . أما المرة الثانية التي وقع فيها شق صدره صلى الله عليه وسلم فكانت ليلة الإسراء . فائدة : الحكمة من شق الصدر : ليشب على الإيمان والتقوى – إعداده لتحمل النبوة – تطهيره من حالات الصبا واتصافه بصفات الرجولة الصادقة – إعداده للعصمة من الشر – عناية الله تعالى به وحفظه له وأنه ليس للشيطان عليه سبيل . موقف الكُتّاب من الحادثة انقسموا لثلاث فرق ، فمنهم من أثبتها وهم الأكثرون ، ومنهم من أنكرها وأكثرهم من المستشرقين ، وقالوا كيف يأتي بماء زمزم وهو في البادية ، وقالوا كيف يرى أنس أثر المخيط في صدره مع أن خياطة المَلَك لا يُرى لها أثر ؟ ومنهم من أوّلها وقال بالمجاز . والرد عليهم يكون بأنها ثبتت بنص صحيح منسوب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وميزان قبولنا للخبر هو ثبوت الرواية وصحتها ، كما أن راوي الحديث رأى أثر هذا التدخل الجراحي الملائكي . ومن الدروس المستفادة في هذه الحادثة : أن نحرص على سلامة العقيدة وحسن التوجه لله مما يجعلنا قريبين من الله عز وجل – كما ينبغي الأخذ بالأسباب من توبة ودعاء والاستغفار لتطهر قلوبنا – لابد من التخلية قبل التحلية ( فلن تستمتع بسماع القرآن إلا بعد أن تنقي أذنك من سماع الأغاني ) – وجوب تصديق النبي في كل ما يصح عنه – قدرة الله المطلقة – لا يلزم لنا أن تشق صدورنا حتى تطهر قلوبنا بل بالذكر والدعاء والتوبة وقراءة القرآن والعبادة تطهر قلوبنا ويصلح حالنا . أبو النبي وأمه – صلى الله عليه وسلم – أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال : زار النبي – صلى الله عليه وسلم – قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : " استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي . واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزورا القبور ، فإنها تذكر الموت " قال النووي : " في الحديث جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة ، لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى ، وفيه نهي عن الاستغفار للكفار " وروى مسلم عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رجلاً قال : يا رسول الله ، أين أبي ؟ قال : " في النار ". فلما قفَّى (يعني ولّى) دعاه فقال : " إن أبي وأباك في النار " ولا عجب في أن يكون أبو النبي وأمه وجده في النار لأن قريشاً كانت تعبد الأوثان وقد بلغهم دعوة إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم " يا فاطمة بنت رسول الله اعملي فلن أُغنِ عنك من الله شيئاً " ونحن رحمني الله وإياكم علينا أن نعمل ولا نغتر بمال ولا جاه ولا سلطان ولا حسب ولا نسب ، فإن كان أقرب الناس لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - نسباً لم يشفع لهم قرابته في أن يغفر الله لهم أن كانوا مشركين فكيف بمن هو دونهم . رعيه – صلى الله عليه وسلم – الغنم في أول شبابه روى البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " ما بعث الله نبياً إلا رَعَى الغنم " فقال أصحابه : وأنت ؟ فقال : " نعم ، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة " فائدة : قال النووي رحمه الله في شرح حديث جابر – رضي الله عنه - : " والحكمة في رعاية الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – لها (أي الغنم) ليأخذوا أنفسهم بالتواضع، وتصفى قلوبهم بالخلوة، ويترقوا من سياستها بالنصيحة إلى سياسة أممهم بالهداية والشفقة، والله أعلم " ومن الدروس المستفادة من هذا الجانب : الحرص على ما يربي الأخلاق الفاضلة – ليست الرفاهية إكراماً، وليس عدم العمل عِزاً . الواجب س1 ما هي الإرهاصات التي صحت مدعماً كلامك بالدليل ؟ س2 اذكر أسمائه – صلى الله عليه وسلم – التي وردت في الحديث . س 3 كيف ترد على من أنكر حادثة شق صدره – صلى الله عليه وسلم - ؟ نكمل الدرس القادم إن شاء الله سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك |
#4
|
|||
|
|||
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه– وبعد .. نكمل بمشيئة الله دروسنا وهذا هو الدرس الرابع سفره إلى الشام وقصة بحيرى الراهب ولما بلغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عشر سنوات - وقيل اثنتي عشرة سنة – ارتحل به أبو طالب تاجراً إلى الشام، حتى وصل إلى بُصْرى ، وكانت في ذلك الوقت من البلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان ، وكان في هذا البلد راهب عُرف ببحيرى، فلما نزل الركب خرج إليهم، وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال : هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال أبو طالب وأشياخ قريش : وما علمك بذلك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خرّ ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، ثم أكرمهم بالضيافة، وسأل أبا طالب أن يردّه، ولا يقدم به إلى الشام، خوفاً عليه من الروم واليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة. رواه الترمذي، وقد حسنه الترمذي وصححه الحاكم والألباني وابن حجر وغيرهم موقف المستشرقين من الحادثة والرد عليهم : زعموا أن النبي – صلى الله عليه وسلم – تلقى علم التوراة من بحيرى، وأنه خرج على الناس يدعو لدينه الجديد الذي لفقه من اليهودية والنصرانية، والرد عليهم أنه كيف يُعقل ذلك وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – في سن الثانية عشرة، فكيف يتلقى علم التوراة في هذه السن، وهو لا يحسن القراءة والكتابة، فضلاً عن حاجز اللغة، إذ لم يكن قد وُجد في ذلك الوقت توراة ولا إنجيل باللغة العربية، ثم ما الذي أخذه النبي – صلى الله عليه وسلم - ؟ هل هي عقيدة التثليث ؟ أم غيرها من عقائد النصارى التي جاء الإسلام بهدمها ؟ ثم لماذا لا يتبعه نصارى اليوم وقد تتلمذ – بزعمهم - على يد سيدهم ؟ مشاركته في الأمور العامة وبالرغم من اعتزاله – صلى الله عليه وسلم – عبادة الأوثان وتجنبه منكرات الجاهلية وفواحشها، فإنه لم يكن بمعزل عن أحداث وطنه ومجتمعه، ولم يكن منطوياً على نفسه، منكباً على ذاته، وإنما كان يتابع الأحداث والوقائع، ويشارك فيها بحكمة بما لا يؤثر بالسلب في نفسه السامية وروحه الصافية، وفي الوقت ذاته يعود على مجتمعه وبني وطنه بالخير والنفع. ومن الأحداث التي شارك فيها فترة شبابه : حرب الفجار – حلف الفضول – تجديد بناء الكعبة 1 - حرب الفِجار : وقعت في السنة العشرين من عمره – صلى الله عليه وسلم – في سوق عكاظ، بين قريش وكنانة من جهة وبين قيس عيلان ومعها ثقيف من جهة أخرى، وسببها أن أحد بني كنانة اغتال ثلاثة رجال من قيس، ووصل الخبر إلى عكاظ فثار الطرفان، وقد تداعى بعض قريش إلى الصلح، على أن يحصلوا قتلى الفريقين، فمن وُجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد، فاصطلحوا على ذلك ووضعوا الحرب، وقد سميت بالفِجار لوقوعها في أحد الأشهر الحرم، وقد حضرها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان يُنبّل على عمومته ( أي يجهز لهم النبل للرمي )، وقد روى بن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم – ذكر الفجار فقال : "قد حضرته مع عمومتي، ورميت فيه بأسهم، وما أُحبُ أني لم أكن فعلت " 2 - حِلف الفُضُول : (وسُمِيَ بالمُطيبين ) حدث في العام نفسه الذي وقعت فيه حادثة حرب الفجار، بعدها بأربعة أشهر، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه " أخرجه أحمد والبخاري ، وهو تحالف على نصرة المظلوم، ورد حقوقه. 3 - زواجه من خديجة : لا يوجد روايات ثابتة صحيحة تحدد تفاصيل زواجه – صلى الله عليه وسلم – من خديجة، بل كلها روايات غير صحيحة، ولكن الثابت في الروايات الصحيحة زواجه – صلى الله عليه وسلم – بخديجة رضي الله عنها، وثناء النبي عليها وإظهاره محبتها وتأثره عند ذكرها بعد وفاتها، ومواقفها في طمأنته عند نزول الوحي عليه ومسارعتها للإيمان به، ومما اتفق عليه أهل العلم أنها أولى أزواجه، وقد أنجبت منه ذكرين هما القاسم وعبد الله، وأربع بنات هن زينب وأم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية، فأما القاسم وعبد الله فماتا قبل الإسلام، وأدركت البنات الإسلام فأسلمن، وقد توفيت خديجة قبل هجرة النبي إلى المدينة بثلاث سنين. الحكمة من موت أولاده الذكور صغاراً : قالوا لقد ذاق النبي – صلى الله عليه وسلم – مرارة فقد الأبناء، كما ذاق مرارة فقد الأبوين، وقد شاء الله تعالى – وله الحكمة البالغة – أن لا يعيش له – صلى الله عليه وسلم - أحد من الذكور، حتى لا يكون مدعاة لافتتان بعض الناس بهم، وادعائهم لهم النبوة، فأعطاه الذكور تكميلاً لفطرته البشرية، وقضاءً لحاجات النفس الإنسانية، ولئلا ينتقص النبي – صلى الله عليه وسلم – في كمال رجولته شانئ، أو يتقول عليه مُتقول، وأيضاً ليكون ذلك عزاءً وسلوى للذين لا يُرزقون البنين، أو يُرزقون ثم يموتون، وقيل وقد تكون الحكمة ليفرغ قلبه – صلى الله عليه وسلم – من التعلق بشيء إلا من محبة الله عز وجل، فيكون كامل العبودية له سبحانه وتعالى. 4 - مشاركته في بناء الكعبة : ولخمس وثلاثين سنة من مولده – صلى الله عليه وسلم – قامت قريش ببناء الكعبة، وذلك لأن الكعبة كانت رَضْماً ( أي حجارة عظيمة ) فوق القامة، ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل عليه السلام، ولم يكن لها سقف فسرق أحد اللصوص كنزها الذي كان في جوفها، وكانت قد تصدعت جدرانها لمرور الزمن عليها، وقبل مبعثه – صلى الله عليه وسلم – بخمس سنين جرف مكة سيل أوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها، واتفقوا على ألا يُدخلوا فيها إلا طيب ( يعني من المال )، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمساً، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، ولكنهم اتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم من باب المسجد، وشاء الله أن يكون ذلك رسوله – صلى الله عليه وسلم – فلما رأوه هتفوا : هذا الأمين، رضيناه، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع عليه الحجر وطلب من رؤساء القبائل أن يمسكوا جميعاً بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه. بشارات النبوة ولما بلغ – صلوات ربي وسلامه عليه – أربعين سنة، بَدَأَت آثار النبوة تلوح له، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستة أشهر، روى البخاري من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت : " أول ما بُدئ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء .. " والحكمة من البدء بالرؤيا حتى يكون تمهيداً لما سيحدث في اليقظة، وقبل ذلك كان تسليم الحجر عليه كما في حديث جابر بن سمرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : " إني لأعرف حجراً بمكة كان يُسلم عليّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن " ، وكذلك عند بناء الكعبة ونقل الحجارة مع عمه العباس رفع إزاره ليضعه على كتفه ليتقي به الحجارة، فسمع صوتاً يقول له " اشدد عليك إزارك " وهو في صحيح البخاري. جبريل ينزل بالوحي روى البخاري من حديث عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت : " أول ما بدئ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه ( أي يتعبد ) الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ . قال : فأخذني فغطّني ( ضمني وعصرني ) حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني فقال : اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) فرجع بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها – فقال : زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتَكْسِبُ المعدوم، وتَقْري الضيف، وتُعين على نوائب الحق. فانطلقت بها خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى – بن عم خديجة – وكان امرءاً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي. فقالت خديجة : يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة : يا ابن أخي، ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خبر ما رأى، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، ياليتني فيها جَذَعَاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : أومخرجي هم ؟ قال : نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب أن تُوفي، وفَتَرَ الوحي " والحكمة من غطّ جبريل للنبي : شغله عن الالتفات لشيء آخر – إظهار الجد في الأمر – وقيل غير ذلك. الحكمة من البدء بهذه الآيات : ويظهر فيها مقاصد القرآن ففيها التوحيد من صفات الأفعال والذات، وفيها الأحكام ( اقرأ )، وفيها الإخبار ( علّم الإنسان ما لم يعلم )، كما يظهر فيها مكانة القراءة والعلم في الإسلام حيث كان أول أمر من الله تعالى ( اقرأ ) . فائدة : في قول خديجة ( أبشر والله، ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم ... ) فيه استحباب تأنيس من نزل به أمر بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه – وأن من نزل به أمر استحب له أن يُطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه. لماذا قال ورقة ( هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى ) ولم يقل عيسى ؟ المراد بالناموس هنا جبريل، قال بن حجر : وقول ورقة ( موسى ) ولم يقل عيسى مع كونه نصرانياً : 1 – لأن كتاب موسى – عليه السلام – مشتمل على أكثر الأحكام، وكذلك النبي – صلى الله عليه وسلم - بخلاف عيسى. 2 – أو لأن موسى بُعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى، وكذلك وقعت النقمة على يد رسول الله – صلى الله عليه وسلم بفرعون هذه الأمة، وهو أبو جهل. 3 – أو قاله تحقيقاً للرسالة، لأن نزول جبريل – عليه السلام – على موسى مُتفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى، فإن كثيراً من اليهود ينكرون نبوته. هل يدل قول ورقة بن نوفل " وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً " على أنه أسلم ؟ روى أبو يعلى – بإسناد حسن كما قال بن كثير – عن الشعبي عن جابر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سئل عن ورقة بن نوفل، فقال : قد رأيته، فرأيت عليه ثياباً بياض، في بطنان الجنة ( أي وسطها ) وعليه السندس " فَتْرةُ الوحي أي انقطاعه ، وكانت أياماً على أصح الروايات، والحكمة من ذلك – كما قال بن حجر – ليذهب ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – وجده من الروع، وليحصل التشوف ( أي التطلع ) إلى العودة، فلما حصل له ذلك وأخذ يرتقب مجيء الوحي أكرمه الله به مرة ثانية. عودة الوحي روى البخاري عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة، فقلت دثروني، وصبوا عليّ ماءً بارداً. قال فدثروني وصبوا عليّ ماءً بارداً، فنزلت : (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) الواجب س1 ما هو موقف المستشرقين من قصة بحيرى وكيف يكون الرد عليهم ؟ س2 ما هو أول ما بدئ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوحي ؟ اذكر الحديث . س 3 لماذا قال ورقة ( ذلك الناموس الذي نزّل الله على موسى ) ولم يقل عيسى ؟ نكمل الدرس القادم
سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك |
#5
|
|||
|
|||
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه– وبعد .. نكمل بمشيئة الله دروسنا وهذا هو الدرس الخامس مراتب الوحي وهي سبعة كما ذكرها بن القيم : أولاً : الرؤيا الصالحة الصادقة : بأن يخاطب النبي في المنام، وقد سبق الكلام عنها. ثانياً : ما كان يلقيه المَلك في رُوعه من غير أن يراه : وهو الإلهام، روى أبو نعيم – بإسناد صحيح – عن أبي أمامة قال : قال – صلى الله عليه وسلم – " إن روح القدس نَفَثَ في رُوعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب .. " الحديث. ثالثاً : أنه – صلى الله عليه وسلم – كان يتمثل له المَلك رجلاً فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له : وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً، روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب قال " بينما نحن جلوس عند رسول الله، إذ طلع علينا رجل، شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر .. " الحديث. رابعاً : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس (أي مثل صوته في القوة) : وكان أشده عليه فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرودة، وحتى إن راحلته لتبرك في الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضُّها – يعني تكسرها. خامساً : يرى المَلك في صورته التي خُلق عليها : فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وقد وقع هذا مرتين، فقد روى الترمذي عن عائشة قالت " لم ير محمدٌ جبريل في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في جِياد، له ستمائة جناح، سدّ الأفق ". سادساً : ما أوحاه الله وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها. سابعاً : كلام الله له منه إليه، بلا واسطة مَلَك : كما كلّم الله موسى بن عمران. وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى – عليه السلام - قطعاً بنص القرآن، وثبوتها لنبينا – صلى الله عليه وسلم – هو في حديث الإسراء. مرحلة الدعوة السرية استمرت ثلاث سنوات - وقيل أربع – وسندرجها في سمات عامة إن شاء الله : السمة الأولى : كانت سرية : ابتدأت من نزول ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) إلى نزول قوله سبحانه وتعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) وقوله عزّ وجل : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) وقد انتهت هذه المرحلة حينما صار للمسلمين من العدد ما يستعصي على الإفناء إذا قيس هذا العدد إلى المجتمع المكي آنذاك من جهة، وإذا قيس بنوعيته من جهة أخرى. فائدة : الحكمة في بدء الدعوة سراً : قال صاحب الرحيق : لمّا كان قومه – صلى الله عليه وسلم – جُفاة لا دين لهم إلا عبادة الأصنام والأوثان، ولا حُجة لهم إلا أنهم أَلْفَوْا آباءهم على ذلك، ولا أخلاق لهم إلا الأخذ بالعزة والأنَفَة، ولا سبيل لهم في حل المشاكل إلا السيف، وكانوا مع ذلك متصدرين للزعامة الدينية في جزيرة العرب، ومحتلين مركزها الرئيسي، ضامنين حفظ كيانها، فقد كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية، لئلا يُفاجئ أهل مكة بما يُهَيّجُهم. عبر وعظات : 1 – إن في إلهام الله تعالى لرسوله – صلى الله عليه وسلم – بأن يبدأ الدعوة سراً، تعليماً للدعاة في كل زمان ومكان، وإرشاداً لهم إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تُتخذ من أجل الوصول إلى غايات الدعوة، مع التوكل على الله تعالى. 2 – أجمع جمهور الفقهاء على أن المسلمين إذا كانوا من قلة العدد أو ضعف العدة بحيث يغلب على الظن أنهم سيُقتلون من غير أي نكاية في أعدائهم إذا ما أجمعوا على حربهم، فينبغي أن تقدم هنا مصلحة حفظ النفس، لأن المصلحة المقابلة، وهي مصلحة حفظ الدين، موهومة أو منفية الوقوع، وفي حقيقة الأمر هي - أي حفظ النفس - مصلحة دين، إذ أن هلاك المسلمين يعتبر إضراراً بالدين ذاته وفسحاً للمجال أمام الكافرين ليقتحموا ما كان مسدوداً أمامهم من السبل. السمة الثانية : قيام الدعوة في هذه المرحلة على الاصطفاء : وتقدير النبي - صلى الله عليه وسلم – لطبيعة المدعو، فكان يختار من يدعوهم، ويتحرى الدقة والحذر والحيطة في الاختيار، وذلك لأن هؤلاء المستجيبين للدعوة آنذاك هم الذين تقع عليهم أعباؤها ومسؤولياتها، فلابد أن يكونوا من خيار المجتمع، صدقاً واعتدالاً، ومروءة ونخوة واستقامة، حتى يكونوا أهلاً للقيام بتبليغ الدعوة وتحملها بكل تجرد ونكران ذات، ومن ناحية أخرى كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعلم أن أي خلل في التصرف أو تسرب أية معلومة يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية من شأنها أن تؤثر على تقدم الدعوة ومستقبلها. وقد كانت اللبنات الأولى للدعوة من خيرة أفراد الأمة جميعها، فَهُم (خديجة بنت خويلد – أبو بكر الصديق – علي بن أبي طالب – زيد بن حارثة). السمة الثالثة : كانت الدعوة في هذه المرحلة لكل فئات المجتمع وطبقاته : فقد انضم إلى الإسلام في تلك الفترة نماذج من كل الفئات : الأحرار والعبيد، الرجال والنساء، والشباب والفتيان والشيوخ، ولا تكاد تخلو عشيرة في مكة من شخص شارك في بناء الدعوة الجديدة. ~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~ وقد رأيت أنه من الأهمية بمكان أن أذكر ما سيأتي في هذه السطور، أولاً : من هو الصحابي ؟ قال بن حجر " وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم – مؤمناً به ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روي عنه أو لم يرو، ومن غزا معه أو لم يغزُ، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى " ثانياً : الصحابة كلهم عدول. قال بن حجر أيضاً " اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة " ثالثاً : معنى العدل : هو وصف في الشخص يقتضي الاستقامة في الدين والمروءة، فاستقامة الرجل في دينه ومروءته تسمى عدالة. وقد روى الخطيب بسنده عن أبي زرعة الرازي قال " إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وما جاء به حق وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابةُ ". انتهى، ولقد رضي الله تعالى عن الصحابة فقال في كتابه (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فإياكم ثم إياكم وسَبُّ الصحابة، لا تسبوا معاوية ولا عمرو بن العاص ولا أبا سفيان ولا أحد من الصحابة، ولا يغرنكم ما يقال هنا أو هناك، واعلموا أن حبهم دين. هذا ما أردت تبيينه والتحذير منه، والله المستعان وعليه التكلان. ~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~ السمة الرابعة : التركيز على بناء توحيد الله سبحانه وتصحيح العقيدة وتزكية النفوس بمكارم الأخلاق : لأن العقيدة الصحيحة هي التي ينبثق منها العبادة الصحيحة والسلوك الصحيح، وهي التي تضمن في الوقت نفسه الثبات على الحق، وتحمل الأذى في سبيله. ويروي الإمام أحمد في مسنده : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يأمر بعبادة الله وحده، لا شريك له، ونبذ عبادة الأوثان، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وذلك منذ قيامه بأمر الدعوة. وكان – صلى الله عليه وسلم – يأمر كذلك بالصلاة. نستخلص من هذه السمة أن كل داعٍ إلى الله يبدأ دعوته بغير توحيد الله تعالى، فقد أخطأ الطريق، فالتوحيد هو أصل دين الإسلام، وهو حق الله تعالى على العبيد. السمة الخامسة : تشريع الصلاة مثنى مثنى : قال بن حجر : " كان – صلى الله عليه وسلم – قبل الإسراء يصلي قطعاً، وكذلك أصحابه، ولكن اختُلف : هل فُرض شيء قبل الصلوات الخمس من الصلوات أم لا؟ فقيل : إن الفرض كانت صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " وذَكَرَ بن هشام أن النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه كانوا إذا حضرت الصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، وقد رأى أبو طالب النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلياً يصليان مرة، فكلمهما في ذلك، ولمّا عرف جلية الأمر أمرهما بالثبات "وكانت قبلتهم بيت المقدس. السمة السادسة : تعدد أماكن الدعوة في هذه الفترة، قبل دار الأرقم : 1 - في بيته – صلى الله عليه وسلم - : ومن أمثلة ذلك ما رواه الإمام أحمد عن بن عباس – رضي الله عنهما - قال : بينما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بفناء بيته بمكة جالس إذ مرّ عثمان بن مظعون، فتبسم إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – له : ألا تجلس ؟ قال : بلى. فجلس .. ودعاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى الإسلام وأسلم " . 2 – في شِعْب مكة : ومن أمثلة ذلك ما يرويه سعد بن أبي وقاص أنه قد بلغه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدعو إلى الإسلام مستخفياً، فلقيه في شِعْب أجياد (جبل مكة) فأسلم. ثم كان يلتقي مع الصحابة – رضي الله عنهم – في شِعَاب مكة. 3 – في جبل حراء : كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يجتمع بأصحابه وبمن يستشف منه قبولاً للدعوة في جبل حراء. 4 – في أمكان أخرى منها الحرم : ولعل ذلك كان في مرحلة متقدمة بعض الشيء حيث يحكي عمرو بن عَبْسَة أنه لقي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالبيت، يقول : فتلطفت له فدخلت عليه، فقلت : ما أنت؟ قال : أنا نبي الله. فقلت : وما نبي الله؟ قال : رسول الله. قلت : آلله أرسلك؟ قال : نعم. قلت : بأي شيء أرسلك؟ قال : بأن يوحد الله، وأن لا يشرك به شيء، وكسر الأوثان، وصلة الرحم. فقلت له : نِعْمَ ما أرسلك به، فمن معك على هذا؟ قال : حُرّ وعبد وإذا معه أبو بكر بن أبي قحافة وبلال مولى أبي بكر. قلت : إني متبعك، فأمره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يرجع إلى أهله بعد أن أسلم، لأنه لا يزال مستخفياً بالإسلام، ولم يؤمر بإظهار الدعوة، وقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – " فإذا سمعت بي قد ظهرت فالحَقْ بي " دار الأرقم بن أبي الأرقم اتجه فكر النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد أن زاد عدد المسلمين – إلى اختيار مكان يجمع ذلك العدد الكبير، حتى يلتقي بهم، ويثبت فيهم عقيدة الإسلام وأركانه وأخلاقه وآدابه، ويملأ قلوبهم اليقين بهذا الدين، فوقع اختياره على دار (الأرقم بن أبي الأرقم) لتكون مقراً غير معلن للمستجيبين من المؤمنين. ويبدو أن اتخاذ هذه الدار مقراً جاء بعد المواجهة الأولى التي حدثت بين المسلمين والمشركين ، قال بن إسحاق " وكان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – في نفر من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلحى بعير فشجّه، فكان أول دم أُهريق في الإسلام" فائدة : الحكمة من اختيار دار الأرقم : 1 – فهي تقع أسفل جبل الصفا وكانت بمعزل عن مجالس قريش مما يجعلها بعيدة عن أنظار القوم ومن ثَمّ تكون محاطة بالسرية . 2 – لم يكن الأرقم قد أعلن إسلامه ومن ثَمّ لم يخطر ببال قريش أن يتم لقاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأصحابه في هذه الدار. 3 – كما أن الأرقم كان شاباً في حدود السابعة عشرة من عمره، ويوم أن تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع لا يُتوقع أن تبحث في بيوت الصغار من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – 4 – كان الأرقم من بني مخزوم التي كانت تحمل لواء الحرب ضد بني هاشم . نخلص من حديثنا عن مرحلة الدعوة السرية وكثير من الحكم التي ذكرت سابقاً أنه يجب على المسلمين عامة والدعاة خاصة أن يتحلوا بالحكمة في كل شؤونهم ويتعاملوا مع معطيات واقعهم، والله المستعان وعليه التكلان. الواجب س1 اذكر مراتب الوحي التي ذكرها بن القيم . س2 ما هي الحكمة من بدء الدعوة الإسلامية سراً . نكمل الدرس القادم إن شاء الله سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك
|
#6
|
|||
|
|||
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه– وبعد .. نكمل بمشيئة الله دروسنا وهذا هو الدرس السادس الجهر بالدعوة الإسلامية لما تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون، وتتحمل عبء تبليغ الرسالة، نزل الوحي يُكلّف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بإعلان الدعوة، روى البخاري عن بن عباس – رضي الله عنهما – قال : ( لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صعد النبي – صلى الله عليه وسلم – على الصفا، فجعل ينادي : يا بني فِهر، يا بني عَدِي – لبطون قريش – حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطيع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصدّقي ؟ قالوا : نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً. قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) . وأخرج الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : ( لما نزلت هذه الآية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قريشاً، فعمّ وخصّ، فقال : يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب ، يا بني عبد المطلب ، لا أملك لكم من الله شيئاً، إلا أنّ لكم رحماً سأبُلُّها ببلالها ( أي سأصلها ). السر في الأمر بإنذار الأقربين أولاً : 1 – أن الحجة إذا قامت عليهم تعدّت إلى غيرهم. 2 – وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة، فيحابيهم في الدعوة والتخويف، فلذلك نصّ له على إنذارهم. 3 – وقد يعين بدء الدعوة بالعشيرة على نصرته وتأييده وحمايته. الصدع بالدعوة والجهر بها في كل مكان وبعد أن جمع النبي – صلى الله عليه وسلم – عشيرته الأقربين، وأنذرهم، كما أقره بذلك رب العالمين بدأت مرحلة جديدة، فأصبح يدعو فيها كل من يلتقي به من الناس على اختلاف قبائلهم وبلدانهم، ويتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، ويدعو من لقيه من حر وعبد، وقوي وضعيف، وغني وفقير، لا يردّه عن ذلك رادّ، ولا يصدّه عن ذلك صادّ، وذلك حين نزل قول الله تعالى (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وكانت النتيجة لهذا الصدع بالحق هي الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب. وبعد الجهر بالدعوة بأيام - أو شهور قليلة – اقترب موسم الحج، وكانت العرب تأتي من كل البلاد لتحج لبيت الله الحرام، وعلمت قريش أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لن يترك هذه الفرصة لنشر دعوته الجديدة، فاجتمعوا حتى يتفقوا على شيئاً يقولونه للعرب ليصدوهم عن دعوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبعد نقاش دار بينهم وجّههم الوليد بن المغيرة لأن يقولوا عليه ساحر، جاء بقول هو سحر، يُفرّق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه، فجلسوا بسبل الناس حين قدموا للموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره، أما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فخرج يتبع الناس في منازلهم، وفي الأسواق، يدعوهم إلى الله، وأبو لهب وراءه يقول : لا تطيعوه، فإنه صابئ كذّاب. وأدّى ذلك إلى أن صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها. وبأمر الله سنعرض هذه المرحلة – مرحلة الجهر بالدعوة – في سمات عامة وهي : السمة الأولى: مجابهة المشركين دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه بشتى الطرق الوسيلة الأولى : السخرية والاستهزاء والتحقير والتكذيب رموا النبي – صلى الله عليه وسلم – بتهم هازلة، وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالمجنون : (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) ويصمونه بالسحر والكذب (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) وكانوا يُشيّعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) وكانوا كما قصّ الله علينا (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ) وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء وزادوا من الطعن والتضحيك حتى أثّر ذلك في نفس الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) ثم ثبّته الله وأمره بما يُذهب الضيق فقال تعالى (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) الوسيلة الثانية : إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات كانوا يقولون عن القرآن (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) ويقولون (بَلِ افْتَرَاهُ) من عند نفسه ، ويقولون (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) وقالوا (إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ) أي اشترك هو وزملائه في اختلاقه (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا). أما شُبهاتهم في رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – فإنهم مع اعترافهم بصدق النبي – صلى الله عليه وسلم – وأمانته وغاية صلاحه وتقواه، كانوا يعتقدون أن منصب الرسالة أعظم من أن يُعطى لبشر، فقالوا (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) وقالوا إن محمداً – صلى الله عليه وسلم - بشر ، و (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) فردّ الله تعالى عليهم (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ). أما إنكارهم البعث بعد الموت : فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغراب والاستبعاد العقلي ، فكانوا يقولون (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ) وكانوا يقولون (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) وقد ردّ الله عليهم بتبصيرهم ما يجري في الدنيا، فالظالم يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه، والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه، .. إلخ، قال تعالى (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) وقال سبحانه : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) وأما الاستبعاد العقلي فقال تعالى رداً عليه: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) وقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). الوسيلة الثالثة: الحيلولة بين الناس وبين سماع القرآن: قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) حتى إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يتمكن من تلاوة القرآن عليهم في مجامعهم ونواديهم إلا في أواخر السنة الخامسة من النبوة، وذلك كان عن طريق المفاجأة، دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلاوة. الوسيلة الرابعة: الاضطهاد العام وكثرة الإيذاء واشتداد البلاء: 1 – ما نزل بالصحابة الكرام من أنواع البلاء: لما رأوا أن هذه الأساليب – السالفة الذِكْر - لم تجد نفعًا في إحباط الدعوة الإسلامية استشاروا فيما بينهم، فقرروا القيام بتعذيب المسلمين وفتنتهم عن دينهم، فأخذ كل رئيس يعذب من دان من قبيلته بالإسلام، وانقض كل سيد على من اختار من عبيده طريق الإيمان. كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به. وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته. ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب، وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية. وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول. وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه، وهو يقول: أحَدٌ أحَدٌ، وكان أمية يـشده شـدًا ثم يضربه بالعصا، و يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع. وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا والله لا تـزال هكـذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك: أحد،أحد، ويقـول: لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها. ومر به أبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل: بسبع أواق أو بخمس من الفضة، وأعتقه. وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون ـ وعلى رأسهم أبو جهل ـ يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها. ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال: (صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية ـ أم عمار ـ في قبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة. وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه. وقالوا له: لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزى خيرًا، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله : (مَن كَفَرَ بِالله ِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)الآية [ النحل: 106 ]. وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سِباع الخزاعية، وكان حدادًا، فلما أسلم عذبته مولاته بالنار، كانت تأتى بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره أو رأسه، ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يزيده ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، وكان المشركون أيضًا يعذبونه فيلوون عنقه، ويجذبون شعره، وقد ألقوه على النار، ثم سحبوه عليها، فما أطفأها إلا وَدَكَ ظهره. والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذى والنكال، وكان ذلك سهلًا ميسورًا بالنسبة لضعفاء المسلمين، ولا سيما العبيد والإماء منهم، فلم يكن من يغضب لهم ويحميهم، بل كانت السادة والرؤساء هم أنفسهم يقومون بالتعذيب ويغرون الأوباش، ولكن بالنسبة لمن أسلم من الكبار والأشراف كان ذلك صعبًا جدًا؛ إذ كانوا في عز ومنعة من قومهم، ولذلك قلما كان يجتريء عليهم إلا أشراف قومهم، مع شيء كبير من الحيطة والحذر. 2 – ما تعرض له النبي – صلى الله عليه وسلم – من الإيذاء القولي والبدني : قبل الإيذاء : وأما بالنسبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان رجلًا شهمًا وقورًا ذا شخصية فذة، تتعاظمه نفوس الأعداء والأصدقاء بحيث لا يقابل مثله إلا بالإجلال والتشريف، ولا يجترئ على اقتراف الدنايا والرذائل ضده إلا أراذل الناس وسفهاؤهم، ومع ذلك كان في منعة أبي طالب، وأبو طالب من رجال مكة المعدودين، كان معظمًا في أصله، معظمًا بين الناس، فكان من الصعب أن يتجرأ أحد عليه أو على أحدٍ من أهله، إن هذا الوضع أقلق قريشًا وأقامهم وأقعدهم، ودعاهم إلى تفكير سليم يخرجهم من المأزق ، وقد هداهم ذلك إلى أن يختاروا سبيل المفاوضات مع المسئول الأكبر: أبي طالب، ولكن مع شيء كبير من الحكمة والجدية، ومع نوع من أسلوب التحدي والتهديد الخفي حتى يذعن لما يقولون. ولما فشلت قريش في هذه المفاوضات، ولم توفق في إقناع أبي طالب بمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفه عن الدعوة إلى الله ، قررت أن تختار سبيلاً قد حاولت تجنبه ، وهو سبيل الاعتداء على ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم -. واخترقت قريش ما كانت تتعاظمه ، فمدت يد الاعتداء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما كانت تأتيه من السخرية والاستهزاء، وكان من الطبيعي أن يكون أبو لهب في مقدمتهم ، فإنه كان أحد رؤوس بني هاشم، فلم يكن يخشى ما يخشاه الآخرون، فأمر ولديه بتطليق بنتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان هو وزوجته يسخرون دائماً من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد فعلت قريش الكثير في حق رسول الله فأتوا بسلا الجزور – أمعاء الجمل - ووضعوها على ظهره الشريف وهو ساجد، وقد جلس عقبة بن أبي مُعَيط بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات مرة وسمع منه ، فلما بلغ ذلك صاحبه أُبي بن خلف أنبه وعاتبه، وطلب منه أن يتفل في وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – ففعل، وكان أبو جهل يمنع النبي – صلى الله عليه وسلم – من الصلاة في الحرم، ولما رآه يصلي ذات مرة توعّده، فأغلظ له رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في القول، فقال له : يا محمد، بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادى ناديًا. فأنزل الله (فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) الواجب س1 ما الحكمة من إنذار النبي – صلى الله عليه وسلم – الأقربين أولاً ؟ س2 أذكر الوسائل التي استخدمتها قريش لمواجهة دعوة الإسلام، مشيراً إلى كل وسيلة في سطر واحد. نكمل الدرس القادم إن شاء الله سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك |
#7
|
|||
|
|||
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه– وبعد .. نكمل بمشيئة الله دروسنا وهذا هو الدرس السابع الهجرة الأولى إلى الحبشة بعد هذه الاعتداءات التي ذكرنا جانباً منها - في الدرس السابق - أخذ المسلمون يفكرون في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم، وفي هذه الظروف نزلت سورة الزمر تشير إلى اتخاذ سبيل الهجرة، وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ الله ِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن النجاشي ملك الحبشة ملك عادل، لا يظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارًا بدينهم ، وحاول المشركون تتبعهم ومنعهم لكنهم كانوا قد انطلقوا آمنين . سجود المشركين مع المسلمين وعودة المهاجرين وفي رمضان من نفس السنة - التي هاجر فيها المسلمون - خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم، وفيه جمع كبير من قريش، فيهم ساداتهم وكبراؤهم، فقام فيهم، وفاجأهم بتلاوة سورة النجم، ولم يكن أولئك الكفار سمعوا كلام الله من قبل؛ لأنهم كانوا مستمرين على ما تواصى به بعضهم بعضًا،من قولهم: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت:26] فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم كلام إلهي خلاب، أخذ مشاعرهم، ونسوا ما كانوا فيه فما من أحد إلا وهو مصغ إليه، لا يخطر بباله شىء سواه، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب، ثم قرأ: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم:62] ثم سجد، لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدًا، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير، وأنه قال عنها ما كانوا يرددونه هم دائماً من قولهم: (تلك الغرانيـق العلى، وإن شفاعتهم لترتجى)،وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تمامًا عن صورته الحقيقية، بلغهم أن قريشًا أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار وعرفوا جلية الأمر رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيًا، أو في جوار رجل من قريش، ثم اشتد عليهم البلاء والعذاب من قريش، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدّاً من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى. الهجرة الثانية إلى الحبشة واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى، وعلى نطاق أوسع، ، وعز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمناً لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ وأرسلوا معهما الهدايا للنجاشي وبطارقته، وطلبوا منه أن يسلمهم المسلمون، لكنه رفض حتى يسمع من المسلمين، وكان المتحدث باسم المسلمين هو جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه – فسمع كلامه وسمع منه القرآن، وبعد سماعه من الطرفين قرّر ألا يسلّمهما – أي عمرو وعبد الله – المسلمين، وعاش المسلمون في بلاد النجاشي آمنين.، ثم قال لحاشيته: ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها . الشدة في التعذيب ومحاولة القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما أخفق المشركون في مكيدتهم، وفشلوا في استرداد المهاجرين استشاطوا غضبًا، فاشتدت ضراوتهم وانقضوا على بقية المسلمين، ومدوا أيديهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء، وظهرت منهم تصرفات تدل على أنهم أرادوا القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليستأصلوا جذور الفتنة التي أقضت مضاجعهم، حسب زعمهم، أما بالنسبة للمسلمين فإن الباقين منهم في مكة كانوا قليلين جدًا، وكانوا إما ذوي شرف ومَنَعَة، أو محتمين بجوار أحد، ومع ذلك كانوا يخفون إسلامهم ويبتعدون عن أعين الطغاة بقدر الإمكان، ولكنهم مع هذه الحيطة والحذر لم يسلموا كل السلامة من الأذى والخسف والجور. وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلى ويعبد الله أمام أعين الطغاة، ويدعو إلى الله سرًا وجهرًا لا يمنعه عن ذلك مانع، إذ كان ذلك من جملة تبليغ رسالة الله منذ أمره الله سبحانه وتعالى بقوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر:94]، وقد تعددت صور تعرض المشركين للنبي – صلى الله عليه وسلم – بالأذى القولي والفعلي . دخول كبار الصحابة في الإسلام خلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان ظهر برق أضاء الطريق، وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - في أواخر السنة السادسة من النبوة، روى مجاهد عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب: لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام ـ ثم قص عليه قصة إسلامه. وقال في آخره: قلت ـ أي حين أسلمت: يا رسول الله ، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: (بلى، والذي نفسي بيده، إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم)، قال: قلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجنّ، فأخرجناه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال: فنَظَرَت إلىّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم (الفاروق) يومئذ. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ما كنا نقدر أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر. الوسيلة الخامسة : أسلوب المساومات وكثرة العروض على النبي – صلى الله عليه وسلم – وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين – حمزة بن عبد المطلب وعمـر بن الخطاب رضي الله عنهما – غيّر المشركون تفكيرهم في معاملتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، واختاروا أسلوب المساومات وتقديم المغريات، ولم يَدْرِ هؤلاء المساكين أن كل ما تطلع عليه الشمس لا يساوي جناح بعوضة أمام دين الله والدعوة إليه، فخابوا وفشلوا فيما أرادوا. ومن هذه المساومات ما رُوي عن عُتْبَة بن ربيعة حيث عرض على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - المال والسيادة والسلطان فسمع منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا انتهى عتبة قرأ عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – آيات من سورة فصلت، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تُصِبْه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سَحَرَكَ والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. وكأن رجاء قريش لم ينقطع بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم عتبة على اقتراحاته؛ فتشاور رؤساء قريش فيم بينهم وفكروا في كل جوانب القضية، ثم اجتمعوا يومًا عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدعونه، فجاء مسرعًا يرجو خيرًا، فلما جلس إليهم قالوا له مثل ما قال عتبة، وعرضوا عليه نفس المطالب التي عرضها عتبة. ولكن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بي ما تَقُولُون، ما جِئْتُكُم بما جِئْتُكُم بِه أَطْلُب أَمْوَالكُم ولا الشَّرف فيكم، ولا المُلْكَ عليكم، ولكنّ الله بَعَثَنِى إلَيْكُم رَسُولًا، وَ أَنْزَلَ علىَّ كِتابًا، وأَمَرَنِى أنْ أَكُونَ لَكُم بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُم رِسَالاتِ ربي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فإِنْ تَقْبَلُوا مِنّى ما جِئْتُكُم بِه فَهُوَ حَظُّكُم في الدُنيا والآخرة، وإنْ تَرُدُّوا علىّ أَصْبِر لأمْرِ الله ِ حتّى يَحْكُم الله ُ بَيْنِى وَ بَيْـنَكُم). أو كما قال. انتقلوا إلى مرحلة أخرى من المفاوضات فرُوي أنهم قالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) السورة كلها. فائدة : إن هذه الوفود والمفاوضات تبين مدى الفشل الذي أصاب قريش فقد فشلوا في حصولهم على التنازل الكلي عن الإسلام، وتدرجوا في التنازلات من الأكبر إلى الأصغر دون فائدة، وفي هذا درس للمسلمين اليوم وإلى يوم القيامة بأن لا تنازل عن الإسلام، ولو كان هذا التنازل شيئاً يسيراً، فالإسلام دعوة ربانية ولا مجال فيها للمساومة. الوسيلة السادسة : التعجيز وطلب المُحال لمّا كان عدم تصديق قريش للنبي – صلى الله عليه وسلم – لا لأنهم يكذّبوه وإنما عناداً وكفراً، لذلك طلبوا منه – صلى الله عليه وسلم – مطالب ليس الغرض منها التأكد من صدق نبوته ولكن غرضهم منها التعنت والتعجيز، فطلبوا منه : - أن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً : أي يجري لهم الماء عيوناً جارية. - أو تكون له جنّة من نخيل وأعناب تتفجر الأنهار خلالها. - أو يُسقط السماء قطعاً كما سيكون يوم القيامة. - أو يأتي بالله والملائكة. - أو يكون له بيت من زخرف : أي ذهب. - أو يرقى في السماء : أي يصعد إلى السماء. - أو ينزّل كتاباً من السماء يقرؤه. يقول مجاهد : أي مكتوب فيه إلى كل واحد صحيفة ( هذا كتاب من الله لفلان بن فلان ). - أو يُسَيّر لهم الجبال، ويُقطّع الأرض، ويبعث من مضى من آبائهم من الموتى. قال تعالى : (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) فائدة : إن الحكمة في أنهم لم يُجابوا لما طلبوا أنهم لم يسألوا مسترشدين، وإنما سألوا متعنتين، وقد علم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا ما طلبوا لما آمنوا، ولظلّوا في غيهم وضلالهم يترددون، قال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الربانية ألا يُجابوا، لأن سنته سبحانه أنه إذا طلب قوم آيات فأُجيبوا ثم لم يؤمنوا، عذّبهم عذاب الاستئصال كما فعل بعاد وثمود. الوسيلة السابعة : استعانة المشركين في مكة بيهود يثرب وكأنهم لما رأوا صموده - صلى الله عليه وسلم - في وجه كل التحديات، ورفضه كل المغريات، وصلابته في كل مرحلة - مع ما كان يتمتع به من الصدق والعفاف ومكارم الأخلاق - قويت شبهتهم في كونه رسولًا حقًا، فقرروا أن يتصلوا باليهود حتى يتأكدوا من أمره - صلى الله عليه وسلم – فكلّفوا بعضهم ليذهبوا إلى يهود المدينة، فأتوهم فقال أحبارهم: سلوه عن ثلاث، فإن أخبر فهو نبي مرسل، وإلا فهو متقول؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول،ما كان أمرهم؟ فإن لهم حديثًا عجبًا ، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح، ما هي؟ فلما قدموا مكة قالوا: جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، وأخبروهم بما قاله اليهود، فسألت قريش رسول صلى الله عليه وسلم عن الأمور الثلاثة، فنزلت بعد أيام سورة الكهف، فيها قصة أولئك الفتية، وهم أصحاب الكهف، وقصة الرجل الطواف، وهو ذو القرنين، ونزل الجواب عن الروح في سورة الإسراء. وتبين لقريش أنه - صلى الله عليه وسلم - على حق وصدق، ولكن (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا). الوسيلة الثامنة : الحصار الاقتصادي والاجتماعي في شِعْب أبي طالب أجمعت بني هاشم وبني المطلب – مُسلمهم وكافرهم - على حفظ النبي – صلى الله عليه وسلم – وحمايته من بطش قريش، فقررت قريش إخراجهم إلى شِعْب أبي طالب، فتحالفوا ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للقـتل، وكتـبوا بذلك صحيـفـة فيها عهود ومواثيق (ألا يقبلوا من بني هاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل) وعُلّقت الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب، مؤمنهم وكافرهم ـ إلا أبا لهب ـ وحُبِسوا في شِعْب أبي طالب، واستمر الحصار لمدة ثلاثة أعوام، ولجئوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يُسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرًا، وكانوا لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي تَرِدْ مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعون شراءها. ثم اجتمع نفر من قريش غير راضين بما يحدث وتعاهدوا على نقض هذا الميثاق الظالم وفك الحصار عن إخوانهم من بني هاشم وبني المطلب وكان الله قد أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة (حشرة صغيرة)، فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل. فائدة : كيف صبر بنو هاشم وبنو المطلب على هذه المحنة الشديدة؟ إن صبر المشركين كان من أجل العصبية وحميّة القرابة والرحم، وخوفاً من الذلّ الذي كان سيتلبّس بهم لو أنهم خلّوا بين محمد – صلى الله عليه وسلم – ومشركي قريش، أما المسلمون فكان صبرهم لأسباب: - الإيمان الذي خالطت بشاشته القلوب، فلا يبالون بما ينالهم من إيذاء في الله. - وجود القيادة الواعية المتمثلة في شخص رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – الأمر الذي دفعهم إلى الصبر والثبات. - الشعور بالمسئولية تجاه هذا الدين. فأين نحن من هذه الجبال الشامخة التي حملت الإسلام على أعناقها، حتى وصل إلينا كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ؟! الواجب س1 ما الذي يدل عليه طلب قريش من النبي – صلى الله عليه وسلم – بتقديم تنازلات وقلة هذه التنازلات في كل مرة ؟ س2 كيف صبر المسلمون على ما حدث لهم من الحصار في شِعْب أبي طالب؟ وما الذي نتعلمه منهم؟ نُكْمِل الدرس القادم إن شاء الله سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك |
#8
|
|||
|
|||
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه– وبعد .. نُكْمِل بمشيئة الله دروسنا وهذا هو الدرس الثامن السمة الثانية : الأمر بالصبر والثبات على الدين، والكفّ عن القتال والوعد بالنصر والتمكين كان المسلمون يرغبون في الدفاع عن أنفسهم، ويبدو أن الموقف السلمي قد حرك قلوب بعضهم، وخاصة الشباب منهم، فقد أتى عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة , فقالوا : يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون , فلما آمنا صرنا أذلة ! قال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم . ويظهر هذا جليّا في قصة خبّاب عندما شكى إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: شكونا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفَر له في الأرض، فيُجعَل فيها، ثم يُؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعَل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليُتمّنّ الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" . ولا شك في أن كلام الرسول – صلى الله عليه وسلم – أبلغ تسلية وتربية على الصبر، وهو لا شك – صلى الله عليه وسلم – يستنصر لهم ويدعو لهم، إلا أنه أراد – صلى الله عليه وسلم – أن يعلموا أن ذلك سُنّة ماضية، وأن أهل الإيمان لابد أن يتعرضوا للبلاء، ثم بشّرهم كذلك بالنصر والتمكين وتبديل مخاوفهم أمناً، كما قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ومن الآيات التي نزلت في مكة تأمر المؤمنين بالصبر على البلاء، وتحثهم على العفو والصفح تأليفاً لقلوب المشركين: قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) ومن الحِكَم وراء الكف عن القتال في مكة (مما لاحظه بعض الدارسين): 1 – كانت الفترة المكية فترة تربية وإعداد، ومن أهدافها تربية الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادةً، ومن ثم يتم الاعتدال في طبيعته. 2 – وربما كان ذلك أيضاً لأن الدعوة السلمية أشد أثراً وأنفذ في مثل بيئة قريش. 3 – وربما كان ذلك اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة داخل كل بيت، فلم تكن هناك سلطة نظامية هي التي تؤذي المؤمنين وإنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد. 4 – وربما كان ذلك لما كان يعلمه الله تعالى من أن كثيراً من المعاندين الذين يفتنون المسلمين عن دينهم هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص. 5 – وربما كان ذلك لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ولا يتراجع. 6 – وربما كان ذلك لقلة عدد المسلمين حينئذ وانحصارهم في مكة. بيان الحكمة من الابتلاء الذي تعرض له الصحابة : الابتلاء سنة الله في خلقه وهو يرتبط بالتمكين ارتباطاً وثيقاً وقد سئل الإمام الشافعي : أيهما أفضل للمرء، أن يُمكّن أو يُبتلى ؟ فقال الإمام الشافعي " لا يُمكّن حتى يُبتلى، فإن الله تعالى ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً – صلوات الله وسلامه عليهم – فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة ". وللابتلاء حِكَم كثيرة منها : 1 – تصفية الصفوف والكشف عن حقيقة النفوس وخباياها . 2 – تربية الأمة المسلمة على الصبر والثبات عند نزول المحن. 3 – الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة. 4 – معرفة قدر الدعوة ومنزلتها. وذلك لكي تعز هذه الدعوة على المسلمين وتغلو بقدر ما يصيبهم في سبيلها من بلاء. 5 – الدعاية للإسلام : أي أن صبر المؤمنين على الابتلاء دعوة صامتة لهذا الدين، فلو كان أهله على غير الحق لما صبروا. 6 - رفع المنزلة والدرجة عند الله وتكفير السيئات. السمة الثالثة : الاهتمام بتربية الصحابة بغرس الإيمان وتصحيح العقيدة وتزكية النفوس لقد نزل القرآن على النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك وهذا ما نلاحظه في السور المكية وما يدل عليه قول السيدة عائشة – رضي الله عنها – حيث قالت " أول ما نزل من القرآن سورة فيها ذكر الجنة والنار " تعني سورة المدثر ( وهي ثاني سورة نزلت ) وفيها يقول الله تعالى (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) ثم قالت : " حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل من أول الأمر : لا تزنوا، لقالوا لا ندع الزنا أبداً، ولو نزل : لا تشربوا الخمر، لقالوا لا ندع شرب الخمر أبداً. من الأحداث الكبرى التي وقعت في فترة الجهر بالدعوة بمكة وفاة خديجة وأبي طالب وفاة أبي طالب ألح المرض بأبي طالب، فلم يلبث أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة، بعد الخروج من الشِعب بستة أشهر. وقيل: توفي في رمضان قبل وفاة خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام. وفي الصحيح عن المسيب: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال: (أي عم، قل: لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنـه)، فـنزلت:( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التوبة:113] ونزلت: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)[القصص: 56]. وفي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: (هو في ضَحْضَاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ـ وذكر عنده عمه ـ فقال: (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه) خديجة إلى رحمة الله وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة أيام ـ على اختلاف القولين ـ توفيت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وكانت وفاتها في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة على أشهر الأقوال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره. إن خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر،وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها وحرم ولد غيرها) وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله ، هـذه خديجة قـد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقـرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قَصَبٍ لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ. بيان الحكمة من موت أبي طالب وخديجة قبل أن يشتد ساعد المسلمين في مكة : حتى لا يقال أن النبي كان في منعة أبي طالب ولا يستطيع أحد أن يؤذيه بينما أصحابه يعذبون، وحتى تكون الحماية والنصر من الله تعالى وحده، وحتى لا يكون لأحد غير المسلمين يد في نصرة الإسلام والدفاع عنه وتمكين الله لهم، وقد تعهد الله تعالى أن يعصم نبيه من المشركين، وليس معنى ذلك العصمة من الإيذاء وإنما العصمة من القتل. آية انشقاق القمر قال بن كثير " جعل الله تعالى له آية على صدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما جاء به من الهدى ودين الحق. قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) قد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه - عليه الصلاة والسلام – وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها ". روى البخاري عن أنس – رضي الله عنه – " أن أهل مكة سألوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما ". وروى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم عن أبيه قال " انشق القمر على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا : سَحَرنا محمد .. " الحديث. الرد على المنكرين لانشقاق القمر أنكر ذلك جمهور الفلاسفة كما أنكروا الكثير من الأمور الغيبية كتكوير الشمس يوم القيامة، والرد عليهم أنهم إن كانوا كفاراً فيُناظروا أولاً على ثبوت الإسلام، ثم يُشركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين، ومتى سلّم المسلم بعض ذلك دون بعض ألزم التناقض، ولا سبيل إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في القيامة، فيستلزم جواز وقوع ذلك معجزة لنبي الله – صلى الله عليه وسلم – وقد أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر، ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء، كما يكوره يوم البعث ويفنيه، وأما قول بعضهم : لو وقع لجاء متواتراً واشترك أهل الأرض في معرفته، فجوابه أن ذلك وقع ليلاً وأكثر الناس نيام، والأبواب مغلقة، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر ولا يشاهدها إلا الآحاد، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم طلبوا ذلك، فلم يتأهب غيرهم لها. رحلة النبي – صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف في شوال سنة عشر من النبوة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميلًا، سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهابًا، ومعه مولاه زيد بن حارثة، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجب إليه واحدة منها. فلما انتهي إلى الطائف عمد ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله ، وإلى نصرة الإسلام، فقال أحدهم: هو يَمْرُط ثياب الكعبة [أي يمزقها] إن كان الله أرسلك. وقال الآخر: أما وَجَدَ الله أحدًا غيرك، وقال الثالث:والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولًا لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك. فقام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: [إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني]. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلادنا. وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له سِمَاطَيْن [أي صفين] وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء. وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شِجَاج في رأسه، ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط (أي بستان) لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميال من الطائف، فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شجرة من عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار. فلما جلس إليه واطمأن، دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا مما لقي من الشدة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، قال: (اللهم إليك أشكو ضَعْف قُوَّتِي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُنى؟ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِى؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سَخَطُك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) الدعاء المشهور، وقد ضعّفه كثير من العلماء منهم الألباني في حين حسّنه غيرهم. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيبًا محزونًا كسير القلب، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة. وقد روى البخاري تفصيل القصة ـ بسنده ـ عن عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: (لقيت من قومكِ ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد كُلاَل، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت ـ وأنا مهموم ـ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْنِ الثعالب ـ وهو المسمى بقَرْنِ المنازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ـ أي لفعلت، والأخشبان: هما جبلا مكة: أبو قُبَيْس والذي يقابله، وهو قُعَيْقِعَان ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا). من جوانب الحيطة والحذر في قصة الطائف كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يهتم بالحيطة والحذر – وفي هذا درس لنا – ومن ذلك : 1 – كان خروجه من مكة على الأقدام حتى لا تظن قريش أنه ينوي الخروج من مكة مما قد يعرّضه للأذى والمنع من الخروج. 2 – واختيار الرسول – صلى الله عليه وسلم – زيداً كي يرافقه فيه جوانب أمنية فهو ابنه بالتبني فوجوده مع لا يثير شكوكاً لقوة الصلة بينهما. 3 - لما رد عليه زعماء الطائف بأقبح رد تحمّله النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يغضب بل طلب منهم أن يكتموا عنه. فائدة : رغم ما لقي النبي في الطائف إلا أنه لم ييأس ولم يتخلى عن دعوته أو يتكاسل فيها، ونحن لا بد ألا تصدنا المحن عن طريقنا طالما أننا نسير على هدى من الإيمان بالله وتوفيقه. الواجب س1 اذكر الحكم المستنبطة من الكف عن قتال المشركين في مكة. س2 بيّن الحكمة من الابتلاءات التي تعرض لها الصحابة رضوان الله عليهم. س3 كيف ترد على منكري حادثة انشقاق القمر؟ نُكْمِل الدرس القادم إن شاء الله سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك
|
#9
|
|||
|
|||
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه– وبعد .. قلت في الدرس السابق أن دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد خروجه من الطائف ( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي .. ) قد ضعّفه كثيراً من العلماء لاسيما الألباني في حين حسّنَه غيرهم وأحببت أن أؤكد هنا أن الراجح ضعفه وعدم حدوثه، والله تعالى أعلم نُكْمِل بمشيئة الله دروسنا وهذا هو الدرس التاسع قصة سماع الجن من النبي – صلى الله عليه وسلم – في طريق عودته من الطائف وخلال إقامته صلى الله عليه وسلم في وادي نخلة – أثناء عودته من الطائف - بعث الله إليه نفرًا من الجن ذكرهم الله في موضعين من القرآن: في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ الله ِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:29: 31]. وفي سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} إلـى تمـام الآيــة الخامـسة عشـر [ الجن: 1: 15]. ومن سياق هذه الآيات ـ وكذا من سياق الروايات التي وردت في تفسير هذا الحادث ـ يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم حضور ذلك النفر من الجن حين حضروا وسمعوا، وإنما علم بعد ذلك حين أطلعه الله عليه بهذه الآيات، وأن حضورهم هذا كان لأول مرة، ويقتضى سياق الروايات أنهم وفدوا بعد ذلك مرارًا. وحقًا كان هذا الحادث نصرًا آخر أمده الله من كنوز غيبه المكنون بجنوده التي لا يعلمها إلا هو، ثم إن الآيات التي نزلت بصدد هذا الحادث كانت في طيها بشارات بنجاح دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أي قوة من قوات الكون لا تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها: {وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ الله ِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف:32]، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ الله َ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن:12]. أمام هذه النصرة، وأمام هذه البشارات، أقشعت سحابة الكآبة والحزن واليأس التي كانت مُطبِقة عليه منذ أن خرج من الطائف مطرودًا مدحورًا، حتى صمّم على العود إلى مكة، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله الخالدة بنشاط جديد وبجد وحماس. وحينئذ قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعنى قريشًا، فقال: (يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه). وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من مكة مكث بحِرَاء، وبعث رجلًا من خزاعة إلى الأخنس بن شَرِيق ليجيره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير ، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال سهيل: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدى، فقال المطعم: نعم ، ثم تسلح ودعا بنيه وقومه ، فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدًا، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهي إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدى على راحلته فنادى: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم، وانتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وطاف بالبيت، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، ومطعم بن عدى وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته. عرض الإسلام علي القبائل والأفراد عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليستأنف عرض الإسلام على القبائل والأفراد – وكان ذلك في السنة العاشرة من النبوة - ولاقتراب الموسم كان الناس يأتون إلى مكة رجالا، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق لأداء فريضة الحج، وليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، فانتهز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة، فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام ويدعوهم إليه ، كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة ، وقد بدأ يطلب منهم من هذه السنة ـ العاشرة ـ أن يؤووه وينصروه ويمنعوه حتى يبلغ ما بعثه الله به. ولم يجبه أحداً منهم وكان الله قد فضّل بذلك الأنصار عن غيرهم بعلمه وحكمته جلّ في علاه ، ولكن آمن به كثير من الأفراد ورجعوا إلى قومهم داعين إلى الله تعالى فبدأ الإسلام في الانتشار خارج مكة مِن بين مَن دعاهم النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الإسلام جماعات وأفراد من يثرب كانوا هم بداية انتشار الإسلام في يثرب حتى كان ما كان بعد ذلك من نصرتهم للنبي – صلى الله عليه وسلم – وصحبه - طيّب الله طَيْبَة وأهلها – وسبحان ربي كانت اليهود إذا حدث بينهم وبين أهل يثرب نزاعات وقتال تواعدوهم بخروج نبي آخر الزمان وأنهم سيتبعونه ويحاربون معه يثرب وأهلها وينتصرون عليهم، فلما بعث الله تعالى نبيه آمنت به يثرب وكفرت به يهود ، قال تعالى (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) الإسراء والمعراج ثابتة بنص القرآن الكريم حيث قال تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وفي الصحيحين عن أنس قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : " فُرج سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً ، فأفرغه في صدري ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا .. " الحديث قال ابن القيم: أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البُرَاق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إمامًا، وربط البراق بحلقة باب المسجد. ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، فرأي هنالك آدم أبا البشر، فسلّم عليه، فرحّب به وردّ عليه السلام، وأقرّ بنبوته، وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه، وأرواح الأشقياء عن يساره. ثم عُرِج به إلى السماء الثانية، فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فلقيهما وسلّم عليهما، فردا عليه ورحّبا به، وأقرّا بنبوته. ثم عُرِج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يُوسُف، فسلّم عليه فردّ عليه ورحّب به، وأقرّ بنبوته. ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته. ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلّم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته. ثم عرج به إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى بن عمران، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته. فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك ؟ فقال: أبكي؛ لأن غلامًا بُعِثَ من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي. ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم عليه السلام، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته. ثم رفع إلى سدرة المنتهى، فإذا نَبْقُها مثل قِلاَل هَجَر ( قلال جمع قُلّة وهجر مدينة مشهورة بصناعة القلال وقُلّتهم تسع حوالي 200 لتر ) ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، ثم غشيها فراش من ذهب، ونور وألوان، فتغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حُسنها. ثم رفع له البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون. ثم أُدخل الجنة، فإذا فيها حبائل اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك. وعُرِج به حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صَرِيف الأقلام (أي صوتها حال الكتابة). ثم عرج به إلى الجبّار جل جلاله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مرّ على موسى فقال له: بم أمرك ربك؟ قال: [بخمسين صلاة]. قال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل، كأنه يستشيره في ذلك، فأشار: أن نعم إن شئت، فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه ـ هذا لفظ البخاري في بعض الطرق ـ فوضع عنه عشرًا، ثم أنزل حتى مرّ بموسى، فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل، حتى جعلها خمسًا، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: [قد استحييت من ربي، ولكني أرضى وأسلم]، فلما بَعُد نادى مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي. انتهي. ما بين الأقواس() ليس من كلام بن القيم بل هو زيادة مني ولقد اتفق أغلب الصحابة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، ومن أراد زيادة فليتفضل هنا وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الـرحلة أمورًا عديدة: عُرِض عليه اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل: هديت الفطرة أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك. ورأي أربعة أنهار يخرجن من أصل سدرة المنتهى: نهران ظاهران ونهران باطنان، فالظاهران هما: النيل والفرات، والباطنان: نهران في الجنة. ولعل رؤية النيل والفرات كانت إشارة إلى تمكن الإسلام من هذين القطرين، والله أعلم. ورأى مالكًا خازن النار، وهو لا يضحك، وليس على وجهه بشر ولا بشاشة، وكذلك رأي الجنة والنار. ورأى أكلة أموال اليتامى ظلمًا لهم مشافر كمشافر الإبل (أي شفتان) ، يقذفون في أفواههم قطعًا من نار ، فتخرج من أدبارهم. ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة لا يقدرون بسببها أن يتحولوا عن أماكنهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطأونهم. ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب، إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين. ورأى النساء اللاتي يُدخِلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن. ورأى عذاب الذين يغتابون الناس فإذا لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم. ورأى عيرًا من أهل مكة في الإياب والذهاب، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون، ثم ترك الإناء مغطى، وقد صار ذلك دليلًا على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء. قال ابن القيم: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله له، حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها، وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا، وأبي الظالمون إلا كفورًا . يقال: سُمي أبو بكر رضي الله عنه صديقًا؛ لتصديقه هذه الوقعة حين كذبها الناس. وقد تأول البعض حادث الإسراء والمعراج فزعم أنه رؤيا منامية ، ومنهم من زعم أنه بالروح وليس بالجسد ، والصواب كما ثبت عن بن عباس أنه بالروح والجسد . قال تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) وهذا هو رأي جمهور العلماء، أن الإسراء كان يقظة بروحه وجسده، مرة واحدة، وأن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة. حِكَم مستنبطة من هذه الرحلة المباركة 1- وأوجز وأعظم ما ورد في تعليل هذه الرحلة هو قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1]. 2- تكريم النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد خصّه الله تعالى بكثير من ألوان العلم ورفعه مكاناً لم يصل إليه غيره من الخلق ولا حتى جبريل عليه السلام. 3- دعم لرسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – ولو تكلمنا عن هذه الرحلة وما فيها لطال بنا المقام كثيراً ولكن عسى أن نفرد لها موضوعاً بخلاف دورتنا إن شاء الله تعالى الواجب س1 بيّن كيف كان سماع الجن القرآن من النبي – صلى الله عليه وسلم – نصراً له ولرسالته. س2 هل رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ربه ؟ دلل على كلامك بقول الصحابة في ذلك. س3 اذكر الحكمة من رحلة الإسراء والمعراج تنبيه هام : آخر دروس الفترة المكية هو الدرس القادم بعده يُعقد امتحان الفترة المكية إن شاء الله تعالى سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك |
#10
|
|||
|
|||
الإخوة الأفاضل والأخوات الفضليات أحيطكم علماً بأن الدرس القادم إن شاء الله سيدرج ليلة الجمعة (الخميس مساءً) وهو الدرس الأخير للفترة المكية فهيا يا عباد الله اشحذوا الهمم من جديد |
الكلمات الدلالية (Tags) |
(, ), السيرة, دروس, دورة, رسولنا, قدوتنا |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|