عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-22-2011, 04:47 PM
نصرة مسلمة نصرة مسلمة غير متواجد حالياً
" مزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان فطغت حلاوة الإيمان "
 




افتراضي

أسباب تردِّي الكتابةِ، ومُجافاةِ حُسْنِ البَيانِ، وجمال العِبارة
ذَكَرَ الطناحيُّ -رحمه الله- خمسةَ أسبابٍ:
1- ذهاب الكبار بالموتِ أو بالملل أو بالمصانعة.
2- قلَّة المحصول اللُّغوي عند الكُتَّابِ.
3- تسويغ العجز باصطناع نظريَّات تمهِّد له وتُسانِدُه.
4- السُّخرية من البيانِ والإزراء بقائله.
5- الكسل والإخلاد إلى الرَّاحةِ.
وفصَّلَ القولَ فيها.

سبب قلَّة المحصول اللُّغويِّ
بيَّنَ -رحمه الله- سببَ قلَّة المحصول اللُّغوي قائلاً: (وليس يخفَى أنَّ قلَّة المحصول اللُّغويِّ والعجز عن التَّصرُّف في الكلامِ إنَّما يرجع إلى قلَّة القراءة وضعف الزَّاد، فالأديب لكي يكتب أدبًا عاليًا جميلاً لا بُدَّ أن يكونَ علَى صلةٍ لا تنقطع بالقراءةِ، وأن يجعل من يومِه نصيبًا مفروضًا للمُراجعة والاستزادة، فالإبداع -كما يُقال في هذه الأيَّام- لا بُدَّ له من مددٍ، والمددُ ليس له إلاَّ طريقٌ واحدٌ؛ هو القراءة الرَّشيدة المستمرَّة، ثُمَّ التَّأمُّل).

مُغالَطاتٌ، وخِداعٌ
يقولُ -رحمه اللهُ-: (وفي ذلك الطَّريق: جاءت مغالطاتٌ شتَّى، وجاء خداعٌ كثيرٌ، فقيل -مثلاً-: إنَّ العناية بتحسين العبارة أصباغٌ وزخارفٌ، وأنَّها تكون علَى حساب المعاني والأفكار، وأنَّ التَّفكير والموضوعيَّة يأبَيان الزَّخارفَ والأصباغَ، وأنَّ غايتهما الحقائق ليس غير، وقد تَبِعَ ذلك التَّفرقة بين الأسلوب الأدبيِّ والأسلوب العلميِّ، تفرقة تُفضي في نهاية الأمر إلى التَّهوين من الأسلوب الأدبيِّ، ووصف من يُحسن البيان بأنَّ كلامه «كلام إنشاء»، وقولهم في سياق المدح: إنَّ فلانًا يكتب كما يتكلَّم.
وقيلَ -أيضًا-: لا ينبغي التَّعامل بالكلام المأثورِ؛ حتَّى لا يجد القارئ نفسه يتعامَل في المنزل والشَّارع بلُغةٍ، وفي الكتاب بلُغة الشِّعر الجاهليِّ، وأنَّنا يجب أن نصطنعَ لغةً تُقرِّب الفجوة بين الشَّارعِ والكتابِ. وهذا كلامٌ غيرُ صحيحٍ -فضلاً عمَّا فيه من لعب وخِداع-؛ لأنَّ هذه الفجوة لا بُدَّ أن تكون قائمةً وثابتةً؛ ففي كُلِّ لغات الدُّنيا فرقٌ بين لغة العامَّة ولغة الخاصَّة...
وقيلَ -أيضًا-: إنَّ أحسن الأساليب هو ما لايحتاج معه القارئُ إلى مُراجعة مُعجمٍ، وهذا مما يفتتنُ به الشَّبابُ المبتدئون، والكلام مقلوب، والقضيَّة معكوسةٌ، فإنَّنا إذا لم نُراجِعْ لبعض ما نكتب شيئًا من المعاجم؛ فإنَّنا نكون قد وقعنا في حمأة العاميَّةِ والكلام السُّوقيِّ، واستوَى في ذلك عالمُنا وجاهلُنا. ولماذا كانت المعاجمُ، ولأيِّ غايةٍ وُضِعَتْ؟).

المحسِّنات اللَّفظيَّة وحُسْن البَيان
يقولُ الطناحيُّ: (ولقد كان من أشنع الخطإِ هنا وأغلظِه: الخَلْط بين المحسِّنات اللَّفظية وتحسين العبارة، وبينهما فرقٌ لا يخفَى، فالمحسِّنات اللَّفظيَّة هي أنماط تعبيريَّة محصورة في قواعد محدَّدة بشواهد معيَّنة، أمَّا تحسين العبارة -الَّذي هو البيان-؛ فمجاله واسعٌ رحبٌ، وهو قائم علَى أسباب كثيرة، من الغِنَى اللُّغويِّ، واختيار الأبنية الشَّاعرة المتجانسة، من الأسماء والأفعال والأدوات، وإحكام بناء الجُمَل وحُسْن تنسيقها، وإشاعة الأُلْفة بينها، وقُدرة الكاتب في ذلك كلِّه علَى أن يُنشئَ علاقة أُنسٍ بين قارئه وبين ما يكتب، إنَّ الكاتب المُبين يجعلُنا نحبُّ بعضَ الكلمات ونعشقُها، ترَى هذا في أسلوب الجاحظ، وأبي حيَّان التَّوحيديِّ (إذا نسي مشاكله النفسيَّة)، ومصطفى صادق الرَّافعي، ومحمود محمد شاكر.
وحُسن البيان لا يمنع من الإلمامِ بهذه المحسِّنات اللّفظيَّة إذا جرَتْ علَى قَلَمِ الكاتبِ في حاقِّ مواضعِها، غير متكلَّفة ولا مستكرَهة.
علَى أنَّ هذه المحسِّنات اللفظيَّة ليست سيِّئةَ السُّمعة، على نحو ما يُلقيه بعضُ أساتذة البلاغة على طَلَبتهم، وأنَّها قائمة على التَّكلُّف والتَّزييف، إنَّ المحسِّنات اللَّفظيَّة باب ضخمٌ من أبواب الجمالِ في البيان العربيِّ، وما يجيءُ منها مُتكلَّفًا يُعابُ ويُذَمُّ، كما يُعابُ التَّكلُّفُ في كُلِّ شيءٍ ويُذَمُّ، وكيف تُعابُ المحسِّنات اللَّفظيَّة جملة، وقد جاء منها في كلام ربِّنا -عزَّ وجلَّ- وكلام نبيِّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- وكلام العرب وأشعارها قَدر صالحٌ، ألم تقرأ قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: 26]، وقوله -تباركت أسماؤه-: ﴿وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: 22]، ثمَّ انظر: «المجازات النَّبويَّة» للشَّريف الرَّضيِّ، وشعر أبي تمَّام علَى وجه الخصوص).

سخرية بعض أساتذة العربيَّة من البيانِ
ذَكَرَ الطّناحيُّ -رحمه الله- بعضَ تجاربه الخاصَّة؛ يقولُ: (لي صديقان أحدهما طبيب، والآخر صيدليّ، يُحبَّان الأدبَ حُبًّا جمًّا، ويحرصان علَى قراءة ما أكتب، ويطربان جدًّا لما أجتهدُ فيه من ضُروب البيان وتحسين العبارة، وعلى الجانب الآخر يقرأُ بعض زملائي من أساتذة العربيَّة هذا الَّذي أكتب، فيداعبونني بمثل قولهم: إيه الكلام ده؟ إيه الأساليب دي؟ ألفاظك كلها كلاكيع! وأعلم يقينًا أنَّه لولا المحبَّة لاستحالت هذه الدّعابة سخريةً لاذعةً، وإزراءً شديدًا).
ثمَّ يقول: (وقد انتقلت سخرية الأساتذة إلى تلاميذهم من معلِّمي العربيَّة في مدارسنا الآنَ: سأل مدرِّس اللُّغة العربيَّة التَّلاميذَ في الثانويَّة العامَّة عن مُرادف لعبارة «رغد العَيْش»؛ فأجاب ابْنِي: «بُلَهْنِية»، فضَحِكَ المدرِّس ضحكةً عاليةً، وسخر منه قائلاً: «إيه يا خويه؟»، وحمدتُّ اللهَ أن وقف المدرِّسُ العابث بالسخرية عند هذا الحدِّ، فإنَّ لهذا التركيب الَّذي نطق به ذلك المدرِّس تكملةً سوقيَّة يعرفها أهل السُّخرية، ولعلَّه قالها وكتمَها ابني عنِّي).

البيان وأبواب النَّحو
يقولُ الطناحيُّ -رحمه الله-: (ويبقَى أنْ أقولَ: إنَّ إهمالَ البيانِ والتَّأنُّق في الكلام وتحسين العبارة قد أدَّى إلى هَجْرِ كثيرٍ من أبواب النَّحو، وقلَّة استعمال بعضها في كتابات الكاتبين الآن؛ مثل البَدَل، وبخاصَّة: بدل البعض، وبدل الاشتمال، و«كان» التَّامَّة في مثل قوله تعالَى: ﴿وإن كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: 280]، و«كان» الزَّائدة في نحو: ما كان أغناك عن هذا...
واسم الفاعل واسم المفعول العاملان في التَّركيب، والمصدر الميميّ، والمصدر المؤول، وبعض جموع التَّكسير الفصيحة، وزيادة الباء في خبر «ليس» وفي خبر «ما»، مع كثرة ذلك في القرآن وكلام الفصحاء...
وممَّا أُهْمِلَ -أيضًا- المفعول المطلق المؤكِّد للفعل، فأنت لا تكاد تقرأ لكاتب يقول: كلَّمته كلامًا، من غير أن يُضيفَ إليه وصفًا، فيقول: كلامًا شديدًا ونحوه، مع مجيء ذلك بكثرة في الفصيح، ومنه قوله تعالى: ﴿رَأَيْتَ المُنافِقينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدودًا﴾...
ومن ذلك: باب تعدِّي الأفعال بنفسِها أو بحرف الجَرِّ، مثل: شكرتُه وشكرتُ له، ونصحتُه ونصحتُ له، فلا يكاد الكتَّاب يستعملون إلاَّ الأوَّل. . . إلى أبواب نحويَّة أُخْرَى أُهْمِلَتْ وعُطِّلَتْ.
علَى أنَّ من أبواب النَّحو الَّتي كادَتْ تختفي -الآنَ- تمامًا: باب التَّوكيد اللَّفظيّ -وهو إعادة الكلمة بلفظها-، والاستغناء عنه بالتَّوكيد المعنويّ، وهو التَّوكيد بالنَّفس أو بالعين أو بكلّ وجميع، مع أنَّ التَّوكيدَ اللَّفْظيَّ أوسع مجالاً من التَّوكيد المعنويِّ...).

ما في الصِّحابِ أخُو وَجْدٍ نُطارِحُهُ!
ثُمَّ يختمُ الطَّناحيُّ -رحمه الله- مقالتَه النَّافعةَ بقولِهِ: (وبعد: فإنِّي أخشَى أن تكون هذه الحِقْبة الَّتي نعيشها هي أسوأ الحِقَب الَّتي مرَّتْ بها العربيَّة والبيان العربيُّ. فإنَّ اللُّغات تنتعش أو تذوي باحترام أهلِها لها وممارستهم لها، وما أظنُّ لغتنا العربيَّة فيما يسمُّونه -خطأً وتسرعًا- بعصور الانحطاط الأدبيّ -وهو العصر العثمانيّ- لا أظنُّها في تلك الأيَّام إلاَّ أحسن حالاً، وأجمل بيانًا ممَّا هي عليه الآنَ.
والرِّثاء كلّ الرِّثاء لشبابِ هذه الأيَّام الَّذي يُخدعون عن تاريخهم وعن لغتهم فيما يقرأون وفيما يسمعون.
أمَّا أنا وأنت ومن يجري معنا في حُبِّ العربيَّة والبيان العربيِّ؛ فليس لنا إلاَّ الصَّبر نعتصم به ونفزع إليه، حتَّى يكشف اللهُ الكُرْبةَ، ويزيل الغُمَّة، ويردّ الغربة:
ما في الصِّحابِ أخو وجدٍ نطارِحُهُ ...... حديث نجدٍ ولا صَبٌّ نجاريه).
التوقيع

ياليتني سحابة تمر فوق بيتك أمطرك بالورود والرياحين
ياليتني كنت يمامة تحلق حولك ولاتتركك أبدا

هجرة







رد مع اقتباس