عرض مشاركة واحدة
  #22  
قديم 06-21-2008, 10:56 AM
أبو الفداء الأندلسي أبو الفداء الأندلسي غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

القاعدة الخامسة : الفعل المجرد لا يدل على الوجوب


الأصل في أفعال النبي صلى الله عليه وسلمأنها ليست على الوجوب ، إلا إذا كانت بيانا لواجب من الواجبات ، فتصير تلك الصفة للفعل الوارد واجبة لأنها جاءت مبينة لكيفية الواجب ، قال ابن حزم في الإحكام ( 1/458 ) : ليس شيء من أفعاله عليه السلام واجباً وإنما ندبنا إلى أن نتأسى به عليه السلام فيها فقط ، وألا نتركها على معنى الرغبة عنها ، ولكن كما نترك سائر ما ندبنا إليه مما إن فعلناه أجرنا ، وإن تركناه لم نأثم ولم نؤجر ، إلا ما كان من أفعاله بيانا لأمر أو تنفيذاً لحكم فهي حينئذ فرض ، لأن الأمر قد تقدمها فهي تفسير الأمر ، وهذا القول الصحيح الذي لا يجوز غيره .. ثم قال ( ص : 465 ) : وإنما حضنا الله تعالى في أفعاله عليه السلام على الاستنان به بقوله تعالى : { لقَدْ كانَ لكُمْ فيِ رَسُولِ اللهِ أسْوَةٌ حَسَنةٌ } ( الأحزاب :16 ) وما كان لنا فهو إباحة فقط ، لأن لفظ الإيجاب إنما هو ( علينا ) لا ( لنا ) نقول : عليك أن تصلي الخمس وتصوم رمضان ، ولك أن تصوم عاشوراء ، هذا الذي لا يفهم سواه في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى بما ألزمنا من شرائعه .. ثم قال ( ص : 467 ) : فأما ما كان من أفعاله عليه السلام تنفيذاً لأمر فهو واجب فمن ذلك قوله عليه السـلام : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) و (( خذوا عني مناسككم )) . انتهى .


القاعدة السادسة : ما أصله مباح وتركه النبي صلى الله عليه وسلملا يدل تركه له على أنه واجب علينا تركه


الشيء الذي أصله مباح وتركه النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على أن ذلك الشيء يجب علينا تركه لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلمقال : (( ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك من قبلكم بكثرة اختلافهم على أنبيائهم ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )) . أخرجه البخاري ( 7288 ) ومسلم ( 1337 ) .
قال علي ابن حزم : فهذا خبر منقول نقل التواتر عن أبي هريرة ، فلم يوجب رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى أحد إلا ما استطاع مما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه فقط ، ولا يجوز البتة في اللغة العربية أن يقال أمرتكم بما فعلت وأسقط عليه السلام ما عدا ذلك في أمره ، بتركه ما تركهم حاشى ما أمر به أو نهى عنه فقط .
وقال أبو شامة في المحقق ( 97 ) : وظاهر حديث أبي هريرة أنه لا واجب عليكم إلا من جهة الأمر والنهي ، وأنه ما لم آمركم وأنهاكم فأنتم خارجون من عهدة الوجوب والحظر ، (( فذروني ما تركتكم )) . انتهى .
فإن قيل : إن الصحابة تركوا أكل الضب لما ترك النبي صلى الله عليه وسلمأكله حتَّى بيَّن لهم أنه يعافه ، فدل هذا على وجوب ترك ما تركه النبي صلى الله عليه وسلملأنهم تركوا ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم.
فالجواب : أن ذلك كان وقت تشريع ، فظن الصحابة أن تركه صلى الله عليه وسلملأكل الضب هو من باب التشريع حتى بين لهم أن تركه لأكل الضب ليس من باب التشريع فأكلوه .

القاعدة السابعة : الأصل أن ما همَّ به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فإنه لا يكون حجة
قال الشوكاني في إرشاد الفحول ( 65 ) : ما همَّ به النبي صلى الله عليه وسلمولم يفعله كما وري عنه بأنه هم بمصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة .. ، والحق أنه ليس من أقسام السنة لأنه مجرد خطور شيء على البال من دون تنجيز له وليس ذلك مما آتانا الرسول ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسي به فيه وقد يكون إخباره صلى الله عليه وسلمبما هم به للزجر كما صح عنه أنه قال : (( لقد هممت أن أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم )) . انتهى .
قلت : وإنما ينظر إلى الفعل الذي همَّ به النبي صلى الله عليه وسلمعلى القرائن المحتف بذلك الفعل ثُمَّ يُحكم عليه بسبب تلك القرائن بالحكم المناسب له .

القاعدة الثامنة : الفعل الجبليِّ المحض الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتقرب المكلَّف بفعله إلى الله عز وجل

قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 1/280 ) : وكذلك ابن عمر كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلموينزل مواضع منزله ، ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ ، ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها ، ونحو ذلك مما استحبه طائفة من العلماء ورأوه مستحباً ، ولم يستحب ذلك جمهور العلماء ، كما لم يستحبه ولم يفعله أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم ، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر ، ولو رأوه مستحباً لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به ، وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل ، فإذا فعل فعلاً على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة ، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك ، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة ، وأن يستلم الحجر الأسود ، وأن يصلي خلف المقام ، وكان يتحرى الصلاة عند اسطوانة مسجد المدينة ، وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك ، وكذلك عرفة والمزدلفة وغيرها ، وما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده مثل أن ينزل بمكان ويصلي فيه لكونه نزله لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة أو النزول لم نكن متبعين بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة عن سليمان التميمي عن المعرور بن سويد قال : كان عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة ، ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه ويقولون : صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر : إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا أبنياءهم فاتخذوها كنائس وبيعاً ، فمن عرضت له الصلاة فليصل ، وإلا فليمض .. ، وهذا هو الأصل فإن المتابعة ، في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل . انتهى .
وللعلامة أحمد العدوي في كتابه أصول في البدع والسنن ( 56 ) : كلام طويل في هذه المسألة أنقله بتمامه لأهميته قال : محض الفعل لا يدل على أن الفعل قربة ، بل يدل على أنه ليس بمحرم فقط وأما كونه قربة على الخصوص فذلك شيء آخر ، فإن الصحابة رضوان الله عليهم وهم أعلم الناس بالدين وأحرص الناس على اتباع الرسول في كل ما يقرب إلى الله تعالى كانوا يشاهدون من النبي صلى الله عليه وسلمأفعالاً ، ولما لم يظهر لهم فيها قصد القربة لم يتخذوها ديناً يتعبدون به ويدعون الناس إليه ولذلك أمثلة كثيرة .
1 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلمحينما كان مهاجراً إلى المدينة أخذ طريق الساحل ، لأنه أبعد عن العدو ، ولو كان مجرد الفعل يدل على القربة لاقتضى أن كل مسافر من مكة إلى المدينة يستن له أن يسلك طريق الساحل وإن كان بعيداً ، ولم يقل بذلك أحد من الصحابة ، فدلَّ ذلك على أنه ليس بسنة من سنن الدين .
2 ـ أن النبي صلى الله عليه وسلماختفى هو وصاحبه في الغار عن أعدائه المشركين ومكث به أياماً يعبد الله حتى تمكن من السفر ، ولو كان محض الفعل يفيد الندب لذهبت الصحابة إلى ذلك الغار لتعبد الله تعالى فيه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، وحيث لم ينقل لنا أن أحداً من الصحابة كان يذهب إلى الغار ليتعبد فيه علم أن العبادة في خصوص الغار ليست مقصودة وأن الفعل بمجرده لا يفيد القربة .
3 ـ روي عن أنس رضي الله عنه قال : (( كان لِنَعْليْ رسول الله صلى الله عليه وسلمقبالان )) . رواه الخمسة إلا مسلماً ، فهذا الصنف هو حذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يكون لبس هذا الصنف سنة من سنن الدين ، ومن لم يلبسه يكون تاركاً لسنة ويعاتب عليها ؟ أم هذا لا يقوله أحد ، ولو كان الفعل المجرد يدل على الندب لكان لبس هذا النوع من الأحذية سنة تبقى ببقاء الأيام .
4 ـ ثبت في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلمفي يوم بدر جاء إلى أدنى ماء من بدر فنزل عنده ، فقال الحباب بن المنذر : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل ، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : (( بل هو الرأي والحرب والمكيدة )) فقال : يا رسول الله ليس هذا بمنزل ، فانهض بالناس نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ، ثم نُغوِّر ما وراءه إلخ ما قال ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (( لقـد أشرت بالرأي )) وعمل برأيه ، وهذا يدل على أن محض الفعل لا يفيد أنه قربة . ووجه الدلالة أن الصحابة لا يرون أن كل فعل للنبي صلى الله عليه وسلمعن وحي من الله تعالى ، بل منه ما هو مستند إلى وحي كالفعل الذي يظهر فيه قصد القربة ، ومنه ما هو مبني على رأي واجتهاد ، ولذلك سأل الحباب بن المنذر بجمع من الصحابة عن المنزل الذي نزل النبي صلى الله عليه وسلمهل النزول فيه عن وحي حتى يذعنوا له ، أو عن رأي واجتهاد حتى يشاركوه فيه ، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلمبأنه عن رأي واجتهاد ، وقد رأوا أن ينزلوا منزلاً آخر هو أنفع منه للحرب ، وأقرب للنكاية بالعدو ، ولو كان فعل الرسول لا يكون إلا عن وحي ما كان لذلك السؤال وجه ، وما صحّ منه موافقتهم وترك الوحي .
5 ـ إن النبي صلى الله عليه وسلمكان يأكل من القوت التمر والشعير ، ومن الفاكهة الرطب والبطيخ والقثاء ، وكان يلبس وهو بالمدينة من نسيج اليمن ، فهل إذا وُجِد الرجل ببلد آخر ، ورأى قوتهم البر والذرة ، وفاكهتهم الرمان والعنب ، وملابسهم غير ملابس اليمنيين ، أيندب له شرعاً أن يبحث عن قوت غير القوت ، وفاكهة غير الفاكهة ، وأن يطلب ملبساً من نسيج اليمن ؟ وكيف يلتئم هذا ، وقول الله تعالى : {يُرِيدُ الله بِكُم اليسْرَ ولايُرِيدُ بِكُم العُسْرَ } ( البقرة : 185 ) .
فظهر مما سقناه من الأمثلة أن الفعل إذا لم يظهر فيه قصد القربة لا يدل على الندب كما لا يدل على الوجوب ، وإنما يدل على رفع الحرج ، وهو ما اختاره الآمدي .
وأما قول الشوكاني : إن القول بإفادته الندب هو الحق ، وتعلله ذلك بأن قوله صلى الله عليه وسلموإن لم يظهر فيه قصد القربة ، فهو لا بد أن يكون قربة ، فهو مجرد دعوى لم يقم عليها دليل ، بل عمل الصحابة يدل على بطلانها ، ولم يأخذ بفعل الرسول في كل شيء حتى في العاديات المحضة سوى عبد الله بن عمر ، كان يتحرى المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلميقضي فيه حاجته ليقضي هو فيه حاجته ، ولم يوافقه جمهور الصحابة ، بل كانوا يفرقون بين الفعل العادي وبين العبادة ، وممن خالفه في ذلك أبوه عمر بن الخطاب ، حتى لا يلتبس على الناس أمر العادات بالعبادات .
وأما قول الشوكاني : [ لا يجوز القول بأنه يفيد الإباحة ، فإن إباحة الشيء بمعنى استواء طرفيه موجودة قبل الشرع ، فالقول به إهمال للفعل الصادر منه صلى الله عليه وسلمفهو تفريط كما أن حمل الفعل المجرد على الوجوب إفراط ] فيرده أن الأصوليين عدا المعتزلة اتفقوا على أن الإباحة حكم شرعي ، فهي لم تثبت إلا بالشرع ، فالقول بأن الفعل يدل على الإباحة ليس إهمالاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولو سلم أنها موجودة قبل الشرع ، فالفعل جاء مقرراً له فكيف يكون مهملاً ؟ وماذا يقول الشوكاني في أدلة الكتاب والسنة المفيدة للإباحة كقوله تعالى:{ وأحِلَّ لَكُمْ ماوَرَاءَ ذلِكُمْ } ( النساء : 42 ) وقوله { ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيبَاتِ }[ الأعراف : 156 ] أيقول إنها مهملة لأن الإباحة موجودة قبل الشرع أو يقول إنها جاءت مقررة ؟ وجوابه على الأدلة القولية هو جوابنا على الأدلة الفعلية . انتهى .

يتبع إن شاء الله
رد مع اقتباس