عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 09-15-2023, 06:15 PM
عبدالله الأحد عبدالله الأحد غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

المصطلحات الحادثة كالجواهر والأعراض:
ما قلناه في مصطلح «الجسم» يُقال أيضًا في مصطلح «الجواهر» ومصطلح «الأعراض»؛ حيث جعل المتكلمون الصفات الفعلية كالاستواء والمجيء والنزول أعراضًا، والعرَض لا يقوم إلا في جسم، وبنوا على ذلك نفي صفات الفعل.
ولما كان المصطلح الكلامي يراد منه نفي الصفات الإلهية كان التوقف فيه هو الأسلم، وإثبات المعنى الصحيح الموافق للكتاب والسُّنة، ونفي المعنى الباطل المخالف لهما.‏
ويتضح هذا من إجابة أبي حنيفة فيما ذكره الهروي عن نوح الجامع قال: «سألتَ أبا حنيفة عما أحدثه الناس من الكلام في الأعراض والأجسام، فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة؛ فإنها بدعة»([22]).
وقد سئل القاضي ابن سريج عن التوحيد، فذكر توحيد المسلمين، وقال: «وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بُعث النبي ﷺ بإنكار ذلك»([23]).
وبنحو ذلك استدل أبو المظفر السمعاني حيث يقول: «وقد علمنا أن النبي ﷺ لم يدعهم في هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر وذكر ماهيتهما، ولا يمكن لأحد من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم من هذا النمط حرفًا واحدًا فما فوقه، لا في طريق تواتر ولا آحاد» ([24]).
وقد اعترف ابن عقيل قائلًا: «أنا أقطع أن الصحابة ماتوا ولم يعرفوا لا الجوهر ولا العرَض. فإن رضيتَ أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت»([25]).
ومقصود هؤلاء الرد على طريقة المتكلمين في «دليل الحدوث والأعراض»، وجعل النظر فيها أول واجب على المُكلف.
وكل ما سبق يؤكّد قوة منهجية ابن تَيميَّة، وأنها قائمة على التفصيل في الألفاظ المجملة التي تنازعتها الفرق، والتوقف في مصطلحاتهم المُحدثة التي لم يرد فيها نص.
وهو موافق للسلف في هذه المسائل، إذ لم يخوضوا في هذه المصطلحات مع معرفتهم بها، بل هو موافق أيضًا للحنابلة ممن لم يدخلوا في علم الكلام كابن قدامة المقدسي وعبد الغني المقدسي وأبي إسماعيل الهروي وغيرهم، وهؤلاء هم جمهرة أهل الحديث، والله أعلم.

مسألة النفي والإثبات للمصطلحات الحادثة من مسائل الفروع لا الأصول:
من الجدير ذكره في هذا المقام: تصحيح ظنّ شائع في الأروقة العلمية، وهو الظن بأن مسألة النفي والإثبات في المصطلحات -كالجسم والجهة والمكان والأعراض ونحوهم- من صميم مسائل العقيدة، أو من مسائل المُفاصلة أو المنافرة أو التبديع عند ابن تيمية، وأن من نفى الجسم أو الجوهر أو أثبت المكان فهو مبتدع -كذا بإطلاق-، وهذا الكلام غير صحيح، والصواب أن المسألة فيها تفصيل.
وقد ذكر ابن تَيميَّة أن إثبات هذه الألفاظ أو نفيها مسألة فقهية (فرعية)، مع كونه بيَّن أن الصواب هو عدم قبولها حتى يُستفصل فيها، فيقول رحمه الله: «وما تنازع فيه الأمة من الألفاظ المجملة كلفظ التحيز والجهة والجسم والجوهر والعرض وأمثال ذلك، فليس على أحد أن يقبل مسمى اسم من هذه الأسماء، لا في النفي ولا في الإثبات حتى يتبين له معناه، فإن كان المتكلم بذلك أراد معنى صحيحًا موافقًا لقول المعصوم كان ما أراده حقًّا، وإن كان أراد به معنى مخالفًا لقول المعصوم كان ما أراده باطلًا. ثم يبقى النظر في إطلاق ذلك اللفظ ونفيه، وهي مسألة فقهية، فقد يكون المعنى صحيحًا ويمتنع من إطلاق اللفظ لما فيه من مفسدة، وقد يكون اللفظ مشروعًا ولكن المعنى الذي أراده المتكلم باطل، كما قال علي رضي الله عنه لمن قال من الخوارج المارقين: لا حكم إلا لله: كلمة حق أريد بها باطل»([26]).
فالمسألة فرعية عند ابن تَيميَّة بشرط أن يكون العالم أثريًّا لا ينفي الصفات، ففي هذه الحالة يُحمل كلامه على معنًى صحيح، ويكون نفي الجسم والأجزاء والحوادث أو إثبات المكان أو نفيه ونحو ذلك راجعًا إلى تقدير هذا العالِم نفسه واجتهاده؛ وذلك لأن النفي له وجه صحيح، فيجب حمل الكلام على ما أراده ذاك العالِم، وأما المتكلمون فمعلوم أن الخلاف معهم أصلي لا فرعي؛ إذ يريدون من النفي التوصُّلَ إلى معانٍ باطلة أو إلى نفي الصفات.
يقول الحافظ السجزي: «والمقابلة لا تقتضي التجسیم کما زعموا؛ لأن المرئيات في الشاهد لا تخرج عن أن تكون جسمًا أو عرضًا على أصلهم، والله سبحانه باتفاقنا مرئي، وليس بجسم ولا عرض، وإذا صح ذلك جاز أن يرى عن مقابلة، ولا يجب أن يكون جسمًا»([27]).
والسجزي في النقل السابق إنما أراد الجسم والعرض اللغوي لا الكلامي -كما أسلفنا-، وقد يُقبل منه هذا النفي لأنه أراد به معنى صحيحًا.
والمقصود أنه إذا صدر هذا النفي من المُتكلمين الذين ينفون الصفات بهذه المصطلحات، فلا يُقبل منهم هذا حتى نستفصل في قصدهم، وأما إن صدر النفي أو الإثبات من المعروف بالسُّنة -كالسجزي والدارمي ونحوهما- حُمل كلامهم على ما أرادوه من محامل صحيحة، وفي تلك الحالة تكون مسألة فرعية اعتبارية ترجع إلى نظر العالِم الأثري واجتهاده، وليست من أصول الاعتقاد التي يُضلل المخالف فيها.
يقول الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيره عند قوله تعالى: {ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54]: “هذه الآية الكريمة وأمثالها من آيات الصفات كقوله تعالى: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ونحو ذلك أشكلت على كثير من الناس إشكالا ضلّ بسببه خلق لا يحصى كثرةً، فصار قوم إلى التعطيل، وقوم إلى التشبيه، سبحانه وتعالى علوا كبيرا عن ذلك كله، والله جل وعلا أوضح هذا غاية الإيضاح، ولم يترك فيه أي لبس أو إشكال، وحاصل تحرير ذلك أن الله تعالى بين أن الحق في آيات الصفات متركِّب على أمرين: أحدهما تنزيه الله تعالى من مشابهة الحوادث في صفاتهم سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرا، والثاني الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يصف الله تعالى أحد أعلم بالله من الله”([28]).
فتأمل قول الشنقيطي: (تنزيه الله تعالى من مشابهة الحوادث)، مع أن هذه العبارة هي ذاتها عبارة المتكلمين، ويريدون منها نفي الصفات والأفعال، ولكن الشنقيطي هنا أراد منها معنى صحيحًا، وعرفنا قصده من مجمل منهجه وطريقته.
ووجه النُكتة ههنا التنبيه على خطأ فريقين:
1- التنبيه على خطأ استدلال المخالفين ببعض أئمة الحديث -كالسجزي والدارمي- في نفيهم الجسم والجوارح، والاستدلال بذلك على كونهم يخالفون ابن تَيميَّة، وهذا أمر غير صحيح إطلاقًا. فالمسألة فرعية وليست من الأصول، وابن تَيميَّة يقبل منهم هذا النفي؛ لأنهم أرادوا منه معنًى صحيحًا.
2- التنبيه على خطأ كثير من طلبة العلم في تحقيقاتهم العقدية لكتب الأئمة، حيث يتعقب المُحقق الأئمة ممن صدر منهم هذه الألفاظ ويقول: إن هذا الإمام وقع في زلة أو وافق المتكلمين ونحو ذلك. وهذه طريقة سيئة، تُجرئ المخالف على أهل السنة، وتجعله يظن أن هذا الإمام أو ذاك يوافقه على اعتقاده، وليس الأمر كذلك.
ومن الجدير بالذكر أن ابن بدران الدومي الحنبلي الدمشقي -وهو خاتمة الأصوليين الحنابلة- قد نفى الجسم والجوهر والعرض في كتابه «جواهر الأفكار ومعادن الأسرار المستخرجة من كلام العزيز الجبار»([29]).
مع أنه سلفي المعتقد، وينصح بكتب ابن تَيميَّة، حيث قال عن الكتب العقدية التي ينصح بها في كتابه: «لكننا نرشد الطالب هنا إلى ما فيه مقنع له فنقول: منها (العقيدة الحموية) و(شرح العقيدة الأصفهانية) لشيخ الإسلام ابن تَيميَّة وغيرها من رسائله ومصنفاته»([30]).
كما أنه يثني خيرًا على الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويرى أنه إمام كبير ناصرٌ لمذهب أهل السنة، حيث يقول: «العالم الأثري والإمام الكبير محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي، يتصل نسبة بعبد مناة بن تميم التميمي. ولد سنة خمس عشرة ومائة وألف. وقد رحل إلى البصرة والحجاز لطلب العلم، وأخذ عن الشيخ علي أفندي الداغستاني وعن المحدث الشيخ إسماعيل العجلوني وغيرهما من العلماء. وأجازه محدثو العصر بكتب الحديث وغيرها على اصطلاح أهل الحديث من المتأخرين، ولما امتلأ وِطابه من الآثار وعلم السنة وبرع في مذهب أحمد أخذ ينصر الحق ويحارب البدع، ويقاوم ما أدخله الجاهلون في هذا الدين الحنفي والشريعة السمحاء، وأعانه قوم أخلصوا العبادة لله وحده على طريقته التي هي إقامة التوحيد الخالص والدعاية إليه»([31]).
والقصد مما سبق: أنه لا تلازم أبدًا بين وجود خلاف بين الأثرية في مسائل فرعية تتعلق بالنفي والإثبات، وبين وجود المفارقة المنهجية العقدية بينهم بالضرورة، إنما أردتُ أن أُبيِّن طرفًا من ضبابية المسلك العلمي عند المخالفين حينما يُصدِّرون أن نفي بعض الحنابلة للجسم فيه دِلالة على اختلاف المذهب بينهم وبين ابن تَيميَّة، وأنهم في جهة وهو في جهةٍ أخرى! وهذا بعيد كل البعد عن المسلك العلمي الصحيح، فالمساق العقدي -في المقام الأول- يُعنى بالكليات لا بالجزئيات. والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) «مجموع الفتاوى» (3/ 250).
([2]) نقل أبو الحسن الأشعري في كتابه «مقالات الإسلاميين» اختلاف المتكلمين في مصطلح الجسم على اثنتي عشرة مقالة.
([3]) «مجموع الفتاوى» (5/ 334).
([4]) «شرح حديث النزول» (ص: 130-131).
([5]) «مجموع فتاوى ابن تيمية» (ص: 427-428).
([6]) «منهاج السُنة النبوية» (1/ 259).
([7]) «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية» (ص: 185).
([8]) مجموع الفتاوى (9/ 48).
([9]) «شرح حديث النزول» (ص: 224).
([10]) «مجموع الفتاوى» (6/ 355).
([11]) «مجموع الفتاوى» (3/ 74).
([12]) «مجموع الفتاوى» (6/ 363).
ويقول الدارمي ردًّا على المريسي في «نقضه» (ص: 406): «وأمَّا دعواك أنَّهم يقولون: جارح مركب، فهذا كفرٌ لا يقوله أحدٌ من المسلمين، ولكنَّا نثبت له السمع والبصر والعين بلا تكييف، كما أثبته لنفسه فيما أنزل من كتابه، وأثبت له الرسول، وهذا الذي تكرره -كما تكررون أنتم اليوم مرة بعد مرة جارح عضو وما أشبهه- حشو وخرافات وتشنيع، لا يقوله أحد من العالمين، وقد روينا روايات السمع والبصر والعين في صدر هذا الكتاب بأسانيدها وألفاظها عن رسول الله ﷺ، كما قال، ونعني كما عنى، والتكييف عنَّا مرفوع، وذكر الجوارح والأعضاء تكلف منك وتشنيع».
([13]) «القول التمام» (ص: 140).
([14]) «اعتقاد الإمام أحمد» (ص: 45‏)، ونقله أيضًا الحافظُ البيهقيُّ عنه في «مناقب ‏أحمد» وغيرُه.
([15])«المعتمد في أصول الدين» (ص: 36)
([16]) وإن كان تعريف القاضي ليس دقيقًا.
([17]) انظر هذه الشبهة في كتاب «أساس التقديس» للرازي (ص: 28).
([18]) «ذم الكلام» (1/ 122). وينظر: «ذم التأويل» لابن قدامة (ص: 39).
([19]) «كتاب المحنة» برواية حنبل بن إسحاق (ص: 112-113).
([20]) «البداية والنهاية» (14/ 401).
([21]) «التمهيد» لابن عبد البر (7/ 158).
([22]) «ذم الكلام» (1/ 122) للهروي. وينظر: «ذم التأويل» لابن قدامة (ص: 39).
([23]) ينظر: «مجموع الفتاوى» (17/ 305).
([24]) «الانتصار لأهل الحديث» (ص: ٦٩- ٧١)
([25]) «تلبيس إبليس» (ص: 85)
([26]) «درء تعارض العقل والنقل» (1/ 173).
([27]) «رسالة السجزي إلى أهل زبيد» (ص: 119).
([28]) «أضواء البيان» (2/ 358-359).
([29]) «جواهر الأفكار» (ص: 433).
([30]) «المدخل إلى مذهب الإمام أحمد» (ص: 273).
([31]) «المدخل» (ص: 241).

موقع مركز السلف
التوقيع

اكثروا قراءة الاخلاص وسبحان الله عدد ما خلق سبحان الله ملء ما خلق سبحان الله عدد ما في الأرض والسماء سبحان الله ملء ما في الأرض والسماء سبحان الله عدد ما أحصى كتابه سبحان الله ملء ما أحصى كتابه سبحان الله ملء ما أحصى كتابه،سبحان الله عدد كل شيء سبحان الله ملء كل شيء الحمد لله مثل ذلك وسبحان الله وبحمده عددخلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته واكثروا الصلاة على النبي واكثروا السجود ليلاونهارا
رد مع اقتباس