عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 05-12-2010, 07:32 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي متى يحسن الرد على المخالف ؟

 


للشيخ عبدالعزيز الطريفي


بسم الله الرحمن الرحيم

كثير ممن يطيل الجدل والمناظرة لا يفرق بين بيان إثبات الحجة، وبين الإقرار بها، فيجعل لازم إثبات الحجة أن يُقر المحجوج بها، وهذا ليس من العلم والنظر، ولا من مقاصد التشريع في شيءٍ، وذلك أن محل الإقرار في القلب، واللسان ناقل لما في القلب، والصدق في هذا شاقٌ جداً، حتى ربما ظهر الحق لجميع السامعين، ويبقى المحاجَج في سكرة نفي ثبوت الحُجج، والتهوين منها، والتعلق بالإقرار تعلق بباطن لا يمكن الوصول إلى حقيقته، فإلقاء الحجة مع بيانٍ ووضوحٍ يفهمها المجادَل والسامع لو أرادا الفهم، كافٍ في قيام التكليف عليه، لذا لما كان أعظم تكليف هو الإسلام يكفي في ثبوته الإسماع على وجه ولغة يفهمها المخاطب، قال تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله)، فكفى السماع الواضح الصحيح، ولم يُنتظر الإقرار (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلواً) فمن باب أولى الاكتفاء بما دونه من التكليف.

قال الإمام أبو يوسف: إثبات الحجة على الجاهل سهل، ولكن إقراره بها صعب.

وليكتفي صاحب الحق بالقدر الكافي من البيان وتكراره، من غير استرسال مع لجاجة صاحب الباطل، فكل قول باطل يندثر ويتلاشى بانخفاض صوت صاحبه، وأما الحق فيعيش في النفوس ويبني بها صروحاً لا تندثر بموت أصحابها فضلاً عن أصواتهم (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) .

وينبغي لصاحب الحق أن يفصل بين ذاته والحق الذي يحمله، فلا ينتقم لحظ نفسه بالحق الذي معه عند الخطأ عليه، فبين حظ النفس وحظ الحق قدر مشترك دقيق لا يَعرف قدره إلا الندرة من الناس، وكم فوّت الكتاب من حظ الحق، بسبب استكمالهم حظ أنفسهم من حيث لا يشعرون، فيقابلون السوء بسوء مثله وزيادة، فيصدون عن الحق وكلما زاد حظ النفس أكل من حظ الحق، وربما كانت الغلبة لشبهة الباطل لأن الذي يقابلها شهوة في صورة حق، والشبهة أقوى من الشهوة.

والمناظر في الحق قاضٍ يقضي في حق الله، فلا يقضي وقلبه منصرفٌ إلى غير الحق، وفي الحديث "لا يقضي القاضي وهو غضبان" وهذا في تفويت حق البشر فكيف في تفويت حق الله.

ويُقابل هذا أن يحجم عن بيان الحق، خوفاً على حظ نفسه من أن يتنقصه جاهل أو يلومه في نفسه لائم، فهذا لم يهتم أن ينتقص الحق واهتم لتنقص نفسه، وأكثر أهل الحق عند الفتن من هذين النوعين، والمنصفون عند ذلك قليل جداً.

ومن خاف ملامة الناس إذا كتب وبيَّن، كتب إذا أوجس مدحاً أو حمداً، وهؤلاء من أسباب اضطراب العامة في الدين، وكثرة المنافقين .

والمجادِل وإن كان قوي الحجة حاضر البينة فإنَّه يخاصم إلى غير قاض، وإنما قاضيه عقل مقابله بالإقرار أو عدمه، ومرد ذلك إلى كمال العقل والإنصاف وتمام الديانة وهذه خصال نادرة التوافق في فرد .

وأصعب الأقوال رداً أشدها سقوطاً، لأن مردَّها إلى التسليم بها، فلم يخطر في بال عاقل وجودها فضلاً عن استحضار جوابٍ في الذهن سابقٍ لها.

ومن الأعباء الشاقة التصدي لرد جهالة لجوج جاهل مستحكمة الجهل، من جهتين :
- من جهة استحكام جهالته،
- ومن جهته هو،

فإن من لم يرفع نفسه عن قدر الجاهل رفع الجاهل قدره عليه.

فإن من المجادلين مجادل مع جهل وكبر، تتناسخ في ذهنه الجهالات، فكلما رددت واحدةً أورد مثليها، فتُريد أن ترد شبهة تخشى وقوعها في أذهان الناس، فيأتي بشبهات أُخرى ربما تقع في أذهان الناس موقعاً أكثر من سابقتها، لا تجد وقتاً لتتبعها لسقوطها عندك، وهي عند بعض الناس حق محكم، فتعين في ثبات الباطل بابتداء الرد عليه، فمن كمال الأدب مع العلم، الاعتداد بمآلات الأحوال ومعرفة الأعيان، ومن المعارف التي لا يُدركها بسطاء الناس عدم الرد على من كانت هذه حاله، لأن انشغال الناس بجهالة واحدة يبديها، ثم تتبدد في جو الحق السائد، خير من انشغالهم بجهالات كثيرة يولِّدها، وتَرقيع بعض الجهالات يوسعها، ونسج ثوب حق تام أفضل من ذلك.

ولذا يقول الأحنف بن قيس: قطيعة الجاهل، تعدل صلة العاقل .

والكلام ساقط المعنى يختلف في قدر سقوطه، منها ما يسهل رده وإعادته إلى الجادة ومنها ما يجد الناقد مشقة في رده لقوة سقوطه.

وكثير من الأقوال الخاطئة التي يرميها الكتاب والمتحدثون كالمتاع يسقط من يد صاحبه، بعضه سهل تناوله، وبعضه لا يؤبه به ويسقط في بئر سحيقة تناوله متعذر، والمصلحة في تركه، وقد يوصف تاركه حينها بالعجز، وينبغي أن لا يضره ذلك في نفسه، ولا يضره عند العقلاء، ولا يمكن أن يستكمل العالم اسم العلم، حتى يسمع الكلمة العَوراء فيجعلها خلف أذنه.

وقد يجد الإنسان صعوبة في رد حجة الجاهل مستحكم الجهل، لأنه يحتاج نوعاً نازلاً من العلم يليق بنزول جهالته.

وكثرة المجادلة في المسألة ليست محمودة في حد ذاته، ما لم يُنظر إلى دلائل الاقتران بها حالاً وما تؤول إليه، ولا ينبغي للعالم أن ينساق وراء ما يريد الجاهل من المراجعة والمقاولة، وما عليه أكثر مما بينّه.

لأن الجاهل لا يعرف نفسه قدر معرفة العالم له ولقوله، لأن العالم كان جاهلاً من قبل، وأما الجاهل فلا يعرف العالم لأنه لم يكن مرة عالماً.

وقد يكون الحق بيِّناً، وصاحب الباطل معاند معروف العناد، فتجب محاججته وبيان الحق لا له بل لمن وراءه ومن يتابعه، فهذا أبو لهب حكم الله بعدم إيمانه، وقطع بدخوله النار، (تبت يدا أبي لهبٍ وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب)، ومع ذلك بقي النبي صلى الله عليه وسلم يحاججه وقومه دهراً، لأن المقصود قومه في صورته لكونه سيداً متبوعاً.

والعالم يُدرك من أنواع وأجناس وأعداد المخاطبين ما لا يدركه غيره، فربما خاطب فرداً وسماه وهو يُريد غيره، وربما خاطب فرداً وهو يُريد جماعة، وربما أحجم عن تسمية فردٍ يستحق الردع، استصلاحاً لغيره ممن يشركه في منكره من أهل العناد، أو ممن يمد له بسببٍ ونسبٍ إغلاقاً لمدخل الشيطان عليهم من الذب عنه والتماس التأويل الباطل له، لاختلاط الهوى بالحق، فتكون حينئذٍ فتنة جماعة بعد أن كانت فتنة فردٍ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل مع بعض المنافقين من الأوس والخزرج، وهذا من البصيرة المذكورة في قوله تعالى: (قل هذِهِ سَبِيلِي، أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)
رد مع اقتباس