عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 12-09-2011, 08:39 PM
أبو مصعب الأزهري أبو مصعب الأزهري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 




افتراضي


الفصل الثالث:ــ

ضوابط المنهج المطلوب


هذا المنهج أساسه وقوامه العلم والعدل والقسط وذلك امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى:
{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى}، فالمتحدث في مثل ما يصدر من المسلمين من أخطاء، ويقع بينهم من خلافات واجتهادات، وما يتعلق بأمور الدين، والحكم في ذلك، وتحديد الموقف الشرعي منه، وتقدير درجة الخطأ فيه، وما يترتب على ذلك، لا بد أن يكون متصفاً بالعلم والعدل والإنصاف بعيداً عن الجهل والظلم والبغي، لأنه في هذا المقام يكون بمنزلة القاضي في هذه الأمور الخطيرة الكبيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة، رجلٌ علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجلٌ علمَ الحق فقضى بغيره فهو في النار، ورجلٌ قضى للناس على جهل فهو في النار).

يقول ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذا الحديث:
(فإذا كان من يقضي بين الناس في الأموال والدماء والأعراض إذا لم يكن عالماً عادلاً كان في النار، فكيف بمن يحكم في الملل والأديان، وأصول الإيمان، والمعارف الإلهية والمعالم الكلية بلا علمٍ ولا عدل).

ومع ذلك فإننا نجدُ كثيراً من العاملين للإسلام من أيسر الأمور عليهم الحكم على الناس بالضلال والانحراف، أو الهدى والعصمة، دون بينة من علم أو عدل.

يقول ابن القيم رحمه الله مبيناً صفات من يحق له الكلام في هذا المقام:
(وعلى المتكلم في هذا الباب وغيره أن يكون مصدر كلامه عن العلم بالحق، وغايته النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولإخوانه المسلمين، وإن جعل الحق تبعاً للهوى فسد القلب والعمل والحال والطريق، قال تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهنّ}، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جُئت به).

وهذا المنهج الذي أساسه العلم والعدل والإنصاف، والذي هو منهج أهل السنة والجماعة يقابله منهج أهل الأهواء والبدع والتفرق الذي يقوم على نقيض ذلك من الجهل والظلم والتعصب.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هؤلاء إن همهم:
(أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نُسِبَ إليهم لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلاً سيئ القصد ليس له علمٌ ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله... ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس).

وكأن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يصف بكلامه هذا حال العديد ممن ينتسبون إلى العمل الإسلامي اليوم، وليس لهم ميزان لمعرفة الحق إلا الهوى والظن والجهل، وليس عندهم من وسائل الإقناع إلا التعصب الأعمى والبغي المقيت، ويشارك أهلَ الأهواء والبدع في هذا المنهج من فتنوا بالسلاطين وما عندهم من مال، وما لديهم من نفوذٍ وجاه.

يقول الإمام الشاطبي بعد أن بين منهج أهل الأهواء والبدع: (ويدخل في غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم أو طلبا للرئاسة).

وكأن الشاطبي رحمه الله أيضا يشير بكلامه هذا إلى ما ابتليت به الأمة الإسلامية من علماء السوء والبلاط، حواشي السلاطين والطغاة، الذين ليس لهم هم إلا تفصيل الفتاوى " الشرعية!! " على مقاسات أهواء الطواغيت فأصاب الدين والأمة نتيجة هذا الحلف البغيض بين علماء السوء وحكامه ما أصابهم، ورحم الله ابن المبارك حيث يقول:

وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

ونظراً لما لمنهج أهل السنة والجماعة الذي هو منهج الحق والإنصاف من دورٍ في القضاء على أسباب الفرقة والخلاف والعمل على تحقيق الاجتماع والائتلاف، فلا بد من بيان أهم الضوابط التي تمثل مجتمعة معالم هذا المنهج.

وفيما يلي ذكرٌ لأهم هذه الضوابط...

الضابط الأول: الحق يُعرف بنفسه لا بالرجال:

يعتبر كثيرٌ من الخلافات والنزاعات التي تعج بها الساحة الإسلامية راجعاً إلى التعصب لحزب معين أو جماعة بذاتها أو شخصٍ بنفسه تعصباً أعمى دون بينة من علم أو معرفة بما يجب من اتباع الحق إذا تبين وجعله فوق الجميع، وأن الحق أحق أن يتبع وأنه يُعرف بنفسه لا بمن يحمله.

والأضرار التي تترتب على التقليد الأعمى والتعصب المقيت تنبه إليها سلفنا الصالح رضي الله عنهم مبكراً فحذروا منها ونفروا.

يقول ابن مسعود رضي الله عنه : (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا قدوة في الشر).

ويقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: (لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت).

ويقول الإمام مالك رحمه الله: (إنما أنا بشرٌ أخطيء وأُصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه).

ويقول الإمام أحمد رحمه الله: (لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا).

ورضي الله عن الإمام علي بن أبي طالب حيث يقول:
(لا تعرف الحق بالرجال ولكن اعرف الحق تعرف أهله).

إننا إذا عملنا بمقتضى هذه القاعدة زالت كثيرٌ من أسباب الفرقة والخصام بيننا، وعرفنا فعلاً أن انتماءنا الحقيقي هو للحق الذي فوق الجميع دون تعصب أعمى لطائفة أو مذهب أو شخص، بل نوافق كل شخص وطائفة على ما معهم من الحق، ونخالفهم فيما عندهم من الباطل.

وما أروع ما سطره الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله:
(عادتنا في مسائل الدين كلها دقها وجلها أن نقول بموجبها ولا نضرب بعضها ببعض ولا نتعصب لطائفة على طائفة بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق ونخالفها فيما معها من خلاف الحق، لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة).

والسبب فيما قاله ابن القيم رحمه الله هو أنه لا توجد طائفة تحتكر جميع الحق وتخلو من جميع الباطل، بل إن كل طائفة من هذه الطوائف معها حقٌ وباطلٌ وتتفاوت في ذلك.

يقول ابن القيم رحمه الله:
(فإن كل طائفة معها حقٌ وباطل وتتفاوت في ذلك، فالواجب موافقتهم فيما قالوه من الحق ورد ما قالوه من الباطل، ومن فتح الله له بهذا الطريق فقد فتح له من العلم والدين كل باب، ويسّر عليه فهم الأسباب). ويقول ابن تيمية رحمه الله في شأن من يوالي طائفته أو زعيمه ولاءاً مطلقاً في الحق والباطل، ومبيناً حكمه: (من مال مع صاحبه - سواء كان الحق له أو عليه - فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج من حكم لله ورسوله).

ويقول رحمه الله مبيناً المنهج الصواب في هذا الموضوع:
(والصواب أن يحمد من حال كل قوم ما حمده الله ورسوله، كما جاء به الكتاب والسنة، ويذم من حال كل قوم ما ذمه الله ورسوله كما جاء به الكتاب والسنة).

فأين هذا المنطق والإنصاف والعدل من الغارات التي يشنها بعض الناس على إخوانهم العاملين للإسلام بسبب التعصب والتحزب، إحياء لمذهب الجاهلية الاولى التي يقول لسان أصحابها {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}.

هذه الجاهلية التي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن مبتغي سنتها:
(أبغض الناس إلى الله ثلاثة، ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه).

ويقول بشأن من دعا إلى عصبيتها: (ليس منا من دعا إلى عصبية).

هذه العصبية الجاهلية في هذه الأمة، هي مما اتبعت فيه أهل الكتاب قبلها الذين قال الله عنهم:
{وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله، قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم}.

يقول ابن تيمية رحمه الله في هذه الآية: (فوصف اليهود بأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له، وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة في العلم أو الدين، أو إلى رئيس معظم عندهم، فإنهم لا يقبلون من الدين لا فقها ولا رواية إلا ما جاءت به طائفتهم).

وقد رأينا بعضاً من الطوائف الإسلامية اليوم من هذه حاله ولا حول ولا قوة إلا بالله!!

وهذا مصداقٌ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟).

ورحم الله ابن تيمية حيث يقول بعد أن فَنَدَ دعاوى المتعصبين الذين يمتحنون الناس بالولاءات العصبية والمذهبية:
(فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تتفرق وتختلف حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي أخرى بالظن والهوى... فهذا فعل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم، أما أهل السنة فهم معتصمون بحبل الله).

ولا يعني ذم التعصب للجماعات والمذاهب والأشخاص عدمَ شرعية الانتماء إليها والانتساب، بالضوابط الشرعية للتعاون على البر والتقوى، فهنالك فرقٌ بين الانتساب المشروع والتعصب الممنوع.

ومع وضوح هذا المنهج فإن مما يدعو للعجب غيابه المذهل من واقعنا حيث نرى بعضاً من الجماعات والأفراد يدعي كلٍ لنفسه أنه هو وحده الذي على الصواب والحق، ومن سواه على خطأ وباطل!! ويربي أتباعه على هذا المنهج المعوج الذي تفرقت به الساحة الإسلامية إلى شيعٍ وطوائف، توالي وتعادي بالظن والهوى، شأن أهل الأهواء والبدع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الضابط الثاني: لا عصمة لغير الأنبياء:

الخلافات الموجودة بين العاملين للإسلام يرجع بعض أسبابها إلى أخطاء بعض هؤلاء وموقف البعض الآخر من تلك الأخطاء، حيث توجد مجموعات وأفراد من أولوية اهتماماتها تصيد الأخطاء ورصدها وجمعها وتقديمها شاهد إدانة ضد من صدرت منهم، عاملة بذلك على هدم مكانتهم ومنزلتهم في قلوب المسلمين، بتوجيه مباشر أو غير مباشر من أعداء الأمة الداخليين والخارجيين.

وتخفيفاً من حدة هذا العامل فإن من المهم أن نبين أن الخطأ صفة ملازمة للبشر لا ينجو منها إلا الأنبياء المسددون بالوحي وكلُ من سواهم لا بد أن تقع منهم أخطاء وزلات.

يقول صلى الله عليه وسلم: (كلُ ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون).

وهذا العموم الذي عبر عنه صلى الله عليه وسلم بلفظ "كل" يدخل فيه كلُ البشر غير المعصومين بمن فيهم الصحابة والتابعون والصديقون والشهداء والصالحون، فكلُ هؤلاء غير معصومين لا من الذنوب ولا من الخطأ سواءً في المسائل الخبرية القولية، أو المسائل العملية.

وستأتي معنا أمثلة لبعض ذلك، والمقصود هنا هو بيانُ أن الخطأ لا ينجو منه غير المعصوم.

الضابط الثالث: لا تلازم بين الخطأ والإثم:

كثيرٌ من الجماعات والأفراد يغيب عن أذهانهم الفرق بين حصول الخطأ وترتب الإثم عليه، فيؤثمون كلَّ من صدر منه خطاٌ مخالفٌ للصواب، وشيوع هذا الفهم ساعد على زيادة الخلافات والنفرة بين المسلمين.

والحق أن الإثم محطوط عن المجتهد إذا ما استفرغ وسعه في طلب الحق ولو لم يوفق إليه،
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم اخطأ فله أجر).

وهدي الصحابة رضوان الله عليهم وموقفهم من اجتهادات بعضهم يشهد لذلك.

يقول الآمدي رحمه الله في كتابه " إحكام الأحكام ": (وحجة أهل الحق في ذلك "عدم تأثيم المجتهد المخطئ" ما نُقِلَ نقلاً متواتراً لا يدخله ريبة ولا شك، وعُلِمَ علماً ضرورياً من اختلاف الصحابة فيما بينهم في المسائل، مع استمرارهم على الاختلاف إلى انقراض عصرهم، ولم يصدر منهم نكيرٌ ولا تأثيمٌ لأحدٍ، لا على سبيل الإبهام ولا التعيين، مع علمنا أنه لو خالف أحدٌ في وجوب العبادات الخمس وتحريم الزنا والقتل لبادروا إلى تخطئته وتأثيمه).

ويقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله مبيناً بعضَ ما يُعذَرُ به المجتهد المخطئ: (والقول قد يكون مخالفاً للنص وقائله معذور، فإن المخالفة بتأويلٍ لم يسلم منها أحدٌ من أهل العلم، وذلك التأويل وإن كان فاسداً فصاحبه مغفورٌ له لحصوله عن اجتهاده).

ويقول ابن تيمية رحمه الله: (إن كثيراً من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، وفي الصحيح أن الله قال قد فعلت).

ويقول رحمه الله في شأن المجتهدين من الصديقين والشهداء والصالحين: (وأما ما اجتهدوا فيه فتارةً يصيبون وتارةً يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم وخطؤهم مغفورٌ لهم. وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارة يغلون فيهم ويقولون إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون إنهم باغون بالخطإ، وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يؤثمون، ومن هذا الباب تولد كثيرً من فرق أهل البدع والضلال).

ويقول أيضاً: (ومن جعل كل مجتهد في طاعة اخطأ في بعض الأمور مذموما معيباً ممقوتاً، فهو مخطىء ضال مبتدع).

ويقول في بيان أعذار بعض من خالف معتقد أهل السنة والجماعة بعد أن بين هذا المعتقد رحمه الله: (وليس كلُ من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك، فهذا أولى).

هذه مواقف علماء الأمة من أخطاء المخطئين في مسائل مهمة يلتمسون الأعذار للمخطئين ويبينونها، فكيف لا يسعنا نحن اليوم أن نتغافر ونلتمس الأعذار لبعضنا في مسائل فرعية واجتهادية أقل شأناً بكثيرٍ من تلك المسائل؟!

خاصة أننا في وقت طغى فيه الكفر الأكبر، وبغى العدو الأخطر، الأمر الذي يستدعي تبريد حرارة الخلافات المحتملة بيننا، وتوحيد الجهود والكلمة.

الضابط الرابع: لا قدوة في الخطإ ولو كان صاحبه معذورا:

هذا الضابط يعتبر بمثابة تقييد للضابط السابق، لأنه قد يظن بعض الناس أن المجتهد إذا كان مغفوراً له خطؤه جاز اتباعه في ذلك الخطإ، وهذا خطأ، فاجتهاد المجتهد إذا تبينت مخالفته للصواب تعين طرحه والأخذ بما دل عليه الدليل، وليس في هذا تنقيص للمجتهد ولا حط من مكانته، فالحق أحق أن يتبع.

يقول الإمام الذهبي رحمه الله: (إن الكبير من أئمة العلم إذا كُثر صوابه وعُلِمً تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعُرِفَ صلاحه وورعه واتباعه يُغفَر زلله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ونرجو له التوبة من ذلك).

ويقول ابن تيمية رحمه الله في نفس المعنى: (ومما يتعلق بهذا المعنى أن يُعلَم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوعٌ من الاجتهاد مقروناً بالظن ونوعٍ من الهوى الخفي، فيحصل بذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين. ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه من الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد... ومن سلك طريق الاعتدال عظّم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه فيعظم الحق ويرحم الخلق ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمدُ ويُذَمُ ويُثابُ ويُعاقبُ، ويحب من وجه ويُبغضُ من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم).

ويقول ابن القيم رحمه الله في الرجل الجليل من أهل الإسلام إنه: (قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذورٌ بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين).

وليس من الخطإ الذي يعذر صاحبه ويؤجر خطأ الذين انحازوا لمعسكر الطواغيت والباطل وسخروا أنفسهم لخدمة ومحاربة الحق وأهله، فباعوا دينهم بدنيا غيرهم، فهؤلاء متبعون لأهوائهم، لا مخطئون في اجتهادهم، وهنالك فرق بن الخطإ في الاجتهاد واتباع الهوى، بعد أن قامت الحجة واتضح الصواب.

إذا عُلِمَ كل ما سبق أدركنا حجم الخطإ الذي يقع فيه كثيرٌ من المسلمين اليوم، والعاملين للإسلام خصوصاً الذين ضيعوا هذه الضوابط فوقع بعضهم في أخطاء ووقع بعضٌ في الأخطاء المقابلة، وقَلَّ من سلك سبيل القصد الذي هو وسط بين الغلاة والجفاة.

وكما لا يجوز اتباع المخطيء في خطئه المغفور له، فإن من المطلوب شرعاً كذلك بيان الخطإ بالضوابط الشرعية للبيان، بحيث يكون الهدف هو بيان الحق والدعوة إليه برفق والتماس العذر للمخالف في حرصٍ على نصحه واستجابته، ولا يكون الهدف هو القدح والتجريح والتشنيع والتجديع والتبديع.

الضابط الخامس: لا تلازم بين الخلاف في الرأي واختلاف القلوب:

إن تعدد وجهات النظر واختلاف الآراء، وتعدد الاجتهادات أمورٌ طبيعية وهي نتيجة حتمية لتفاوت المدارك والعقول وتعارض الأدلة وغياب بعضها.

والخلاف بهذا المعنى أمرٌ لا بد منه وهو واقع لا محالة للأسباب السابقة وغيرها.

لكن هذا الخلاف لا يجوز أن يكون سبباً لتنافر القلوب وتفريق الجماعة والحكم على المخالف بلا علمٍ ولا عدل، فقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في الكثير من الأمور في المباحث المختلفة الفقهية وغيرها.

يقول ابن تيمية رحمه الله: (وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً}، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع).

وضرب رحمه الله أمثلة لما جرى فيه الخلاف بما جرى بين عائشة رضي الله عنها وغيرها من الصحابة، فقد أنكرت أن يكون الأموات يسمعون دعاء الحي لما قيل لها إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، فقالت: (إنما قال؛ إنهم ليعلمون الآن أن ما قلتُ لهم لحق). ومع هذا فلا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام...)، وأم المؤمنين تأولت والله يرضى عنها. وكذلك معاوية قيل عنه في أمر المعراج إنه قال إنما كان بروحه، والناس على خلاف معاوية رضي الله عنه، ومثل هذا كثير.

(وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبقَ بين المسلمين عصمة ولا أخوة، ولقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وهما سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة، فأدركتهم العصر في الطريق فقال قومٌ لا نصلي إلا في بني قريظة ففاتهم العصر، وقال قومٌ لم يرد منا تأخير الصلاة فصلوا في الطريق، فلم يُعِبِ واحداً من الطائفتين. وهذا وإن كان في الأحكام فما لم يكن في الأصول المهمة فهو ملحقٌ بالأحكام).

ويضرب ابن تيمية رحمه الله أمثلة أخرى للاختلاف في الأحكام، فيقول " وكذلك تنازع المسلمون في الوضوء من خروج الدم بالفصاد والحجامة والجرح والرعاف والقيء... وكذلك تنازعوا في كثير من مسائل الفرائض... ومسائل الطلاق والإيلاء... وفي كثير من مسائل العبادات في الصلاة والصيام والحج وفي مسائل زيارات القبور... وتنازعوا في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم هل يسلم عليه في المسجد وهو مستقبل القبلة؟ أو مستقبل الحجرة؟ وهل يقف بعد السلام يدعو له أم لا؟).

ومع كل هذا الخلاف في هذه المسائل الكثيرة بين السلف، فإنه لم يبدع بعضهم بعضاً ولا كفَّره ول فَسَّقه.

يقول ابن تيمية رحمه الله: (وما زال كثيرٌ من السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحدً منهم على أحد لا بكفر ولا فسق ولا معصية).

هكذا كان السلف رضوان الله عليهم في خلافهم العلمي، فلم يكن هذا الخلاف في الرأي يؤدي إلى اختلاف القلوب وفساد الجماعة وتفرق الكلمة واتهام بعضهم بعضاً، مع أن دولة الإسلام كانت قائمة، وشوكته ظاهرة، وبيضته محمية، ورايته مرفوعة، فما أحرانا معشر العاملين للإسلام اليوم أن نقتدي بهم ونهتدي بمنهجهم! فحاجتنا إلى هذا المنهج - ونحن فيما نحن فيه من الاستضعاف - أكثر إلحاحاً حتى نستطيع توحيد الكلمة تحت راية التوحيد دفعاً للكفر الأكبر.

إن شاء الله يتبع وضع بقية الضوابط
في المرة القادمة ...

التوقيع

جرِّد الحجة من قائلها، ومن كثرة القائلين وقلّتهم بها، ومن ضغط الواقع وهوى النفس، واخلُ بها والله ثالثكما، تعرف الحق من الباطل .
ــــــــــــــــ
لن يُنصَف الحقُّ إلا إذا كان القلب خالياً عند الكتابة من كل أحدٍ إلا من خالقه سبحانه، وكم من الأشخاص يجتمعون في ذهن الكاتب والقائل عند تقييده للحق فيُصارعونه ليَفكوا قيده، فيضيع الحق، ويضيع معه العدل والإنصاف.
الشيخ الطريفي ـ وفقه الله ـ
رد مع اقتباس