عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 12-08-2011, 03:20 AM
أبو مصعب الأزهري أبو مصعب الأزهري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 




افتراضي

الفصل الأول :ــ

الأدلة في الموضوع


على الرغم من أن نصوص الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة من السلف والخلف كلها متضافرة متواترة في الدلالة على وجوب وحدة المسلمين وحرمة فرقتهم، إلا أن الغياب المذهل لهذا الموضوع من الواقع العملي للمسلمين يدفعنا إلى إعادة الطرق على أدلته من جديد، فمن المؤسف والمحزن أن الخلاف والفرقة بين المسلمين لم تعد شيئاً موروثاً من التركة السلبية الثقيلة التي ورثها المسلمون من العصور الماضية، وعهود الاحتلال المباشر، بل إن هذه الخلافات أصبحت تؤصل وتعمق في واقع الصحوة الإسلامية من قبل بعض العاملين للإسلام، الذين يربون الأجيال على هذه الخلافات، ويرسخون في أذهانهم بصورة عملية أن العمل بمقتضاها داخل في أصول الولاء والبراء، حتى أننا لطول ما ألفنا هذه الخلافات التي ولدنا ونشأنا فيها تبلد إحساسنا تجاهها، بل أصبح المعروف الذي هو الاجتماع والائتلاف منكراً، وأصبح المنكر الذي هو الفرقة والخلاف معروفاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!

إن المسلم ليصاب بالدهشة والحيرة أمام هذه الحال وهو يطالع ذلك الحشد الهائل من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأقوال علماء الأمة، فضلاً عن الأدلة العقلية والواقعية التي تتضافر وتتآزر في الدلالة على هذا الموضوع.

يقول الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون}، فهذه الآية يبين الله تبارك وتعالى فيها أن العمل على الوحدة بين المسلمين فريضة شرعية عظيمة، وأن تحقق تلك الوحدة نعمة إلهية كبيرة، وأن الفرقة معصية كبرى ونقمة جلى.

روى ابن جرير الطبري رحمه الله عند تفسير هذه الآية بسنده عن قتادة أنه قال: (إن الله عز وجل قد كره لكم الفرقة وقدم إليكم فيها، وحذركموها ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة، والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم).

وروى بسنده عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تستحبون في الفرقة).

ويقول ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: ( وقوله تعالى: {ولا تفرقوا} أمرهم بالجماعة ونهاهم عن الفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة في النهي عن التفرق والأمر بالاجتماع).

ويقول القرطبي رحمه الله عند تفسير الآية السابقة: (فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة، ورحم الله ابن المبارك حيث يقول:

إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا).

وقال عند تفسير قوله تعالى {ولا تفرقوا}: (... ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا عباد الله إخوانا، فيكون ذلك منعا لهم من التقاطع والتدابر).

ونُقِلَ عن ابن عباس أنه قال لسماك الحنفي: (يا حنفي، الجماعة الجماعة، فإنما هلكت الأمة الخالية لتفرقها، أما سمعت الله يقول: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}).

ويقول عز وجل: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبؤهم بما كانوا يفعلون}، فقد ذم الله تبارك وتعالى المفرقين لدينهم المتفرقين فيه ممن كانوا شيعاً وأحزاباً وطوائف متفرقة على غير هدى من الله تبارك وتعالى، وبرأ رسوله صلى الله عليه وسلم منهم.

وحذرنا سبحانه وتعالى من أن نكون من هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون بقوله تعالى: {... ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، كل حزب بما لديهم فرحون}.

وفضلاً عن كون التفرق والاختلاف معصية لله تبارك وتعالى، فإنه سبب للخذلان والهزيمة والفشل، فقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أن سبب هزيمة المسلمين يوم أحد هو ما كان من المعصية والتنازع بين بعض المسلمين قال تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضلٍ على المؤمنين}.

وليس هذا خاصاً بالمسلمين في أحد، بل إن النزاع والخلاف مدعاة للفشل وذهاب الريح في كل زمان ومكان كما أخبر تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}.

ومن الأحاديث التي وردت في هذا الموضوع قوله صلى الله عليه وسلم محذراً هذه الأمة من الخلاف الذي أهلك الله بسببه الأمم السابقة: (إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب).

وقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة).

وقوله صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة).

والجماعة التي يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر بالتزامها، لها عدة معانٍ تدور حول الحق وأهله المجتمعين عليه.

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا...).

ومن أقوال علماء الأمة في موضوع الاجتماع وأهميته والتفرق وخطورته، ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قائلاً: (إن من القواعد العظيمة التي هي جماع الدين تأليفَ القلوب واجتماعَ الكلمة وصلاحَ ذات البين، فإن الله يقول {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} ويقول {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا...} وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة).

ويقول أيضا ً: (من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالائتلاف والاجتماع والنهي عن الاختلاف والفرقة).

ويقول أيضاً في أسباب الفرقة وأسباب الاجتماع ونتائج كل منهما: (إن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله... وسبب الفرقة ترك حظ مما أُمر العبد به والبغي بينهم).

(ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه... ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول منهم).

ويقول أيضاً في نفس الموضوع: (فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب).

ومع أن الخلاف كله شر كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ، إلا أن الخلاف الذي يحصل من العلماء والكبراء أكبر خطراً، وأعظم أثراً من أي خلاف يقع من بقية فئات الأمة.

يقول ابن تيمية رحمه الله مبيناً الأثر الخطير لهذا النوع من الخلاف: (وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشائخها وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله).

تلك كانت بعضٌ من النصوص والنقول التي تتضافر في الدلالة النقلية والعقلية على وجوب الوحدة والائتلاف بين المسلمين، وحرمة التفرق والاختلاف بينهم، وتؤكد أن الوحدة سبيلُ القوة والنصر والتمكين، وأن الفرقة سبيلُ الفشل وذهاب الريح في الدنيا، والعذاب والخزي يوم القيامة.

والسؤال الذي يطرح نفسه بعد هذا هو: أين المسلمون اليوم من مقتضيات هذه الأدلة؟

والإجابة على هذا السؤال هي موضوع الفصل التالي...
التوقيع

جرِّد الحجة من قائلها، ومن كثرة القائلين وقلّتهم بها، ومن ضغط الواقع وهوى النفس، واخلُ بها والله ثالثكما، تعرف الحق من الباطل .
ــــــــــــــــ
لن يُنصَف الحقُّ إلا إذا كان القلب خالياً عند الكتابة من كل أحدٍ إلا من خالقه سبحانه، وكم من الأشخاص يجتمعون في ذهن الكاتب والقائل عند تقييده للحق فيُصارعونه ليَفكوا قيده، فيضيع الحق، ويضيع معه العدل والإنصاف.
الشيخ الطريفي ـ وفقه الله ـ
رد مع اقتباس