عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 03-31-2011, 02:39 AM
أم كريم أم كريم غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

لمَ يوجَّه الخطاب الشرعي؟

السؤال:

ما المقصود بحُرمة العَيْن عند الأحناف؟ وكيف يُستنبَط هذا الحُكمُ من الأدلة؟ وما كُتب الأصول التي يمكن الرجوع إليها في هذه الجزئية؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فنسأل الله لكَ العون على ما تبذل في سبيل طلب العلم: اللهم علِّمه ما ينفعه، وانفعه بما علَّمته، وزِدْهُ علمًا.

تُطْلق العَيْن في اللغة، ويُراد بها عدةُ معانٍ، وذلك بحسب السياق الذي تَرِد فيه، ومنها: حاسة البصر والرؤية، والجاسوس الذي يُبْعث ليَتجسَّس الخبرَ، ويسمى ذا العَيْنَين، وعَيْنُ الماء، والعَيْنُ التي يخرج منها الماء، واليَنْبُوع الذي يَنْبُع من الأرض ويجري، والذَّهَبُ عامَّةً، والدينار، والمالُ العَتيدُ الحاضر الناضُّ، والنَّقْدُ، وخيار الشيء، وحقيقة الشيء، يقال: جاء بالأَمر من عَيْن صافِيةٍ؛ أَي من فَصِّه وحقيقته، وجاء بالحق بعَيْنه؛ أَي: خالصًا واضحًا.

والعين: ذات الشيء، ونفسه، وشخصه، وأصله، والجمع أعيان، وفي الحديث: ((أَوَّهْ عَيْنُ الربا))؛ أي: ذاتُه ونفسه، ويقال: هو هو عينًا، وهو هو بعينه، وهذه أعيان دراهمك، ودراهمك بأعيانها، ولا يقال فيها: أعين ولا عيون، ويقال: لا أَقبَل إلا درهمي بعينه، وقال الراغب: قال بعضهم العين إذا استُعمل في ذات الشيء، فيقال: كل مال عين، كاستعمال الرقبة في المماليك.

وهذا المعنى الأخير هو المقصود في سؤال السائل، والفقهاء من الحنفية وغيرهم يُطلِقون على ذوات الأشياء وماهيتها: العينَ.

ويقابل العينَ بهذا المعنى عند العلماء (العَرَضُ): وهو يطلق على الخارج عن ذات الشيء، المحمول على الشيء؛ لاتِّحاده معه في الخارج، وعلى هذا فالناطقُ عَرضٌ بالنسبة إلى الحيوان؛ لخروجه عن حقيقته، وصحَّة حمله عليه؛ لوحدتهما في الخارج في مورد الإنسان، والمنافع عَرَضٌ بالنسبة للأعيان التي تستوفى منها، وهكذا.

ويُطلِق المَناطِقةُ على ذات الشيء وعينه (الجَوْهَرَ): وهو الذي إذا وُجد في الخارج وجد لا في موضوع؛ كالكتاب يوجد في الخارج مستقلاًّ؛ أي قائمًا بنفسه، فوجوده غير وجود الحرارة للماء، أو البياض للورقة؛ فالحرارة موجودة بغيرها، بينما الكتاب موجود بنفسه.

ويقابل الجوهرَ عندهم العرضُ أيضًا، بنفس المعنى الذي ذَكَرناه، وقد دَرَج كثيرٌ من الفقهاء والأصوليين على استخدام هذه الألفاظ؛ للدلالة على ما ذكرنا.

قال عبدالعزيز البخاري في "كشف الأسرار شرح أصول البزدوي" (3/ 238): "وبين العين والمنافع تفاوتٌ في نفس الوجود؛ لأن العين جوهر يبقى ويقوم به العرض, والمنفعة عَرَض لا يبقى ويقوم بالجوهر، وبين ما يبقى ويقوم به غيره، وبين ما لا يبقى ويقوم بغيره - تفاوتٌ فاحش، فلا يمكن إثبات المعادلة بينهما معنًى، كما لا يمكن صورةً".اهـ.

وقال الغزالي في "المستصفى" (ص: 23): "وهذه الألفاظ - يعني الأحكام التكليفية الخمسة - لا شك أنها لا تُطلق على جوهر؛ بل على عَرَض, ولا على كل عَرَض؛ بل من جملتها على الأفعال فقط، ومن الأفعال على أفعال المكلَّفين، لا على أفعال البهائم".اهـ.

وقد اختلف الأصوليون في تعلُّق الأحكام بالأعيان، على ثلاثة أقوال:
الأول: ذهب الحنفية في المعتمَد - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - إلى أن الأحكام تتعلق بالأعيان، وأن الأعيان منشأ الحرمة، وذلك بطريق الحقيقة لا المجاز، كالتحريم والتحليل المضافَيْنِ إلى الفعل، فيوصف المحل أولاً بالحرمة، ثم تَثبُت حرمةُ الفعل بناءً عليه، فيثبت التحريم عامًّا، وهو ما ذهب إليه فخر الإسلام البزدوي، وصدر الشريعة، وغيرُهما، ونسب ابن عابدين هذا القولَ للمذهب، حيث قال في "رد المحتار": "قلتُ: وفيه أن إسناد الحرمة إلى العين حقيقةٌ عندنا، كما تقرَّر في كتب الأصول، على معنى إخراج العين عن محلِّيَّة الفعل، لينتفي الفعل بالأَوْلى".اهـ.

وقال السَّرَخْسِي - رحمه الله - في "أصوله": "وقالوا: امتنعَ ثبوتُ حكم العموم في هذه الصورة معنًى؛ لدلالة محل الكلام، وهو أن الحِلَّ والحرمة لا تكون وصفًا للمَحلِّ، وإنما تكون وصفًا لأفعالنا في المحل حقيقة، فإنما يصير المحل موصوفًا به مجازًا، وهذا غلط فاحش، فإن الحرمة بهذه النصوص ثابتة للأعيان الموصوفة بها حقيقة؛ لأن إضافة الحرمة إلى العين تنصيصٌ على لزومه، وتحقُّقه فيه، فلو جعلنا الحرمةَ صفةً للفعل لم تكن العين حرامًا، ألاَ ترى أن شربَ عصير الغير، وأكلَ مال الغير، فعلٌ حرام، ولم يكن ذلك دليلاً على حرمة العين، ولزوم هذا الوصف للعين، ولكن عمل هذه النصوص في إخراج هذه المَحالِّ من أن تكون قابلةً للفعل الحلال، وإثبات صفة الحرمة لازمة لأعيانها، فيكون ذلك بمنزلة النسخ، الذي هو رفع حكم، وإثبات حكم آخر مكانه، فبهذا الطريق تقوم العين مقامَ الفعل في إثبات صفة الحُرمة والحِلِّ له حقيقة، وهذا إذا تأملتَ في غاية التحقيق".اهـ.

وقال ابن تيمية في "العمدة": "التحريم والتحليل في مثل هذا إنما يُضاف إلى الأعيان، وإذا كان المراد أفعال المكلَّفين؛ كقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، و{أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، و{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]، و{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، وهذا كثير في القرآن والحديث".اهـ.

ففي الحرام لعينه: المحلُّ أصلٌ، والفعل تَبَعٌ؛ بمعنى أن المحل أُخرج أولاً من قَبول الفعل ومُنع، ثم صار الفعل ممنوعًا ومُخرَجًا عن الاعتبار، فحسن نسبة الحرمة، وإضافتها إلى المحل دلالة على أنه غير صالح للفعل شرعًا، حتى كأنه الحرام نفسه، ولا يكون ذلك من إطلاق المحل وإرادة الفعل الحال فيه، بأن يُراد بالميتة أكلُها؛ لما في ذلك من فوات الدلالة على خروج المحل عن صلاحية الفعل.

ويقابل المحرَّمَ لعينه المحرمُ لغيره، والفرق بينهما: أن المحرَّم لعينه (لذاته) تكون العين فيه ليست محلاًّ للفعل؛ كالميتة والخنزير وسائر النجاسات، والمحرَّم لغيره هو ما كان مباحًا في الأصل؛ كالخبز، لكن يَحرُم أكلُه على غير مالكه، والمحل قابل للأكل في الجملة، بأن يأكله مالكه، بخلاف الأول، فإذا أضيفتْ الحرمة فيه إلى المحل، يكون على حذف المضاف، أو على إطلاق المحل على الحالِّ.

ويُطلِق بعضُ الفقهاء على الأول: محرَّمًا بالأصل، وعلى الثاني: محرمًا بالوصف، ففي المحرم لغيره إذا قيل: هذا الخبز حرام، يكون مجازًا، بإطلاق اسم المحل على الحالِّ؛ أي أكله حرام، وإذا قيل: الميتة حرام، فمعناه أنها منشأ الحرمة، لا أنه ذكر المحلَّ وقصد به الحالَّ.

هذا تقرير الرأي الأول عند الحنفية ومَن وافقهم.

الثاني: ذهب بعض الحنفية إلى أن تعلُّق الأحكام بالأعيان على سبيل المجاز لا الحقيقة، ونسب هذا القولَ ابنُ أمير الحاج إلى الأكثر من الحنفية، قال في "التقرير والتحبير" (1/164): "ثم هنا بحث آخر، وهو أن هذا الاستعمال حقيقي أو مجازي، فإن كان ذاك الفعل حرامًا لغيره، وهو ما لا يكون منشأ حرمته عين ذلك المحل؛ كحرمة أكل مال الغير، فإنها ليست لنفس المال؛ بل لكونه مِلك الغير، فالأكل منه محرَّم، والمحل قابل له حلالاً، بأن يأكله مالكُه، أو يُؤكِله غيرَه، فهو استعمال مجازي، إما مِن إطلاق اسم المحل على الحال، أو من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وإن كان ذاك الفعل حرامًا لعينه، وهو ما يكون منشأ حرمته عين ذلك المحل؛ كحرمة أكل الميتة، وشرب الخمر، فالأكثر أنه مجاز أيضًا كالأول، وقال شيخنا المصنف - رحمه الله تعالى -: وينبغي كونه على قولهم مجازًا عقليًّا؛ إذ لم يتجوز في لفظ "حُرِّمت"، ولا في لفظ "الخمر".اهـ.

وهذا ما ذهب إليه الجمهور من الشافعية والمالكية والحنابلة؛ لأن التكليف لا يتعلق بالأعيان، وإنما يتعلق بالأفعال؛ فالأعيان ليست محلاًّ للتكليف، بخلاف الأفعال، فيكون قوله - تعالى -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] من باب الحذف؛ بقرينة دلالة العقل: أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال دون الأعيان، والمعنى: حُرِّم عليكم نكاحُ أمهاتكم.

قال ابن رشيق المالكي في "لباب المحصول في علم الأصول" (1/248): "ذات المأمور لا يتعلق بها الخطاب، وإنما يتعلق الطلب بالفعل".اهـ.

وقد سبق نقلُ مثلِ هذا عن الغزالي - رحمه الله - كما في "المستصفى".

وقال الزركشي في "البحر المحيط": "تنبيه: [تعلق الأحكام] عُلِم من تعريف الحكم بالتعلُّق بفعل المكلَّف أن الأحكام لا تتعلق بالأعيان، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - في باب المُجمَل أن نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}، أنه من باب الحذف؛ بقرينة دلالة العقل أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال دون الأعيان، ولكن هذا ليس متفقًا عليه، فقد ذهب جَمْعٌ من الحنفية إلى أن الحكم يتعلق بالعين كما يتعلق بالفعل، ومعنى حرمة العينِ خروجُها من أن تكون محلاًّ للفعل شرعًا، كما أن حرمة الفعل خروجٌ من الأعيان شرعًا".اهـ.

وقال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير": "التحريم إنما يتعلق بفعل المكلف، فإذا أضيف إلى عين من الأعيان، يُقدَّر الفعلُ المقصود منه، ففي المأكولات: يقدر الأكل، وفي المشروبات: الشرب، وفي الملبوسات: اللبس، وفي الموطوءات: الوطء، فإذا أُطلِق أحدُ هذه الألفاظ سَبَقَ المعنى المراد إلى الفهم من غير توقُّف".اهـ.

الثالث: ذهب بعض الحنفية أيضًا - كما نقله التفتازاني في "التلويح" عن صاحب "الأسرار" وقال: "هو الأقرب" - إلى أن الحل والحرمة معًا، إذا كان لمعنًى في العين أُضيف إليها؛ لأنها نسبة، كما يقال: جرى الميزاب، فيقال: حرمت الميتة; لأن تحريمها لمعنًى فيها, ولا يُقال: حرمت شاة الغير; لأن حرمتها لاحترام المالك لا لمعنى فيها.

أما إذا كان الحل والحرمة ليسا لمعنًى في العين لم يُضف إليها، وإنما يُضاف إلى الفعل.

فتحصَّل في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وقد ذكرها التَّفْتازاني برمَّتها في "التلويح على التوضيح"، كما نصَّ عليها غيرُه مفرقةً في مواضع.

والراجح - والله تعالى أعلم - هو قول الجمهور، الذين ذهبوا إلى امتناع تعلُّق الأحكام بالأعيان؛ لأن الأعيان ليست محلاًّ للتكليف، بخلاف الأفعال؛ ولأن الذين ذهبوا إلى أن الأحكام تتعلَّق بالأعيان، انتهى قولُهم إلى أن الممنوع هو الفعل، فاتَّفق الفريقان على أن العين لا تفعل واجبًا، ولا تترك محرمًا، وإنما يصدر الفعل والترك من المكلَّف، ولا يتحقق الامتثال للأمر إلا بذلك، وأن مجرد وجود العين المحرَّمة لا يفيد حكمًا شرعيًّا، فلا يستفاد الحكم الشرعي لها إلا بعد تكليف القادر على الامتثال من المكلفين.

كما أن تعريف الحكم الشرعي عند جمهور الأصوليين هو: خطاب الشارع المتعلِّق بأفعال المكلَّفين، اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا.

ويمكنك الرجوع - لاستيفاء هذه المسألة بحثًا - إلى المراجع التالية:
• "كشف الأسرار، شرح أصول البزدوي"، لعلاء الدين عبدالعزيز بن أحمد البخاري (730هـ - 1330م).
• "التلويح على التوضيح"، لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (792هـ).
• "المستصفى في علم الأصول"، لحجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي الشافعي (505 - 1111م).
• "حاشية العطار على شرح المحلِّي على جمع الجوامع"؛ لحسن بن محمد بن محمود العطار.
• "البحر المحيط"، لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبدالله الشافعي الزركشي (745هـ - 794هـ).
• "شرح الكوكب المنير"، لمحمد بن أحمد بن عبدالعزيز الفتوحي، المعروف بابن النجار الحنبلي (972هـ - 1564 م).
التوقيع

https://www.facebook.com/salwa.NurAl...?ref=bookmarks

رد مع اقتباس