عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 03-12-2011, 03:33 AM
عبد الملك بن عطية عبد الملك بن عطية غير متواجد حالياً
* المراقب العام *
 




افتراضي

أولا: المظاهرات السلمية لا تعد خروجا على الحاكم


حينما يستعمل العلماء كلمة (الخروج) فهم يقصدون : الخروج المسلح للقتال . وواقع هذه المظاهرات أنها لا علاقة لها بالخروج على الحاكم ، فعن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم" ، قيل : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم بالسيف ؟ فقال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة" (صحيح مسلم)

انظر الى لفظ "بالسيف" .

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا مِنْ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِى أُمَّةٍ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ" (مسلم)

قال ابن رجب الحنبلي في (جامع العلوم والحكم) : وهذا يدلُّ على جهاد الأمراءِ باليد . وقد استنكر الإمامُ أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود ، وقال : هو خلافُ الأحاديث التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها بالصَّبر على جَوْرِ الأئمة . وقد يجاب عن ذلك : بأنَّ التَّغييرَ باليدِ لا يستلزمُ القتالَ . وقد نصَّ على ذلك أحمدُ أيضاً في رواية صالحٍ ، فقال : التَّغييرُ باليد ليسَ بالسَّيف والسِّلاح ، وحينئذٍ فجهادُ الأمراءِ باليد أنْ يُزيلَ بيده ما فعلوه مِنَ المنكرات ، مثل أنْ يُريق خمورَهم أو يكسِرَ آلات الملاهي التي لهم ، ونحو ذلك ، أو يُبطل بيده ما أمروا به مِنَ الظُّلم إن كان له قُدرةٌ على ذلك، وكلُّ هذا جائزٌ، وليس هو من باب قتالهم، ولا مِنَ الخروج عليهم الذي ورد النَّهيُ عنه، فإنَّ هذا أكثرُ ما يخشى منه أن يقتل الآمر وحده.

قلت : انظر إلى قول الامام احمد في رواية صالح : التَّغييرُ باليد ليسَ بالسَّيف والسِّلاح ، والمظاهرات كانت سلمية ولم تستخدم السيف ولا السلاح .

أقول : بل إن الإمام أحمد صرح بأن الانكار بالقول لا يعتبر خروجا فيما حكاه عنه ابن حزم في [الفصل ج4/132] : قال أبو محمد : اتفقت الامة كلها علي وجوب الامر بالمعروف والنهي المنكر بلا خلاف من احد منهم ... ثم اختلفوا في كيفيته ؛ فذهب بعض اهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم ، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم ، إلي أن الفرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بد أو باللسان إن قدر علي ذلك ولا يكون بسل السيوف ووضع السلاح اصلا . ا.هـ فهذا اتفاق ممن يقول بالمنع من الخروج ان اللسان لا يدخل في المنع وكذلك باليد ، فتبين مما سبق اتفاق الجميع أن المراد بالخروج الذي هو محل النزاع هو الخروج بالسيف والسلاح .

عن كعب بن عجرة قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن جلوس على وسادة آدم فقال : ( سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم وصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس يرد علي الحوض ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض ) (صحيح) (الترمذي)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه عمهم الله بعقابه" رواه أبو داود ، والترمذي وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، والبيهقي .

وقال أيضا "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" رواه الحاكم بسند صحيح .

ولذلك أقول :
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا تعلق بالحاكم وخُرج بإطلاق حكم استباقي عام برجحان مفسدة الانكار على مصلحته فهذا عين الرجم بالغيب .
- أنه يلزم على اعتبار المظاهرات السلمية خروجا على الحكام وصفَ خيرة السلف بهذا الوصف الشنيع ؛ لما وقع منهم من الإنكار العلني على الحكام ، وكفى بهذا اللازم دليلا على بطلان المقالة .
- أن هذا الوصف بالخروج صار سيفا على رقاب المصلحين وحصنا حصينا للظالمين من الولاة و الطواغيت .

قال أبو محمد في [الفصل في الملل] : اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم ؛ لقول الله تعالى "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" .
ثم اختلفوا في كيفيته : فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم ، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة ابن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم ، إلى أن الغرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بد ، وباللسان إن قدر على ذلك ، ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع السلاح أصلا .
ا.هـ

اقول : وهذه المظاهرات كانت سلمية ، وسوف يَرِدُ لاحقا في البحث ردُّ ابن حزم على جواز الخروج بالسلاح أيضا.

أما ثبوت الإنكار على الولاة علانية أمامهم وعلى ملأ من الناس؛ فإنه لا يُماري فيه إلا رجلٌ رَضِيَ لنفسه أن يحكم عليها بالجهل؛ إذ أن هذا أوضح من أن يحتاج إلى إيضاح لا في تاريخ السلف فقط، أو في كتب التراجم، بل في دواوين السنة، بما في ذلك الصحيحين في غير موضع.

في الموطأ : عن مالك عن نافع وعبد الله بن دينار أنهما أخبراه أن عبد الله بن عمر قدِم الكوفةَ على سعد بن أبي وقاص، وهو أميرها [أي سعد] فرآه عبدالله بن عمر يمسح على الخفين، فأنكر عليه، فقال له سعد: سَلْ أباك إذا قدمت عليه، فقدم عبد الله، فنسي أن يسأل عمر عن ذلك، حتى قدم سعد، فقال أسألتَ أباك، فقال عمر: إذا أَدْخلتَ رجليك في الخفين وهما طاهرتان؛ فامسح عليهما، قال عبدالله: وإن جاء أحدنا من الغائط؟ فقال عمر: وإن جاء أحدكم من الغائط [الموطأ، (49)].

مع أن الحق لم يكن مع عبد الله بن عمر الذي أنكر على الأمير بل كان الحق مع الأمير، فقد أنكر عبدالله بن عمر على أمير البلدة سعد بن أبي وقاص؛ لأن ابن عمر قد اعتقد خطأ الأمير في مسحه على الخفين في الحَضَر؛ فأنكر عليه، وتأمل ما قاله بعض شرَّاح الموطأ في هذا الأثر. قال في (المنتقى شرح الموطأ): (إنكار عبدالله بن عمر على سعد بن أبي وقاص المسح على الخفين في الحضر وهو أمير البلدة، على ما عُلِم من حال الصحابة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يهابون في ذلك أميرًا، ولا غيره) اهـ [المنتقى شرح الموطأ، الباجي، (1/75)].

روى البخاري رحمه الله بسنده عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبَذَة، فإذا بأبي ذر رضي الله عنه، فقلتُ له: ما أنزلك منزلَك هذا؟ قال: كنتُ بالشام فاختلفتُ أنا ومعاوية في الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلتُ [أي أبو ذر]: نزلت فيْنا وفيهم؛ فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني، فكتب إليَّ عثمانُ أنِ اقدَم المدينة، فقدمتُها، فكثُر عليَّ الناسُ حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرتُ ذلك لعثمان؛ فقال لي: إن شئتَ تنحيْتَ فكنتَ قريبًا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمَّروا عليَّ حبشيًّا لسمعتُ وأطعتُ) [رواه البخاري، (1406)].

في هذا الحديث فوائد جمةٌ سأخصُّها ببحث ـ إن شاء الله ـ وأكتفي منها بالآتي:
قد كان أبو ذر يتأول الآية المذكورة على أنه يجب ألا يبيتَنَّ أحدٌ وعنده دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله، أو يُعِدُّه لغَريم، لذا أنكر على معاوية في ذلك، واشتهر هذا الإنكار، وكان معاوية رضي الله عنه حاكم البلاد، وقد كانت فتنة الخوارج في بداية ظهورها، ومع هذا لم يترك أبو ذر رضي الله عنه الإنكار الذي رآه واجبًا عليه، ولم يَعُدّ أحدٌ من أهل العلم أبا ذر رضي الله عنه من الخوارج، ولم يكن الإنكار بين أبي ذر وبين معاوية في السر، بل إن معاوية رضي الله عنه خشي الفتنة؛ فأرسل إلى الحاكم الأعلى عثمان رضي الله عنه يشكو إليه.

وتأمل ما يقوله ابنُ بطَّال في شرحه على البخاري: (إنما كتب معاوية [والي الشام] إلى عثمان يشكو أبا ذر؛ لأنه كان كثير الاعتراض عليه، والمنازعة له، وكان وقع في جيشه تشتيتٌ من مَيْلِ بعضِهم إلى قول أبي ذر؛ فلذلك أَقْدَمَه عثمانُ إلى المدينة، إذ خشي الفتنةَ في الشام ببقائه، لأنه كان رجلًا شديدًا، لا يخاف في الله لومة لائم، وقال المهلب: وكان هذا توقيرًا من معاوية لأبي ذر حين كتب إلى السلطان الأعلى يستجلِبه، وصانَه معاويةُ من أن يُخرجه، فتكون عليه وصمة) اهـ [شرح ابن بطال على صحيح البخاري، (5/452)].

وروى الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج في صحيحه بسنده إلى أبي سعيد الخدْري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر، فيبدأ بالصلاة، فإذا صلَّى وسلم قام، فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم ... فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم، فخرجتُ مخاصرًا مروان، حتى أتينا المصلى، فإذا كثيرُ بن الصلت قد بنى منبرًا من طين ولَبِن، فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر، وأنا أجرُّه نحو الصلاة، فلما رأيت ذلك منه، قلت: أين الابتداء بالصلاة؟ فقال: لا يا أبا سعيد، قد تُرِك ما تعلم، قلت (أبو سعيد): كلا، والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم، ثلاث مرات ثم انصرف) [رواه مسلم، (2090)].

في الحديث إنكار أبي سعيد الخدري على الوالي على رءوس الناس يوم العيد، وفي الحضور عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير من التابعين، وما أنكر أحد على أبي سعيد ما فعله، بل أقره الناس على ذلك، وما نعلم أحدًا نسب إلى أبي سعيد أنه خارجيٌّ؛ لإنكاره في هذا المشهد العظيم على الوالي، والحادثة مشتهرة في كتب السنة.

وما ذكرتُه هنا ليس منهج الخوارج بل كلام أهل الهدى والفضل، فقد قال أبو زكريا يحيى النووي تعليقًا على هذا الحديث: (وفيه أن الخطبة للعيد بعد الصلاة، وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان المنكر عليه واليًا) [شرح النووي على مسلم، (3/280)].

ثم زاد النووي في تعليقه فقال: (وفيه أن الإنكار عليه ـ أي على الوالي ـ يكون باليد لمن أمكنه، ولا يجزي عن اليد اللسان مع إمكان اليد) [شرح النووي على مسلم، (3/280)].

وقد ذكر النووي هذا الحديث برواية أخرى في باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وذكر فوائد حقُّها أن تُكتَب بماء الذهب، فراجعها غيرَ مأمورٍ، ومنها قال: (قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين) [شرح النووي على مسلم، (1/131)].

والحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي صاحب الجامع قد بوب في جامعه: باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب، وساق في الباب أحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ بخبر مروان؛ فقال الترمذي: حدثنا بُنْدار، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان عن قَيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أولُ مَنْ قدَّم الخطبة قبل الصلاة مروان، فقام رجل، فقال لمروان: خالفتَ السنةَ، فقال: يا فلان تُرِكَ ما هنالك، فقال أبو سعيد: أمَّا هذا فقد قَضَى ما عليه، سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكرًا فلينكره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) [رواه الترمذي، (2327)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2172)]، فهل كان الحافظ الترمذي أحدَ الخوارج يوم بوَّب هذا الباب، وساق حديث إنكار المنكر على الوالي على رءوس الناس، وغيره؟!

وقد علق المباركفوري رحمه الله صاحب تحفة الأحوذي في شرح سنن الترمذي، وقد نقل كثيرًا من كلام النووي، وفيه: (اعلم أن هذا الباب، أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد ضُيِّع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه إلا رسومٌ قليلة جدًّا، وهو باب عظيم، به قِوام الأمر ومَلاكه، وإذا كثُر الخبث عمَّ العقابُ للصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمَّهم الله بعقابه، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم لاسيما وقد ذهب معظمه، ويخلص نيته، ولا يهابَنَّ مَنْ يُنكر عليه لارتفاع مرتبته؛ فإن الله تعالى قال: {وَلَيَنْصُرَن اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]) اهـ [تحفة الأحوذي، المباركفوري، (5/464)].

ويشهد لهذا المعني وهو ان الانكار باللسان لايعتبر منكرا فضلا عن انه واجب ماثبت في حديث ام سلمة في صحيح مسلم( سيكون عليكم ائمة تعرفون وتنكرون فمن انكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع)فالذي يكره محله القلب ، والذي ينكر فأقل درجاته المتفق عليها اللسان .

يقول الشيخ العلامة عبدالرحمن البراك [تلميذ الشيخ عبد العزيز بن باز ؛ درس عليه خمسين سنة ، كما درس على الشنقيطي وعبد الرزاق عفيفي وغيرهم] :
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلامُ على سيِّدِ المرسلين، المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:
فإنَّ من آيات الله الدالةِ على قدرته سبحانَه أن تقوم مظاهراتٌ سلميةً يجمع عليها جمهور أكثرِ بلد عربي إسلامي عدداً، فتطيح بحكومة مضت عليها ثلاثون سنة، ومن نعم الله أن ما حصل من قتل وإصابات لم يكن من فعل المحتجين، بل من فعل خصومهم من أصحاب السلطة والسفهاء المأجورين، فالحمد لله على ما حصل من المطلوب لشعب مصر، وزال من المكروه المحذور، وسبحان الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزُّ من يشاء، ويذلُّ من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

يقول الشيخ حاتم العوني:
فالمظاهرات السلمية، التي لا تُشهر السلاح، ولا تسفك الدماء، ولا تخرج للاعتداء على الأنفس والممتلكات ليست خروجًا مسلحًا على الحكام؛ ولذلك فلا علاقة للمظاهرات السلمية بتقريرات الفقهاء عن الخروج وأحكامه؛ لأنها ليست خروجًا، ومن أدخلها في هذا الباب فقد أخطأ خطأً بيّنًا. والمظاهرات السلمية هي وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي، ومن وسائل التغيير، ومن وسائل الضغط على الحاكم للرضوخ لرغبة الشعب. فإن كان الرأيُ صوابًا، والتغييرُ للأصلح، ورغبةُ الشعب مشروعةً - كانت المظاهرةُ حلالاً.
ومع أن الوسائل من المصالح المرسلة التي لا تتوقف مشروعيّتها على ورود النص الخاص بها؛ لأن عمومات النصوص ومقاصد الشريعة تدلّ على مشروعيتها؛ فقد سبق السلف من الصحابة الكرام إلى عمل مظاهرة بصورتها العصرية: فإن من خرج من الصحابة يوم الجمل للمطالبة بدم عثمان وعلى رأسهم الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعائشة أجمعين، وكانوا ألوفًا مؤلّفة، خرجوا من الحجاز للعراق، ولم يخرجوا لقتال ابتداءً (كما يقرره أهلُ السُّنَّة في عَرضهم لهذا الحدَث). وإذا لم تخرج تلك الألوفُ للقتال، فلم يبق إلاّ أنهم قد خرجوا للتعبير عن الاعتراض على عدم الاقتصاص من قتلة عثمان ، وللضغط على أمير المؤمنين وخليفة المسلمين الراشد علي بن أبي طالب ؛ لكي يبادر بالقصاص من قتلة عثمان. وهذه مظاهرة سلفية، بكل معنى الكلمة، وقعت في محضر الرعيل الأول من الصحابة الكرام، ولا أنكر عليهم عليٌّ أصلَ عملهم، ولا حرّمه العلماء، ولا وصفوه بأنه خروج على الحاكم. مع ما ترتب على هذا الحدَث من مفسدة؛ لأن مفسدته كانت طارئةً على أصل العمل، ودخيلةً عليه.
والمهم هو موقف عليّ ، فهو من كانت تلك المظاهرة ضدّه، ومع ذلك فما شنّع على الذين تَجمّعوا بدعوى حُرمة مجرد التجمع والمجيء للعراق، ولو كان تَجمُّعهم وتوجّههم للعراق منكرًا، لأنكره عليهم عليٌّ ، بل حتى لو أنكره عليهم، فيكفي أن يخالفه الزبير وطلحة وعائشة ومن معهم من الصحابة أجمعين، لبيان أن مسألة مظاهرتهم مسألةٌ خلافية.
- فلا هناك نصٌّ خاص من نصوص الوحي (القرآن أو السنة) يدل على تحريم المظاهرات، فيلزم المسلمين التعبُّد بالرضوخ له.
- ولا يرفضها العقل مطلقًا؛ لعدم جريان العادة التي لا تتخلف بكونها مُفسدةً.
- والواقع يشهد بأن من المظاهرات ما أصلح ونفع وأفاد، ومنها ما هو بخلاف ذلك. فلا يصحّ ادّعاءُ أن واقعها يدل على تحريمها.
هذا هو حكم المظاهرات، كما تقرره أصول العلم وقواعده. والله أعلم. (نقل بتصرف)

ونصوص الشرع جاءت عامة في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لم تحدد كيفية ، فمثلا : الإنكار باللسان قد يكون كتابة ، وقد يكون مشافهة ، وقد يكون عبر الوسائل الحديثة مثل التليفون او الدوائر المغلقة ، ولا يتصور أن يعترض أي أحد علي هذه الوسائل ، فكذلك أمر المظاهرة هي وسيلة تشملها نصوص الأمر بالمعروف ، ولم يتعبدنا الشرع بطريقة معينة مثل إثبات دخول رمضان مثلا .

وقولهم إن هذا تشبه كلام مرفوض ؛ لأن باب التشبه فيما إذا ثبت شئ معين في الشرع ، فقد هم النبي صلي الله عليه وسلم أن ينهي عن الغيلة ثم قال : "رأيت فارس والروم تفعلها" .. فهل هذا تشبه وقد كان يلبس الجبة الرومية(وهي التي تسمي اليوم تي شيرت)؟!

قال الامام النووي في شرحه على صحيح مسلم : لَا تُنَازِعُوا وُلَاة الْأُمُور فِي وِلَايَتهمْ ، وَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوهُ عَلَيْهِمْ ، وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ ، وَأَمَّا الْخُرُوج عَلَيْهِمْ وَقِتَالهمْ فَحَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانُوا فَسَقَة ظَالِمِينَ .

أقول : وقوله (قولوا بالحق حيث ما كنتم) فيه إشارة على عدم اشتراط أن يكون وجه لوجه مع الحاكم ، وإشارة منه أيضا أن القول باللسان لا يعتبر خروجا بحال ، وهو ما تتابع عليه كل من صنف في المسألة ، أي جعلهم الخروج المراد به القتال والسيف ، وأن القول لا يعد خروجا .

أما قوله (بإجماع المسلمين) فليس بصحيح لما سيأتي .
رد مع اقتباس