عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 08-27-2008, 03:24 AM
هجرة إلى الله السلفية هجرة إلى الله السلفية غير متواجد حالياً
رحمها الله رحمة واسعة , وألحقنا بها على خير
 




Islam مبادئ علم التوحيد (2)

 






المبحث الثاني
أسمـــاء علم التوحيــد

د0محمد يسرى

المقصود بأسماء العلم ما يطلق عليه من الأسماء المعتبرة عند أهل هذا العلم، والمسمى إذا كثرت أسماؤه دل ذلك على شرفه وفضله وأهميته غالبًا، وعلم التوحيد من أكثر العلوم أسماء، وله أسماء شرعية وأخرى محل نظر، وبيان كلٍّ فيما يلي:
أولاً: الأسماء الشرعية لعلم التوحيد:

1- علم التوحيد:
لعل السبب في إطلاق اسم التوحيد على هذا العلم، هو أن مبحث وحدانية الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله هو أهم مباحث هذا العلم، فهو من باب تسمية الكل بأشرف أجزائه، أو تسمية العلم بأشهر بحوثه، ثم إن ما عدا مبحث الوحدانية قائم ومعتمد عليه، فهو الأصل الذي يتفرع عنه غيره.
ولقد كثرت الكتب المصنفة في باب الاعتقاد التي تحمل اسم التوحيد قديمًا وحديثًا، فمن ذلك: "كتاب التوحيد" لأبي العباس أحمد بن سريج البغدادي، و"كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب سبحانه وتعالى" للإمام أبي بكر بن خزيمة رحمهما الله تعالى.

2- العقيدة:
العقيدة لغةً: مأخوذة من العَقْد، وهو الجمع بين أطراف الشيء على سبيل الربط والإبرام والإحكام والتوثيق، ويستعمل ذلك في الأجسام المادية، كعقد الحبل، ثم توسع في معنى العقد فاستعمل في الأمور المعنوية،كعقد البيع وعقد النكاح(16). وقد ذكر المعجم الوسيط أن العقيدة: هي "الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده، ويرادفها الاعتقاد والمعتقَد.. وجمعها عقائد"(17).
وكلمة العقيدة لم ترد في القرآن الكريم وإنما وردت مادتها فقط في مثل قوله تعالى:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} (النساء:33) ، وقوله تعالى:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (البقرة:235) .

أما العقيدة في اصطلاح علماء التوحيد فهي "الإيمان الذي لا يحتمل النقيض"(18)، ويلاحظ اقتراب أو تطابق المعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة العقيدة.
العلاقة بين علمي العقيدة والتوحيد:
"وعلم العقيدة وعلم التوحيد مترادفان عند أهل السنة، وإنما سمي علم التوحيد بعلم العقيدة بناء على الثمرة المرجوة منه، وهي انعقاد القلب انعقادًا جازمًا لا يقبل الانفكاك"(19). ومن الباحثين من فرق بينهما فاعتبر علم التوحيد هو العلم الذي يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بالأدلة المرضية، وأن علم العقيدة يزيد عليه برد الشبهات وقوادح الأدلة الخلافية، فيجتمعان في معرفة الحق بدليله، وتكون العقيدة أعم موضوعًا من التوحيد.
وقد جرى السلف على تسمية كتبهم في التوحيد والإيمان بكتب العقيدة، كما فعل أبو عثمان الصابوني رحمه الله في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث"، واللالكائي رحمه الله في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة
".

3- الإيمان:

معنى الإيمان في اللغة: قال ابن فارس: "للهمزة والميم والنون أصلان متقاربان، أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب، والآخر التصديق، والمعنيان متدانيان... وأما التصديق فقول الله تعالى:{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (يوسف:17) ، أي مصدِّق لنا"(20).

معنى الإيمان في الاصطلاح:
وأما الإيمان الاصطلاحي فيطلق على الاعتقاد القلبي، والإقرار اللفظي، والعمل الحسي، امتثالاً للأوامر، واجتنابًا للمناهي.
وهذا التعريف الاصطلاحي للإيمان مأخوذ من تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للإيمان في حديث جبريل سبحانه وتعالى(21)، وفيه: "فأخبرني عن الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، وحديث وفد بني عبد القيس(22)، وفيه: "هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة ألا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس"، حيث عرف الإيمان في الحديث الأول بالاعتقادات الباطنة، وفي الحديث الثاني بالأعمال الظاهرة، ثم صار الإيمان يطلق ويراد به مسائل الاعتقاد كلها.
وصنَّف السلف كتبًا باسم الإيمان بحثت قضايا التوحيد ومسائل الاعتقاد جميعًا، ومن أولها: "كتاب الإيمان ومعالمه وسننه واستكمال درجاته للإمام أبي عبيد القاسم البغدادي، و"كتاب الإيمان" للحافظ ابن أبي شيبة العبسي، و"كتاب الإيمان" للحافظ ابن منده.

4- السنة:
سبق أن السنة في اللغة تطلق على الطريقة المسلوكة، محمودة كانت أو مذمومة، كما تطلق على العادة الثابتة المستقرة، وعلى غير ذلك(23).
والسنة في اصطلاح علماء العقيدة والتوحيد معناها كما قال ابن رجب رحمه الله: "وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقاد؛ لأنها أصل الدين والمخالف فيها على خطر عظيم"(24)، وهذا الإطلاق للسنة على العقيدة من باب إطلاق الاسم على بعض مسمياته، فإن الاعتصام بالسنة من أهم أصول أهل السنة.

على أن وصف العقيدة بالسنة كان معروفًا زمن الصحابة رضي الله عنهم، ويدل عليه قول علي رضي الله عنه: "الهوى عند من خالف السنة حق وإن ضربت فيه عنقه"(25)، وهذا لا يكون إلا فيمن خالف في الاعتقاد مخالفة عظيمة.

وبناء على ذلك، فقد أطلق اسم السنة على عقيدة أهل السنة والجماعة، هذا بالإضافة إلى أن السنة لغة هي الطريقة، فأطلقت على عقيدة السلف لاتباعهم طريقة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في الاعتقاد خاصة، واستفاض ذلك المصطلح في الناس حتى إذا قيل: فلان صاحب سنة، كان معناه أنه على معتقد سلفي.

وقد عرفت كتب الاعتقاد باسم كتب السنة، وساد ذلك في القرن الثالث الهجري، في عصر الإمام أحمد رحمه الله، حيث أظهر أهل البدع بدعهم وجاهروا بها تصنيفًا ومناظرة، فألَّف أهل السنة في الرد عليهم كتبًا أسموها كتب السنة؛ وذلك لأنهم لم يكن لهم اسم يتسمون به خصوصًا بخلاف أهل الابتداع، ومن تلك الكتب:
"السنة" للإمام أحمد بن حنبل، و"السنة" لأبي بكر بن الأثرم، و"السنة" لابن أبي عاصم رحمهم الله جميعًا.

5- أصول الدين:
وهذا المصطلح مركب من مضاف ومضاف إليه، فيعرف باعتبار مفرديه أولاً.
فالأصل لغة: "ما يبنى عليه غيره، أو ما يتفرع عنه غيره"(26).
ويعرَّف في الاصطلاح المناسب لهذا الموضع بأنه "القواعد الكلية والأسس العامة".
والدين يطلق في اللغة على الذل والخضوع،كما يطلق على الحساب والجزاء(27)، واصطلاحًا: ""(28).

"والمعنى المستفاد من هذا المركب الإضافي، أن أصول الدين هي المبادئ العامة، والقواعد الكلية الكبرى، التي بها تتحقق طاعة الله ورسوله، والاستسلام لأمره ونهيه"(29)، فأصول الدين بهذا الاعتبار تشمل أركان الإسلام من الأعمال الظاهرة، وأركان الإيمان من الاعتقادات الباطنة، ثم غلب على العلماء المصنفين في الاعتقاد استعمال هذا الاصطلاح في قضايا التوحيد والعقيدة، وعللت هذه التسمية بأن بحوث علم الاعتقاد أصل لما يتلوها من علوم الدين الأخرى كالفقه والحديث، ومن جهة أخرى، فإن هذا العلم يبحث في العقائد التي هي الأصول الواجب على المكلف اعتقادها قبل أن يبدأ العمل، فلا يثمر العمل في الآخرة إلا باعتقاد هذه الأصول في الدنيا.

وقد اعترض شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على أن يكون مصطلح أصول الدين قاصرًا على العقائد دون مسائل العمل الكبار، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، أو أن يدخل فيه مسائل العقائد المختلف فيها داخل دائرة أهل السنة، كما قد يعترض أيضًا على هذه التسمية لعلم التوحيد بأنها لا تكشف عن طبيعة هذا العلم الذاتية وخصائصه التي يمتاز بها، حيث لوحظ فيها ما يقابله من فروع الدين فحسب.

ومهما يكن من أمر، فإن عمل العلماء سلفًا وخلفًا جرى على اعتماد هذه التسمية حين ألَّفوا وصنفوا في هذا العلم المبارك، ومن أمثلة ذلك:
"الشرح والإبانة عن أصول السنة والديانة" لأبي عبد الله بن بطة، و"الإبانة عن أصول الديانة" لأبي الحسن الأشعري رحمهما الله تعالى.

6- الشريعة:
الشريعة لغة: "من الشَّرْع وهو السَّن والبيان والمورد والطريق"(30).
واصطلاحًا: ما شرع الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء صلى الله عليهم وعلى نبينا وسلم، سواء أكانت متعلقة بكيفية عمل أو اعتقاد،.. ويسمى الشرع أيضًا بالدِّين والملَّة، فإن تلك الأحكام من حيث إنها تطاع دين، ومن حيث إنها تملى وتكتب ملَّة، ومن حيث إنها مشروعة شرع، فالتفاوت بينها بحسب الاعتبار لا بالذات"(31).

وقد تطلق الشريعة على ما شرعه الله تعالى لجميع رسله من أصول الاعتقاد والبر والطاعة مما لا يختلف من دعوة لأخرى، قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (الشورى:13) .
ثم أطلقت الشريعة أخيرًا وبإطلاق أخص -كما قال ابن تيمية رحمه الله- على: "العقائد التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان، مثل اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق... إلخ" (32).

والشريعة هنا كالسنَّة، فقد يراد بها ما سنه الله وشرعه من العقائد، وقد يراد بها ما سنه وشرعه من العمل، وقد يراد بها كلاهما.
وقد ألف بعض العلماء كتبًا في الاعتقاد تحمل اسم الشريعة، ومن أولها:
"الشريعة" لأبي بكر الآجري، و"الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة" لابن بطة رحمهما الله تعالى.

7- الفقه الأكبر:
أطلق الفقه في الاصطلاح الأقدم على ما هو أعم من علم الفروع، بحيث يشمل الأصول والفروع، وعن هذا المعنى عبر الإمام أبو حنيفة رحمه الله حين قال: "الفقه: معرفة النفس مالها وما عليها" وذلك من كل ما تنتفع به وتتضرر في الآخرة، من الاعتقادات والأعمال والأخلاق ونحو ذلك، ثم لما أراد أبو حنيفة رحمه الله تمييز الاعتقادات عن غيرها، جاء بهذا الاصطلاح الذي لم يسبق إليه في التعبير عن التوحيد فسماه الفقه الأكبر، تمييزًا له عن الأصغر وهو فقه الفروع.

وفي تعليل هذه التسمية يقول الإمام عبد العزيز الحنفي رحمه الله: "سمي بالفقه الأكبر؛ لأنه أكبر بالنسبة للأحكام العملية الفرعية التي تسمى الفقه الأصغر؛ ولأن شرف العلم وعظمته بحسب المعلوم، ولا معلوم أكبر من ذات الله تعالى وصفاته الذي يبحث فيه هذا العلم؛ لذلك سمي الفقه الأكبر"(33).
وقال أبو حنيفة: "الفقه الأكبر في الدين أفضل من الفقه في العلم، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه، خير له من أن يجمع العلم الكثير"
(34).

8- التصور:
وهذا المصطلح مختلف في مشروعيته، إذ إنه مصطلح محدث أطلقه بعض الباحثين على هذا العلم، كما فعل ذلك سيد قطب رحمه الله في كتابه "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته"، حيث قال: "فالتصور الإسلامي يقوم على أساس أن هناك ألوهية وعبودية، ألوهية ينفرد بها الله سبحانه، وعبودية يشترك فيها كل من عداه وكل ما عداه، وكما ينفرد الله سبحانه بالألوهية كذلك ينفرد -تبعًا لهذا- بكل خصائص الألوهية"(35).

وقد أفصح سيد عن موقفه بجلاء من الفلسفة وعلم الكلام ومنهاجهما، فقال: "وجد بين المفكرين المسلمين من فتن بالفلسفة الإغريقية، وبخاصة شروح فلسفة أرسطو -أو المعلم الأول كما يسمونه- وبالمباحث اللاهوتية، وظنوا أن الفكر الإسلامي لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله، أو مظاهر أبهته وعظمته، إلا إذا ارتدى هذا الزي -زي التفلسف والفلسفة- وكانت له فيه مؤلفات!" (36).
ثم يقرر منهجه فيقول: "منهجنا إذن في هذا البحث عن خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، أن نستلهم القرآن الكريم مباشرة بعد الحياة في ظلال القرآن طويلاً، وأن نستحضر -بقدر الإمكان- الجو الذي تنـزلت فيه كلمات الله للبشر.. ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقًا، لا مقررات عقلية، ولا مقررات شعورية.. ثم إننا لا نحاول استعارة القالب الفلسفي في عرض حقائق التصور الإسلامي.. لابد أن نعرض العقيدة بأسلوب العقيدة، إذ إن محاولة عرضها بأسلوب الفلسفة يقتلها، ويطفئ إشعاعها وإيحاءها.. ومن هنا يبدو التعقيد والجفاف والنقص والانحراف في كل المباحث التي تحاول عرض العقيدة بهذا الأسلوب الغريب على طبيعتها، وفي هذا القالب الذي يضيق عنها"(37).

وعلى هذا يمكن القول بأن هذا المصطلح يدل على معنى صحيح عند من استعمله من المعاصرين(38)، وإن كان الأولى موافقة الشرع في اللفظ والمعنى معًا، مع التقيد بأسماء هذا العلم المبارك كما نقل عن السلف، فإنه أسلم وأحكم وأقوم.

التطور التاريخي لتدوين علم التوحيد:
لعله من المناسب قبل مغادرة هذه النقطة تلخيص ما سبق وإلقاء أضواء على التطور التاريخي لظهور هذه المصطلحات، فلا ريب أن مصطلحي الإيمان والفقه الأكبر قد ظهرا في القرن الثاني وبرزا، واستمر مصطلح الإيمان في الذيوع خلال القرن الثالث حيث برز مصطلح السنة، وظهرت الكتب الاعتقادية التي حملت اسم السنة، وتوالى التصنيف في القرن الرابع بهذه الأسماء الاصطلاحية.
ثم ظهر في القرن الرابع أربعة مصطلحات شاعت وذاعت، وهي: التوحيد، الشريعة، أصول الدين، العقيدة، وإن كان مصطلح العقيدة قد ظهر أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس الهجري كما يبدو هذا من كتاب الحافظ اللالكائي رحمه الله "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، وكذا فعل أبو عثمان الصابوني رحمه الله في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث"، وتتابع بعد ذلك المصنفون على استعمال هذا المصطلح.

ثم يبقى بعد ذلك مصطلح التصور الذي نقل إلينا من الفلسفة، فلو سلم مما فيه من مشابهة الفلاسفة في مناهجهم في النظر والاستدلال، وانطلق من مصادر العقيدة المعتبرة لدى أهل السنة، فلا يبقى فيه إلا عدم استعمال السلف له، والأولى -كما تقدم- الاستغناء بالمنقول عن السلف عما نقل عن أهل التفلسف.
ثانيًا: أسماء علم التوحيد عند الفرق الإسلامية:

1- علم الكلام:
وهذا هو أشهر الإطلاقات عند سائر الفرق الإسلامية من أشاعرة ومعتزلة وغيرهم في القديم والحديث.
ويعلّل المتكلمون تسميتهم للتوحيد بعلم الكلام بعلل شتى، منها: "أن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام..."(39)، أو "لأن أصحابه كانوا يترجمون لمسائله بقولهم: الكلام في القدرة، الكلام في العلم، الكلام في الوحدانية، فجاءت التسمية من باب الشيوع والذيوع والغلبة"(40)، "وقد يكون سبب التسمية أنه أكثر من غيره خلافًا ونزاعًا بين الخائضين فيه بعقولهم، فهو مفتقر إلى الكلام أكثر من غيره لتحقيقه وللرد على المخالف فيه"(41)، ويرى بعض الباحثين أنه سمي بذلك؛ لأنه يكسب المتكلم قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات، وإلزام الخصوم(42).

ويرى أهل السنة هذه التسمية لهذا العلم المبارك تسمية مبتدعة، وهي تنطبق على غير علم التوحيد الذي جاء به المرسلون، فإنه ليس من الكلام في شيء لا اسمًا ولا معنى، ولا مقصدًا ولا غاية ولا استمدادًا، وأهل السنة لا يعتبرون الكلام وتعلمه علمًا؛ بل يعدونه جهلاً، فإن أبا يوسف تلميذ أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال لبشر المريسي: "العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم"(43)، وقال شيخ الإسلام: "إن الجدال في علم العقائد يسمى كلامًا"(44).
وأهل السنة يذكرون أسبابًا أخرى لهذه التسمية المحدثة لعلم التوحيد منها: "أنه سمي كذلك لأن المشتغلين به تكلموا فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، مثل الكلام في ذاته تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتأويل المتشابه، والبحث في القدر، ونحو ذلك"(45)، أو "تأسيًا بالفلاسفة في تسميتهم فنًّا من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان"(46)، أو لأن المتكلمين "لم يفيدوا علمًا لم يكن معروفًا، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد"(47).

ثم إن علماء الإسلام الثقات قد زجروا عن علم الكلام وبالغوا في النهي عنه، فقال الشافعي رحمه الله: "حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم العشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام"(48).
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "لا يفلح صاحب كلام، ولا تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دخل"، وقال أيضًا: "علماء الكلام زنادقة"(49).
وقال الإمام مالك لرجل جعل يسأله عن القرآن: "لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد؟ لعن الله عمرًا، فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام علمًا لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل"(50).

2- الفلسفة:
الفلسفة إعمال للعقل في أي مجال وكل مجال بلا أي منطلقات سابقة من دين أو وحي؛ للوصول إلى الحقائق الأزلية -بزعمهم-(51)، فهي محاولة إدراك الفاني القاصر للأول والآخر -سبحانه-، وبالتالي فهي محاولة محكومة بالفشل؛ إذ الفلسفة تنتهي حتمًا إلى التعقيد والتخليط والجفاف كلما حاولت أن تتناول مسائل العقيدة.
ولقد دخل من سمي بفلاسفة المسلمين في جحيم الفلسفة فما خرجوا منها إلا إلى نار الجحيم، فأنكروا البعث والمعاد، وقالوا بقدم العالم، وجاءوا بالكفريات، كما أوضح ذلك الغزالي رحمه الله في كتابه المسمى "تهافت الفلاسفة".

بين الفلسفة وعلم الكلام:
إن الكلام يتعلق بدين بعينه، ولكن الفلسفة تبحث عن الحقائق والأصول بتجرد من كل دين ومذهب، ومن حيث المنهج فإن علم الكلام يبدأ من مسلمات عقدية يفترض صحتها، ثم يشرع في التماس الطريق العقلية المؤدية لإثباتها، وهذا بخلاف الفيلسوف الذي يتشكك في البدهيات، ويماري في الأوليات، حتى يثبتها عقله أولاً، ثم يتدرج منها إلى النتائج، مستخدمًا منهجًا عقليًّا صرفًا، فالمتكلم يبدأ بذكر الأدلة على وجود الله، والفيلسوف يبدأ بإنكار وجود الله، والعياذ بالله.
والحاصل أن تسمية علم التوحيد بالفلسفة هو تسمية للإيمان بضده، وللنور والهدى واليقين بالظلمة والضلال والشك، والعلماء متفقون على حرمة تعلم الفلسفة، متفقون على ذمها وذم من دخل فيها من علماء الكلام سواء في ذلك أهل السنة أو الأشاعرة أو الماتريدية.

وأخيرًا فإن طائفة من علماء الكلام الفحول الذين دخلوا في الفلسفة قد رجعوا عن الكلام ومسالكه، كما فعل الإمام الأشعري، حيث قال رحمه الله: "فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون، قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا سبحانه وتعالى، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، و بما قال به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -نضَّر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مجانبون"
(52).
وهذا الإمام الجويني رحمه الله يقول في آخر عمره: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به"(53)، وقال عند موته: "لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل للجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال على عقيدة عجائز أهل نيسابور"(54).

وقال الرازي: "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي"(55).
وقال الغزالي: "الدليل على أن مذهب السلف هو الحق، أن نقيضه بدعة، والبدعة مذمومة وضلالة"(56)، وقال أيضًا: "إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا محتاجين لمحاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فما زادوا على أدلة القرآن شيئًا، وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات، كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش، ومن لا يقنعه أدلة القرآن، لا يقمعه إلا السيف والسنان، فما بعد بيان الله بيان"(57).

وأخيرًا فإن العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات، وذكر هذه الأخبار عن علماء أهل الإسلام يدل على كمالهم وحسن مقصدهم، رحمهم الله وغفر لهم أجمعين.
________________________________________

التعديل الأخير تم بواسطة أم الزبير محمد الحسين ; 04-03-2012 الساعة 05:04 AM
رد مع اقتباس