عرض مشاركة واحدة
  #22  
قديم 01-13-2009, 10:30 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي


وبعد هذا الذي استخلصناه من كلام الحاكم والخليلي في تعريفهما لـ ( الشاذ) ، نرجع إلى التذكير بموقفهما من كلام الشافعي عنه .
أما الخليلي فالظاهر أنه اعتبر كلام الإمام الشافعي ومن وافقه من أهل الحجاز مذهباً لهم ، واصطلاحاً خاصاً بهم ، في استعمال مصلطح ( الشاذ) .
ولعل موقف الحاكم من كلام الإمام الشافعي مثل موقف الخليلي منه ، حيث ذكر الحاكم كلام الشافعي عقب تعريفه هو للشاذ، دون إشارة إلى قبول أو رد ، من ظهور اختلاف كلام الشافعي عن كلامه في تعريف الشاذ.
إلا أن موقف الحاكم من كلام الإمام الشافعي يحتمل فيه أيضاً أنه مختلف عن موقف الخيلي ، بأن يكون الحاكم فهم كلام الشافعي فهماً لا يعارض شرحه هو لمصطلح الشاذ . وقد يؤيد ذلك : أن الحاكم أورد كلام الشافعي ( وهو إمامه ) عقب كلامه دون استدراكٍ أو معارضةٍ أو أي تعقيب ، كهيئة المستدل بكلامه المحتج به ‍‍ وهذا ظاهر لمن نظر في سياق كلام الحاكم ، كما ذكرناه سابقاً .
فيحتمل أن يكون الحاكم قد فهم من كلام الإمام الشافعي ، أن ( الشاذ) في كلامه لم يرد بالمعنى الاصطلاحي ، وإنما ورد فيه بالمعنى اللغوي . فالشافعي حينها لم يقصد تعريف ( الشاذ) اصطلاحاً ، وإنما أراد بيان أولى أحوال الرواية وصفاً بالشذوذ لغةً‍‍ .
ولا شك أن الوصف بـ ( الشذوذ) لغةً يقتضي الانفراد عن جماعةٍ ، ويوحي أيضاً بذم هذا المنفرد . وهذا المقتضى والموحى به أوضح وأبين في ( مخالفة المقبول لمن هو أولى منه ) من ( انفراد الراوي بأصلٍ لا متابع له عليه ). وإن كان ( انفراد الراوي بأصل لا متابع له عليه ) فيه انفراد عن جماعة الرواة بنقل ذلك الأصل أيضاً ، وفيه إيحاء بذم المنفرد به كذلك ، برد أكثر الشواذ ، إلا ما تفرد به إمام حافظ يحتمل ذلك التفرد . لكن تحقق ذلك المقتضى والمحى به من معنى ( الشاذ) لغةً في الذي ذكره الشافعي أكثر من اصلاح المحدثين فيه ، كما سبق .
وليس في ذلك مشاحة من الإمام الشافعي لاصطلاح المحدثين في ( الشاذ)، لكنه بيان لأحق أحوال الرواية بذلك الوصف لغةً ، وإن كان الاصطلاح عند الشافعي على غير ذلك .
وقد يشير على أن مصطلح ( الشاذ) عند الشافعي كان معروفاً أنه : ( انفراد الراوي باصل لا متابع له عليه ) قوله : (( ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره )). فنفيه لهذا المعنى عن ( الشاذ) يدل على علمه به ، ويشير إلى إطلاق المحدثين له على هذا المعنى ، وأن الشافعي كان يعرف ذلك ، ولعله كان يستخدمه على المعنى نفسه أيضاً‍ لكنه أراد أن يبين أن الانفراد ليس سبباً للراد مطلقاً ، كما يوحي به وصفه بـ( الشذوذ) ، وأن يبين أيضاً أن الشاذ لغةً على الحقيقة ، والأولى بهذا الوصف ، هو ( مخالفة الثقة لمن هو أولى منه ) .
وأنا أعلم أن من تمذهب بإلفه العلمي ، سوف يعبر هذا التفسير لكلام الإمام الشافعي : تمحلاً في الفهم ، وتعسفاً في التفسير . ولو أنه أنصف ، ونظر النظر المجرد عما ألفه ، وتذكر أن الإمام الشافعي من أهل القرن الهجري الثاني ، ومن أهل المراحل المتقدمة لنشأة علوم الحديث ومصلحه ، وأنه كان يخاطب أهل عصره ، بعملهم وفهمهم واصطلاحهم ، وأنه لم يكن يخطر على باله الاحتجاج الملح عندنا لشرح مصطلحاتهم ؛ من تذكر ذلك كله علم أن تفسيري لكلام الإمام الشافعي ، بأنه أراد بالشذوذ في كلامه المعنى اللغوي له ، ليس فيه تمحل ولا تعسف .
وأنا لا أجزم بأن هذا هو معنى كلام الإمام الشافعي ، لكني أورد إلى كلامه هذا المعنى ن على أنه احتمال آخر في فهمه . والجزم بمعنى كلامه ، إنما يكون باستقراء مصطلحه التطبيقي ، ومصطلح أهل عصره ، وأهل الحجاز منهم خاصةً لكلمة الخليلي في نسبة تفسير الشافعي للشاذ إلى أهل الحجاز أيضاً .
وما دمنا نتحدث عن كلام أهل الاصطلاح عن ( الشاذ)، والفهوم الجائزة لكلامهم ؛ فهذا الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هانىء الأثرم ( ت 273هـ) ، لما ذكر ( الشاذ) في كلامه . حمل على أنه يريد به ( مخالفة الراوي لمن هو أولى منه)، مع أن كلامه يدل بظاهره على غير ذلك المعنى .
قال أبو بكر الأثرم : (( والأحاديث إذا كثرت كانت أثبت من الواحد الشاذ، وقد يهم الحافظ أحياناً)).
إن عبارة الأثرم واضحة أنه يتكلم عن ( أحاديث) ، لا عن ( حديث ) خالف فيه راوٍ من هو هو أولى منه . فهو يذكر أن ( الأحاديث) إذا دلت على أصل ، كان ذلك أثبت من الأصل الذي جاء به الواحد الشاذ ، ولم يقل : ( كان ذلك أثبت من المخالف الشاذ) ، إنما قال : ( الواحد) .
فالأثرم ـ بناءً على هذا ـ يسمي تفرد الراوي بأصلٍ ( شاذا) ، فهو على رأي الحاكم والخليلي ، وليس على ما استظهر من كلام الإمام الشافعي . والغريب بعد ذلك ، كما ذكرنا آنفاً ، أن كلام الأثرم هذا فهم على أنه أراد به ما استظهر من كلام الإمام الشافعي ، بان الشاذ: مخالفة المقبول لمن هو أولى منه.
وكلمة أخرى لأحد الأئمة من أهل الاصطلاح ، في تفسير معنى ( الشاذ) :
يقول الحافظ النقاد الإمام صالح (جزرة) بن محمد بن عمرو الأسدي البغدادي (ت294هـ): (( الحديث الشاذ: الحديث المنكر الذي لا يعرف)).
ففهم ظاهر هذه العبارة ، يقول : إن الشاذ : هو التفرد المردود . فالتفرد من قوله : (( الذي لا يعرف )) ، والرد من قوله : (( المنكر)) .
وليس معنى ذلك أن هذا وحده هو ( الشاذ) عند صالح جزرة لأنه العبارة خرجت منه غير موزونةٍ بما تقتضيه صناعة الحدود المنطقية ، من الجمع والمنع ‍ لكن معنى عبارته ، بما تقتضيه أساليب العرب : أن الشاذ حقاً ، أو الشذوذ المحض لغةً ـ عند صالح جزرة ـ: هو الحديث المنكر الذي لا يعرف . فهو إما أنه أراد الالتفات إلى دلالة المعنى اللغوي لـ( الشاذ)، كما سبق مع الإمام الشافعي . أو أنه أراد التنبيه إلى أخطر أنواع ( الشاذ) ، وأحقها بالاهتمام .
كما أن هذه العبارة لا يلزم أنها تعني بأن ( الشاذ) هو ( المنكر) ، وأنهما مصطلحان متطابقان المعنى ، خاصة بعد الشرح المذكور آنفاً لعبارته هذه . إذ مقتضى ذلك الشرح : أن ( الشاذ) المردود ، هو الذي يقال له ( منكر)، دون غيره من ( الشذوذ) ، الذي هو تفرد الثقة الحافظ المحتمل لذلك التفرد .
ولعله مما يؤيد هذا الفهم لعلاقة ( الشاذ) بـ( المنكر) من كلام صالح جزرة ، هذا الحوار الذي دار بين أحد سائلي يحيى بن معين ويحيى ، حيث قال ذلك السائل لابن معين : (( ما تقول في الرجل حدث بأحاديث منكرة ، فردها عليه أصحاب الحديث ، إن هو رجع عنها ، وقال : ظننتها ، فأما إذ أنكرتموها ورددتموها علي ، فقد رجعت عنها ؟ فقال يحيى : لا يكون صدوقاً أبداً ، إنما ذلك الرجل يشتبه له الحديث الشاذ والشيء ، فيرجع عنه . فأما الأحاديث المنكرة التي لا تشتبه لأحدٍ فلا )).
ولا أريد الدخول في مسألة علاقة ( الشاذ) بـ( المنكر ) ، فهذا خصم ليس هذا محله! لكن ما ذكرته إشارات لبعض ما يقال ، وأرجو الله أن ييسر لي كل ما يقال مستقبلاً في هذه المسألة . فإذا رجعنا إلى تفسير الشافعي للشاذ، وما ذكرناه فيه، فإن الذي لا محيد لنا من التسليم به حتى الآن ، على أقل تقدير ، أن نقول مثل الخليلي : إن للشاذ اصطلاحين معتبرين ، أحدهما : للشافعي وأهل الحجاز ، والآخرة : لغيرهم من حفاظ الحديث .
وهذا يشبه ( لا كل الشبه ) ما خرج به ابن الصلاح في نوع ( الشاذ) ، حيث قال : (( فخرج من ذلك ، أن الشاذ المردود قسمان ، أحدهما : الحديث الفرد المخالف . والثاني : الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف )).
لكن ظهرت المشاحة في الاصطلاح عند ابن الصلاح ، وظهرت بوادر الميل إلى نصرة اقوال إمامه الشافعي ، عندما اعترض على تعريفي الحاكم والخليلي للشاذ : بالأفراد الصحاح !! حتى عبر الحافظ العراقي عن هذا الاعتراض في ( ألفيته ) وشرحها : ( التبصرة والتذكرة ) ، بأنه رد من ابن الصلاح لتعريفي الحاكم والخليلي !!!
ثم ازداد الميل إلى نصرة قول الإمام إلى درجةٍ أبعد ، عند الحافظ ابن حجر ، عندما أدخل في باب الاصطلاح الترجيح بين الاصطلاحات ، مع أنه لا مدخل للترجيح في الاصطلاح ، لأن الترجيح مشاحة فيما لا تحق فيه المشاحة !!
بل جزم الحافظ بمعنى واحد من معاني الشذوذ في ( النزهة ) ، هو المعنى الذي استظهر من كلام إمامه ( وإمام المسلمين مع غيره من أئمة الإسلام ) :
الشافعي !!!
ثم تبعه على هذا الانتصار لقول الإمام : السخاوي ، والسيوطي : الشافعيان !!
وأصبح اصطلاح غير الإمام : (( غير جيد )) !!!
مع أنه قد سبق معنا أن اعتبار ما قاله الإمام ( الشافعي ) اصطلاحاً له ، يحتاج إلى مزيد إثبات والاستدلال ، فهو غير مقطوع به أنه اصطلاحه أصلاً!!!
فانظر كيف تعاون الغلو والجفاء في فهم كلام أهل الاصطلاح ، بالتدريج ، إلى البعد عن فهم كلامهم !!!
وهذا ما أردت التمثيل له!
وهو آخر ما أحببت ذكره في هذه الخطوة .
يُتْبَعُ بِإِذْنِ المَوْلَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى ...

التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 07-09-2009 الساعة 08:22 AM
رد مع اقتباس