عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 08-14-2008, 02:58 AM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

تمكين الله تعالى لرسول الله لتبليغ الرسالة في مكة

بعد الإعداد الرفيع الذي قام به النبي eلتربية أصحابه, وبناء القاعدة الصلبة على أسس عقدية وخلقية وأمنية وتنظيمية، وبعد أن قطع المرحلة السرية بكل نجاح وتفوق، نزل قول الله تعالى: *وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ" [الشعراء: 214] فخرج رسول الله eحتى صعد الصفا فهتف: «يا صباحاه»، فاجتمعت إليه قريش، فقال: «يا بنى فلان، يا بنى عبد مناف، يا بنى عبد المطلب، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ؟» قالوا: ما جربنّا عليك كذبًا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبًا لك، أما جمعتنا إلا لهذا, ثم قام فنزلت هذه السورة *تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ" [المسد:1].

من الطبيعي أن يبدأ الرسول eدعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ إن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لا بد أن يكون له وقع كبير على بقية القبائل، على أن هذا لا يعنى أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش، لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية. ([1])

ولقد كانت النتيجة المباشرة لهذا الصدع هي الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب، والكيد المدبر المدروس، ولقد اشتد الصراع بين النبي eوأصحابه، وبين شيوخ الوثنية وزعمائها، وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان، وهذا في حد ذاته مكسب عظيم للدعوة، ساهم في أشد وألد أعدائها، ممن كانوا يشيعون في القبائل قالة السوء عنها، فليس كل الناس يُسَلِّمون بدعاوى القرشيين، بل كان يوجد من مختلف القبائل من يتابع الأخبار، ويتحرى الصواب فيظفر به.

وكانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة, وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول e، وأصبح هذا الحدث العظيم حدث الناس في كل مكان، وبدأ رسول الله eيشق طريقه لكسر الحصار المفروض على الدعوة، والانتقال بها إلى مواقع جديدة، وسنرى ذلك في عرضه للدعوة على القبائل، والخروج للطائف، وهجرة الحبشة.

لقد كان أولى الناس بتوجيه الدعوة إليهم: قريش وأهل مكة وبالأخص عشيرة النبي eالأقربين فوجه إليهم الدعوة من خلال هذا المنبر العلني، وأنذرهم عذاب الله وبأسه إن لم يؤمنوا ([2]).

:astagfor:

ولكن قريشًا رفضت الاستجابة والانقياد للحق المبين, وكان موقفهم كموقف الأقوام السابقة من رسلهم، فحاربوا الدعوة الجديدة التي عرت واقعهم الجاهلي وعابت آلهتهم وسفهت أحلامهم، أي آراءهم وأفكارهم وتصوراتهم عن الحياة والإنسان والكون، فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة وإسكات صوتها أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها.
لقد فكر النبي eبالخروج بالدعوة من مكة لتحقيق أمور من أهمها:

1- البحث عن موطن يأمن فيه المسلمون على دينهم، ويسلمون من أذى قريش وفتنتها، حيث لا تطالهم يدها، ولا يمتد إليهم بطشها.

2- البحث عن بيئة تقبل الدعوة، وتستجيب لها، في مقابل عنت القرشيين وكنودهم، ومن هذه البيئة تنطلق إلى آفاق الأرض، تحقيقًا لأمر الله بالتبليغ للعالمين ([3]).

فكانت هجرة المسلمين إلى الحبشة، فكانت الأولى في شهر رجب سنة خمس من المبعث، وهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة خرجوا مشاةً إلى البحر فاستأجروا سفينة.

وقد صورت أم سلمه زوج النبي e- وهي ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى - الظروف التي أحاطت بهذه الهجرة فقالت: (لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله eوفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله eفي منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه, فقال لهم رسول الله e: «إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه» فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار, أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلمًا) ([4]).

لقد كانت هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة ذات أبعاد سياسية وإعلامية ودعوية, وكان اختيار النبي eللحبشة في غاية الدقة وبعد النظر؛ لأنه (التفت e إلى ما يحيط به من الداخل والخارج، وما ينتظر دعوته من أخطار، فوجد أن جذورها قد امتدت في أعماق الجزيرة العربية، بين مؤمن قوى الإيمان، وبين كافر معاند شديد الحرص على زعامتها، عظيم الحقد على الدعوة وصاحبها).

وأما خارج الجزيرة، فتوجد إمبراطورية فارس وقد أعماها دخان النار، وإمبراطورية الروم وقد عبدوا الملوك ودنياهم، أما الحبشة فما يزال بها بعض وميض من صدق رسالة عيسى عليه السلام، وأن بها ملكًا لا يُظلم أحد بأرضه ([5]).

وهذا يدل على اهتمام رسول الله eبما يدور حوله ومعرفة الدول وطبائعها.

ولقد كانت الهجرة وسيلة من أهم وسائل الإعلام في الإسلام؛ لأن مجرد خروج المسلمين من بلد كانوا فيه منذ النشأة، يخلق تساؤلاً كبيرًا في المجتمع المليء
بالكذب والأراجيف والمتخصص في تشويه أخبار الدين الجديد، وخرجوا وقد تركوا تساؤلاً في أذهان الناس: ما الذي حملهم على ترك أوطانهم وأموالهم وأهليهم؟ إنه
لأمر عظيم.

لقد خرج الوفد الإعلامي الإسلامي الأول للحبشة بخطة محكمة وتدبير مقصود لنشر الدعوة الإسلامية وإعلانها في كل مكان, حيث إن الرسول eأرسل كتابًا للنجاشي يشير فيه إلى البر بالمسلمين ويدعوه فيه إلى الإسلام ([6]).

وهكذا ترى أن اختيار الزمن والمكان لم يكن لمجرد الصدفة والهروب من شدة العذاب فقط، بل كان بعضهم في حماية قبيلة يستطيع البقاء في مكة دون إيذاء مهلك ([7]).

وكان الوفد الإعلامي الأول أشبه بسفارة في أيامنا الحاضرة لكنها تحمل شعار لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتعمل جاهدة على نشره، لقد كان الهدف الأول من هجرة المسلمين إلى الحبشة حماية المستضعفين من أذى قريش، ودفع غربتهم المعنوية، وتأمينهم على دينهم، وفتح آفاق جديدة للدعوة إلى الله يشرف عليها المهاجرون، والحط من مكانة قريش عند سائر العرب، وإدانة موقفهم من الدعوة وحَمَلتها، يجعل الأحباش يسبقون قريشًا ويؤوون من طردتهم وأساءت إليهم من أشراف الناس، ومن ضعفائهم وغربائهم وهذه كلها آثار إيجابية، لا يضير أن يوجد إلى جوارها آثار سلبية قليلة، منها: أن إيواء الحبشة للمسلمين وطيب مقامهم بها أذكى نار الحقد لدى قريش، فضاعفت من حربها ومكرها، وعداوتها([8]).

وعندما تسامع المهاجرون بأن قريشًا قد أسلمت، وكفت عن إيذاء النبي eرجعوا، فوجدوا الأمر أشد مما كان، فأذن النبي eبالهجرة الثانية، فهاجر قرابة المائة ما بين رجل وامرأة واستقروا هناك([9]).

لقد ذكر ابن إسحاق ([10]) دوافع الهجرة الثانية، فقال: (فلما اشتد البلاء وعظمت الفتنة تواثبوا على أصحاب رسول الله e، وكانت الفتنة الآخرة التي أخرجت من كان هاجر من المسلمين بعد الذين كانوا خرجوا قبلهم إلى أرض الحبشة) ([11]).

لقد أرسلت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة يحملان الهدايا إلى النجاشي وبطارقته، فقابلا النجاشي طالبين إليه إعادة من هاجر من المسلمين، فأرسل النجاشي إلى المسلمين فسألهم عن دينهم فقال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: (أيها الملك كنا قومًا على الشرك، نعبد الأوثان ونأكل الميتة، ونسئ الجوار، ونستحل المحارم، بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئًا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبيًا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلى ونصوم، ولا نعبد غيره).

فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله، فقال جعفر: نعم.

قال: هَلُمَّ فاتلُ علىَّ ما جاء به.

فقرأ عليهم صدرًا من كهيعص ([12])، فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها عيسى.. انطلقوا راشدين.

ولما أخفقت محاولة وفد قريش في استعادتهم، أثار عمرو بن العاص في اليوم التالي موقف المسلمين من عيسى عليه السلام، فقال للنجاشي: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيمًا, فأرسل النجاشي إليهم فسألهم فقال له جعفر: نقول هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

فقال النجاشي: ماعدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود, وأعطى النجاشي الأمان للمسلمين، فأقاموا مع خير جار في خير دار كما تقول أم سلمة رضي الله عنها ([13]).

إن مسارعة قريش لإرسال وفد لاستعادة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة تدل على إدراكها لخطورة الموقف إذا ما حصل المسلمون على مأوى لهم يأمنون فيه، والحبشة نصرانية، وملكها عرف بالعدل، وهي قريبة من مكة، وكل ذلك يشكل خطرًا على قريش في المستقبل.

لقد فتحت جبهة جديدة لقريش انهزمت فيها معنويًا وسياسيًا وإعلاميًا أمام
ضربات المسلمين الموفقة، وخطواتهم المتزنة، وأساليبهم الرصينة من أجل تبليغ دعوة الله وإبلاغ رسالته.

لقد قاد المعركة السياسية والدعوية والعقدية جعفر بن أبي طالب، وكان صادق اللهجة، فصيح اللسان، قوي البيان، فتأثر النجاشي من قوله وخابت آمال قريش، وظهرت ملامح الإيمان في وجه النجاشي.

إن جعفر رضي الله عنه قاوم حملة قريش الإعلامية المضللة بكل دقة وموضوعية وصدق ونقل الأخبار والحقائق من مصادرها، فأعلن رضي الله عنه ما سمعه من
النبي eردًا على سؤال النجاشي في أمر عيسى عليه السلام دون مداهنة أو مواربة أو نفاق، لقد تلألأ وجه النجاشي بالإيمان الصادق دون بطارقته وقال للمهاجرين: (اذهبوا فأنتم شيوم أرضى آمنون، من سبكم غرم -كررها ثلاثًا-، ما أحب أن لي دبرًا ([14]) من ذهب، وأني آذيت رجلاً منكم. ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها, فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين ردّ علىّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه).

وقد امتلأت القلوب حقدًا وغيظًا على الإسلام والمهاجرين الذين اطمأنوا في عبادتهم ونشر دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد آمن النجاشي ملك الأحباش وكسبت الدعوة أنصارًا جددًا, وتوسعت دائرة المسلمين وكسبوا معارك سياسية وإعلامية، ودعوية بتوفيق الله تعالى لهم ([15]).

لقد بقى المسلمون في الحبشة إلى أن استقر الإسلام في المدينة فهاجر بعضهم إليها وبقى جعفر ومن معه ([16]) إلى فتح خيبر سنة 7هـ.

وحاول رسول الله e أن يوسع مجال دعوته؛ فخرج إلى الطائف وعرض الإسلام على زعمائها إلا أنهم رفضوا ذلك وبالغوا في السفه وسوء الأدب معه، فقام رسول الله e من عندهم، وقصد مكة ليواصل تبليغ الرسالة وأداء الأمانة ونصح الأمة, ولم يدخل مكة بدون تخطيط أو دراسة مستوعبة لكل الملابسات والظروف المحيطة به، بل درس الأمر وخطط للمرحلة القادمة، ورأى بثاقب بصره وبعد نظره أن يتصل بمطعم بن عدى سيد قبيلة بنى نوفل بن عبد مناف وطلب جواره, فاستجاب لطلب النبي e ودخل رسول الله e ومعه زيد بن حارثة في حراسة بنى نوفل الذين تحلقوا حوله بالسلاح وهو يصلي في البيت الحرام وذهبوا في حراسته حتى دخل بيته.
لقد كان بنوا نوفل مؤسسة قوية في المجتمع القرشي الذي له أعرافه وتقاليده المقدسة، فاستفاد الرسول e من تلك القوانين الموجودة ووظفها بكل دقة وحنكة وسياسة لمصلحة الدعوة ([17]).

هكذا e دخل إلى مكة بعد رجوعه من الطائف, وبدأ يعرض نفسه على القبائل في المواسم: يشرح لهم الإسلام، ويطلب منهم الإيواء والنصرة، حتى يبلغ كلام الله عزَّ وَجَلَّ وكان رسول الله e يتحرك في المواسم التجارية ومواسم الحج التي تجتمع فيها القبائل وفق خطة دعوية واضحة المعالم ومحددة الأهداف, وكان e يعرض نفسه على القبائل على أنه حامل دعوة من الله من أجل حمايته لكي يتمكن من تبليغ دعوة الله إلى الناس، ومن أجل نصرته فيما يسعى إليه من إقامة سلطان لتلك الدعوة، ويوفر لها ولأتباعها الحماية والأمن، ومن ثم يمكنها من الانطلاق في الأرض داعية كل جنس ولون إلى الاستجابة لأمر الله.

ومن توفيق الله لدعوته أن المدينة المنورة كانت تعيش ظروفًا خاصة ترشحها لاحتضان دعوة الإسلام، وتجتمع فيها عناصر عديدة لا تجتمع في غيرها:

1- منها التشاحن والتطاحن الموجود بين قبيلتي المدينة: الأوس والخزرج، وقد قامت بينهما الحروب الطاحنة كيوم بعاث وغيره، وقد أفنت هذه الحرب كبار زعمائهم، ممن كان نظراؤهم في مكة والطائف وغيرهما حجر عثرة في سبيل الدعوة، ولم يبق إلا القيادات الشابة الجديدة المستعدة لقبول الحق، إضافة إلى عدم وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها، وكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه، وليلتئم شملهم تحت ظله, فكان يوم بعاث أمرًا قدّمه الله تعالى لنبيه e، فقدم وقد قتل معظم سرواتهم وجُرحوا، فقدمه الله لرسوله e في دخولهم الإسلام ([18]).

2- ومنها مجاورتهم لليهود مما جعلهم على علم - ولو يسيرًا - بأمر الرسالات السماوية، وخبر المرسلين السابقين، وهم - في مجتمعهم - يعايشون هذه القضية في حياتهم اليومية، وليسوا مثل قريش التي لا يساكنها أهل كتاب، وإنما غاية أمرها أن تسمع أخبارًا متفرقة عن الرسالات والوحي الإلهي، دون أن تلح عليها هذه المسألة، أو تشغل تفكيرها باستمرار، فلما أراد الله إتمام أمره بنصر دينه، قيض ستة نفر من أهل المدينة للنبي  فالتقي بهم عند العقبة - عقبة منى - فعرض عليهم الإسلام، فاستبشروا وأسلموا، وعرفوا أنه النبي الذي توعدهم به اليهود، ورجعوا إلى المدينة، فأفشوا ذكر النبي e في بيوتها ([19])، وكان هذا هو «بدء إسلام الأنصار» كما يسميه أهل السير ([20]).

لقد كانت المدينة المنورة تربة صالحة لانتشار الإسلام، فاليهود يهددون بنبي أظل زمانه يتبعونه ويقتلون الأوس والخزرج قتل عاد وإرم, والعرب أهل فراسة ونخوة أضاءت بعض شموع الحق بينهم، وكأنها إرهاصات للنصرة والنجدة وقام الوفد بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة.

ولما جاء وقت العام التالي وافي الموسم ضِعف العدد الأول - اثنا عشر رجلاً من المؤمنين- فبايعهم النبي e على ألا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم, ولا يعصوه في معروف, وتعرف هذه البيعة ببيعة العقبة الأولى.

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (إني لمن النقباء الذين بايعوا رسول الله e، وقال: بايعناه على ألا نشرك بالله شيئًا ولا نزني، ولا نسرق، ولا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا ننهب، ولا نعصى، فالجنة إن فعلنا ذلك، فإن غشينا ([21]) من ذلك شيئًا كان قضاء ذلك إلى الله) ([22]).

ولقد بعث الرسول e مع المبايعين مصعب بن عمير يعلمهم الدين ويقرؤهم القرآن، فكان يسمى في المدينة المقرئ وكان يؤمهم في الصلاة ([23]).

:anotherone:

ولقد اختاره الرسول e عن علم بشخصيته من جهة، وعلم بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى، حيث كان رضي الله عنه بجانب حفظه لما نزل من القرآن، يملك من اللباقة والهدوء وحسن الخلق والحكمة قدرًا كبيرًا, فضلاً عن قوة إيمانه وشدة حماسه للدين، ولذلك تمكن خلال أشهر أن ينشر الإسلام في سائر بيوتات المدينة وأن يكسب للإسلام أنصارًا من كبار زعمائها، كسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم([24]).

لقد كانت دعوة مصعب رضي الله عنه في المدينة موفقة وحققت أهدافها, وشرع يشرح للناس تعاليم الدين الجديد وتعاليم القرآن الكريم وتفسيره، وتقوية الروابط الأخوية بين أفراد القبائل المؤمنة من ناحية، وبين النبي e وصحبه بمكة المكرمة، لإيجاد القاعدة الأمنية لانطلاق الدعوة. لقد كان الدور الإعلامي والتعليمي والتوجيهي الذي قام به مصعب في المدينة له أثر كبير لتهيئة الظروف للمرحلة التي بعدها، لقد فتحت المدينة بالقرآن وبالدعوة إلى الله, وأصبح ولاء كثير من الأوس والخزرج لعقيدة الإسلام وشريعة الرحمن وتشكل وفد من الأنصار لعقد البيعة الثانية مع النبي ، لتنتقل الدعوة إلى طور جديد ومرحلة أخرى.

لقد اهتم e ببناء الفرد المسلم الذي يحمل تكاليف الدعوة ويضحى من أجلها, ولذلك نجد جعفرًا يقوم بدور عظيم في تبليغ الدعوة وأداء الأمانة في أرض الحبشة, ونجد مصعبًا يفتح الله على يديه المدينة ويدخل كثير من أهلها في دعوة الإسلام.

إن النبي e في طور المرحلة المكية قام بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة على خير قيام وكانت عناية الله وحفظه له وتأييده ظاهرة للعيان.

ولقد سار على نهج رسول الله e في تبليغ الرسالة وأداء الأمانة كثير من الدعاة على مر العصور وكر الدهور, ومكن الله لهم بين الناس حتى أدوا واجبهم في الدعوة إلى الله ومن أمثال ذلك: الإمام أحمد بن حنبل، وابن تيمية، والعز بن عبد السلام, ومحمد بن عبد الوهاب في الجزيرة، ومحمد بن على السنوسى في ليبيا، وسعيد النورسى في العصر الحديث في تركيا، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، وحسن البنا في مصر، وغيرهم كثير، ومنهم من استشهد في سبيل دعوته إلا أنها انتشرت بعد مماته انتشار الضياء في الظلام، ولقد لاحظت في سيرة هؤلاء الأعلام في القديم والحديث حماية الله لهم ورعايته وحفظه وتثبيته لهم في المحن والشدائد, وتهيئة الله قلوب الناس لاستماع دعوتهم ونصحهم، وكانوا رحمهم الله رجالاً للعقيدة عاشوا من أجل هذا الدين وماتوا في سبيله.



--------------------------------------------------------------------------------

([1]) دراسة في السيرة النبوية، د. عماد الدين خليل ص124، 125.

([2]) انظر: الغرباء الأولون ص 167، سلمان العودة.

([3]) المصدر السابق، ص168.

([4]) ابن هشام (1/334).

([5]) انظر: الوفود الإعلامية في العصر المكي لعلى الأسطل، ص(111).

([6]) انظر: الوفود الإعلامية في العصر المكي لعلى الأسطل، (114).

([7]) المصدر نفسه، ص (115).

([8]) انظر: الغرباء الأولون ص (171).

([9]) المصدر نفسه, ص (169).

([10]) هو محمد بن إسحاق بن يسار من كتاب السيرة (انظر: سير أعلام النبلاء 7/34).

([11]) السير والمغازي لابن إسحاق، ص 213، تحقيق: سهيل زكار.

([12]) سورة مريم.

([13]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام.

([14]) انظر: ابن هشام (1/338).

([15]) انظر: الوفود في العهد المكي ص (123).

([16]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم ضياء العمري (1/176).

([17]) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن الكريم, د. التجانى، ص (172- 180).

([18]) البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب الأنصار (4/267) رقم 7777.

([19]) انظر: ابن هشام (1/430).

([20]) المصدر نفسه (1/428).

([21]) ارتكبنا ذنبًا.

([22]) مسلم، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها (3/1333) رقم (1079).

([23]) انظر: سيرة ابن هشام (1/431).

([24]) المصدر
رد مع اقتباس