عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 08-12-2008, 03:13 AM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

أنواع التمكين في القرآن الكريم

تمهيد

قال تعالى:*إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ"[غافر: 51].

وقال سبحانه: *وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" [الروم: 47]. وقال تعالى: *إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ" [محمد:7]. وقال تعالى: *وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ` إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ` وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" [الصافات: 171- 173].

إن هذه الآيات وأمثالها تشير إلى نصر الله وإعزاز أهل الإيمان ممن يحرصون على الدعوة ويتحملون المشاق في سبيلها سواء كان الداعية رسولاً كريمًا أو أحد المؤمنين، وهذا الإعزاز والانتصار والتمكين يكون في الحياة الدنيا قبل الآخرة.

ونجد في القرآن الكريم والسنُّة النبوية المطهرة، أن من الأنبياء من قتله أهل الكفر والشرك، كيحيي وزكريا عليهما السلام وغيرهما، ومنهم من حاول قومه قتله إلا أن الله نجاه منهم كنبينا محمد × وعيسى ابن مريم عليه السلام، وكإبراهيم الذي ترك قومه وعشيرته مهاجرًا إلى الشام, ونجد من أهل الإيمان على مر العصور ومر الدهور من يسام سوء العذاب وفيهم من يلقى في خدود الأرض المليئة بالنيران المحرقة، ومنهم من يقتل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر، ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر والظفر والتمكين؟ وقد طُردوا أو قتلوا أو عذبوا؟ ([1])

يقول سيد قطب - رحمه الله -: (ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل:

إن الناس يقيسون بظواهر الأمور، ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.

إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان وحيز محدود من المكان وهي مقاييس بشرية صغيرة، فأما المقياس الشامل، فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر، ولا بين مكان ومكان، ولو نظرنا إلى قضية الإيمان والاعتقاد لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الإيمان هو انتصار أصحابها، فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها، وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها.

والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتى، وقد يلتبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة.. إبراهيم عليه السلام وهو يلقي في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها..أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك -في منطق العقيدة - أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار, كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار، هذه صورة وتلك صورة وهما في الظاهر بعيد من بعيد.. فأما في الحقيقة قريب من قريب). ([2])

(وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزًا محركًا للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزًا محركًا لخطى التاريخ كله مدى أجيال). ([3])

(إن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة: ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة، لقد انتصر محمد × في حياته، لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض، فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعًا، من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة، فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعية تاريخية محدودة مشهودة، ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية وفق تقدير الله وترتيبه) ([4]).

إن النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدة، وصور متنوعة من أهمها؛ تبليغ الرسالة، وهزيمة الأعداء، وإقامة الدولة.





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) انظر: حقيقة الانتصار، ص (13، 14).

([2]) انظر: الظلال (5/3086).

([3]) المصدر نفسه، (5/3086).

([4]) المصدر نفسه، (5/3086)..
:anotherone:



.................................................. ..



تبليغ الرسالة وأداء الأمانة

إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم، تمكين الله تعالى للدعاة، بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، واستجابة الخلق لهم، وقد أشار القرآن إلى عدة نماذج من ذلك:


أصحاب القرية

قال تعالى: *وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ` إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ ` قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ` قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ` وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ` قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ" [يس: 13- 18].

إن أهل هذه القرية لم يستجيبوا لدعوة المرسلين، ومضوا في كفرهم وعنادهم غير مبالين، وهددوا المرسلين بالرجم والعذاب الأليم، والمتأمل في الآيات القرآنية تظهر له بعض معاني النصر والتمكين، التي حققها المرسلون، وبذلك يكونون قد نصروا نصرًا مؤزرًا، وأن أصحاب القرية هم الخاسرون، إن معاني النصر ظهرت في الحقائق التالية:

1- تمكين الله تعالى للمرسلين بحيث استطاعوا تبليغ رسالته، ولم يستسلموا لشبهة أهل القرية أولاً، وتهديدهم ثانيًا، وهذه هي مهمتهم: *وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ" [يس: 17] ومن أدى ما عليه فقد انتصر وفاز ونجح.

2- إن استجابة رجل من أهل القرية لهم، وتأييده لدعوة التوحيد علانية يعد نصرًا وانتصارًا له ولهم، ولذلك كان رد أهل القرية عنيفًا تجاهه، لأنهم شعروا بخذلانه لهم، وخذلانهم نصر لأولئك الرسل.

3- إن استشهاد الرجل الذي جاء من أقصى المدينة نصر له ولدعوة التوحيد حيث استطاع أن يودع في قلوب الناس من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي كتبها بدمه، فأصبحت حافزًا محركًا لأهل الإيمان على مر الدهور ومر العصور منذ نزول القرآن الكريم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إن قتله في سبيل دعوة التوحيد كان سببًا في فوزه الأبدي بدخول الجنة *قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ" [يس: 26].

لقد تمكن التوحيد في قلبه فجعله حريصًا على هداية قومه، فلم يحمل حقدًا ولا ضغينة مع تعذيب قومه له وقتله، وهذا انتصار عظيم على النفس البشرية: *قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ` بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ" [يس: 26، 27].

إن وصول دعوة التوحيد إلى أقصى المدينة دليل على المجهود العظيم الذي بذله المرسلون وتدل على المعاني العظيمة من الصدق والإخلاص التي تمكنت في نفوسهم من أجل دعوة التوحيد.

4- إن انتصارات هؤلاء الرسل وهذا الداعية الذي جاء من أقصى المدينة توجت بهلاك القوم الذين كذبوا بدعوة المرسلين *وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُنْدٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ` إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ" [يس: 28، 29].

إن الدعاة إلى الله في أمسِّ الحاجة إلى أن يقفوا مع قصة أصحاب القرية، ويتأملوا ويتفكروا في أبعادها ونهاياتها. إنني أريد أن أقف مع الرجل المؤمن الذي تمكن الإيمان في قلبه, ماذا فعل في نفسه ذلك الإيمان العظيم، لقد وفق سيد قطب رحمه الله في تحليل نفسية هذا النموذج الطيب والرجل المؤمن المستجيب لدعوة الرسل، وحلل نفسيته الخيرة، فقال: إنها استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيها الصدق والبساطة، والحرارة، واستقامة الإدراك، وتلبية الإيقاع القوي للحق المبين.

فهذا الرجل سمع الدعوة واستجاب لها بعد ما رأى فيها دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه وحينما استشعر حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتًا، ولم يقبع في داره بعقيدته، وهو يرى الضلال من حوله والجحود والفجور، ولكنّه سعى بالحق الذي استقر في ضميره, وتحرك في شعوره، سعى به إلى قومه، وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويتهدّدون.

وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفّهم عن البغي وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبّوه على المرسلين.

وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولم يكن في عزة من قومه أو منعة من عشيرته، ولكنّها العقيدة الحيّة في ضميره، تدفعه وتجئ به من أقصى المدينة إلى أقصاها.([1])
ولقد أجاد الإمام الفخر الرازي([2]) في الإشارة إلى بعض المعاني العظيمة التي تشير إلى تمكن دعوة التوحيد في قلب الرجل المؤمن الصادق المخلص.. وأنقل إليك بعض هذه المعاني:

1- إن ارتباط الرجل المؤمن مع ما سبق من آيات القصّة له وجهان:

أحدهما: أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين، حيث آمن بهم الرجل الساعي، وعلى هذا ففي قوله: *مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ" بلاغة باهرة، فهو يدل على أن إنذار الرسل قد بلغ إلى أقصى المدينة.

الثاني: أن ذكر قصة الرجل المؤمن بالمرسلين تسلية لقلوب أصحاب الرسول eوتثبيتهم على الدعوة، كما كان ذكر الرسل الثلاثة تسلية لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم.

2- في تنكير *رَجُلٌ" فائدتان وحكمتان:

الأولى: أن يكون تعظيمًا لشأنه، أي رجل كامل في الرجوليّة.

الثانية: أن يكون مفيدًا لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال إنَّهم تواطأوا.

3- في قوله: *يَسْعَى" تبصير للمؤمنين وهداية لهم، ليكونوا في النصح باذلين جهدهم، ساعين فيه، مقتدين بالرجل الذي جاء يسعى.

4- في قوله: *يَا قَوْمِ" معنى لطيف, حيث يشير إلى إشفاقه عليهم، وإضافتهم إليه دليل على أنه لا يريد بهم إلا خيرًا.

5- في قوله: *اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" دعوة منه لهم إلى اتباع المرسلين، ولم يقل: اتبعوني كما دعا مؤمن آل فرعون في سورة غافر، وذلك لأنه جاء من أقصى المدينة، ولم يكن معهم ولا بينهم، فدعا إلى اتباع المرسلين الذين أظهروا لهم الدليل، وأوضحوا لهم السبيل.

6- جمع في قوله: *اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" بين إظهار النصيحة في قوله: *اتَّبِعُوا" وإظهار الإيمان في قوله: *الْمُرْسَلِينَ" وقدّم النصيحة على الإيمان لكونه أبلغ في النصح.

7- في قوله: *اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ" معنى حسن لطيف، واستخدام لأحسن الأساليب في النقاش والجدال والإقناع، حيث نزل فيه درجة لإقناعهم، وكأنه يقول لهم: افترضوا أنهم ليسوا مرسلين ولا هداة، ولكنهم مهتدون عالمون بالطريقة المستقيمة التي توصلهم إلى الحق، ثم هم لا يسألونكم أجرًا ولا مالاً، وهذا الأمر يدعوكم إلى اتباعهم والاستجابة لهم.

8- في قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" استفهام استنكاري، وفيه إشارة إلى أن الأمر من جهة عبادة الله وحده لا خفاء فيه، وعلى الذي لا يعبده أن يقدّم السبب الذي يمنعه من عبادته، أما أنا فلا أجد مانعًا يمنعني من عبادته.

9- وفي قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" لطيفة أخرى، حيث عدل عن مخاطبة القوم إلى الحديث عن نفسه، والحكمة في ذلك، وهو أنه لا يخفى عليه حال نفسه، ولذلك فهو لا يطلب العلة والدليل من أحد آخر، لأنه أعلم بحال نفسه.

10- جمع في قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" بين أمرين يتعلقان بإيمانه بالله.

الأول: هو عدم المانع الذي يمنعه من الإيمان في قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي".

والثاني: هو قيام المقتضى الذي يدعوه إلى الإيمان، وهو في قوله: *الَّذِي فَطَرَنِي"، فالله الخالق مالك ومنعم, وعلى العبيد عبادته وشكره.

11- قدم عدم المانع من الإيمان على المقتضى الذي يدعوه للإيمان في قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" ولم يقل: (فطركم) لأنه هو الأهم من المقصود من السياق.

12- قال: *فَطَرَنِي" ولم يقل: (فطركم) لأنه يتحدث عن نفسه وليس عنهم، ولتناسقه مع قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ"، حيث أسند العبادة إلى نفسه فناسب أن يسند الخلق إلى نفسه.

13- يتضمن قوله: *وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" الخوف والرجاء في عبادة الله، فمن يكون إليه المرجع والمآب، يخاف منه ويرجى.

14- هناك حكمة لطيفة من الالتفات إليهم في قوله: * وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" ليبين الفرق بينه وبينهم من الرجوع إلى الله، فرجوعه هو إلى الله ليس كرجوعهم هم.

رجوعه هو إلى الله رجوع العابد المؤمن بالله، ولهذا رجوعه للإكرام والإنعام، أما رجوعهم هم، فهو رجوع الكافر العاصي، ليحاسب ويعاقب ويعذّب, فرجوعهم للعذاب والإهانة وشتان بين رجوعين.

15- في قوله: *أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة إلى كمال التوحيد، فقوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" إشارة إلى وجود الله، وفي قوله:*أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة إلى نفي الشرك به وعدم عبادة غيره.

16- في قوله: *مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة لطيفة، فالدونية هنا مقصودة فبما أنه ثبت أن الله وحده هو الخالق المعبود، فكل غير الله هم **دُونِهِ"" وهؤلاء جميعًا مشتركون في كونهم مخلوقين ضعفاء، محتاجين إلى الله، مفتقرين إليه؛ ولذلك يجب أن يكونوا جميعًا عابدين له، وبما أنهم كلهم (من دونه شركاء في الدونية) فكيف يكون من بينهم آلهة؟!

17- في قوله: *إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ" يخاطب الجميع، سواء كانوا من المرسلين أو من أهل القرية، لكنه أول ما يتوجه إلى أهل القرية، حيث يثبت لهم أن الله وحده ربُّهم.

18- في قوله: *فَاسْمَعُونِ" ما يدل على أنه كان مترويًا مفكرًا، فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين، فإنه يتفكر فيه، كما أنه يقصد أن يُسمعهم ليقيم الحجة عليهم، وكأنه يقول لهم: إني أخبرتكم بما فعلت، حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك، ولو أظهرت أمرك لاتبعناك.

19- المراد بالسماع في قوله: *فَاسْمَعُونِ" ليس مجرد سماع الصوت، بل قبول الدعوة، والاستجابة لصوت الحق والدخول في الإيمان. ([3])

إن هذه المنهجية الفريدة مع صدق الدعوة وإخلاص التوجه، والحرص على الهداية، وظهور الشجاعة، وترتيب الأفكار، وقوة المنطق ترجع إلى تمكن الإيمان الحقيقي في قلب ذلك الرجل الرباني، كما أن المرسلين الذين استطاعوا أن يضموا إلى موكب الإيمان وقافلة الدعوة مثل هذا الرجل المخلص لَدلَيل على نصر الله لهم وتمكين دعوتهم وظهور حجتهم. إن دعوة الله يستجيب لها من اتصف بصفة الرجولة, وهناك فرق بين الرجولة والذكورة، فإن الذكورة تقابل الأنوثة، فالزوجان هما الذكر والأنثى.

والذكورة صفة جسدية بدنية ليس إلا؛ لكنّ الرجولة تشير إلى الشدة والقوة والتحمُّل والشجاعة والثبات، فهي تشير إلى صفات نفسية، ومزايا معنوية، وفضائل أخلاقية.

ولعله لأجل هذا وردت صفة الرجولة في مقام مدح وثناء وإشارة، قال تعالى: *وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ..." [القصص: 20].
وقال تعالى: *وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" [يس:20].

وقال تعالى:*وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ" [غافر:28].

وقال تعالى:*مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" [الأحزاب: 23].

وقال تعالى:*فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ `رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ" [النور: 36، 37].

وقال تعالى:*فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ" [التوبة: 108].

إن خطوة ذلك الرجل المؤمن تعتبر موقفًا إيمانيًا عظيمًا، وتدل على أن الحياة فعلاً مواقف، وأن الرجال بمواقفهم لا بأعمارهم، لقد آمن في وقت المحنة والشدة والابتلاء، واتَّبع المرسلين وهم مستضعفون، وتحدى بذلك القوة المادية الغاشمة، وأعلن عن إيمانه وطلب أن يسمعوه، مع أنه يرى الخطر أمامه، ويتوقع أن يناله الأذى والمكروه، وقد يؤدي موقفه إلى إزهاق روحه، ومع ذلك آمن وأعلن إيمانه، واستعد لتحمل نتيجة موقفه. ([4])

إن الذين يسعون لتمكين شرع الله في دنيا الناس عليهم أن يتصفوا بصفات الرجولة ويحرصوا على ضم من تظهر فيهم هذه الصفات الجميلة إلى صفوفهم.

إن ذلك الرجل الرباني أصبح نبراسًا ومعلمًا بارزًا على طريق الدعوة، يقتدي به الدعاة في انحيازهم إلى جانب الحق والتزامه والدعوة إليه، ولسان حال أحدهم يقول للآخرين: *إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ".

إن انتصار منهج الله والتمكين له وتعرف الناس عليه، يحتاج إلى رجال يرفعون أصواتهم حتى يسمع الآخرون، إن جمال الحياة ورونقها البهي وحلاوتها النضرة تكون بنصرة الحق ودك الباطل في حصونه.

وإن المواقف الإيمانية ابتغاء مرضاة الله رفعة للداعية في الدنيا والآخرة.

إن أصحاب المواقف الإيمانية هم دائمًا الرابحون، فعندما يدفع الإنسان المؤمن حياته وعمره ودنياه، وهو هبة ومنحة وعطية وفضل من الله مقابل الجنة والنعيم الدائم والخلود الأبدي يكون ربح ربحًا وفيرًا وفاز فوزًا عظيمًا.

إن أهل الإيمان يكظمون غيظهم، ويحلمون على الجهلة والصبر على دعوة الأشرار وأهل البغي والسعي في تخليصهم, ويبتعدون عن الشماتة بالأعداء, ألا ترى كيف تمنى الرجل الرباني الخير لقتلته، والباغين له الغوائل، وهم كفرة عبده أصنام. ([5])

إن دخول الجنة مع الشهادة في سبيل الله نوع من التمكين، واستئصال أهل الشرك الذين عاندوا الدعاة نوع من النصر لأولياء الله.





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) الظلال: (5/2962- 2963).

([2]) هو العالم الأصولي المفسر فخر الدين بن عمر بن الحُسين الرازي, اشتهر بعلم الأصول والنحو والشعر والوعظ, وكان يوعظ باللسانين العربي والعجمي وكان كثير البكاء, توفى عام 606هـ انظر: الوفيات (4/ 248).

([3]) انظر: تفسير الرازي (26/54-60) مع التصرف.

([4]) انظر: مع قصص السابقين للخالدى (7/256).

([5]) المصدر السابق، (7/260).
رد مع اقتباس