عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 07-01-2011, 06:00 AM
هجرة إلى الله السلفية هجرة إلى الله السلفية غير متواجد حالياً
رحمها الله رحمة واسعة , وألحقنا بها على خير
 




Tamayoz حصريا كتاب الزكاة للشيخ محمد عبد المقصود

 

الزكاة








تعليقات فضيلة الشيخ محمد عبد المقصود
على
كتاب الزكاة


الدرس الاول


الثاني



الثالث



الرابع


الخامس


السادس


السابع


الثامن


التاسع


العاشر


الحادي عشر


الثاني عشر

تم باب الزكاة ويليه ان شاء الله تفريغ المادة المسموعة
تابعوا معنا
بقية الابواب

جزى الله شيخنا الفاضل جزيل الثواب
ومتعه بالصحة والعافية
========


كتاب الزكاة مفرغا (كتابة)


كِتَابُ الزَّكَاةِ
الزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ : النَّمَاءُ ، يُقَالُ زَكَا الزَّرْعُ : إذَا نَمَا ؛ وَتَرِدُ أَيْضًا بِمَعْنَى التَّطْهِيرِ , وَتَرِدُ شَرْعًا بِالِاعْتِبَارَيْنِ مَعًا ، أَمَّا بِالْأَوَّلِ : فَلِأَنَّ إخْرَاجَهَا سَبَبٌ لِلنَّمَاءِ فِي الْمَالِ ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ الْأَجْرَ يَكْثُرُ بِسَبَبِهَا لقوله تعالى  مثل الذين يُنفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل فى كل سُنبلة مائة حبة  ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِالْأَمْوَالِ ذَاتِ النَّمَاءِ [ أى النامية ] كَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَدَلِيلُ الْأَوَّلِ { مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ } ؛ [ عن أبي هريرة  أن النبي  قال : مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ , وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا , وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ( ) . رواه مسلم - صحيح الجامع (5809) .
وهو ثابت من حديث أبي كَبْشَةَ الْأَنَّمَارِيِّ  أن النبي  قال : ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ : مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ( ) .... إلى نهاية الحديث . رواه أحمد والترمذى وقال الألباني صحيح – صحيح الجامع ( 3024 ) ] لِأَنَّهَا يُضَاعَفُ ثَوَابُهَا كَمَا جَاءَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرْبِي الصَّدَقَةَ } [ عن أبي هريرة  قال : قال رسول الله  : مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ - فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ . متفق عليه . والعِدل بكسر العين المهملة هو ما عادل الشئ من غير جنسه . وبالفتح ما عادله من جنسه – صحيح الترغيب [849 1/359 ] وَأَمَّا الثَّانِي : فَلِأَنَّهَا طُهْرَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ وَطُهْرَةٌ مِنْ الذُّنُوبِ [ قال الإمام النووى : وسُميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها ، وقيل لأنها تُزَكِّي صاحبها وتشهدُ بصحة إيمانه ؛ فعن أبي مالك الأشعري  عند مسلم أن النبى  قال : ( الطهور شطر الإيمان , والحمد لله تملأ الميزان , وسبحان الله والحمد لله تملآن مابين السماء والأرض , والصلاة نور , والصدقة برهان , والصبر ضياء , والكتاب حُجة لك أو عليك , كل الناس يغدو فبائعٌ نفسهُ فمُعتقها أو مُوبقها ) . قالوا : وسُميت صدقة لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه ] . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَرْكَانِ الَّتِي بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَيْهَا . قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : تُطْلَقُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْعَفْوِ وَالْحَقِّ ، وَتَعْرِيفُهَا فِي الشَّرْعِ : إعْطَاءُ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ ( الحَوْلي ) إلَى فَقِيرٍ وَنَحْوِهِ غَيْرِ مُتَّصِفٍ بِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ [ غير هاشمي أو مُطَّلِبِي أو كافر أو سفيه .... ] يَمْنَعُ مِنْ الصَّرْفِ إلَيْهِ . وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ يَسْتَغْنِي عَنْ تَكَلُّفِ الِاحْتِجَاجِ لَهُ (( وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي بَعْضِ فُرُوعِهَا)) [ هذه جملة اعتراضية ] فَيُكَفَّرُ جَاحِدُهَا ( أي : يكفر جاحد الزكاة , وليس المختلف في بعض فروعها ) وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي فُرِضَتْ فِيهِ ، فَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ . وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ : إنَّهَا فُرِضَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ . [ قال الحافظ : ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة : إتفاقهم على أن صيام رمضان إنما فُرِضَ بعد الهجرة ؛ لأن الآية الدالة على فرضيته ( أي فرض الصيام ) مدنية بلا خلاف , وثبت عند أحمد وابن خُزيمة أيضًا ( وقال : ابن خزيمة أيضًا ؛ لأن ابن خزيمة قال : فرضت قبل الهجرة ) مع أن الحديث الذي رواه هو نفسه يدل على خلاف هذا ) والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث قيس بن سعد به عبادة رضي الله عنهما قال : أمرنا رسول الله  بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة , ثم نزلت فريضة الزكاة فلم يأمرْنا ولم ينْهَنَا - ونحن نفعله – إسناده صحيح . وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة ؛ فيقتضي وقوعَها بعد فرض رمضان , وذلك بعد الهجرة وهو المطلوب . اهـ [ الفتح 3/313 ] .
فإذًا : قال ابن خزيمة بأنها فرضت قبل الهجرة , وَاخْتَلَفَ الْأَوَّلُونَ [ أي : الذين قالوا فرضت بعد الهجرة ] ؛ فَقَالَ النَّوَوِيُّ : إنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ , وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ : فِي التَّاسِعَةِ ، قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهَا ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ [ قدوم ضمام بن ثعلبة كان في سنة خمس ( الفتح 3/313 ) ] ، وَفِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَفِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ ، وَكَذَا فِي مُخَاطَبَةِ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ هِرَقْلَ وَكَانَتْ فِي أَوَّلِ السَّابِعَةِ ، وَقَالَ فِيهَا : يَأْمُرُنَا بِالزَّكَاةِ ( أو بالصلاة والزكاة أو بالصلاة والصدقة والصلة والعفاف ) ، وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ الْحَافِظُ عَلَى هَذَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْفَتْحِ فَلْيُرْجَعْ إلَيْهِ .
ملخص متى فرضت :
- قال ابن خزيمة : قبل الهجرة , وقال الجمهور : بعد الهجرة .
- في أى سنة فرضت بعد الهجرة ؟
عندنا حديث ضمام بن ثعلبة وكان فى السنة الخامسة من الهجرة , وكلام ابن الأثير أنها فرضت في السنة التاسعة مردود , وأيضاً حديث ابن عباس في قصة هرقل كان في السنة السابعة .
ويلاحظ أن : حديث قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما هذا الذي جعل بعض العلماء كالإمام - مالك – يقولون : " زكاة الفطر ليس فرضًا " وهذا الكلام فيه نظر .
وقد أجابو عنما ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين , وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد وغيره , قال ابن عمر رضي الله عنهما : فَرَضَ رسول الله  زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ , أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ , عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ( ) .
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ : فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ  زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ , وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ . مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ , وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ( ) .
قالوا : " فرض , يعني : قدَّر " .
لكن هذا الكلام طبعًا محل بحث ؛ لأن قول قيس بن سعد : " فلم يأمرْنا ولم ينْهَنَا , ونحن نفعله " فيه شيئين , الأول : أنه لم يأمرهم ؛ لأنه  اكتفى بالأمر الأول ؛ لأنه من المفترض أنهم على الأمر الأول إلا أن يرد نهي , والثاني : أنها زكاة , فلمَّا نزلت فرضية الزكاة , دخلت في جملتها .
بَابُ : الْحَثِّ عَلَيْهَا وَالتَّشْدِيدِ فِي مَنْعِهَا
1530 - ( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ : إنَّك تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَادْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ ) .
قوله : " صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ " فيه ثلاثة أحكام :
1) أن الزكاة لا تُنقل من بلدها , أي : تؤخذ من أغنياء البلد , وتُرَدُّ على فقراء نفس البلد .
2) يجوز صرف الصدقة على صنف واحد من الأصناف الثمانية .
3) أن هذه الصدقات يأخذها الإمام ؛ ومِن ثَمَّ فإن جماهير العلماء أوجبوا الزكاة في مال الصغير واليتيم ؛ لأنها تؤخذ كفرض على السلطان , وعلى أولياء الصغير أن يخرجوا زكاة ماله ؛ لأن الله تعالى يقول :  خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ  [التوبة: 103] . أي : من أموال المسلمين عمومًا بدون تفريق ] .
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ : ( لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا ) كَانَ بَعْثُهُ سَنَةَ عَشْرٍ قَبْلَ حَجِّ النَّبِيِّ  كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي [ هذا الحديث أصل عظيم فى أُمور كثيرة منها : الدعوة إلى الله  , فهو يقول له إنك ذاهب إلى قوم أهل كتاب أي أهل علم ليسوا كعُباد الأوثان الجهلة ، فالذي يشهد أن لا إله إلا الله ينبغي أن يُضيف إليها أن شهادة محمدًا رسول الله , فإن هُم أطاعوكَ لذلك , فيدعوهم إلى الأهم فالأهم فالأهم ... وهكذا ، وهذا يبيِّن معنى قوله تعالى  هذه سبيلي ادعوا على بصيرة أنا ومن اتبعني  . فأول شئ يدعوهم إليه : التوحيد , فإن كانت هناك قضايا تخرم التوحيد لابد من دعوتهم إلى العقيدة الصحيحة لكى يسلم توحيدهم , وهذا الموافق لحديث حُذيفة في الصحيحين قال : حدثنا رسول الله  حديثين , رأيت أحدهما وأنا أنتظر الثاني , حدثنا أن الأمانة نزلت فى جَذْر قلوب الرجال , ثم علموا من القرآن , ثم علموا من السُنة . والمراد بالأمانة هنا الإيمان ؛ لقوله تعالى :  إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال  , وقال ابن عباس : الأمانة هي التكليف , والتكليف يساوي الإيمان والعمل الصالح . ولمَّا كان العمل الصالح داخل في ماهية الإيمان فى مذهب أهل السنة وفي مذهب غيرهم , ولمَّا كان الإيمان شرطًا في صحة الأعمال على قول الأشعرية والمرجئة ؛ إذًا الأمانة = التكليف = الإيمان . وهذا أيضًا موافق لحديث عائشة في صحيح البخاري في فضائل القرآن جـ 8 , قال البخاري رحمه الله : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ : وَأَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ مَاهَكٍ قَالَ : إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ فَقَالَ : أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ ؟ قَالَتْ : وَيْحَكَ ! وَمَا يَضُرُّكَ ؟ قال : يا أُم المؤمنين , أَرِينِي مُصْحَفَكِ . قالت : لِمْ ؟ قال : لَعَلِّي أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ . قالت : قَالَتْ وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ ؟ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّار ِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَام , وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ : لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ , لَقَالُوا : لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا , وَلَوْ نَزَلَ : لَا تَزْنُوا , لَقَالُوا : لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا . لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ  وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ :  بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ  , وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ ( وعائشة كانت عنده في المدينة ) قَالَ : فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ .
وَقِيلَ : كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ عِنْدَ مُنْصَرِفِهِ مِنْ تَبُوكَ ، رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْهُ ، ( الواقدي ضعيف جدًا ومنهم مَن رماه بالكذب ) ثُمَّ حَكَى ابْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ عَشْرٍ وَقِيلَ : بَعَثَهُ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ , وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ بِالْيَمَنِ إلَى أَنْ قَدِمَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ تَوَجَّهَ إلَى الشَّامِ فَمَاتَ بِهَا , وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ وَالِيًا أَوْ قَاضِيًا ؟ فَجَزَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِالثَّانِي , وَالْغَسَّانِيُّ بِالْأَوَّلِ . [ وما قاله ابن عبد البر بأنه كان قاضيًا ولم يكن وليًا , هذا لأن الوالي كان عليَّ بن أبي طالب  , وهذا هو الأرجح بالنسبة لي والله أعلم ] .
قَوْلُهُ : ( تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) هَذَا كَالتَّوْطِئَةِ لِلتَّوْصِيَةِ لِتُسْتَجْمَعَ هِمَّتُهُ عَلَيْهَا , لِكَوْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَهْلَ عِلْمٍ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يَكُونُ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ كَمُخَاطَبَتِهِ الْجُهَّالَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ
قَوْلُهُ : ( فَادْعُهُمْ ...إلَخْ ) إنَّمَا وَقَعَتْ الْبُدَاءَةُ بِالشَّهَادَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَصِحُّ بِشَيْءٍ غَيْرِهِمَا ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُوَحِّدٍ فَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إلَيْهِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ ، وَمَنْ كَانَ مُوَحِّدًا فَالْمُطَالَبَةُ لَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ : ( فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ ) ...إلَخْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ حَيْثُ دُعُوا أَوَّلًا إلَى الْإِيمَانِ فَقَطْ ، ثُمَّ دُعُوا إلَى الْعَمَلِ ، وَرَتَّبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ مُخْتَلِفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ [ مفهوم المخالفة سواء كان مفهوم شرط أو غيره فيه نظر وهو مذهب أبي حنيفة وابن حزم والمحققين من الأصوليين كالآمدي والغزالي وغيرهما أنه ليس بحجة ] وَبِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الدَّعْوَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّرْتِيبَ فِي الْوُجُوبِ ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةِ لَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ ، وَقَدْ قُدِّمَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَرُتِّبَتْ الْأُخْرَى عَلَيْهَا بِالْفَاءِ . [ يعني : لا نستطيع أن نقول : طالما كانت الصلاة في الترتيب بعد الدعوة إلى التوحيد , فالكافرُ غيرُ مخاطب بفروع الشريعة ] .
[ ومسألة هل الكافر مخاطب بفروع الشريعة , هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم , فجمهور الأُصوليين على أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة ، وذهب أبو حنيفة إلى أن الكافر ليس مخاطبًا بفروع الشريعة ، واحتج الجمهور بقوله تعالى : ] وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [، وقوله تعالى : ] مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [ فالتكذيب بيوم الدين كفر في حد ذاته , ومع ذلك قالوا : " لم نك من المصلين " . وكذلك قوله تعالى :  الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ  أي أن الكافرَ الصادَّ عن سبيل الله غير الكافر الذى لا يصد عن سبيل الله , فالأول له عذاب أكثر . وقال أبو حنيفة : أنتم تقولون الكافر مخاطب بفروع الشريعة , فهل إذا صلى تُقبل صلاته ؟ قال الجمهور : لا . قال أبو حنيفة : فكيف يكون مخاطب بفروع الشريعة , وإذا فعل لا يُقبل منه ؟ قالوا : لأنه مطالب بالصلاة وبشروطها التي لا تصح إلا بها , وأول هذه الشروط الإيمان , فالأمر بالصلاة أمر بالطهارة , وأمر بستر العورة , وأمر باستقبال القبلة ... وهكذا ] .
قَوْلُهُ : ( خَمْسُ صَلَوَاتٍ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَكَذَلِكَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةُ الْعِيدِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ .
قَوْلُهُ : ( فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إنْ هُمْ أَطَاعُوك بِالْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ وَالْتِزَامِهِمْ بِهَا ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الطَّاعَةَ بِالْفِعْلِ [ يعني : يأمرهم بالشهادتين , فإن نطقوا الشهادتين – وهذه لابد فيها من النطق - يأمرهم بالصلاة , فهل المراد أن يقروا بوجوب الصلاة , أم أن يصلوا ؟ هناك رواية : " فإذا صلَّوْا " ] وَقَدْ رُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالْفَرِيضَةِ فَتَعُودُ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا , وَيُرَجِّحُ الثَّانِي أَنَّهُمْ لَوْ أُخْبِرُوا بِالْفَرِيضَةِ فَبَادَرُوا إلَى الِامْتِثَالِ بِالْفِعْلِ لَكَفَى ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ التَّلَفُّظُ ، بِخِلَافِ الشَّهَادَتَيْنِ فَالشَّرْطُ عَدَمُ الْإِنْكَارِ ، وَالْإِذْعَانُ لِلْوُجُوبِ وَقَالَ الْحَافِظُ : الْمُرَادُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، فَمَنْ امْتَثَلَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْفِعْلِ كَفَاهُ ، أَوْ بِهِمَا فَأَوْلَى , وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَلَاءِ بَعْدَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ " فَإِذَا صَلَّوْا " وَبَعْدَ ذِكْرِ الزَّكَاةِ " فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ " [ والراجح الأول ؛ لأن الإقرار كافٍ , فهب أنه دعاه لصلاة الظهر في الثامنة صباحًا , هل يظل منتظرًا حتى يصليَ صلاة الظهر ثم يدعوه للزكاة ؟ مع أنه يجوز له أن يؤخر الصلاة إلى قبيل العصر , بالطبع لا . وكذلك إن هو فعل دون أن يُقر جاز بخلاف الشهادتين لابد من الإقرار بهما , بخلاف الأشعرية ؛ لأن الأشعرية عندهم أن الإيمان هو التصديق ( وهذا ما يُدرَّس لطلبة جامعة الأزهر في كتاب الجوهرة , قال صاحب الكتاب : " ونطق الشهادتين شرط " وسكت , فاختلف الأشاعرة : شرط في ماذا ؟ قال بعضهم : شرط في صحة الإيمان , وقال أكثرم – وهو الذي رجحه صاحب الجوهرة ؛ لتعلم أن كل سلوك فاسد وباطل , ناتج عن عقيدة فاسدة - : شرط في إجراء الأحكام في الدنيا من جهة المناكحات والذبائح والتكريم والصلاة عليه ... وما إلى ذلك , يعني : هو مسلم ومؤمن عند الله  وإن لم ينطق الشهادتين طالما كان مصدقًا في باطنه , حتى وإن أجريت عليه أحكام الكفر في الدنيا وقتلوه ... وما إلى ذلك , وهو الراجح عندهم , وهذه مصيبة كبية جدًا ) , فنحن نقول : إن أقرَّ فقط فهذا كافٍ , وإن فعل جاز , وإن أقرَّ وفعل فهو الأولى , ومعنى الإقرار قد يكون عدم المعارضة والالتزام ؛ لأننا قلنا أن ناطق الشهادتين يصير مسلمًا في الظاهر , والله يتولى السرائر , وهذا إجماع أهل السنة . فإن نوى عند نُطق الشهادتين الإيمان بكل ما أتى به النبي  جملة واحدة على الغيب كان مسلمًا ظاهرًا وباطنًا حتى ينقُض ذلك بأي شئ آخر , لكن في الشهادتين لابد من الإقرار ] .
قَوْلُهُ : " صَدَقَةً " زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةِ " فِي أَمْوَالِهِمْ " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أُخْرَى " افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ " .
قَوْلَهُ : ( تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الزَّكَاةِ وَصَرْفَهَا إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ ، فَمَنْ امْتَنَعَ مِنْهُمْ أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا .
قَوْلُهُ : ( عَلَى فُقَرَائِهِمْ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ لِقَوْلِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ : إنَّهُ يَكْفِي إخْرَاجُ الزَّكَاةِ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ [ المخالف في هذا الشافعى وابن حزم , قالا : لابد أن توزع الزكاة على الأصناف الثمانية إذا كان الإمام هو الذى يُخرجها , أما إن كان صاحب المال هو الذى يتولى إخراجها فإنها توزع على ستة أصناف فقط ؛ لأن سهم العاملين عليها لم يكن موجودًا ؛ لأنه يوزع الزكاة بنفسه ، وكذلك المؤلفة قلوبهم لم يكن موجود ؛ لأن إعطاء المؤلفة قلوبهم هذا من صلاحيات الإمام فقط ] فِيهِ بَحْثٌ كَمَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ الْفُقَرَاءَ لِكَوْنِهِمْ الْغَالِبَ فِي ذَلِكَ : وَلِلْمُطَابَقَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ . قَالَ الْخَطَّابِيِّ : وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى عَلَى الْمَدْيُونِ زَكَاةً إذَا لَمْ يَفْضُلْ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ قَدْرُ نِصَابٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ إذْ إخْرَاجُ مَالِهِ مُسْتَحَقٌّ لِغُرَمَائِهِ [ فالشافعي رحمه الله عنده أن الإنسان إذا بلغ ماله النصاب ثم حال عليه الحول وكان عليه دَيْن , فالشافعي يقول بإخراج زكاة المال ؛ لأن هذا الرجل يملك مالاً بلغ النصاب ] . قَوْلُهُ : ( فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ) كَرَائِمَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ لَا يَجُوزُ إظْهَارُهُ [ يعني : إياك وأن تأخذ كرائم أموالهم ] ، وَالْكَرَائِمُ جَمْعُ كَرِيمَةٍ : أَيْ نَفِيسَةٍ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ [ المصدق : الذى يجمع الصدقة ] أَخْذُ خِيَارِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْإِجْحَافُ بِالْمَالِكِ إلَّا بِرِضَاهُ .
قَوْلُهُ : ( وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ , وَالنُّكْتَةُ فِي ذِكْرِهِ عَقِبَ الْمَنْعِ مِنْ أَخْذِ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ أَخْذَهَا ظُلْمٌ .
قَوْلُهُ : ( حِجَابٌ ) أَيْ لَيْسَ لَهَا صَارِفٌ يَصْرِفُهَا وَلَا مَانِعٌ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا { دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجْرُهُ عَلَى نَفْسِهِ } [ ورواه أبو داود الطيالسي , قال الألباني : وهو حسن – صحيح الجامع ( 3382 ) ] . قَالَ الْحَافِظُ : وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ ؛ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حِجَابًا يَحْجُبُهُ عَنْ النَّاسِ قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله [ وهو المجد ابن تيمية ] بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ : وَقَدِ احْتُجَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ صَرْفِ الزَّكَاةِ فِي بَلَدِهَا ، وَاشْتِرَاطُ إسْلَامِ الْفَقِيرِ ، وَأَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الطِّفْلِ الْغَنِيِّ عَمَلًا بِعُمُومِهِ كَمَا تُصْرَفُ فِيهِ مَعَ الْفَقْرِ انْتَهَى . [ أي : تؤخذ من مال الصبي الغني لعموم قوله : " تؤخذ من أغنيائهم " ، كما تصرف للصبي الفقير لعموم قوله : " فقرائهم " ] . وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى بَعْثِ السَّعَادَةِ , وَتَوْصِيَةِ الْإِمَامِ عَامِلَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ , وَقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ , وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ , وَإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ لِلْعُمُومِ أَيْضًا ، وَأَنَّ مَنْ مَلَكَ نِصَابًا لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ غَنِيٌّ وَقَابَلَهُ بِالْفَقِيرِ [ وهذا متعلق فقط بالفقراء والمساكين ] ، وَأَنَّ الْمَالَ إذَا تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ لِإِضَافَةِ الصَّدَقَةِ إلَى الْمَالِ [ إذا تلف المال قبل التمكن , فليس عليه زكاة , أمَّا إن تمكن فتراخى ولم يخرج الزكاة فتلف المال , كانت الزكاة في ذمته واجبة عليه ، وإن هلك المال بعد حولان الحَوْل وقبل التمكن من الأداء , سقطت الزكاة ؛ لأن عامة أهل العلم على أن خروج الزكاة على الفور , وإن تأخر كان عاصيًا لله  آثمًا ] وَقَدْ اسْتَشْكَلَ عَدَمُ ذِكْرِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ فِي الْحَدِيثِ , مَعَ أَنَّ بَعْثَ مُعَاذٍ كَانَ آخِرَ الْأَمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ , وَأَجَابَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّ ذَلِكَ تَقْصِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ , وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى ارْتِفَاعِ الْوُثُوقِ بِكَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ . وَأَجَابَ الْكَرْمَانِيُّ بِأَنَّ اهْتِمَامَ الشَّارِعِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَكْثَرُ ؛ وَلِهَذَا كُرِّرَا فِي الْقُرْآنِ ، فَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَذْكُرْ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ . وَقِيلَ : إذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي بَيَانِ الْأَرْكَانِ لَمْ يَخْلُ الشَّارِعُ مِنْهُ بِشَيْءٍ كَحَدِيثِ { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ } فَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ إلَى الْإِسْلَامِ اكْتَفَى بِالْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ : الشَّهَادَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ وُجُودِ فَرْضِ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا [ أي : عن الشرك ] وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ } [ مع أن هذه الآية في سورة التوبة , ونزول سورة التوبة كان في آخر سنة تسع من الهجرة ؛ بدليل أن النبي  أرسل عليًا وأَرْدَفَ بأبي هريرة رضي الله عنهما يؤذنان في الناس : لا يَحُجَّنَّ بعد العام مشرك , ولا يطوفنَّ بالبيت عريان . والله  قد ذكر ذلك في مواطنَ كثيرة من كتابه , كسورة المؤمنون :  قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ  فذكر الصلاة والزكاة ؛ لأن الصلاة أعلى العبادات البدنية , والزكاة أعلى العبادات المالية ] ، مَعَ أَنَّ نُزُولَهَا بَعْدَ فَرْضِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ .
1531 - ( وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ [ وفي لفظ في صحيح مسلم : مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ ] . لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إلَّا أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَتُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبْهَتُهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ ، إمَّا إلَى الْجَنَّةِ ، وَإِمَّا إلَى النَّارِ [ والحديث : مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ لاَ يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا , إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ , فَأُحْمِىَ عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ , فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ , كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ , حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ , فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَالإِبِلُ ؟ قَالَ : ] وَمَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا [ وفي اللفظ الآخر – وهو أتم في الحقيقة - : لاَ يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا ، وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا( ) , وفي لفظ : حلبها يوم ورودها( ) , وفي لفظ : حَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ( ) إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ , بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ( ) أَوْفَرَ مَا كَانَتْ( ) , لاَ يَفْقِدُ مِنَهَا فَصِيلاً وَاحِدًا , تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا , وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا , كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاَهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا , فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ , حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ ] . إلَّا بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ تَسْتَنُّ عَلَيْهِ ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ ، إمَّا إلَى الْجَنَّةِ ، وَإِمَّا إلَى النَّارِ ، [ وفي اللفظ الآخر : قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ؟ قَالَ : وَلاَ صَاحِبُ بَقَرٍ وَلاَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا , إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ , لاَ يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا , لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ( ) , وَلاَ جَلْحَاءُ( ) , وَلاَ عَضْبَاءُ( ) , تَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا , وَتَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا( ) , كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاَهَا , رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ , حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ , فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ ] وَمَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلَّا بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ فَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا ، وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا ، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ، ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ ، إمَّا إلَى الْجَنَّةِ ، وَإِمَّا إلَى النَّارِ . قَالُوا : فَالْخَيْلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا , أَوْ قَالَ : الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ : هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ , فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ ، فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَيُعِدُّهَا لَهُ , فَلَا تُغَيِّبُ شَيْئًا فِي بُطُونِهَا إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرًا ، وَلَوْ رَعَاهَا فِي مَرْجٍ فَمَا أَكَلَتْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا أَجْرًا ، وَلَوْ سَقَاهَا مِنْ نَهْرٍ كَانَ لَهُ بِكُلِّ قَطْرَةٍ تُغَيِّبُهَا فِي بُطُونِهَا أَجْرٌ حَتَّى ذَكَرَ الْأَجْرَ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا ، وَلَوْ اسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا أَجْرٌ . وَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا تَكَرُّمًا وَتَجَمُّلًا وَلَا يَنْسَى حَقَّ ظُهُورِهَا وَبُطُونِهَا فِي عُسْرِهَا وَيُسْرِهَا . وَأَمَّا الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ ، فَاَلَّذِي يَتَّخِذُهَا أَشَرًا وَبَطَرًا وَبَذَخًا وَرِيَاءَ النَّاسِ ، فَذَلِكَ الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ قَالُوا : فَالْحُمُرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا شَيْئًا إلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْجَامِعَةَ الْفَاذَّةَ :  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ( ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ )[ هذا الحديث يستدل به على أن مانع الزكاة لا يكفر حيث قال : ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ] .
قَوْلُهُ : ( مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ ) قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرَ الطَّبَرَانِيُّ : الْكَنْزُ كُلُّ شَيْءٍ مَجْمُوعٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ سَوَاءٌ كَانَ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ أَوْ فِي ظَهْرِهَا , قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَغَيْرُهُ : وَكَانَ مَخْزُونًا , قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِالْكَنْزِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الْحَدِيثِ ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : هُوَ كُلُّ مَالٍ وَجَبَتْ فِيهِ صَدَقَةُ الزَّكَاةِ فَلَمْ تُؤَدَّ [ هذا هو التعريف المعتمد ] فَأَمَّا مَالٌ أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ , وَقِيلَ : الْكَنْزُ هُوَ الْمَذْكُورُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ , وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ الْمَذْكُورُونَ قَبْلَ ذَلِكَ [ لكن طبعًا العبرة بعموم اللفظ ] وَقِيلَ : كُلُّ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ [ ليس هناك دليل ] وَقِيلَ : هُوَ مَا فَضَلَ عَنْ الْحَاجَةِ [ هذا كان في أول الإسلام , أن مَن كان عنده فضل مال فليعد به على مَن لا فضل له , ومَن كان عنده فضل ظهرٍ فليعد به على من لا ظهر له ... ] ، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَضِيقِ الْحَالِ . وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِقَوْلِهِ  : " لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ وَفِي آخِرِهِ فَيَقُولُ أَنَا كَنْزُك } .
وَلَفْظٌ لِمُسْلِمٍ بَدَلَ قَوْلِهِ : " مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ " " مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهُمَا حَقَّهُمَا " قَوْلُهُ : ( ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ : هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مِنْ يَرَى وَفَتْحِهَا , وَبِرَفْعِ لَامِ سَبِيلِهِ وَنَصْبِهَا . قَوْلُهُ : ( إلَّا بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ ) الْقَاعُ : الْمُسْتَوِي الْوَاسِعُ فِي سِوَى الْأَرْضِ ، قَالَ الْهَرَوِيُّ : وَجَمْعُهُ قِيعَةٌ وَقِيعَانُ مِثْلُ : جَارٍ وَجِيرَةٌ وَجِيرَانُ وَالْقَرْقَرُ بِقَافَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَرَاءَيْنِ أُولَاهُمَا سَاكِنَةٌ : الْمُسْتَوِي أَيْضًا مِنْ الْأَرْضِ الْوَاسِعِ , وَالْبَطْحُ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ : مَعْنَاهُ الْإِلْقَاءُ عَلَى الْوَجْهِ , قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ " تَخْبِطُ وَجْهَهُ بِأَخْفَافِهَا " قَالَ : وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْبَطْحِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْبَسْطِ وَالْمَدِّ , فَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِهِ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى ظَهْرِهِ ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ بَطْحَاءَ مَكَّةَ لِانْبِسَاطِهَا . قَوْلُهُ : ( كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ ) يَعْنِي لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْءٌ , وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " أَعْظَمِ مَا كَانَتْ " . قَوْلَهُ : ( تَسْتَنُّ عَلَيْهِ ) أَيْ تَجْرِي عَلَيْهِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَوْقِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ نُونٌ مُشَدَّدَةٌ قَوْلُهُ : ( كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا ) وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا " قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَهُوَ تَغْيِيرٌ وَتَصْحِيفٌ ، وَصَوَابُهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى ، يَعْنِي الْمَذْكُورَةَ فِي الْكِتَابِ .
قَوْلُهُ : ( لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ ...إلَخْ ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : الْعَقْصَاءُ : مُلْتَوِيَةُ الْقَرْنَيْنِ ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ بَعْدَهَا صَادٌ مُهْمَلَةٌ ثُمَّ أَلْفٌ مَمْدُودَةٌ . وَالْجَلْحَاءُ بِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ لَامٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ : الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا [ زاد مسلم في رواية : " ولا عضباء " وهى مكسورة القرن – صحيح الترغيب (753 1/317-318) ] .
قَوْلُهُ : ( تَنْطِحُهُ ) بِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الرِّوَايَةِ .
قَوْلُهُ : { الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ } جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي الصَّحِيحِ بِأَنَّهُ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَالْمُرَادُ قُبَيْلَ الْقِيَامَةِ بِيَسِيرٍ وَهُوَ وَقْتُ إتْيَانِ الرِّيحِ الطَّيِّبَةِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ الَّتِي تَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ . قَوْلُهُ : ( فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ ) هَكَذَا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ مُسْلِمٍ ، وَفِي بَعْضِهَا " فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ " وَهِيَ أَوْضَحُ وَأَظْهَرُ . قَوْلُهُ : ( فِي مَرْجٍ ) بِمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ وَرَاءٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ جِيمٍ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُرْعَى فِيهِ الدَّوَابُّ . قَوْلُهُ : ( وَلَوْ اسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ ) أَيْ جَرَتْ ، وَالشَّرَفُ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ : وَهُوَ الْعَالِي مِنْ الْأَرْضِ وَقِيلَ : الْمُرَادُ طَلْقًا أَوْ طَلْقَيْنِ [ أي : شوطًا أو شوطين , والطلق هو الشوط الواحد فى جري الخيل – لسان العرب 10/230 ]
قَوْلُهُ : ( أَشَرًا وَبَطَرًا وَبَذَخًا ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : الْأَشَرُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ : الْمَرَحُ وَاللَّجَاجُ , وَالْبَطَرُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مِنْ أَسْفَلُ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ رَاءٍ : هُوَ الطُّغْيَانُ عِنْدَ الْحَقِّ , وَالْبَذَخُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ : هُوَ بِمَعْنَى الْأَشَرِ وَالْبَطَرُ ( المرح واللجاج ( التهريج بالباطل ) ، والبذخ تأكيد بمعنى الأشر والبطر ] .
قَوْلُهُ : ( إلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ ) الْمُرَادُ بِالْفَاذَّةِ : الْقَلِيلَةُ النَّظِيرِ ، وَهِيَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَالْجَامِعَةُ : الْعَامَّةُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِكُلِّ خَيْرٍ وَمَعْرُوفٍ , وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهَا نَصٌّ بِعَيْنِهَا ، وَلَكِنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَامَّةُ [ يعني : استدلال النبي  بها دليل على حجية العموم , وأن هناك شيءٌ يسمَّى عمومًا , خلافًا لمَن قال : ليس هناك صيغة للعموم ] وقَدْ يَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ لِلنَّبِيِّ  وَيُجَابُ بِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ الْأُصُولُ [ اختلف الناس , هل للنبي  أن يجتهد أم لا ؟ الجمهور على أن له أن يجتهد , وعلى هذا أدلة كثيرة . وهل اجتهاده  معصوم أم لا ؟ الجمهور على أنه قد يخطئ  لكنه لا يُقرُّ على الخطأ ] وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ , وَقَدْ زَادَ مُسْلِمٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " وَلَا صَاحِبَ بَقَرٍ ...إلَخْ " قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ وَقَدْ أُسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَيْلِ لِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { عِنْدَ ذِكْرِ الْخَيْلِ ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَلَا رِقَابِهَا } وَتَأَوَّلَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ يُجَاهِدُ بِهَا , وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْحَقِّ فِي رِقَابِهَا : الْإِحْسَانُ إلَيْهَا وَالْقِيَامُ بِعَلْفِهَا وَسَائِرِ مُؤَنِهَا ، وَالْمُرَادُ بِظُهُورِهَا إطْرَاقُ فَحْلِهَا إذَا طُلِبَتْ عَارِيَّتُهُ [ وهي الإعارة ] , وَقِيلَ : الْمُرَادُ حَقُّ اللَّهِ مِمَّا يَكْسِبُهُ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ عَلَى ظُهُورِهَا , وَهُوَ خُمْسُ الْغَنِيمَةِ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَطْرَافِ الَّتِي دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَيْهَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ تَارِكَ الزَّكَاةِ لَا يُقْطَعُ لَهُ بِالنَّارِ, وَآخِرُهُ دَلِيلٌ فِي إثْبَاتِ الْعُمُومِ انْتَهَى .
1532 - ( وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قال : لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ  وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ ، فَقَالَ عُمَرُ : كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى( ) } ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ  لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا ، قَالَ عُمَرُ : فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْت أَنَّهُ الْحَقُّ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ ، لَكِنْ فِي لَفْظِ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُد : لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ بَدَلَ الْعَنَاقِ )[ فى هذا الحديث الظاهر أن عمر قال لأبي بكر : كيف تقاتل الناس , وقد قال رسول الله  : أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله . فعمر لم يكن يقصد الطوائف التى كانت موجودة كلها مثل أتباع مُسيلمة الكذاب الذين ارتدوا وانكروا نبوة محمد  ، وأتباع الأسود العنسي في اليمن , ولا الفريق الذين تركوا الصلاة والزكاة وكفروا بما جاء به النبى  ، فلا يُتصور أن عمر يُدافع عن هؤلاء , فكأن قتال تارك الصلاة مُجمع عليه عند الصحابة ؛ يدل على ذلك قول أبي بكر : والله لأقتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة ، فعمر قصد الطائفة التي قالت : والله لقد كنا نعطي الزكاة للنبي  , لقوله تعالى  خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ  [التوبة: 103] . فصلاته  ليست كصلاة غيره من البشر , فهذا تأويل من هؤلاء لا يكفرهم , ولكنهم دخلوا في أسماء المرتدين لعموم الردة التى انتشرت حينئذٍ , وقيام الصديق بقتال هؤلاء في حروب الردة ] .
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ : ( وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ ) قَالَ الْخَطَّابِيِّ : أَهْلُ الرِّدَّةِ كَانُوا صِنْفَيْنِ : صِنْفٌ ارْتَدُّوا عَنْ الدِّينِ وَنَبَذُوا الْمِلَّةَ وَعَدَلُوا إلَى الْكُفْرِ وَهُمْ الَّذِينَ عَنَاهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ  [ بقوله : وكفر من كفر من العرب ] وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ طَائِفَتَانِ : إحْدَاهُمَا أَصْحَابُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ صَدَّقُوهُ عَلَى دَعْوَاهُ فِي النُّبُوَّةِ ، وَأَصْحَابُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ وَمَنْ اسْتَجَابَهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ، وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ بِأَسْرِهَا مُنْكِرَةٌ لِنُبُوَّةِ نَبِيّنَا مُحَمَّدٍ  مُدَّعِيَةٌ النُّبُوَّةَ لِغَيْرِهِ ، فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى قُتِلَ مُسَيْلِمَةُ بِالْيَمَامَةِ وَالْعَنْسِيُّ بِصَنْعَاءَ وَانْفَضَّتْ جُمُوعُهُمْ وَهَلَكَ أَكْثَرُهُمْ . وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى ارْتَدُّوا عَنْ الدِّينِ فَأَنْكَرُوا الشَّرَائِعَ وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَعَادُوا إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَمْ يَكُنْ يُسْجَدُ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : مَسْجِدُ مَكَّةَ ، وَمَسْجِدُ الْمَدِينَةِ ، وَمَسْجِدُ عَبْدِ الْقِيسِ [ الذي في البحرين ] , قَالَ : وَالصِّنْفُ الْآخَرُ هُمْ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ الزَّكَاةِ فَأَنْكَرُوا وُجُوبَهَا وَوُجُوبَ أَدَائِهَا إلَى الْإِمَامِ ، وَهَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَهْلُ الْبَغْيِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُدْعَوْا بِهَذَا الِاسْمِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ خُصُوصًا لِدُخُولِهِمْ فِي غِمَارِ أَهْلِ الرِّدَّةِ ، وَأُضِيفَ الِاسْمُ فِي الْجُمْلَةِ إلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ إذْ كَانَتْ أَعْظَمَ الْأَمْرَيْنِ وَأَهَمَّهُمَا ، وَأُرِّخَ مُبْتَدَأُ قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ زَمَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ  ، إذْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ فِي زَمَانِهِ لَمْ يُخْلَطُوا بِأَهْلِ الشِّرْكِ ، وَقَدْ كَانَ فِي ضِمْنِ هَؤُلَاءِ الْمَانِعِينَ لِلزَّكَاةِ مَنْ كَانَ يَسْمَحُ بِالزَّكَاةِ وَلَمْ يَمْنَعْهَا إلَّا أَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ صَدُّوهُمْ عَنْ ذَلِكَ الرَّأْيِ وَقَبَضُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي ذَلِكَ كَبَنِي يَرْبُوعَ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا جَمَعُوا صَدَقَاتِهِمْ وَأَرَادُوا أَنْ يَبْعَثُوا بِهَا إلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَمَنَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ مِنْ ذَلِكَ وَفَرَّقَهَا فِيهِمْ ، وَفِي أَمْرِ هَؤُلَاءِ عَرَضَ الْخِلَافُ وَوَقَعَتْ الشُّبْهَةُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَرَاجَعَ أَبُو بَكْرٍ وَنَاظَرَهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ  : " أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ " الْحَدِيثَ ، وَكَانَ هَذَا مِنْ عُمَرَ تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ الْكَلَامِ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرَ فِي آخِرِهِ وَيَتَأَمَّلَ شَرَائِطَهُ [ وهو قوله : إلا بحقها ] ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : إنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ يُرِيدُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ قَدْ تَضَمَّنَتْ عِصْمَةَ دَمٍ وَمَالٍ مُتَعَلِّقَةً بِأَطْرَافِ شَرَائِطِهَا ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ لَا يَحْصُلُ بِأَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ مَعْدُومٌ ، [ لابد من تحقق الشرطين , يعني : أن يقولوا : لا إله إلا الله , وأن يقوموا بحقها ] ثُمَّ قَايَسَهُ بِالصَّلَاةِ وَرَدَّ الزَّكَاةَ إلَيْهَا ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِتَالَ الْمُمْتَنِعِ مِنْ الصَّلَاةِ كَانَ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلِذَلِكَ رَدَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ [ كأن أبو بكر يقول لعمر : أنت تعلم أن تارك الصلاة يقاتل , فكذلك الذى يفرق بين الصلاة والزكاة ؛ لأن الزكاة جاءت في القرآن مقترنة بالصلاة في مواضع كثيرة ] وَقَدْ اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الِاحْتِجَاجُ مِنْ عُمَرَ بِالْعُمُومِ ، وَمِنْ أَبِي بَكْرٍ بِالْقِيَاسِ ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعُمُومَ يُخَصُّ بِالْقِيَاسِ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَابُ الْوَارِدُ فِي الْحُكْمِ الْوَاحِدِ مِنْ شَرْطٍ وَاسْتِثْنَاءٍ مُرَاعًى فِيهِ وَمُعْتَبَرٌ صِحَّتُهُ [ بالشرط حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، وألإستثناء إلا بحقها وسيرد بعد قليل ما يؤيد ما فعله أبو بكر من القرآن والسنة كقوله تعالى  فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم  وفي الآية الأُخرى  فإخوانكم فى الدين  وقوله  في حديث ابن عمر " : أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ... " ] ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَ عُمَرَ صِحَّةُ رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَبَانَ لَهُ صَوَابُهُ تَابَعَهُ عَلَى قِتَالِ الْقَوْمِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : " فَعَرَفْت أَنَّهُ الْحَقُّ " يُشِيرُ إلَى انْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِالْحُجَّةِ الَّتِي أَدْلَى بِهَا , وَالْبُرْهَانِ الَّذِي أَقَامَهُ نَصًّا وَدَلَالَةً , وَقَدْ زَعَمَ زَاعِمُونَ مِنْ الرَّافِضَةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ سَبَى الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ فِي مَنْعِ الصَّدَقَةِ ، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْله تَعَالَى :  خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ  . خِطَابٌ خَاصٌّ فِي مُوَاجِهَةِ النَّبِيِّ  دُونَ غَيْرِهِ ، وَأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرَائِطَ لَا تُوجَدُ فِيمَنْ سِوَاهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ التَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ  ، وَمِثْلُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ إذَا وُجِدَتْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُعْذَرُ فِيهِ أَمْثَالُهُمْ وَيُرْفَعُ بِهِ السَّيْفُ عَنْهُمْ ، وَزَعَمُوا أَنَّ قِتَالَهُمْ كَانَ عَسْفًا ، وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا رَأْسُ مَالِهِمْ الْبُهُتُ وَالتَّكْذِيبُ وَالْوَقِيعَةُ فِي السَّلَفِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَهْلَ الرِّدَّةِ كَانُوا أَصْنَافًا : مِنْهُمْ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْمِلَّةِ وَدَعَا إلَى نُبُوَّةِ مُسَيْلِمَةَ وَغَيْرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَأَنْكَرَ الشَّرَائِعَ كُلَّهَا ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ الصَّحَابَةُ كُفَّارًا وَلِذَلِكَ رَأَى أَبُو بَكْرٍ سَبْيَ ذَرَارِيِّهِمْ ، وَسَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَاسْتَوْلَدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ ، ثُمَّ لَمْ يَنْقَضِ عَصْرُ الصَّحَابَةِ حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُسْبَى , فَأَمَّا مَانِعُو الزَّكَاةِ مِنْهُمْ الْمُقِيمُونَ عَلَى أَصْلِ الدِّينِ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ بَغْيٍ ، وَلَمْ يُسَمَّوْا عَلَى الِانْفِرَادِ كُفَّارًا ، وَإِنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ قَدْ أُضِيفَتْ إلَيْهِمْ لِمُشَارَكَتِهِمْ الْمُرْتَدِّينَ فِي مَنْعِ بَعْضِ مَا مَنَعُوهُ مِنْ حُقُوقِ الدِّينِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّدَّةَ اسْمٌ لُغَوِيٌّ ، فَكُلُّ مَنِ انْصَرَفَ عَنْ أَمْرٍ كَانَ مُقْبِلًا عَلَيْهِ فَقَدْ ارْتَدَّ عَنْهُ ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الِانْصِرَافُ عَنْ الطَّاعَةِ وَمَنْعُ الْحَقِّ ، وَانْقَطَعَ عَنْهُمْ اسْمُ الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ وَعَلَقَ بِهِمْ الِاسْمُ الْقَبِيحُ لِمُشَارَكَتِهِمْ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانَ ارْتِدَادُهُمْ حَقَّا . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى :  خذ من أموالهم صدقة  . وَمَا ادَّعَوْهُ مِنْ كَوْنِ الْخِطَابِ خَاصًّا بِرَسُولِ اللَّهِ  ، فَإِنَّ خِطَابَ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : خِطَابٌ عَامٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ  الْآيَةَ وَنَحْوِهَا وَخِطَابٌ خَاصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ  لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَهُوَ مَا أُبِينَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ بِسِمَةِ التَّخْصِيصِ وَقَطْعِ التَّشْرِيكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :  وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ  ، وَكَقَوْلِهِ :  خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ  ، وَخِطَابُ مُوَاجِهَةٍ لِلنَّبِيِّ  ، وَهُوَ وَجَمِيعُ أُمَّتِهِ فِي الْمُرَادِ بِهِ سَوَاءٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :  أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ  وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى :  فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ  ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :  خذ من أموالهم صدقة  ، وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ بَلْ يُشَارِكُهُ فِيهِ الْأُمَّةُ [ وهو أيضاً كقوله تعالى :  ولقد أوحينا إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك  والإجماع على أن الأنبياء معصومون من الشرك , ولم يخالف في ذلك أحد ] ، وَالْفَائِدَةُ فِي مُوَاجِهَةِ النَّبِيِّ  بِالْخِطَابِ أَنَّهُ هُوَ الدَّاعِي إلَى اللَّهِ , وَالْمُبَيِّنُ عَنْهُ مَعْنَى مَا أَرَادَ , فَقَدَّمَ اسْمَهُ لِيَكُونَ سُلُوكُ الْأُمَّةِ فِي شَرَائِعِ الدِّينِ عَلَى حَسَبِ مَا يَنْهَجُهُ لَهُمْ , وَأَمَّا التَّطْهِيرُ وَالتَّزْكِيَةُ وَالدُّعَاءُ مِنْهُ  لِصَاحِبِ الصَّدَقَةِ ، فَإِنَّ الْفَاعِلَ لَهَا قَدْ يَنَالُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فِيهَا، وَكُلُّ ثَوَابٍ مَوْعُودٍ عَلَى عَمَلِ بِرٍّ كَانَ فِي زَمَنِهِ  فَإِنَّهُ بَاقٍ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ .
قَوْلُهُ : ( حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ...إلَخْ ) الْمُرَادُ بِهَذَا أَهْلُ الْأَوْثَانِ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَيُقَاتَلُونَ وَلَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ السَّيْفُ [ لا سيما اليهود فهو لم يقاتلهم حتى يقولوا : لا إله إلا الله , فهُم يقولونها , ولذلك فى حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين في قصة إرسال معاذ إلى اليمن قال له النبي  : ( إنك تقدم أرض قوم أل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ) ] .
قَوْلُهُ : ( لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ) قَالَ النَّوَوِيُّ : ضَبَطْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ : فَرَّقَ وَفَرَقَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا ، وَمَعْنَاهُ مَنْ أَطَاعَ فِي الصَّلَاةِ وَجَحَدَ فِي الزَّكَاةِ أَوْ مَنَعَهَا .
قَوْلُهُ : ( عَنَاقًا ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبَعْدَهَا نُونٌ : وَهُوَ الْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ , وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى " عِقَالًا [ ومعلوم أن العقال لا يُخرَج في الزكاة ؛ ولذلك لجئوا إلى كلام أهل اللغة ] " وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِقَالِ : زَكَاةُ عَامٍ , قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ كَذَلِكَ ، وَهَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيّ وَالنَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَالْمُبَرِّدِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ .قَالَ : وَالْعِقَالُ الَّذِي هُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ الْبَعِيرُ لَا يَجِبُ دَفْعُهُ فِي الزَّكَاةِ فَلَا يَجُوزُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِقَالِ : الْحَبْلُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ الْبَعِيرُ ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُحْكَى عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَغَيْرِهِمَا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ التَّحْرِيرِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ حُذَّاقِ الْمُتَأَخِّرِينَ , قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ : قَوْلُ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ صَدَقَةُ عَامٍ تَعَسُّفٌ , وَذَهَابٌ مِنْ طَرِيقَةِ الْعَرَبِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّضْيِيقِ وَالتَّشْدِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ , فَيَقْتَضِي قِلَّةَ مَا عُلِّقَ بِهِ الْعِقَالُ وَحَقَارَتَهُ ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى صَدَقَةِ الْعَامِ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَعْنَى , قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيْرُهُ , وَكَذَلِكَ أَقُولُ أَنَا ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " مَنَعُونِي عِقَالًا " فَقِيلَ : قَدْرَ قِيمَتِهِ [ كما ] فِي زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمُعْشَرَاتِ وَالْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ وَالْفِطْرَةِ وَالْمَوَاشِي فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا ، وَهُوَ حَيْثُ يَجُوزُ دَفْعُ الْقِيمَةِ . وَقِيلَ : زَكَاةُ عِقَالٍ إذَا كَانَ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ , وَلَا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ , وَيَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ وَقِيلَ : إنَّهُ الْعِقَالُ الَّذِي يُؤْخَذُ مَعَ الْفَرِيضَةِ ؛ لِأَنَّ عَلَى صَاحِبِهَا تَسْلِيمَهَا بِرِبَاطِهَا . وَاعْلَمْ أَنَّهَا قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ يُقَاتَلُ حَتَّى يُعْطِيَهَا ، وَلَعَلَّهَا لَمْ تَبْلُغْ الصِّدِّيقَ وَلَا الْفَارُوقَ , وَلَوْ بَلَغَتْهُمَا لَمَا خَالَفَ عُمَرُ وَلَا احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ بِتِلْكَ الْحُجَّةِ الَّتِي هِيَ الْقِيَاسُ , فَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ [ وأموالهم ] إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ , وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ [ هذا في قتال مانعي الزكاة وإثبات وجوبها ] .
1533 - ( وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ : { فِي كُلِّ إبِلٍ سَائِمَةٍ [ السائمة هي التي ترعى من الكلأ , ضد المعلوفة ] فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ لَا تُفَرَّقُ إبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا ، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا ، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا ، وَشَطْرَ إبِلِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ : " وَشَطْرَ مَالِهِ " وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَخْذِهَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ وَوُقُوعِهَا مَوْقِعِهَا ) الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ .
[ حسن - قال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي – الإرواء (791) .
قال مقيده : من حكم الشريعة أن النبي  الذى جاءنا بهذا الدين ومن أركانه وفروضه الزكاة والحث على الصدقات فيُحَرِّم الشرع عليه أن يأكل من مال الصدقات هو وأهله حتى يكون جمع الأموال ومقاتلة الناس عليها ليس لمصلحة شخصية وحتى ما اجتمع له في حياته من مال فإنه لا ينتقل بموته إلى أقاربه ميراث ؛ قال  " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة " متفق عليه ، وكذلك حديث أبي الدرداء  : إن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا وإنما ورثوا العلم ] . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : إسْنَادُهُ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مِنْ دُونِ بَهْزٍ ثِقَةٌ , وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بَهْزٍ , فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : لَا يُحْتَجُّ بِهِ , وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ بَهْزٌ حُجَّةً ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ ، وَلَوْ ثَبَتَ لَقُلْنَا بِهِ ، وَكَانَ قَالَ بِهِ فِي الْقَدِيمِ [ يعني : الشافعي ] ثُمَّ رَجَعَ . وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ : مَا أَدْرِي وَجْهَهُ ، وَسُئِلَ عَنْ إسْنَادِهِ فَقَالَ : صَالِحُ الْإِسْنَادِ . وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : لَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ لَأَدْخَلْتُ بَهْزًا فِي الثِّقَاتِ . وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ : إنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورِ الْعَدَالَةِ . وَقَالَ ابْنُ الطَّلَّاعِ : إنَّهُ مَجْهُولٌ . وَتَعَقَّبْنَا بِأَنَّهُ قَدْ وَثَّقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : لَمْ أَرَ لَهُ حَدِيثًا مُنْكَرًا . وَقَالَ الذَّهَبِيُّ : مَا تَرَكَهُ عَالَمٌ قَطُّ ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : وَلَيْسَ ذَلِكَ بِضَائِرٍ لَهُ ، فَإِنَّ اسْتِبَاحَتَهُ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ مُشْتَهِرَةٌ . قَالَ الْحَافِظُ : وَقَدْ اسْتَوْفَيْتُ الْكَلَامَ فِيهِ فِي تَلْخِيصِ التَّهْذِيبِ [ وهو كتاب تقريب التهذيب , قال فيه (772) : " صدوق من السادسة " , ووقال المعلقاني في تحرير تقريب التهذيب (1/186) : " بل ثقة " وذكرا تحقيق القول فيه , لكنهما قالا : بهز بن حكيم عن أبيه عن جده حسن إن سلم مَن دون ذلك ؛ لأن حكيم نفسه لا يصل إلى مرتبة الثقة , وإنما هو صدوق فقط ] , وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ . وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : الْأَكْثَرُ لَا يَحْتَجُّونَ بِهِ . وَقَالَ الْحَاكِمُ : حَدِيثُهُ صَحِيحٌ وَقَدْ حَسَّنَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ عِدَّةَ أَحَادِيثَ وَوَثَّقَهُ , وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْبُخَارِيُّ خَارِجَ الصَّحِيحِ ، وَعَلَّقَ لَهُ فِيهِ ، وَرَوَى عَنْ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَهُ .
قَوْلَهُ : { فِي كُلِّ إبِلٍ سَائِمَةٍ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ [ السائمة التى ترعى وهى ضد المعلوفة .
والجمهور على أنه لا زكاة في المعلوفة , واحتجوا بمفهوم المخالفة أن الزكاة في الإبل السائمة فقط , ويكون هذا صحيح إن لم يكن هناك أحاديث أخرى غير هذا الحديث , لكن هناك أحاديث دلت على وجوب الزكاة في عامة الإبل , سائمة أو معلوفة , كحديث أبي هريرة  : ( قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَالإِبِلُ ؟ قَالَ : ولا صَاحِبِ إبِلٍ لاَ يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا ، وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ ورودها , أو : حَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ , إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ... فذكر الإبل عمومًا ولم يقيدها بقيد ) والحديث في صحيح مسلم ، وحديث بهز لا يعد مقيدًا لحديث أبي هريرة ؛ لأن الإطلاق والتقييد إنما يكون في النص الواحد , لكن هنا لا تعارض بين الحديثين فيكون هذا أحد أفراد العموم , وهو مذهب مالك وابن حزم ] .
قَوْلُهُ : ( فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ...إلَخْ ) سَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ .
قَوْلَهُ : ( لَا تُفْرَقُ إبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا ) أَيْ لَا يُفَرِّقُ أَحَدُ الْخَلِيطَيْنِ مِلْكَهُ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا تَحْقِيقُهُ .
قَوْلُهُ : ( مُؤْتَجِرًا ) أَيْ : طَالِبًا لِلْأَجْرِ قَوْلُهُ : ( فَإِنَّا آخِذُوهَا ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ قَهْرًا إذَا لَمْ يَرْضَ رَبُّ الْمَالِ ، وَعَلَى أَنَّهُ يَكْتَفِي بِنِيَّةِ الْإِمَامِ كَمَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَالْهَادَوِيَّةُ ( طالما أن الإمام أخذ منه الزكاة قهرًا فتكون نية الإمام كافية ومجزءة عنه ] ، وَعَلَى أَنَّ وِلَايَةَ قَبْضِ الزَّكَاةِ إلَى الْإِمَامِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ [ يدل على هذا حديث بهز بن حكيم وكذلك حديث ابن عباس { في الصحيحين ( فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ) وكذلك قوله تعالى :  خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً  ] .
قَوْلُهُ : ( وَشَطْرَ مَالِهِ ) أَيْ بَعْضَهُ , وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَاقِبَ بِأَخْذِ الْمَالِ ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ [ وبه قال إسحاق بن راهويه وأبو بكربن عبد العزيز – المغني 2/573 ] فِي الْقَدِيمِ مِنْ قَوْلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ ، وَهَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ . قَالَ فِي التَّلْخِيصِ : وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ : الَّذِي ادَّعَوْهُ مِنْ كَوْنِ الْعُقُوبَةِ كَانَتْ بِالْأَمْوَالِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَلَا مَعْرُوفٍ ، وَدَعْوَى النَّسْخِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ مَعَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ , وَقَدْ نَقَلَ الطَّحَاوِيُّ وَالْغَزَالِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى نَسْخِ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ , وَحَكَى صَاحِبُ ضَوْءِ النَّهَارِ عَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ مِثْلَهُمَا وَهُوَ يُخَالِفُ مَا قَدَّمْنَا عَنْهُ فَيُنْظَرُ [ كلام الإمام النووى من كتابه المجموع 5/308 فينظر في حكاية صاحب ضوء النهار ] نحن نتكلم عن قضية العقوبة بالمال هل هي منسوخة أم لا ؟ فيها نزاع بين أهل العلم . وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ النَّاسِخَ حَدِيثُ نَاقَةِ الْبَرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ  حَكَمَ عَلَيْهِ بِضَمَانِ مَا أَفْسَدَتْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ  فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ أَضْعَفَ الْغَرَامَةَ , وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَرْكَهُ  لِلْمُعَاقَبَةِ بِأَخْذِ الْمَالِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّرْكَ مُطْلَقًا , وَلَا يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ وَجَعْلِهِ نَاسِخًا أَلْبَتَّةَ . وَقَدْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ الْمُعَاقَبَةِ بِالْمَالِ الْإِمَامُ يَحْيَى وَالْهَادَوِيَّةُ , وَقَالَ فِي الْغَيْثِ : لَا أَعْلَمُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْبَيْتِ .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ بَهْزٍ هَذَا بِهَمِّ النَّبِيِّ  بِتَحْرِيقِ بُيُوتِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْجَمَاعَةِ [ وهذه عقوبة مالية ] ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْجَمَاعَةِ , وَبِحَدِيثِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ  : { إذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَأَحْرِقُوا مَتَاعَهُ } [ ضعيف الجامع 717 ] وَفِي إسْنَادِهِ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ الْمَدِينِيُّ قَالَ الْبُخَارِيُّ : عَامَّةُ أَصْحَابِنَا يَحْتَجُّونَ بِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : أَنْكَرُوهُ عَلَى صَالِحٍ وَلَا أَصْلَ لَهُ ، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ سَالِمًا أَمَرَ بِذَلِكَ فِي رَجُلٍ غَلَّ فِي غَزَاةٍ مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَهَذَا أَصَحُّ , وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالْحَاكِمِ وَالْبَيْهَقِيُّ { أَنَّ النَّبِيَّ  وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحْرَقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ } . وَفِي إسْنَادِهِ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، قِيلَ : هُوَ الْخُرَاسَانِيُّ ، وَقِيلَ غَيْرُهُ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ ؛ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ , وَلَهُ شَاهِدٌ مَذْكُورٌ هُنَالِكَ , وَبِحَدِيثِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ سَلَبَ عَبْدًا [ يعني : أخذ متاعه ] وَجَدَهُ يَصِيدُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ وقَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ  يَقُولُ : { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَصِيدُ فِيهِ فَخُذُوا سَلَبَهُ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَبِحَدِيثِ تَغْرِيمِ كَاتِمِ الضَّالَّةِ أَنْ يَرُدَّهَا وَمِثْلَهَا , وَحَدِيثِ تَضْمِينِ مَنْ أَخْرَجَ غَيْرَ مَا يَأْكُلُ مِنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ مِثْلَيْهِ ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَسَكَتَ عَنْهُ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { أَنَّ النَّبِيَّ  سُئِلَ عَنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ [ يعني : على الأشجار ] فَقَالَ : مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةٍ [ أو خِبئة ] فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ [ يعني : هناك فرق بين المعلق على الشجر , وبين الذي جُمِعَ ووُضِعَ في المخزن ] فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ ، وَمَنْ سَرَقَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ } [ وهذا الحديث حسن رواه الثلاثة ( النسائي – أبو داود – الترمذي ) صحيح الجامع ( 6038 ) ] . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ النَّسَائِيّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ , وَمِنْ الْأَدِلَّةِ قَضِيَّةُ الْمَدَدِيِّ الَّذِي أَغْلَظَ لِأَجْلِهِ الْكَلَامَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ { عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لَمَّا أَخَذَ سَلَبَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ  : لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ [ هذا الحديث ذكره الشوكاني بطوله في كتاب الجهاد , باب : أن السَّلَب للقاتل وأنه غير مخموس – نيل الأوطار (7/96) ولفظ الحديث : قَالَ : قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلًا مِنْ الْعَدُوِّ , فَأَرَادَ سَلَبَهُ , فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ – ( فتوعَّدَ عوفُ بن مالك خالدًا كما في رواية أحمد وأبي داود ) فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ  عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ , فَأَخْبَرَهُ , فَقَالَ لِخَالِدٍ : مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ ؟ قَالَ : اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : ادْفَعْهُ إِلَيْهِ , فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ فَجَرَّ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ : هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ  ؟ ( يعني : شمت فيه ) فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ  فَاسْتُغْضِبَ ( أي : غضب غضبًا شديدًا ) . فَقَالَ : لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ , لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ , هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي ؟ إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ إِبِلًا أَوْ غَنَمًا فَرَعَاهَا , ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا , فَشَرَعَتْ فِيهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ وَتَرَكَتْ كَدْرَهُ , فَصَفْوُهُ لَكُمْ وَكَدْرُهُ عَلَيْهِمْ . رواه أحمد ومسلم . ومحل الشاهد أن النبي  منعه حقه , وهي عقوبة مالية ] وَبِإِحْرَاقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ  لِطَعَامِ الْمُحْتَكِرِينَ وَدُورِ قَوْمٍ يَبِيعُونَ الْخَمْرَ ، وَهَدْمِهِ دَارَ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَمُشَاطَرَةِ عُمَرَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي مَالِهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي بَعَثَهُ إلَيْهِ ، وَتَضْمِينِهِ لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ مِثْلَيْ قِيمَةِ النَّاقَةِ الَّتِي غَصَبَهَا عَبِيدُهُ وَانْتَحَرُوهَا [ حيث سرق عبيدُ حاطب بن أبي بلتعة ناقة , ونحروها وأكلوا منها , فلمَّا أُتِيَ بهم إلى عمر  فعرف أنَّ حاطب لا يطعمهم , فجعله يدفع مثلي قيمة الناقة ] ، وَتَغْلِيظِهِ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ الدِّيَةَ عَلَى مَنْ قَتَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ .
[ فهذه أدلة مَن قال : إن العقوبة مالية . فهذا بحث خارجي , فليُحفَظ , لكن محل الشاهد من هذه القصة كلها قوله : " فَإِنَّا آخِذُوهَا مِنْ شَطْرِ مَالِهِ " . فقال ناس بظاهر الحديث , وقال آخرون : لا , فهذا عندما كانت العقوبة بالمال جائزة في أول الإسلام , ثم نُسِخَت , واعترض الإمام النووي بأنه لا دليل على النسخ , ولا يوجد تواريخ , بل هذه الأدلة السابقة تدل على وجود العقوبة المالية وأنها كانت معروفة عند سلفنا الصالح ] . وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ بِأَجْوِبَةٍ . أَمَّا عَنْ حَدِيثِ بَهْزٍ فَبِمَا فِيهِ مِنْ الْمَقَالِ , وَبِمَا رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي جَامِعِ الْمَسَانِيدِ وَالْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : فِي سِيَاقِ هَذَا الْمَتْنِ لَفْظَةٌ وَهَمَ فِيهَا الرَّاوِي ، وَإِنَّمَا هُوَ : " فَإِنَّا آخِذُوهَا مِنْ شَطْرِ مَالِهِ " أَيْ يُجْعَلُ مَالُهُ شَطْرَيْنِ وَيَتَخَيَّرُ عَلَيْهِ الْمُصَدِّقُ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْ خَيْرِ الشَّطْرَيْنِ [ وهذه أيضًا عقوبة مالية ؛ لأن النبي  قال : وإيّاكَ وكرائم أموالهم ] عُقُوبَةً لِمَنْعِهِ الزَّكَاةَ ، فَأَمَّا مَا لَا يَلْزَمُهُ فَلَا ، وَبِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ لَفْظَةَ : " وَشُطِرَ مَالُهُ " بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ ، وَمَعْنَاهُ : جُعِلَ مَالُهُ شَطْرَيْنِ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ الصَّدَقَةَ مِنْ أَيِّ شَطْرَيْنِ أَرَادَ , وَيُجَابُ عَنْ الْقَدْحِ بِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ الْمَقَالِ بِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقْدَحُ بِمِثْلِهِ , وَعَنْ كَلَامِ الْحَرْبِيِّ وَمَا بَعْدَهُ بِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ خَيْرِ الشَّطْرَيْنِ صَادِقٌ عَلَيْهِ اسْمُ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْوَاجِبِ , وَأَمَّا حَدِيثُ هَمِّ النَّبِيِّ  بِالْإِحْرَاقِ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ السُّنَّةَ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ وَتَقْرِيرَاتٌ , وَالْهَمُّ لَيْسَ مِنْ الثَّلَاثَةِ . وَيُرَدُّ بِأَنَّهُ  لَا يَهُمُّ إلَّا بِالْجَائِزِ , وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فِيمَا فِيهِ مِنْ الْمَقَالِ الْمُتَقَدِّمِ , وَكَذَلِكَ أُجِيبَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو , وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَبِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْفِدْيَةِ كَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَصِيدُ صَيْدَ مَكَّةَ ، وَإِنَّمَا عَيَّنَ  نَوْعَ الْفِدْيَةِ هُنَا بِأَنَّهَا سَلْبُ الْعَاضِدِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى السَّبَبِ لِقُصُورِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ هَتْكُ الْحُرْمَةِ عَنْ التَّعْدِيَةِ [ لا نستطيع أن نقول أن هذا الكلام متعدي إلى غيره , فالصيد في الحرم محرم , والذي يصيد في الحرم عليه جزاء , لكن لو ضُبط وهو يصطاد , يأخذ الضابط سلبه بهذا الحديث ] وَأَمَّا حَدِيثُ تَغْرِيمِ كَاتِمِ الضَّالَّةِ وَالْمُخْرِجِ غَيْرَ مَا يَأْكُلُ مِنْ الثَّمَرِ ، وَقَضِيَّةُ الْمَدَدِيِّ فَهِيَ وَارِدَةٌ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ , فَلَا يُجَاوِزُ بِهَا إلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهَا وَسَائِرَ أَحَادِيثِ الْبَابِ مِمَّا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ [ يريد أن يقول : إن الأحاديث التي وردت في كل جزئية بأن هناك عقوبة مالية , لا نستطيع أن نقول أنها دليل على جواز العقوبة بالمال ؛ لأن هناك أصل ثابت في الكتاب والسنة تحريم أموال المسلمين , كقوله تعالى  وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ  [البقرة: 188] . وقوله  : كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ( ) . وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة  أن النبي  خطب الناس في يوم النحر فقال : إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا( ) . فلو ورد حديث بعقوبة مالية في موقف من المواقف , يقتصر على هذا الموقف الذي ورد فيه الدليل , ولا يُعَمَّم إلى جواز كل عقوبة بالمال ؛ لأن هذه الأدلة على خلاف الأصل , فلا يُقاس عليها غيرها ؛ لأننا لو قسنا عليها يؤدي ذلك إلى ضياع الأصل . وفي حديث حنيفة الرَّقَاشِيِّ  أن النبي  قال : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه( ) . رواه أبو داود وهو صحيح – صحيح الجامع ( 7662) ] لِوُرُودِ الْأَدِلَّةِ كِتَابًا وَسُنَّةً بِتَحْرِيمِ مَالِ الْغَيْرِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :  وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً  ،  وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ  ، وَقَالَ  فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ : { إنَّمَا دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ وَأَعْرَاضُكُمْ } الْحَدِيثُ قَدْ تَقَدَّمَ ، وَقَالَ : { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ } .
وَأَمَّا تَحْرِيقُ عشَلِيٍّ طَعَامَ الْمُحْتَكِرِ وَدُورِ الْقَوْمِ وَهَدْمُهُ دَارَ جَرِيرٍ , فَبَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ الْإِسْنَادِ إلَيْهِ ، وَانْتِهَاضِ فِعْلِهِ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَطْعِ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ , كَهَدْمِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ , وَتَكْسِيرِ الْمَزَامِيرِ . وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيُجَابُ عَنْهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِأَنَّهُ أَيْضًا قَوْلُ صَحَابِيٍّ لَا يَنْتَهِضُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ وَلَا يَقْوَى عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
[ أسانيد هذه الآثار غير ثابتة , وفعل عليّ حجة عند الشيعة , وكذلك عند مَن يقول : إن أفعال الخلفاء الراشدين حجة ؛ لكونه خليقة راشدًا ] .
ملخص المسألة :
هناك قضيتين : هل مانع الزكاة إن أُخذت منه الزكاة بالقوة , هل تؤخذ منه , ويؤخذ جزء من ماله عقوبة ؟ فحديث بهز بن حكيم ينص على هذا , وهو قول الشافعي فى القديم , وإسحاق بن راهويه , وأبو بكر بن عبد العزيز .
الجمهور قالوا : لا , وتأولوا حديث بهز بن حكيم بكلام إبراهيم الحربي " إنا آخذوها من شطر ماله , أو وشطر ماله " ، وأيضًا قالوا إن أبا بكر قاتل مانع الزكاة على منعها فقط , وكذلك من إجابات الجمهور أن كل ما ورد كان حينما كانت العقوبات المالية جائزة ثم نُسخت بعد ذلك .
الفريق الآخر قال : لم تُنسخ ؛ لأن هناك نصوص ثابتة بعقوبات مالية , فالشوكاني يقول : إن هذه النصوص يُقتصَر بها على المواضع التى وردت فيها , ولا يقاس عليها غيرها ؛ لأنها وردت على خلاف الأصل , وهو حُرمة مال المسلم , والآثار الواردة عن الصحابة  بعد التسليم بصحتها لا تنتهض لتخصيص عمومات الكتاب والسنة . فالشوكاني يناقش قضيتان : قضية العقوبات المالية , وقولهم : إن هذا نسخ . فقال لهم النووى : لا دليل على النسخ ، والقضية الأخرى أن ما ورد فى العقوبات المالية لا يجعلنا نقول : إن العقوبة المالية عموم , لكن نقتصر على ما ورد فيه دليل فقط , ويكون منها من منع الزكاة ] .
قَوْلُهُ : ( عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا ) [ العزيمة ضد الرخصة ] قَالَ فِي الْبَدْرِ الْمُنِيرِ : عَزْمَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ عَزْمَةٌ , وَضَبَطَهُ صَاحِبُ إرْشَادِ الْفِقْهِ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ جَازَ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ وَمَعْنَى الْعَزْمَةِ فِي اللُّغَةِ : الْجِدُّ فِي الْأَمْرِ , وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَخْذَ ذَلِكَ وَاجِبٌ مَفْرُوضٌ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَالْعَزَائِمُ : الْفَرَائِضُ كَمَا فِي كُتِبَ اللُّغَةِ .
بَابُ : صَدَقَةِ الْمَوَاشِي
قال ابن رشد : والكلام المحيط بهذه العبادة بعد معرفة وجوبها ينحصر في خمسة جمل :
الأولى : في معرفة مَن تجب عليه .
الثانية : في معرفة ما تجب فيه من الأموال .
الثالثة : في معرفة كم تجب ومِن كم تجب .
الرابعة : في معرفة متى تجب ومتى لا تجب .
الخامسة : معرفة لمَن تجب وكم يجب له ( أي هل الزكاة تجوز لصنف واحد ) .
[ الجملة الأولى : في معرفة مَن تجب عليه :
أجمعوا على أن الزكاة تجب على كل مسلم – حر – بالغ – عاقل - مالك للنصاب ملكًا تامًا .
عندما نقول : " مسلم " فهناك خلاف ضعيف ورد في أهل الذمة , هل تجب عليهم الزكاة أم لا ؟
حر – هل تجب الزكاة على العبد أم لا ؟
بعض الناس قالوا : العبد لا يملك ؛ لأن النبي  فى حديث ابن عمر في الصحيحين قال : " ومن باع عبد وله مال فماله للذي باعه ( أي المالك الأصلي ) إلا أن يشترط المبتاع ( فإذا اشترط المبتاع ) فالمال أيضًا للسيد الجديد , فالعبد لا يملك أصلاً ؛ لذلك قال بعضهم : إن زكاة مال العبد على سيده ؛ لأن العبد لا يملك ملكًا حقيقيًا ( الشافعي وأبو حنيفة ) .
والآخرون قالوا : العبد يده على ماله ؛ لأنه هو المتصرف فزكاة المال على العبد ( أهل الظاهر ) .
ومنهم مَن قال : لا يُتَصَوَّر أن يكون المال ملكًا للعبد ؛ لأن سيده يجوز له أن ينتزعه منه في أي وقت , وكذلك لا يتصور أن يكون المال ملكًا للسيد ؛ لأن يد العبد هي التي عليه , فلا تجب الزكاة , لا على العبد , ولا على السيد ( مالك ) .
بالغ عاقل - أبو حنيفة قال : البالغ فيه احتراز عن اليتيم والصغير , والعاقل فيه احتراز عن المجنون ، فأبو حنيفة قال : إن مال الصغير تجب الزكاة في الخارج من الأرض , أما الناض [ اسم يطلقه أهل اليمن على الدراهم والدنانير ] فلا تجب , وفرَّق بين الخارج من الأرض والناض ؛ لأن عند أبي حنيفة أن زكاة الخارج من الأرض هي زكاة على الأرض نفسها . والصواب الذى عليه جمهور العلماء أن الزكاة تجب في مال الصغير والمجنون , وأن الوجوب هنا على الوليِّ ؛ لقوله تعالى :  خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً  وقوله  : تؤخذ من أغنيائهم .
المالك ملكًا تامًا فيه احتراز عن ثلاثة أشياء :
1) مسألة الدين كرجل عنده مال 10.000 وعليه ديون 6000 ففي الحقيقة الذي يملكه ملكًا تامًا 4000 - أو عنده ( 3000 ) والنصاب ( 5000 ) وله عند آخر ( 3000) فهذا الرجل يملك ( 6000 ) لكن الملك التام ( 3000 ) فما حكم الزكاة في هذه الحالة ؟
2) وكذلك في حالة الأراضي : رجل أجر أرض لرجل , فهل الزكاة على مالك الزرع أم مالك الأرض ؟ والخلاف هنا عند أبي حنيفة ؛ لأن أبا حنيفة عنده أن الزكاة حق الأرض , والجمهور قالوا : الزكاة حق الزرع .
3) الأموال التي حُبست رقبتها ( الأوقاف ) فيها حديث ابن عمر في الصحيحين أن عمر أصاب أرضًا من خيبر كانت أجود ماله , فسأل النبي  كيف يفعل بها ؟ فقال له النبي  احبس رقبتها وسبل ثمرتها [ لا تباع ولا تشترى ولا توهب ولا تورث ( أى وقف لله تعالى ويجعل الغلة سبيل ) , فهل الغلة الخارجة من الأرض فيها زكاة ؟ فالبعض قال : إن كان قد سبَّلها لناس بأعينهم ليسوا من أهل الزكاة كالأولاد وأولاد الأولاد , وجبت في محصولها الزكاة , وإن كان قد سبَّلها لمساكين فليس فيها زكاة .
الجملة الثانية : في معرفة ما تجب فيه من الأموال :
حكى ابن رشد الإجماع على أنها تجب فى النقدين الذهب والفضة , والإبل والبقر والغنم , والقمح والشعير والتمر والزبيب .
وسوف يتبيَّن أن هذه الأصناف هي التي تجب فيها الزكاة فقط .
1534 - ( عَنْ أَنَسٍ  : { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُمْ : إنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ  عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ [ الأصح عند البخاري : التي أمر الله بها رسولَه ] ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا ، وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَ ذَلِكَ فَلَا يُعْطِهِ ...
من واحد إلى أربعة وعشرين (5-24) في كل خمس من الإبل شاة .
من خمسة وعشرين إلى خمسة وثلاثين (25-35) ابْنَةُ مَخَاضٍ فَإِنْ لَمْ يوجد فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ .
من ستة وثلاثين لخمسة وأربعين (36-45) ابْنَةُ لَبُونٍ أنثى .
من ستة وأربعين لستين (46-60) حِقَّةٌ .
من واحد وستين إلى خمسة وسبعين (61-75) جَذَعَةٌ .
من ستة وسبعين لتسعين (76-90) ابْنَتَا لَبُونٍ .
من واحد وتسعين لمائة وعشرين (91-120) حِقَّتَانِ .
ما زاد على مائة وعشرين (120) فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ .
قال : فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ ، وَالْغَنَمِ فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ ؛ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ لَبُونٍ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ إلَى سِتِّينَ ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ ؛ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ ؛ فَإِذَا تَبَايَنَ أَسْنَانُ الْإِبِلِ فِي فَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ ، فَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ؛ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إلَّا جَذَعَةً فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ ؛ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ ابْنَةُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ؛ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إلَّا حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ ؛ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ ابْنَةُ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ؛ وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ ابْنَةِ مَخَاضٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ ؛ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْ الْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا .
بنت المخاض : هي التي أتمت سنة ودخلت في الثانية , والمخاض : الحمل , فإن تعذر ففيها ابن لبون , وهذه الحالة الوحيدة هي التي فيها بدل .
ابن اللبون هو الذي بلغ السنتين ودخل في السنة الثالثة . وأمه حينئذ يكون بها لبن نتيجة للحمل والوضع .
الحقة : التي دخلت في الرابعة .
طروقة الفحل : التي ينزو عليها الفحل .
الجذعة : التي دخلت في الخامسة .
أقل سن في زكاة الإبل : بنت مخاض , وأكبر سن : الجزعة , فليس هناك مسنة , والمسنة هي التي أتمت خمسة ودخلت في السادسة .
لو واحد عليه سن معين مثل الحِقَّة وليست عنده , وعنده بنت لبون وجذعة , فإن كان عنده الأقل يدفعها ويدفع معها عشرين درهمًا أو شاتين , أو يدفع الأعلى ويأخذ من المُصَدِق عشرين درهمًا أو شاتين , وممكن أن يشتريَ التي ليست عنده فيعطيها لهم .
سنجد أن الحديث يبقى على أن الأقل من خمسة - أي أربعة - فليس فيها زكاة إلا أن يشاء ربها فإن أبواب الصدقة واسعة .
ونجد أن الزيادة على 120 تكون بواحدة خلافًا للإصطخري الذي قال بأي جزء , وسيأتي حديث ابن عمر يبيّن ذلك .
وسيأتي أيضًا أثر علىّ عند أبي شيبة أنه قال : في الخمس وعشرين ناقة خمس شياة , ولكنه ضعيف .
وإذا كان عنده 24 ناقة ففيها 4 شياة .
وعند الشافعي إذا دفع بدل 4 شياة بنت مخاض , تجزئ ؛ لأنها تجزئ عن 25 , بالإضافة إلى أن بنت المخاض تكون الزكاة من جنس المال , وهو الأصل ؛ لأن الزكاة عن إبل فتكون الزكاة إبل , أما الشياة فقد عُدِلَ عن الإبل إلى الشياة حتى لا يشق على أصحاب الأموال .
هذه هي بعض الخلافات التي وردت في زكاة الإبل .
ثم ننتقل إلى زكاة الغنم :
من أربعين إلى مائة وعشرين (40-120) شَاة .
من مائة وواحد وعشرين إلى مائتين (121-200) شاتين .
من مائتين وواحد إلى ثلاثمائة (201-300) ثلاث شياة .
ومن ثلاثمائة وواحد فما زاد (301) في كل مائة شاة .
قال : وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ . وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ , وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ , وَلَا تَيْسٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُصَدِّقُ ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمَعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ , وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ ؛ وَإِذَا كَانَ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا , وَفِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَالُ إلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا( ) } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ . وَقَطَّعَهُ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ , وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ كَذَلِكَ ، وَلَهُ فِيهِ فِي رِوَايَةٍ { فِي صَدَقَةِ الْإِبِلِ : فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ( ) } قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَرُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ ) .
الشَّرْحُ
الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : هَذَا كِتَابٌ فِي نِهَايَةِ الصِّحَّةِ عَمِلَ بِهِ الصِّدِّيقُ بِحَضْرَةِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا وَغَيْرُهُ .
قال الألباني : إسناده صحيح على شرط مسلم , وكذا قال الحاكم , ووافقه الذهبي , وصححه الدارقطني , ورواه البخاري مختصرًا - صحيح أبي داود ( 1399 ) 5/285 .
الهرمة : الكبيرة في السن .
ذات العَوَار : بالفتح أي عيب أو مرض ، أمَّا عُوار بالضم التي فقدت إحدى عينيها .
وَلَا تَيْسُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ المصدق : بتشديد الدال فقط .
لكن بعضهم قال : لا ، المراد به " الْمُصَّدِّقُ " بتشديد الصاد والدال .
والفرق بين الاثنين : إن كان بتشديد الدال فقط وتخفيف الصاد ، فهو عامل الصدقة الذي يجمع الزكاة . وإن كان بتشديد الصاد فهو مالك المال الذي سيؤدي الزكاة .
والقول الأول هو الذي اعتمده الإمام الشافعي رحمه الله ، قال : " إِلَّا أَنْ يَشَاءَ المُصَدِّق " أي أن هذا متروك للعامل . والعامل هذا وكيل . فالأمر متروك لاجتهاده ؛ باعتبار أن لحم التيس ناشف .
والجمهور قالوا : لا ، " إلا أن يشاء الْمُصَّدِّقُ " يعني صاحب أو مالك الصدقة ؛ بناءً على أن هذا التيس قد يكون مرغوبًا فيه ؛ لأنه ينزو على الغنم الموجودة . والنزو هو أيضًا الإطراق .
فإن شاء المُصَّدِّق أن يعطي هذا التيس ، فلا بأس .
فالشافعي حمل " المصدق " على العامل ، والجمهور حملها على المالك .
وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفَتَرِّقٍ ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ : أي ، كما قال الإمام مالك : مثلاً : شخص لديه أربعين شاة . وآخر لديه أربعين شاة . يجب في هذه الثمانين شاتان . وآخر لديه أربعين . تكون ثلاثة شياة . فإذا ضَموا غنمهم مع بعضها للهروب من الصدقة ، فتصبح مائة وعشرين ؛ تجب في المائة وعشرين شاة واحدة فقط .
وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ : مثل واحد عنده 125 شاة , ففرَّقها بينه وبين واحدٍ [ 90 : 35 ] فيكون في التسعين شاة واحدة , والخمس وثلاثين ليس فيها زكاة .
الرقة : هناك مَن قال : الرِّقة هي الفضة , وهناك مَن قال : الذهب والفضة , وبناءً عليه قالوا : أصل تقويم الذهب : الفضة , بمعنى أن مَن كان لديه ذهب يساوي 200 درهم يزكِّي , وليس عشرين مثقالاً . وهذا خلاف قول الجمهور .
قَوْلُهُ : ( أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُمْ ) فِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ { إنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ [ أي : لأنس ] هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْبَحْرَيْنِ : هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ  عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ } .
قَوْلُهُ : ( الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ) .
مَعْنَى فَرَضَ هُنَا : أَوْجَبَ أَوْ شَرَعَ ، يَعْنِي بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ قَدَّرَ ؛ لِأَنَّ إيجَابَهَا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ , فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  بَيَّنَ ذَلِكَ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَقَدْ يَرِدُ الْفَرْضُ بِمَعْنَى الْبَيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :  قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ  ، وَبِمَعْنَى الْإِنْزَالِ كَقَوْلِهِ :  إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ  ، وَبِمَعْنَى الْحِلِّ كَقَوْلِهِ :  مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ  ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَى التَّقْدِيرِ . وَوَقَعَ اسْتِعْمَالُ الْفَرْضِ بِمَعْنَى اللُّزُومِ حَتَّى يَكَادَ يَغْلِبُ عَلَيْهِ , وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَى التَّقْدِيرِ , وَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ : كُلُّ شَيْءٍ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فَرَضَ عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ وَرَدَ فَرَضَ لَهُ فَهُوَ بِمَعْنَى لَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَيْهِ , وَذَكَرَ أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى :  إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ  ، أَيْ أَوْجَبَ عَلَيْكَ الْعَمَلَ بِهِ ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ إنَّ الْفَرْضَ مُرَادِفٌ لِلْوُجُوبِ , وَتَفْرِيقُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ بِاعْتِبَارِ مَا يَثْبُتَانِ بِهِ لَا مُشَاحَّةَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي حَمْلِ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ السَّابِقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْحَادِثِ انْتَهَى . [ فلما يقول النبي  : غُسل الجمعة واجب على كل محتلم , لا يقال : الواجب هنا بمعنى أنه مُتأكَّد أو ما إلى ذلك ، وكذلك الحنفية لما يقسموا بين الفرض والواجب ويفرقون بينهما بأن الفرض هو ما ثبت بدليل قطعي , والواجب هو ما ثبت بدليل ظني , فهذا إن كان فتقسيم لا يترتب عليه شئ , فلا شئ فيه , لكن أن يقول في قوله  : فرض رسول الله  صدقة الفطر من رمضان ... يقول : فرض بمعنى قدر ؛ لأن هذا دليل ظني - أخبار آحاد -والفرضية لا تثبت إلا بالأدلة القطعية , فهذا غير جائز ] .
قَوْلُهُ : ( وَرَسُولُهُ ) فِي نُسْخَةٍ : " رَسُولَهُ " بِدُونِ وَاوٍ , وَهُوَ الصَّوَابُ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ , قَوْلُهُ : ( وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَ ذَلِكَ فَلَا يُعْطِهِ ) أَيْ مَنْ سُئِلَ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ فِي سِنٍّ أَوْ عَدَدٍ [ لأن الزيادة قد تكون في الكم وقد تكون في الكيف ] فَلَهُ الْمَنْعُ , وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى تَرْجِيحِهِ , وَقِيلَ مَعْنَاهُ : فَلْيَمْنَعْ السَّاعِي , وَلْيَتَوَلَّ إخْرَاجَهُ بِنَفْسِهِ , أَوْ يَدْفَعُهَا إلَى سَاعٍ آخَرَ ، فَإِنَّ السَّاعِيَ الَّذِي طَلَبَ الزِّيَادَةَ يَكُونُ بِذَلِكَ مُتَعَدِّيًا شَرْطَهُ ، وَأَنْ يَكُونَ أَمِينًا . قَالَ الْحَافِظُ : لَكِنَّ مَحِلَّ هَذَا إذَا طَلَبَ الزِّيَادَةَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ انْتَهَى . [ أما إن طلبها بتأويل فلابد من إرضاء الساعي , وذلك كأن يكون الواجب أخذ بنت مخاض , فقال له : لا , سآخذ 25 شاة ؛ لحديث عليّ بن أبي طالب ] . وَلَعَلَهُ يُشِيرُ بِهَذَا إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ : { أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ } عِنْدَ مُسْلِمٍ . [ وله رواية أخرى : إذا أتاكم المصَدِّق فليصدر عنكم وهو عنكم راضٍ - رواه مسلم – المشكاة ( 1776 ) ] وراجع الحديث بطوله في صحيح أبي داود رقم ( 1414 5/304 ) لذلك قال الحافظ بغير تأويل ] وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ وَحَدِيثِ { سَيَأْتِيكُمْ رَكْبٌ مُبْغَضُونَ فَإِذَا أَتَوْكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْغُونَ ، فَإِنْ عَدَلُوا فَلِأَنْفُسِهِمْ ، وَإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهَا ، وَأَرْضُوهُمْ فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ رِضَاهُمْ } ضعيف الجامع ( 3297) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ , وَفِي لَفْظٍ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ { ادْفَعُوا إلَيْهِمْ مَا صَلَّوْا الْخَمْسَ } فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مَحْمُولَةً عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ تَأْوِيلًا فِي طَلَبِ الزَّائِدِ عَلَى الْوَاجِبِ .
قَوْلُهُ : ( الْغَنَمُ ) هُوَ مُبْتَدَأٌ وَمَا قَبْلَهُ خَبَرُهُ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إخْرَاجَ الْغَنَمِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ مُتَعَيِّنٌ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فَلَا يَجْزِي عِنْدَهُمَا إخْرَاجُ بَعِيرٍ عَنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ : يَجْزِي ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَجْزَأَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ , فَإِجْزَاؤُهُ فِيمَا دُونَهَا بِالْأَوْلَى . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَجِبَ فِي جِنْسِ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ رِفْقًا بِالْمَالِكِ ، فَإِذَا رَجَعَ بِاخْتِيَارِهِ إلَى الْأَصْلِ أَجْزَأَهُ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبَعِيرِ مَثَلًا دُونَ قِيمَةِ أَرْبَعِ شِيَاهٍ فَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَالْأَقْيَسُ أَنَّهُ لَا يَجْزِي انْتَهَى . الجمهور قالوا : إن أخرج بعير عن 24 أجزأه ؛ لأنه يجزئ عن خمس وعشرين , فمن باب أولى أنه يجزئ عن أربع وعشرين ، وأحمد ومالك قالوا : لا تجزئ ، وقال الجمهور : ولأن الأصل إخراج الزكاة من جنس المال , وإنما عدل إلى ذلك حتى لا يشق على أصحاب المال , لكن إن نقص ثمن البعير عن ثمن أربع شياة فلا تجزئ , وآخرون قالوا : تجزئ , وهذا محل نظر ] .
قَوْلُهُ : { فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ } الذَّوْدُ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا دَالٌ مُهْمَلَةٌ ، قَالَ الْأَكْثَرُ : وَهُوَ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ ، لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : مِنَ الِاثْنَيْنِ إلَى الْعَشَرَةِ قَالَ : وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْإِنَاثِ . وَقَالَ سِيبَوَيْهِ : تَقُولُ : ثَلَاثُ ذَوْدٍ ؛ لِأَنَّ الذَّوْدَ مُؤَنَّثٌ , وَلَيْسَ بِاسْمِ كُسِّرَ عَلَيْهِ مُذَكَّرٌ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : أَصْلُهُ ذَادَ يَذُودُ إذَا دَفَعَ شَيْئًا فَهُوَ مَصْدَرٌ ، وَكَأَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ مَعَرَّةَ الْفَقْرِ وَشِدَّةَ الْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : إنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَقَطْ ، وَأَنْكَرَ أَنْ يُرَادَ بِالذَّوْدِ الْجَمْعُ , قَالَ : وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : خَمْسُ ذَوْدٍ ، كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : خَمْسُ ثَوْبٍ ، وَغَلَّطَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ [ لأن اللغات توقيفية ولا يدخلها القياس ] . وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ السِّجِسْتَانِيُّ : تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِي الْجَمْعِ فَقَالُوا : خَمْسُ ذَوْدٍ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ , كَمَا قَالُوا : ثَلَثُمِائَةٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الذَّوْدَ وَاحِدٌ فِي لَفْظِهِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَالْأَشْهَرُ مَا قَالَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ . قَوْلُهُ : { فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ } بِنْتُ الْمَخَاضِ بِفَتْحِ الْمِيمِ بَعْدَهَا خَاءٌ مُعْجَمَةٌ خَفِيفَةٌ وَآخِرُهُ ضَادٌ مُعْجَمَةٌ : هِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا حَوْلٌ وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِي وَحَمَلَتْ أُمُّهَا ، وَالْمَاخِضُ : الْحَامِلُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ وَقْتُ حَمْلِهَا وَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ إلَى الْخَمْسِ وَالثَّلَاثِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّ فِي الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ خَمْسَ شِيَاهٍ ، فَإِذَا صَارَتْ سِتًّا وَعِشْرِينَ كَانَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ } [ المصنف 3/122 وفيه عنعنة أبي إسحاق السبيعي ] وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا , قَالَ الْحَافِظُ : وَإِسْنَادُ الْمَرْفُوعِ ضَعِيفٌ .
قَوْلُهُ : ( فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ ) هُوَ الَّذِي دَخَلَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ ، وَصَارَتْ أُمُّهُ لَبُونًا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَقَوْلُهُ ذَكَرٌ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ ابْنُ لَبُونٍ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعُدُولِ إلَى ابْنِ اللَّبُونِ عِنْدَ عَدَمِ بِنْتِ الْمَخَاضِ . قَوْلُهُ : ( ابْنَةُ لَبُونٍ ) زَادَ الْبُخَارِيُّ " أُنْثَى " . قَوْلُهُ : ( حِقَّةٌ ) الْحِقَّةُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ ، وَالْجَمْعُ حِقَاقٌ بِالْكَسْرِ ، وَطَرُوقَةُ الْفَحْلِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ : أَيْ مَطْرُوقَةٌ كَحَلُوبَةٍ بِمَعْنَى مَحْلُوبَةٍ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا بَلَغَتْ أَنْ يَطْرُقَهَا الْفَحْلُ ، وَهِي الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ . قَوْلُهُ : ( فَفِيهَا جَذَعَةٌ ) الْجَذَعَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا أَرْبَعُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ . [ إذا أكملت خمسة ودخلت فى السادسة فهذه المسنة والتي تصلح فى الأضاحي ] . قَوْلُهُ : ( فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ) الْمُرَادُ أَنَّهُ يَجِبُ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ بِوَاحِدَةٍ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْمُجَاوَزَةِ بِدُونِ وَاحِدَةٍ كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبْعٍ خِلَافًا لِلْإِصْطَخْرِيِّ ( فهو يقول أي جزء زاد كنصف أو ربع يجب ثلاث بنات لبون , وهذا طبعًا يُتصور في حالة الناقة الشِّرك ) فَقَالَ : يَجِبُ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ بِزِيَادَةِ بَعْضِ وَاحِدَةٍ , وَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ [ فيه : فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائة ] فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ , وَمَا فِي كِتَابِ عُمَرَ الْآتِي بِلَفْظِ : " فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً " وَمِثْلُهُ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَإِلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ ذَهَبَ النَّاصِرُ وَالْهَادِي فِي الْأَحْكَامِ , حَكَى ذَلِكَ عَنْهُمَا الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ ، وَحَكَى فِي الْبَحْرِ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيِّ وَحَمَّادٍ وَالْهَادِي وَأَبِي طَالِبٍ وَالْمُؤَيَّدِ بِاَللَّهِ وَأَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ الْفَرِيضَةَ تُسْتَأْنَفُ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ ، فَيَجِبُ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ ثُمَّ كَذَلِكَ [ حكاه ابن قدامة عن ابن مسعود والنخعي والثوري وأبي حنيفة فهو مذهب عراقي - المغني 2/285 ] وَاحْتَجَّ لَهُمْ [ أي : صاحب البحر ] بِقَوْلِهِ  : " وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ " [ هو في كتاب عمرو بن حزم , وهو ضعيف منقطع - نصب الراية 2/404 , وراجع المحلى مسألة 674/6/40 ] وَهَذَا إنْ صَحَّ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ : أَعْنِي إيجَابَ بِنْتِ اللَّبُونِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ، وَالْحِقَّةِ فِي كُلِّ خَمْسِينَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ , لَا يُقَالُ : إنَّهُ لَا يُرَجَّحُ حَدِيثُ الِاسْتِئْنَافِ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ إلَى إيجَابِ شَاةٍ فِي كُلِّ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ عَلَى حَسَبِ التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ بِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِيجَابِ ، يَعْنِي إيجَابَ شَاةٍ مَثَلًا فِي الْخَمْسِ الزَّائِدَةِ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَحَدِيثُ الْبَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِسْقَاطِ [ يريدون أن يقولوا : إذا زاد على 120 ففي كل خمس شاة , والجمهور يقول : لا بل في كل خمسين حقه , وفي كل 40 بنت لبون , فهم يريدون أن يقولوا : إن فى 125 أنتم لا تعتدوا بالخمس الزائدة , والحديث يقول : في الزائد زكاة , والإثبات مقدم على النفي ولكن يجاب عليه بأمرين :
الأول : أن حديث عمرو بن حزم ضعيف منقطع .
والثاني : أنهم توهموا أن الكلام في الزيادة فقط , لكن الجمهور يقولون : عندما يزيد عن 120 , فالزكاة تتغير في الكل , وليست فى الزيادة فقط , أي : الزائد والمزيد عليه ] .
لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ وَهْمٌ نَاشِئٌ مِنْ قَوْلِهِ : " وَإِذَا زِدْت فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ " فَظَنَّ أَنَّ مَعْنَاهُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنْ الزِّيَادَةِ فَقَطْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ مَعْنَاهُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالْمَزِيدِ . وَحُكِيَ فِي الْفَتْحِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمَنْ مَعَهُمَا , وَقَيَّدَهُ فِي الْبَحْرِ بِأَنَّهُ يَقُولُ بِذَلِكَ إلَى مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ، ثُمَّ لَهُ فِيمَا زَادَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ وَكَالْمَذْهَبِ الثَّانِي .
قَوْلُهُ : ( وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ ...إلَخْ ) .
[ المُصَّدِّق : بتشديد الصاد مخرج الصدقة ، أصلها المتصدق , وأُدغمت التاء في الصاد . والمُصَدِّق بتخفيف الصاد : جامع الصدقة ( لسان العرب ) .
قال ابن حزم : إن الذي سيدفع الجبران , هو المخيَّر بين دفع شاتين أو عشرين درهمًا ( المحلى مسألة 674 6/18 .
قلت : وهذا ما يقتضيه العدل ] .
قَوْلُهُ : ( وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ ...إلَخْ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُصَدِّقِ قَبُولُ مَا هُوَ أَدْوَنَ ، وَيَأْخُذُ التَّفَاوُتَ مِنْ جِنْسٍ غَيْرِ جِنْسِ الْوَاجِبِ وَكَذَا الْعَكْسُ وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ فَضْلِ الْقِيمَةِ مِنْ الْمُصَدِّقِ أَوْ رَبِّ الْمَالِ ، [ يقولون مثلاً : إن وجبت عليه بنت لبون , وليس عنده إلا بنت مخاض , يُنظَرُ فرق الثمن بينهما ويدفعه . قلت : وهذا لا يصح ؛ لأن القيمة تختلف من مكان إلى مكان , والشرع قد وضع لها مقدارًا ثابتًا , وهذا مصادم للحديث ] وَيَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى التَّقْوِيمِ ، لَكِنْ أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُنْظَرْ إلَى مَا بَيْنَ السِّنِينَ فِي الْقِيمَةِ ، وَكَانَ الْعَرْضُ يَزِيدُ تَارَةً وَيَنْقُصُ أُخْرَى لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ ، فَلَمَّا قَدَّرَ الشَّارِعُ التَّفَاوُتَ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ , كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ فِي الْأَصْلِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ، وَلَوْلَا تَقْدِيرُ الشَّارِعِ بِذَلِكَ لَتَعَيَّنَتْ بِنْتُ الْمَخَاضِ مَثَلًا ، وَلَمْ يَجُزْ إنْ تَبَدَّلَ ابْنُ لَبُونٍ مَعَ التَّفَاوُتِ [ يقول : لو كانت المسألة راجعة إلى القيمة , لم يكن دفع ابن لبون عند عدم تيسر بنت مخاض ؛ لأن هناك فارق كبير في القيمة , والشرع لم يلتفت إلى ذلك ] وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إلَى الْقِيمَةِ فَقَطْ عِنْدَ التَّعَذُّرِ ( يعنى عند التعذر يرجع إلى القيمة ( عشرين درهماً ) وهذا أيضاً مصادم لأن النص شاتين أو عشرين درهماً ) ] وَذَهَبَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ إلَى أَنَّ الْفَضْلَ بَيْنَ كُلِّ سِتِّينَ شَاةً أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ( وهذا أيضًا مصادم للنص ) فكل هذه أقوال مطروحة .
قَوْلُهُ : ( إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا ) أَيْ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ مُتَبَرِّعًا . قَوْلُهُ : ( فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا شَاتَانِ ) قَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ أَقَلِّ الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ الْمُطْلَقَةِ , فَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : " فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ " وَقَدْ تَقَدَّمَ خِلَافُ الْإِصْطَخْرِيُّ فِي ذَلِكَ .
قَوْلُهُ : ( فَفِي كل مِائَةِ شَاةٍ ) مُقْتَضَاهُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ الشَّاةُ الرَّابِعَةُ حَتَّى تُوُفِّيَ أَرْبَعَمِائَةِ شَاةٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ , وَعَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ : إذَا زَادَتْ عَلَى الثَّلَثِمَائَةٍ وَاحِدَةٌ وَجَبَتْ الْأَرْبَعُ .
قال مقيده : هذا المذهب مردود بحديث ابن عمر الآتي , وفيه : فإذا زادت ففيها ثلاث شياة إلى ثلاثة مائة , فإذا زادت بعد فليس فيها شئ حتى تبلغ أربعمائة . وبه رجَّح ابن قدامة مذهب الجمهور , وردَّ هذه الرواية عن أحمد - المغني 2/592 ] .
قَوْلُهُ : ( هَرِمَةٌ ) بِفَتْحَةِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ : الْكَبِيرَةُ الَّتِي سَقَطَتْ أَسْنَانُهَا قَوْلُهُ : ( وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّهَا ، وَقِيلَ : بِالْفَتْحِ فَقَطْ : أَيْ مَعِيبَةٌ ، وَقِيلَ : بِالْفَتْحِ الْعَيْبُ ، وَبِالضَّمِّ : الْعَوَرُ . وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مَا ثَبَتَ بِهِ الرَّدُّ فِي الْبَيْعِ ، وَقِيلَ : مَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَعِيبِ الْمَرِيضُ , وَالذَّكَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُنْثَى , وَالصَّغِيرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى سِنٍّ أَكْبَرَ مِنْهُ قَوْلُهُ : ( وَلَا تَيْسٌ ) بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وَيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ : وَهُوَ فَحْلُ الْغَنَمِ . قَوْلُهُ : ( إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُصَدِّقُ ) [ إن قلنا : إن المقصود رب المال , فهذا بالإستثناء يكون راجع على التيس فقط ؛ لأنه إن عاد إلى الجميع فسوف يخرج الهرمة وذات العوار ؛ لأن التيس وإن كان أقل في القيمة من الأُنثى إلا أنه قد يحتاجه لينزوَ على الإناث . وإن قلنا : المقصود الساعي على الصدقة , يكون الاستثناء راجع إلى الكل , فيكون المعنى أن المُصَدِّق له أن يأخذ الهرمة إن تبيَّن له ذلك , كأن تكون الشياة كلها هرمة ] قَالَ فِي الْفَتْحِ : اُخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ ، يَعْنِي الْمُصَدِّقَ ، فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ بِالتَّشْدِيدِ ، وَالْمُرَادُ الْمَالِكُ , وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ , وَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ : لَا هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَيْبٍ أَصْلًا ، وَلَا يَأْخُذُ التَّيْسَ إلَّا بِرِضَا الْمَالِكِ لِكَوْنِهِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ ، فَفِي أَخْذِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ إضْرَارٌ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا فَالِاسْتِثْنَاءُ مُخْتَصٌّ بِالثَّالِثِ , وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَهُوَ السَّاعِي ، وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى التَّفْوِيضِ إلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ لِكَوْنِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْوَكِيلِ [ أي : عن الفقراء ] فَلَا يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ الْمَصْلَحَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْقَوَاعِدُ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى . قَوْلُهُ : ( وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ , وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ ) قَالَ فِي الْفَتْحِ : قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ : مَعْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ النَّفَرُ الثَّلَاثَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ شَاةً وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ , فَيَجْمَعُونَهَا حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ فِيهَا إلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ [ الإمام مالك جعل الخطاب موجه لرب المال ] ، أَوْ يَكُونُ لِلْخَلِيطَيْنِ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٌ [ هذان الخليطان إما أن يكونا اثنين وغنمهما مخلوط ببعضه , وإما أن تكون الخلطة خلطة جِوارٍ وهي أن تكون غنم كلاً من الشريكين معروفة وله علامة لكنهما يشتركان في المرعى والمبيت , أو تكون الخلطة خلطة شيوع وهي أن يكون للشريكين مائة غنم عن طريق الشراء أو الميراث ويجعلونهما مع بعضٍ بدون تمييز فيكون المِلك هنا على المشاع ] فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ ، فَيُفَرِّقُونَهَا حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ خِطَابٌ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ جِهَةٍ وَالسَّاعِي مِنْ جِهَةٍ ، فَأُمِرَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ لَا يُحْدِثَ شَيْئًا مِنْ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ ، فَرَبُّ الْمَالِ يَخْشَى أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ فَيَجْمَعَ أَوْ يُفَرِّقَ لِتَقِلَّ ، وَالسَّاعِي أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ فَيَجْمَعَ أَوْ يُفَرِّقَ لِتَكْثُرَ [ الشافعي جعل الخطاب موجه لرب المال من جهة , وللساعي على الصدقة من جهة أخرى ؛ لذلك قال النبي  لمعاذ : إيّاكَ وكرائم أموالهم ] ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ : " خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ " أَيْ خَشْيَةَ أَنْ تَكْثُرَ أَوْ تَقِلَّ ؛ فَلَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ لَمْ يَكُنِ الْحَمْلُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، فَحُمِلَ عَلَيْهِمَا مَعًا ، لَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْمَالِكِ أَظْهَرُ [ لأن المالك له مصلحة من ذلك , بينما الآخر وكيل ليس له مصلحة , وأيًّا كان فجامع الصدقة أيضًا ممنوع من فعل ذلك الأمر ] .
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ دُونَ النِّصَابِ مِنْ الْفِضَّةِ وَدُونَ النِّصَابِ مِنْ الذَّهَبِ مَثَلًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ ضَمُّ بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ حَتَّى يَصِيرَ نِصَابًا كَامِلًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِالضَّمِّ كَالْمَالِكِيَّةِ وَالْهَادَوِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ [ الحنفية والمالكية والهادوية قالوا : يجمع نصاب الذهب على نصاب الفضة . والزهري قال : إن النصاب يقدر بالفضة , والقولان مخالفان للجمهور ] وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ بِبَلَدٍ لَا تَبْلُغُ النِّصَابَ وَلَهُ بِبَلَدٍ آخَرَ مَا يُوَفِّيهِ مِنْهَا أَنَّهَا لَا تُضَمُّ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا : تُجْمَعُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ أَمْوَالُهُ وَلَوْ كَانَتْ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى وَيُخْرَجُ مِنْهَا الزَّكَاةُ وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى إبْطَالِ الْحِيلَةِ وَالْعَمَلِ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِالْقَرَائِنِ [ إبطال الحيل بأن يجمع بين مفترق أو يفرق بين مجتمع خشية الصدقة .
ملخص الخلافات التي وردت في الحديث :
(1) فمن سئلها من المسلمين ... فلا يعطه : إن طلبها بتأويل يعطيه ؛ لأن إرضاء المصدق من تمام الصدقة .
(2) فإذا بلغت خمسًا وعشرين ففيها ابنة مخاض : روى ابن أبي شيبة عن عليّ أن في الخمس والعشرين خمس شياة , ومن 25 : 35 بنت مخاض . وهو ضعيف .
(3) فإذا زادت على عشرين ومائة : الإصطرخى قال : الزيادة تكون بأى جزء ربع و نصف ، وقال الجمهور : الزيادة بواحدة كاملة لما رواه ابن عمر ( فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ) .
(4) ففى كل أربعين بنت لبون وفى كل خمسين حقه : ذهب أبو حنيفة – ابن مسعود – النخعي والثوري إلى أن الفريضة تستأنف لكل خمس ذود شاة , والراجح مذهب الجمهور أن كل أربعين من الزيادة والمزيد .
(5) فمن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده جذعة ... ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا : الهادوية قالوا : الواجب فضل القيمة , ورده الجمهور بأنه مخالف للنص , وأن القيمة تختلف من مكان إلى آخر , والشرع قد عيَّن مقدارًا معين لا يزيد ولا ينقص . وذهب أبو حنيفة الى أنه يرجع إلى القيمة فقط , وهي عشرين درهمًا وهو أيضًا مصادم للنص ، وذهب زيد بن على إلى أن الواجب شاة واحدة أو عشرة دراهم , وكل هذا مردود بالنص شاتين أو عشرين درهمًا .
(6) ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين : الخيار هنا للذي يدفع إذا كان رب المال عنده سن أقل من المطلوب , فهو الذى سيدفع فيكون مخيرًا بين العشرين درهمًا والشاتين , وكذلك إن كان المصدق هو الذى سيدفع يكون مخيرًا .
(7) وفي صدقة الغنم في سائمتها : ابن حزم ومالك قالا : الزكاة تكون في السائمة والمعلوفة , واعتبروا أن السائمة أحد أفراد العموم . أما الجمهور فقالوا : الزكاة تكون في السائمة فقط .
(8) فإذا زادت ففي كل مائة شاة : الإصطرخى قال : أي زيادة , لكن حديث عمر أنها ليس فيها شئ إلى أربعمائة .
(9) إلا أن يشاء المصدق : الأكثر على أن المصدق رب المال , والاستثناء يرجع على التيس فقط , والبعض قالوا : المقصود الجامع للصدقة , وبهذا يعود الاستثناء إلى الجميع .
(10) ولا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة : مالك قال : الخطاب بوجه عام لرب المال ,والشافعي قال : للساعى ورب المال ] .
قَوْلُهُ : ( وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطٍ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ ) قَالَ فِي الْفَتْحِ : اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْخَلِيطَيْنِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّهُمَا الشَّرِيكَانِ ، قَالَ : وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ إلَّا مِثْلُ الَّذِي كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْطٌ [ لو رجل عنده 30 شاة , والآخر عنده 20 شاة , لو خلط تصبح 50 شاة , تجب فيها شاة واحدة على مذهب الجمهور ، وعند أبي حنيفة : ليس عليها شئ فلا يجب عليه بعد الخلطة إلا ما كان يجب عليه قبل الخلطة , والخلطة لا أثر لها أصلاً , وهو المعتمد وهو مذهب ابن حزم ومالك كما سيأتي ] وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَفْرِيقُهَا مِثْلَ جَمْعِهَا فِي الْحُكْمِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْحَدِيثِ ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ أَمْرٍ لَوْ فَعَلَهُ كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ ، وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَمْ يَكُنْ لِتَرَاجُعِ الْخَلِيطَيْنِ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ مَعْنًى , وَمِثْلُ تَفْسِيرِ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سُفْيَانَ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ [ وهو مذهب ابن حزم - المحلى مسألة (681) (6/51) والمعنى على ما قاله أبو حنيفة ومَن وافقه أنه إن كان مَشاعًا لا يؤمر الشريكان بالقسمة وإنما يأخذ الساعي ما يجب على كل واحد منهما من غير تمييز , ثم يتراجع الشريكان بينهما بالسوية ] [ أحمد والشافعي قالوا : بالخلطين تتغير أحكام الزكاة , والخلطة عندهم في المرعى – الفحل الذى ينزو عليها – وما إلى ذلك . وأقل شئ الاحتمال , والواجب لا يستقر في الذمة بالاحتمال , والفائدة عند أبي حنيفة من الخلطة أن الساعي لا يلزم التفريق بين الخلطة لأخذ الزكاة وإنما يأخذ من أي شئ ثم يتراجع الشريكان بينهما بالسوية أي بالنسبة , أما أن تقول : إن الزكاة تزيد على شئ لا يملكه , فلا , أي بمجرد أن يختلط بماشية إنسان آخر تزيد الزكاة , هذا غير راجح لأي مذهب الشافعي وأحمد فالخليط لا يغير فى الزكاة , وما ذهبوا إليه من شروط ليس عليه دليل ] وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ إذَا بَلَغَتْ مَاشِيَتُهُمَا النِّصَابَ زَكَّيَا ، وَالْخَلْطُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْمَسْرَحِ [ أي : المرعى ] وَالْمَبِيتِ وَالْحَوْضِ وَالْفَحْلِ ، وَالشَّرِكَةُ أَخَصُّ مِنْهُمَا [ أي أن الشركة لا يشترط لها كل هذه الشروط ] وَمِثْلُ ذَلِكَ رَوَى سُفْيَانُ فِي جَامِعِهِ عَنْ عُمَرَ ، وَالْمَصِيرُ إلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مُتَعَيِّنٌ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلِيطَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا قَوْله تَعَالَى :  وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ  ، وَقَدْ بَيَّنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ :  إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً  ، وَاعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَوْ أَرَادُوا أَنَّ الْأَصْلَ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ } وَحُكْمُ الْخَلِيطِ يُخَالِفُهُ يَرُدُّهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مَعَ الِانْفِرَادِ وَعَدَمِ الْخُلْطَةِ ، لَا إذَا انْضَمَّ مَا دُونَ الْخَمْسِ إلَى عَدَدِ الْخَلِيطِ يَكُونُ بِهِ الْجَمِيعُ نِصَابًا فَإِنَّهُ يَجِبُ تَزْكِيَةُ الْجَمِيعِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَمَا وَرَدَ مَعْنَاهُ [ أين هذا الحديث ؟ هل قوله : وما كان من خليطتين ... بالسوية , هل هذه العبارة توجب زكاة ؟ وما الذي ورد في معناه ؟ لم يرد شيء في معناه , ووقد تقصينا ؛ المغني وهو كتاب فروعي لم نجد فيه . على كل حال فإن هذه المسألة : وما كان من خليطين ... بالسوية , أبو حنيفة ومالك وسفيان وابن حزم قالوا :فيها أن الخلطة لا توجب شيئًا , وناس قالوا : الخلطة تغيّر من الزكاة , واحتجوا بهذه العبارة , وهُم أحمد والشافعي وكثير من أصحاب الحديث ] ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بِهَذَا وَمَعْنَى التَّرَاجُعِ قَالَ الْخَطَّابِيِّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً مَثَلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرُونَ قَدْ عَرَفَ مِنْهُمَا عَيْنَ مَالِهِ ، فَيَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ شَاةً فَيَرْجِعُ الْمَأْخُوذُ مِنْ مَالِهِ عَلَى خَلِيطِهِ بِقِيمَةِ نِصْفِ شَاةٍ وَهِيَ تُسَمَّى خَلْطَ الْجِوَارِ . [ خلطة الجوار هي ما كانت ماشية كل من الخلطاء متميزة , ولكنها متجاورة , مختلطة في المراعي والمسرح ... إلى آخره . وخلطة الشيوع هي ما كان مالاً مشتركًا ومشاعًا بين الشركاء – فقه السنة 1/371 ] .
قَوْلُهُ : ( وَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً ) لَفْظُ الشَّاةِ الْأَوَّلِ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مُمَيِّزُ عَدَدِ أَرْبَعِينَ ، وَلَفْظُ الشَّاةِ الثَّانِي مَنْصُوبٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ مُمَيِّزُ نِسْبَةٍ نَاقِصَةٍ إلَى السَّائِمَةِ .
قَوْلُهُ : ( وَفِي الرِّقَةِ ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ : هِيَ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَضْرُوبَةً أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ . قَالَ الْحَافِظُ : قِيلَ : أَصْلُهَا الْوَرِقُ فَحُذِفَتْ الْوَاوُ وَعُوِّضَتْ الْهَاءُ ، وَقِيلَ : تُطْلَقُ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِخِلَافِ الْوَرِقِ ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ : إنَّ الْأَصْلَ فِي زَكَاةِ النَّقْدَيْنِ نِصَابُ الْفِضَّةِ ، فَإِذَا بَلَغَ الذَّهَبُ مَا قِيمَتُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فِضَّةً خَالِصَةً وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهِيَ رُبْعُ الْعُشْرِ . وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ، وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ فِي بَابِ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
1535 - ( وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  قَدْ كَتَبَ الصَّدَقَةَ وَلَمْ يُخْرِجْهَا إلَى عُمَّالِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ ، قَالَ : فَأَخْرَجَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنْ بَعْدِهِ فَعَمِلَ بِهَا حَتَّى تُوُفِّيَ ؛ ثُمَّ أَخْرَجَهَا عُمَرُ مِنْ بَعْدِهِ فَعَمِلَ بِهَا ، قَالَ : فَلَقَدْ هَلَكَ عُمَرُ يَوْمَ هَلَكَ وَإِنَّ ذَلِكَ لَمَقْرُونٌ بِوَصِيَّتِهِ ، قَالَ : فَكَانَ فِيهَا فِي الْإِبِلِ فِي خَمْسٍ شاة حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ؛ فَإِذَا بَلَغَتْ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا حِقَّةٌ إلَى سِتِّينَ ؛ فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ ؛ فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ ؛ فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ ؛ فَإِذَا كَثُرَتْ الْإِبِلُ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ . وَفِي الْغَنَمِ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ . فَإِذَا زَادَتْ شَاةٌ فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ ، فَإِذَا زَادَتْ بَعْدُ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةٍ [ فيه رد على بعض الحنفية وأحمد في رواية عنه , وبهذا الحديث ردَّ عليهما ابن قدامة ] ، فَإِذَا كَثُرَتْ الْغَنَمُ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ ، وَكَذَلِكَ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ مَخَافَةَ الصَّدَقَةِ ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ لَا تُؤْخَذُ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَيْبٍ مِنْ الْغَنَمِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ . صحيح أبي داود 1400 – 5/287 .
وَفِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ مُرْسَلًا : { فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ [ فيه رد على الإصطخري ] حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً ، فَإِذَا كَانَتْ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ وَمِائَةً . فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةً ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَخَمْسِينَ وَمِائَةً فَإِذَا كَانَتْ سِتِّينَ وَمِائَةً فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَسِتِّينَ وَمِائَةً ، فَإِذَا كَانَتْ سَبْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَسَبْعِينَ وَمِائَةً ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَمَانِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَابْنَتَا لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَثَمَانِينَ وَمِائَةً ، فَإِذَا كَانَتْ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَابْنَةُ لَبُونٍ حَتَّى تَبْلُغَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ وَمِائَةً ، فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ أَيُّ السِّنِينِ وُجِدَتْ أُخِذَتْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ) ( قال الألباني : وإسناده صحيح عندي ( وهو كذلك ) لأن ابن شهاب قرأ الكتاب من نسخة سالم بن ابن عمر , وهذه رواية بالوجادة وهي حجة فلا يضرها من أعلَّها بالإرسال – صحيح أبي داود 1402 5/289 ) الْحَدِيثُ أَخْرَجَ الْمَرْفُوعَ مِنْهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ ، وَيُقَالُ : تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي الزُّهْرِيِّ خَاصَّةً ( قال الألباني : لكنه توبع , وأشار البخاري إلى تقويته كما ذكرت في الإرواء ( 792 ) وتشهد له رواية الزهري الآتية بعد هذه الرواية – صحيح أبي داود 5/288 [ أُعِلَّ بأن سفيان بن حسين هو الراوي عن الزهري وهو ضعيف في الزهري مثل هشيم ضعيف فى الزهري رغم أنه من رجال البخاري ] ، وَالْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ لَا يَصِلُونَهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : هَذِهِ نُسْخَةُ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ  الَّذِي كَتَبَ فِي الصَّدَقَةِ وَعِنْدَ آلِ عُمَرَ [ هذا إسناد مستقيم وغاية مافيه أنهم يقولون أنه مرسل ؛ لأنه قال : هذه نسخة كتاب رسول الله  - لكن عندما نراجع الحديث في سنن أبي داود نجد أن سالم بن عبد الله بن عمر أخرج له هذه النسخة عن أبيه ابن عمر , وهذه وجادة صحيحة ] قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا وَهِيَ الَّتِي انْتَسَخَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَسَالِمٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : تَابَعَ سُفْيَانَ بْنَ حُسَيْنٍ عَلَى وَصْلِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِهِ ، وَلَكِنَّهُ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ : لَيِّنٌ فِي الزُّهْرِيِّ , وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إخْرَاجِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ , وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ [ هذا لا يرد العلة ؛ لأنهم قالوا : إنه ضعيف في الزهري خاصة ] قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ : سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ : أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا [ وهذه معنى عبارة الشيخ الألباني : وأشار البخاري إلى تقويت ] وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ صَدُوقٌ انْتَهَى . وَضَعَّفَ ابْنُ مَعِينٍ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ : تَفَرَّدَ بِهِ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ ، وَلَمْ يُتَابِعْ سُفْيَانَ أَحَدٌ عَلَيْهِ ، وَسُفْيَانُ ثِقَةٌ دَخَلَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ خُرَاسَانَ وَأَخَذُوا عَنْهُ . وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " إنَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسَ شِيَاهٍ " وَضَعَّفَهَا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ مِنْ بَعْضِ حَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ .
قَوْلُهُ : ( فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ ) الْحِقَّةُ عَنْ الْخَمْسِينَ وَبِنْتَا اللَّبُونِ عَنْ ثَمَانِينَ ، وَكَذَلِكَ إذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ عَنْ مِائَةٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ عَنْ أَرْبَعِينَ , وَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ عَنْ خَمْسِينَ حِقَّةً ، وَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَسِتِّينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ عَنْ أَرْبَعِينَ وَاحِدَةً ؛ وَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَسَبْعِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ عَنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَحِقَّةٌ عَنْ خَمْسِينَ ؛ وَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَثَمَانِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ عَنْ مِائَةٍ وَابْنَتَا لَبُونٍ عَنْ ثَمَانِينَ . وَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَتِسْعِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ عَنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَبِنْتُ لَبُونٍ عَنْ أَرْبَعِينَ ، وَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ عَنْ كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ عَنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ وَاحِدَةٌ " وَهَذَا لَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ : " فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " مَعْنَاهُ مِثْلُ هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إلَّا أَنَّهُ مُجْمَلٌ [ يعني : من حديث أنس ] وَهَذَا مُفَصَّلٌ ، وَزَادَ أَبُو دَاوُد فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ : " وَلَا ذَاتُ عَيْبٍ " فَقَالَ : وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : إذَا جَاءَ الْمُصَدِّقُ قُسِّمَتْ الشِّيَاهُ أَثْلَاثًا : ثُلُثًا شِرَارًا ، وَثُلُثًا خِيَارًا ، وَثُلُثًا وَسَطًا ، فَيَأْخُذُ مِنْ الْوَسَطِ [ وهي زيادة صحيحة تابعة للمصدر السابق ] .
زكاة البقــــر :
مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ (30) تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً .
وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ (40) مُسِنَّةً .
1536 - ( وَعَنْ { مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ  إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً ، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ [ أي : مَن بلغ الحلم من أهل الذمة ] دِينَارًا [ يعني : جزية ] أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ [ نوع من الثياب ]( ) } قال الألباني : قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين , ووافقه الذهبي , وهو كما قالا , وصححه ابن عبد البر - الإرواء 3/269 وراجع نصب الراية فقد ثبَّتَ رواية ابن مسروق عن معاذ 2/407 وصححه ابن حزم , وقال بموجبه كما سيأتي - المحلى 6/16 مسألة ( 673) رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَلَيْسَ لِابْنِ مَاجَهْ فِيهِ حُكْمُ الْحَالِمِ ) .
1537 - ( وَعَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ { أَنَّ مُعَاذًا قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ  أُصَدِّقُ أَهْلَ الْيَمَنِ ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا ، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً ، فَعَرَضُوا عَلَيَّ أَنْ آخُذَ مَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ ، وَمَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ . وَمَا بَيْنَ الثَّمَانِينَ وَالتِّسْعِينَ ، فَقَدِمْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ  [ هذه علة في الحديث ؛ لأن معاذًا عندما ذب إلى اليمن لم يقدم إلا بعد وفاة النبي  ] فَأَمَرَنِي أَنْ لَا آخُذَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ ، وَزَعَمَ أَنَّ الْأَوْقَاصَ لَا فَرِيضَةَ فِيهَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ ) .
[ الحديث سنده ضعيف لانقطاعه بين يحى بن الحكم ومعاذ , ثم هو غير معروف الحال , ولا الراوي عنه ( سلمة ) ... ثم قال الألباني : صحيح وصححه بشواهده . قال مقيده : نحن لسنا في حاجة إلى هذا الكلام , فالحديث ضعيف - الإرواء 3/271 .
الشَّرْحُ
الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ , وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِمُ , وَصَحَّحَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ مُعَاذٍ , وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مُعَاذٍ ، وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ الرِّوَايَةَ الْمُرْسَلَةَ ، وَيُقَالُ : إنَّ مَسْرُوقًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ ، وَقَدْ بَالَغَ ابْنُ حَزْمٍ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ [ الذي في آخر مسألة 673 من المحلى قول ابن حزم : ثم استدركنا فوجدنا حديث مسروق إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر وهو بلا شك قد أدرك معاذًا وشهد حكمه وعمله المشهور المنتشر فصار نقله لذلك – ولأنه عن عهد رسول الله  – نقلاً عن الكافة عن معاذ بلا شك , فوجب القول به - المحلى 6/16 ] وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : هُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ لِحَدِيثِهِ بِالِاتِّصَالِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ : إسْنَادُهُ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ . وَوَهِمَ عَبْدُ الْحَقِّ فَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَسْرُوقٌ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا , وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ أَبَا عُمَرَ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ رِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ قَيْسٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ مُعَاذٍ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : طَاوُسٌ عَالِمٌ بِأَمْرِ مُعَاذٍ وَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ لِكَثْرَةِ مَنْ لَقِيَهُ مِمَّنْ أَدْرَكَ مُعَاذًا ، وَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَمُ مِنْ أَحَدٍ فِيهِ خِلَافًا انْتَهَى . قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ : وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ : { لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ  مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً جَذَعًا أَوْ جَذَعَةً( ) } الْحَدِيثَ لَكِنَّهُ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ الْمَذْكُورَةُ عَنْ مُعَاذٍ أَخْرَجَهَا أَيْضًا الْبَزَّارُ ، وَفِي إسْنَادِهَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ ذِكْرُهُ فِيهَا لِقُدُومِ مُعَاذٍ عَلَى النَّبِيِّ  وَلَمْ يَقْدَمْ إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ , وَقَدْ أَخْرَجَ نَحْوَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنْ مُعَاذٍ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَنَّ مُعَاذًا قَدِمَ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ  بَلْ صَرَّحَ فِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ  مَاتَ قَبْلَ قُدُومِهِ . وَحَكَى الْحَافِظُ [ يعني : ابن حجر ] عَنْ عَبْدِ الْحَقِّ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ : يَعْنِي فِي النُّصُبِ [ جمع نصاب ] وَحَكَى أَيْضًا عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : صَحَّ الْإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ الْمَقْطُوعُ بِهِ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّ فِي كُلِّ خَمْسِينَ بَقَرَةً بَقَرَةً فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهَذَا . وَمَا دُونَ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلَا نَصَّ فِي إيجَابِهِ , وَتَعَقَّبَهُ صَاحِبُ الْإِمَامِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الطَّوِيلِ فِي الدِّيَاتِ وَغَيْرِهَا ، فَإِنَّ فِيهِ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ بَاقُورَةً( ) تَبِيعًا جَذَعًا أَوْ جَذَعَةً ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَاقُورَةً بَقَرَةٌ [ هذا موافق لنص حديث معاذ ] وَحَكَى أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الِاسْتِذْكَارِ : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ السُّنَّةَ فِي زكاة الْبَقَرِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ ، وَأَنَّهُ النِّصَابُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فِيهِ انْتَهَى . [ الكلام فيه تفاوت ؛ فعبد الحق قال : ليس هنا حديث متفق على صحته في النصاب , والطبري قال : هناك إجماع على أن الخمسين فيها بقرة وما دونها مختلف فيه , وابن عبد البر اعتمد حديث معاذ وهذا هو الصواب ] قَوْلُهُ : ( مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِينَ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَالْفُقَهَاءُ وَحَكَى فِي الْبَحْرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهَا تَجِبُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْهَا كَالْإِبِلِ ، وَرَدَّهُ بِأَنَّ النُّصُبَ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ , وَإِنْ سَلِمَ فَالنَّصُّ مَانِعٌ . قَوْلُهُ : ( تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً ) التَّبِيعُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَالنِّهَايَةِ : مَا كَانَ فِي أَوَّلِ سَنَةٍ ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ " جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ " [ قال ابن قدامة : التبيع الذي له سنة ودخل في الثانية , وقيل له ذلك لأنه يتبع أُمه , والمسنة التى لها سنتان وهي الثنية - المغني 2/592 ] .
قَوْلُهُ : ( مُسِنَّةً ) حَكَى فِي النِّهَايَةِ عَنْ الْأَزْهَرِيِّ أَنَّ الْبَقَرَةَ وَالشَّاةَ يَقَعُ عَلَيْهِمَا اسْمُ الْمُسِنِّ إذَا كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ [ لا , بل أتم السنة الثانية ] ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْمُسِنَّةِ فِي الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْمُسِنُّ ، وَلَكِنَّهُ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا : { وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ أَوْ مُسِنٌّ } قال الهيثمي فى مَجْمَعِ الزوائد ( 3 / 78 ) : رواه الطبراني في الكبير , فيه ليث بن أبي سليم وهو ثقة لكنه مدلس ، وقال الألباني : ضعيف – ضعيف الجامع ( 4905 ) والسلسلة الضعيفة ( 4382 ) إذًا مسن لا يثبت ] .
قَوْلُهُ : { وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا } فَسَّرَهُ أَبُو دَاوُد بِالْمُحْتَلِمِ . وَالْمُرَادُ بِهِ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ قَوْلُهُ : ( مَعَافِرَ ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ : حَيٌّ مِنْ هَمْدَانَ لَا يَنْصَرِفُ لِمَا فِيهِ مِنْ صِيغَةِ مُنْتَهَى الْجُمُوعِ ، وَإِلَيْهِمْ تُنْسَبُ الثِّيَابُ الْمَعَافِرِيَّةُ ، وَالْمُرَادُ هُنَا : الثِّيَابُ الْمَعَافِرِيَّةُ ، كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ أَبُو دَاوُد .
قَوْلُهُ : ( إنَّ الْأَوْقَاصَ ...إلَخْ ) جَمْعُ وَقَصٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْقَافِ ، وَيَجُوزُ إسْكَانُهَا وَإِبْدَالُ الصَّادِ سِينًا : وَهُوَ مَا بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَاسْتَعْمَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ الْأَوَّلِ وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ فِي الْبَقَرِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ أَوْجَبَ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَالسِّتِّينَ رُبْعَ مُسِنَّةٍ ، وَرُوِيَ عَنْهُ وَهُوَ الْمُصَحِّحُ لَهُ أَنَّهُ يَجِبُ قِسْطُهُ مِنْ الْمُسِنَّةِ . [ وهذا كلام لا دليل عليه , وكأن المجد بن تيمية أورد الرواية الثانية للرد على أبي حنيفة ] .
1538 - ( وَعَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ : سِعْرٌ عَنْ مُصَدِّقِي رَسُولِ اللَّهِ  أَنَّهُمَا قَالَا : { نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ  أَنْ نَأْخُذَ شَافِعًا ، وَالشَّافِعُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا وَلَدُهَا } ) . [ ضعيف – الإرواء ( 796 3/271) , وضعفه محققوا المسند (15426, 15427 24/153) , وفي إسناده مسلم بن شعبة , قال الذهبي : لا يعرف ] .
1539 - ( وَعَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ : { أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ  فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : إنَّ فِي عَهْدِي أَنَّا لَا نَأْخُذُ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ ، وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ ، وَلَا نَجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ كَوْمَاءَ [ عظيمة السَّنام وهي ناقة جيدة جدًا ] فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا } رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ ) . [ حسن - صحيح أبي داود 1409 5/298 ] .
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ وَسَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ وَالْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ وَرِجَالُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ [ كلا ؛ في إسناده مسلم بن شعبة , قال الذهبي : لا يعرف ] .
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي أَخْرَجَهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ ، وَفِي إسْنَادِهِ هِلَالُ بْنُ خَبَّابُ ، وَقَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ [ لذلك قال : حسن , ولم يقل صحيح ؛ لأنه قد وثقه البعض وضعفه البعض ] .
قَوْلُهُ : ( يُقَالُ لَهُ سِعْرٌ ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ رَاءٌ كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَمُخْتَصَرِ الْمُنْذِرِيِّ [ مختصر الترمذي لسنن أبي داود ] وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ , وَهُوَ ابْنُ دَيْسَمٍ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْكِنَانِيُّ الدِّيلِيُّ ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ جَابِرٌ هَذَا الْحَدِيثَ . وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً ، وَقِيلَ : كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ  عَلَى مَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ . قَوْلُهُ : ( مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ الصِّغَارِ الَّتِي تَرْضَعُ اللَّبَنَ ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً أَوْ مُنْضَمَّةً إلَى الْكِبَارِ ، وَمَنْ أَوْجَبَهَا فِيهَا عَارَضَ هَذَا بِمَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : لِسَاعِيهِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ : اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ الَّتِي يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي عَلَى يَدِهِ وَلَا تَأْخُذْهَا كَمَا سَيَأْتِي ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ ، وَالْحَقُّ خِلَافُهُ [ أي أن الصحيح أن السَّخلة لا تدخل في العدد بدليل حديث سويد بن غفلة ] .
قَوْلُهُ : ( كَوْمَاءَ ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْوَاوِ : هِيَ النَّاقَةُ الْعَظِيمَةُ السَّنَامِ وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ خِيَارِ الْمَاشِيَةِ , وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ  لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ } وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ { وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ } .
1540 - ( وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْغَاضِرِيِّ مِنْ غَاضِرَةِ قَيْسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ : مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ رَافِدَةً عَلَيْهِ كُلَّ عَامٍ ، وَلَا يُعْطِي الْهَرِمَةَ وَلَا الدَّرِنَةَ وَلَا الْمَرِيضَةَ وَلَا الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ ، وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ .وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ( ) } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد [ صحيح أبي داود (1410 ) ] الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ وَجَوَّدَ إسْنَادَهُ ، وَسِيَاقُهُ أَتَمُّ سَنَدًا وَمَتْنًا , وَذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ مُسْنَدًا ، وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا لَهُ صُحْبَةٌ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي أَهْلِ حِمْصَ ، قِيلَ : إنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْ النَّبِيِّ  إلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا ؛ وَالْغَاضِرِيُّ بِالْغَيْنِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَتَيْنِ قَوْلُهُ : ( رَافِدَةً ) الرَّافِدَةُ : الْمُعِينَةُ وَالْمُعْطِيَةُ . [ معينة له على إخراج الزكاة كل عام ] وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ : أَيْ مُعِينَةٌ لَهُ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ .
قَوْلُهُ : ( وَلَا الدَّرِنَةَ ) بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مُشَدَّدَةً بَعْدَهَا رَاءٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ نُونٌ وَهِيَ الْجَرْبَاءُ ، قَالَهُ الْخَطَّابِيِّ وَأَصْلُ الدَّرَنِ : الْوَسَخُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ ومنه حديث أبي هريرة  في الصحيحين : أريتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه في كل يوم خمس مرات , هل يبقي من درنه شئ ؟ قالوا : لا يا رسول الله . قال : فكذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهنَّ الخطايا .
قَوْلُهُ : ( وَلَا الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ ) الشَّرَطُ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هِيَ صِغَارُ الْمَالِ وَشِرَارُهُ وَاللَّئِيمَةُ : الْبَخِيلَةُ بِاللَّبَنِ . قَوْلُهُ : ( وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ...إلَخْ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ أَوْسَاطِ الْمَالِ لَا مِنْ شِرَارِهِ وَلَا مِنْ خِيَارِهِ .
1541 - ( وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ  مُصَدِّقًا ، فَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ فَلَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إلَّا ابْنَةَ مَخَاضٍ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّهَا صَدَقَتُهُ ، فَقَالَ : ذَاكَ مَا لَا لَبَنَ فِيهِ وَلَا ظَهْرَ وَمَا كُنْتُ لِأُقْرِضَ اللَّهَ مَا لَا لَبَنَ فِيهِ وَلَا ظَهْرَ ، وَلَكِنْ هَذِهِ نَاقَةٌ سَمِينَةٌ فَخُذْهَا . فَقُلْتُ : مَا أَنَا بِآخِذٍ مَا لَمْ أُومَرْ بِهِ ، فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ  مِنْك قَرِيبٌ , فَخَرَجَ مَعِي وَخَرَجَ بِالنَّاقَةِ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ  فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : ذَاكَ الَّذِي عَلَيْكَ ، وَإِنْ تَطَوَّعْتَ بِخَيْرٍ قَبِلْنَاهُ مِنْك ، وَآجَرَكَ اللَّهُ فِيهِ ، قَالَ : فَخُذْهَا ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ  بِقَبْضِهَا وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ ) [ حسن صحيح أبي داود ( 1411 ) جـ 5 س 381 وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي ] الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد بِأَتَمَّ مِمَّا هُنَا وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ .وَفِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَخِلَافُ الْأَئِمَّةِ فِي حَدِيثِهِ مَشْهُورٌ إذَا عَنْعَنَ ، وَهُوَ هُنَا قَدْ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ . قَوْلُهُ : ( وَلَا ظَهْرَ ) يَعْنِي أَنَّ بِنْتَ الْمَخَاضِ لَيْسَتْ ذَاتَ لَبَنٍ وَلَا صَالِحَةً لِلرُّكُوبِ عَلَيْهَا . قَوْلُهُ : ( وَلَكِنْ هَذِهِ نَاقَةٌ سَمِينَةٌ ) لَفْظُ أَبِي دَاوُد : " وَلَكِنْ هَذِهِ نَاقَةٌ فَتِيَّةٌ عَظِيمَةٌ سَمِينَةٌ " قَوْلُهُ : ( مِنْك قَرِيبٌ ) زَادَ أَبُو دَاوُد { فَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ تَأْتِيَهُ فَتَعْرِضَ عَلَيْهِ مَا عَرَضْتَ عَلَيَّ فَافْعَلْ فَإِنْ قَبِلَهُ مِنْك قَبِلْتُهُ ، وَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْكَ رَدَدْتُهُ ، قَالَ : فَإِنِّي فَاعِلٌ ، فَخَرَجَ مَعِي بِالنَّاقَةِ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيَّ } ... إلَخْ قَوْلُهُ : ( فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ) لَفْظُ أَبِي دَاوُد { فَقَالَ لَهُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتَانِي رَسُولُكَ لِيَأْخُذَ مِنِّي صَدَقَةَ مَالِي ، وَاَيْمُ اللَّهِ مَا قَامَ فِي مَالِي رَسُولُ اللَّهِ  وَلَا رَسُولُهُ قَطُّ قَبْلَهُ ، فَجَمَعْت مَالِي فَزَعَمَ أَنَّ مَا عَلَيَّ فِيهِ إلَّا ابْنَةُ مَخَاضٍ } ثُمَّ ذَكَر نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ سِنٍّ أَفْضَلَ مِنْ السِّنِّ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ إذَا رَضِيَ بِذَلِكَ ، وَهُوَ مِمَّا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
1542 - ( وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ  أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ  قَالَ : تَعَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَحْمِلُهَا الرَّاعِي وَلَا تَأْخُذْهَا الْأَكُولَةَ وَلَا الرُّبَّى وَلَا الْمَاخِضَ وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ ، وَتَأْخُذُ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالَ وَخِيَارِهِ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ( ) ) الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ . [ ورواه ابن حزم في المحلى 5/276 من طريق أيوب عن عكرمة بن خالد عن سفيان نحوه , وضعفه بعكرمة بن خالد , وأخطأ في ذلك ؛ لأنه ظنه الضعيف , ولم يُرِدِ الضعيف هذا , إنما هو عكرمة بن خالد الثقة الثبت ] وَأَغْرَبَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فَرَوَاهُ مَرْفُوعًا [ قاله الحافظ - التلخيص الحبير (817) 2/347 ] . قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ النَّهَّاسِ بْنِ قَهْمٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ : { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ  سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الصَّدَقَةِ } الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ أَيْضًا أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيُّ " أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ مُصَدِّقًا " فَذَكَرَ نَحْوَهُ .
قَوْلُهُ : ( تَعُدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الصِّغَارِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَرْفُوعِ مِنْ حَدِيثِ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ مَا يُخَالِفُهُ . قَوْلُهُ : ( الْأَكُولَةَ ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْكَافِ : الْعَاقِرُ مِنْ الشِّيَاهِ [ العاقر لا تحمل فلذلك تسمن ] ، وَالشَّاةُ تُعْزَلُ لِلْأَكْلِ هَكَذَا فِي الْقَامُوسِ ؛ وَأَمَّا الْأُكُولَةُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْكَافِ فَهِيَ قَبِيحَةُ الْمَأْكُولِ , وَلَيْسَتْ مُرَادَةً هُنَا ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي تَعْدَادِ الْخِيَارِ . قَوْلُهُ : ( وَلَا الرُّبَّى ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ : الشَّاةُ الَّتِي تُرَبَّى فِي الْبَيْت لِلَبَنِهَا . قَوْلُهُ : ( وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ ) إنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ أَخْذِهِ مَعَ كَوْنِهِ لَا يُعَدُّ مِنْ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِيَنْزُوَ عَلَى الْغَنَمِ . قَوْلُهُ : ( وَتَأْخُذُ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ ) الْمُرَادُ الْجَذَعَةُ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيَّةُ مِنْ الْمَعْزِ , وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ الْمُصَدِّقَ قَالَ : { إنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ مِنْ الضَّأْنِ وَالثَّنِيَّةِ مِنْ الْمَعْزِ } . الجذعة من الضأن الجمهور على أنها أتمت سنة وشرعت في الثانية , وقال أحمد : هي التى أتمت 6 أشهر , والثنية هي التي أتمت سنتان ودخلت في الثالثة ] . قَوْلُهُ : ( بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالِ ) الْغِذَاءُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ جَمْعُ غِذًى كَغِنًى السِّخَالُ [ وذلك عدل بين : الهرمة – ذات الهدار – الدرنة – المريضة – الشرط – اللئيمة – وبين الخيار , وهي : الأكولة – الربى – الماخض – فحل الغنم ] .
وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْأَثَرِ عَلَى أَنَّ الْمَاشِيَةَ الَّتِي تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ هِيَ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الْخِيَارِ وَالشِّرَارِ وَفِي الْمَرْفُوعِ النَّهْيُ عَنْ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ ، وَعَنْ الْمَعِيبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَعُمَرَ ، وَالْأَمْرُ بِأَخْذِ الْوَسَطِ كما تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْغَاضِرِيِّ .
بَابُ : لَا زَكَاةَ فِي الرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ وَالْحُمُرِ
1543 - ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ . وَلِأَبِي دَاوُد { لَيْسَ فِي الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ زَكَاةٌ إلَّا زَكَاةَ الْفِطْرِ } . وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ { لَيْسَ لِلْعَبْدِ صَدَقَةٌ إلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ } ) .
1544 - ( وَعَنْ عُمَرَ وَجَاءَهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالُوا : إنَّا قَدْ أَصَبْنَا أَمْوَالًا خَيْلًا وَرَقِيقًا نُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَنَا فِيهَا زَكَاةٌ وَطَهُورٌ ، قَالَ : مَا فَعَلَهُ صَاحِبَايَ قَبْلِي , فَأَفْعَلُهُ ؟ وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ  وَفِيهِمْ عَلِيٌّ  ، فَقَالَ عَلِيٌّ : هُوَ حَسَنٌ إنْ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً رَاتِبَةً يُؤْخَذُونَ بِهَا مِنْ بَعْدِكَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ ) .
1545 - ( وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ : { سُئِلَ رَسُول اللَّهِ  عَنْ الْحَمِيرِ فِيهَا زَكَاةٌ ؟ ، فَقَالَ مَا جَاءَنِي فِيهَا شَيْءٌ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ :  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ  } رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَعْنَاهُ ) .
الشَّرْحُ
الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ : رِجَالُهُ ثِقَاتٌ قَوْلُهُ : { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ } [ مَن قال بوجوب الزكاة في الخيل والرقيق لم يقولوا تؤخذ من الرقاب , وإنما قالوا : تؤخذ بالقيمة ] قَالَ ابْنُ رَشِيدٍ : أَرَادَ بِذَلِكَ الْجِنْسَ فِي الْفَرَسِ وَالْعَبْدَ لَا الْفَرْدَ الْوَاحِدَ ، إذْ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْمُتَصَرِّفِ وَالْفَرَسِ الْمُعَدِّ لِلرُّكُوبِ ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ الرِّقَابِ ، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ : تُؤْخَذُ مِنْهَا بِالْقِيمَةِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّهَا تَجِبُ فِي الْخَيْلِ إذَا كَانَتْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا نَظَرًا إلَى النَّسْلِ . وَلَهُ فِي الْمُنْفَرِدَةِ رِوَايَتَانِ [ أي ذكور فقط أو إناث فقط , ويرد هذا بأنه يلزمه أن الزكاة لا تجب في باقي المواشي إلا إن كانت ذكرانًا وإناثًا . فقال : أبو الحنيفة : لا ؛ لأن المواشي إن كانت ذكرانًا فقط أو إناثًا فقط ولم يحدث تناسل , يحدث تسمين في لحمها وهي تؤكل بينما الخيل لا تؤكل عنده خلافًا للجمهور ؛ استنادًا لأن النبي  حرَّم لحوم الحمر الإنسية وأَذِنَ في لحم الخيل , وفي الصحيحين من حديث أسماء رضي الله عنها قالت : نحرنا فرسًا على عهد النبي  فأكلناه ] ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِثْلُ هَذَا فِي سَائِرِ السَّوَائِمِ إذَا انْفَرَدَتْ لِعَدَمِ التَّنَاسُلِ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ إذَا عُدِمَ التَّنَاسُلُ حَصَلَ فِيهَا النُّمُوُّ لِلْأَكْلِ , وَالْخَيْلُ لَا تُؤْكَلُ عِنْدَهُ . قَالَ الْحَافِظُ : ثُمَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَالِكَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا أَوْ يُقَوَّمَ وَيُخْرِجَ رُبْعَ الْعُشْرِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ . وَأُجِيبَ مِنْ جِهَتِهِ بِحَمْلِ النَّفْيِ فِيهِ عَلَى الرَّقَبَةِ لَا عَلَى الْقِيمَةِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ , وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يُرَدُّ بِهِ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مَرْفُوعًا { قَدْ عَفَوْت عَنْ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ } وَسَيَأْتِي . وَاسْتُدِلَّ عَلَى الْوُجُوبِ بِمَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّهُ  قَالَ فِي الْخَيْلِ : ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا } وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْخَطِيبُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْهُ  : { فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ } وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ ، فَلَا يَقْوَى عَلَى مُعَارَضَةِ حَدِيثِ الْبَابِ الصَّحِيحِ ، وَتَمَسَّكَ أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ عَامِلَهُ بِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْخَيْلِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ أَفْعَالَ الصَّحَابَةِ وَأَقْوَالَهُمْ لَا حُجَّةَ فِيهَا لَا سِيَّمَا بَعْدَ إقْرَارِ عُمَرَ بِأَنَّ النَّبِيَّ  وَأَبَا بَكْرٍ لَمْ يَأْخُذَا الصَّدَقَةَ مِنْ الْخَيْلِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ [ وعمر  نفسه لم يأخذها على سبيل أنها صدقة واجبة ] . وَقَدْ احْتَجَّ بِظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَابِ الظَّاهِرِيَّةُ فَقَالُوا : لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ لَا لِتِجَارَةٍ وَلَا لِغَيْرِهَا , وَأُجِيبَ عَنْهُمْ بِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ , فَيَخُصُّ بِهِ عُمُومَ هَذَا الْحَدِيثِ . وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَهَا فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الظَّاهِرِيَّةِ فِي وُجُوبِهَا فِي الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ مِمَّا يَبْطُلُ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِمْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِهَا فِيهِمَا فالظَّاهِرِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُهُ . قَوْلُهُ : ( إنْ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً ... إلَخْ ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ عَلِيًّا لَا يَقُولُ بِجَوَازِ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ ، وَإِنَّمَا حَسُنَ الْأَخْذُ مِنْ الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورِينَ لِكَوْنِهِمْ قَدْ طَلَبُوا مِنْ عُمَرَ ذَلِكَ . وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ هُنَالِكَ ، وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحُمُرِ لِأَنَّ النَّبِيَّ  سُئِلَ عَنْ زَكَاتِهَا فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ ، وَالْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ مُسْتَصْحَبَةٌ ، وَالْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ دَلِيلٍ ، وَلَا أَعْرِفُ قَائِلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَمِيرِ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ وَاسْتِغْلَالٍ .
بَابُ : زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
1546 - ( عَنْ عَلِيٍّ  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { قَدْ عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ ، فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ عَنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا ، وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ [ صحيح , قال الألباني : رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح , وقال النووي : حديث صحيح أو حسن , وقال الزيلعي : حديث حسن , وقال العسقلاني : لا بأس به , والآثار تعضده ويصلح للحجة , ونحوه قال الشوكاني . صحيح أبي داود 1406 5/295 ] وَفِي لَفْظِ : { قَدْ عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ , وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ زَكَاةٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ ) [ المسند 20711/118 وقال محققوا المسند : صحيح ] .
الشَّرْحُ
الْحَدِيثُ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ وَمِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو عَوَانَةَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ . [ أبو عوانة وإن روى عن أبي اسحاق بعد تغيره لكن قد تابعه غير واحد , منهم : سفيان الثوري وهو ممن روى عن أبي اسحاق قبل تغيُّره . هامش المسند 2/118 ] . وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ ، وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا : يَعْنِي الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ : كِلَاهُمَا عِنْدِي صَحِيحٌ انْتَهَى . وَقَدْ حَسَّنَ هَذَا الْحَدِيثَ الْحَافِظُ . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : الصَّوَابُ وَقْفُهُ عَلَى عَلِيٍّ . الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْفِضَّةِ , وَهُوَ مُجْمِعٌ عَلَى ذَلِكَ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ زَكَاتَهَا رُبْعُ الْعُشْرِ , وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي زَكَاةِ الْفِضَّةِ ، وَهُوَ إجْمَاعٌ أَيْضًا وَعَلَى أَنَّهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ . قَالَ الْحَافِظُ : وَلَمْ يُخَالِفْ فِي أَنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ إلَّا ابْنُ حَبِيبٍ الْأَنْدَلُسِيُّ , فَإِنَّهُ قَالَ : إنَّ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ يَتَعَامَلُونَ بِدَرَاهِمِهِمْ [ ابن حبيب الأندلسي يقول أيضًا أن نصاب الفضة مائتا درهم إلا أن كل بلد يتعاملون بدراهمهم , أي : زادت في الوزن أو نقصت ما فيه من وزن فضة , فهو أراد أن يجري الحديث على ظاهره , لكن الصواب الذي عليه أهل العلم أن النبي  أحال على دراهم مخصوصة لها وزن من الفضة معيَّن , الدرهم ستة دوانيق لكن ابن حبيب يقول : مَن كان عنده مائتا درهم أيًّا كانت وزن الفضة فيها أربعة دوانيق أو سبعة دوانيق تجب فيها الزكاة , وهذا خطأ ] قال ابن قدامة : والدراهم التي يعتبر بها النصاب هي الدراهم التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل , فمثقال الذهب وكل درهم نصف مثقال وخمسه ( نصف + خُمس ) وهي الدراهم الإسلامية التي تقدر بها نُصُبُ الزكاة , ومقدار الجزية , والديات , ونصف القطع في السرقة , وغير ذلك [ أي تبنى عليها الأحكام الشرعية ] وكانت الدراهم في صدر اسلام صنفين : سودًا . وطبرية , وكانت السود : ثمانية دوانيق , والطبرية : أربعة دوانيق , فَجُمِعَا في الإسلام وجُعِلا درهمين متساويين , في كل درهم ستة دوانيق , فعل ذلك بنو أُمية وهو موافق لدرهم رسول الله  الذي قَدَّر به المقادير الشرعية - المغني 3/3 ] وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اخْتِلَافًا فِي الْوَزْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى دَرَاهِمِ الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهَا مِنْ دَرَاهِمِ الْبُلْدَانِ ، قِيلَ : وَبَعْضُهُمْ اعْتَبَرَ النِّصَابَ بِالْعَدَدِ لَا بِالْوَزْنِ وَهُوَ خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ ، وَهَذَا الْبَعْضُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَرِيسِيِّ [ أي : بِشْر ] ، وَبِهِ قَالَ الْمَغْرِبِيُّ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ كَمَا فِي الْبَحْرِ ، وَقَدْ قَوَّى كَلَامَ هَذَا الْمَغْرِبِيِّ الظَّاهِرِيُّ الصَّنْعَانِيُّ فِي شَرْحِ بُلُوغِ الْمَرَامِ وَقَالَ : إنَّهُ الظَّاهِرُ إنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ إجْمَاعٌ [ هذا كلام خطأ ؛ أن يعتبر النصاب بالعدد لا بالوزن ؛ لأننا قلنا : الدراهم المراد منها التي كل عشرة دراهم تساوي سبعة مثاقيل ] . وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ نَقْصُ الْحَبَّةِ وَالْحَبَّتَيْنِ [ وبه قال بعض الحنابلة , ورجَّح ابن قدامة مذهب الشافعي واسحاق وابن المنذر أنه متى نقص النصاب عن مائتا درهم ( 5 أواق ) فلا زكاة فيه , سواء كان النقص كثيرًا أو يسيرًا , قال : وهو ظاهر كلام الخرقي , وظاهر الخبر - المغني 3/4 ] ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ خَالِصًا عَنْ الْغِشِّ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ [ لذلك نقول : مَن كان يملك ذهبًا بأعْيِرَة مختلفة , يحول هذه الأعيرة إلى عيار 24 الذهب الخالص ؛ لأن ما هو أقل من ذلك يكون مخلوط معه نحاس وما إلى ذلك ] وَقَالَ الْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَالْإِمَامُ يَحْيَى : إنَّهُ يُغْتَفَرُ الْيَسِيرُ ، وَقَدَّرَهُ الْإِمَامُ يَحْيَى بِالْعُشْرِ فَمَا دُونَ وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ مَا دُونَ النِّصْفِ ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مِقْدَارِ الدِّرْهَمِ [ مذهب الشافعي واسحاق ؛ لأن النبي  قال : ليس فيما دون خمس أواق من الورق زكاة( ) ] وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ .
1547 - ( وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمُ( ) وَهُوَ لِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ( ) ) . [ إذًا متفق على لفظه , لكنه عند مسلم من حديث جابر , وعند البخاري من حديث أبي سعيد .
محل الشاهد : ليس دون خمس أواق من الورق صدقة , ومر بنا : وليس دون خمس ذود من الإبل صدقة , وكذلك سيأتي في زكاة الزروع : ليس فيما دون خمس أوسق من التمر صدقة ] .
1548 - ( وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ  قَالَ : { إذَا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ يَعْنِي فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا ، فَإِذَا كَانَتْ لَك عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ) قال الألباني رجاله ثقات – صحيح أبي داود 1405 5/294 .
الحكم الأول : قوله  في الحديث الأول : فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ عَنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا ، وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ , فأثبت أنها لابد أن يحول عليها الحول كما في الرواية الثانية : إذَا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ .
والحديث السابق لهذا أثبت فيه ثلاثة أحكام جديدة : أنه أثبت نصاب الذهب وأنه عشرين دينارًا , وأنه لابد أن يحول عليه الحول , وفيه ربع لعشر ] حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُشَارِ إلَيْهِ هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَفْظُهُ فِي الْبُخَارِيِّ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ } وَحَدِيثُ عَلِيٍّ هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَعَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ : كِلَاهُمَا عِنْدَهُ صَحِيحٌ ، وَقَدْ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ ، وَالْحَارِثُ ضَعِيفٌ وَقَدْ كَذَّبَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ تَوْثِيقُهُ وَعَاصِمُ وَثَّقَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ ، وَقَالَ النَّسَائِيّ : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ . قَوْلُهُ : ( خَمْسُ أَوَاقٍ ) بِالتَّنْوِينِ وَبِإِثْبَاتِ التَّحْتِيَّةِ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا جَمْعُ أُوقِيَّةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ وَقِيَّةً بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْوَاوِ , قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَمِقْدَارُ الْأُوقِيَّةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْمُرَادُ بِالدِّرْهَمِ الْخَالِصُ مِنْ الْفِضَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مَضْرُوبًا أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبٍ ( عملة أو فضة خام ) قَالَ عِيَاضٌ : قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : إنَّ الدِّرْهَمَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الْقَدْرِ حَتَّى جَاءَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ فَجَعَلُوا كُلَّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ قِيل [ كلام أبي عبيد ليس صحيحًا ] قَالَ : وَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ  أَحَالَ نِصَابَ الزَّكَاةِ عَلَى أَمْرٍ مَجْهُولٍ وَهُوَ مُشْكِلٌ , وَالصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَى مَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الْوَزْنِ [ أي أن النبي  أحال على شئ معلوم , لكنها ليست من ضروب الإسلام ] ، فَعَشَرَةٌ مَثَلًا وَزْنُ عَشَرَةٍ ، وَعَشَرَةٌ وَزْنُ ثَمَانِيَةٍ ، فَاتَّفَقَ الرَّأْيُ عَلَى أَنْ تُنْقَشَ بِالْكِتَابَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَيَصِيرُ وَزْنُهَا وَزْنًا وَاحِدًا . وَقَالَ غَيْرُهُ : لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمِثْقَالُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ . وَأَمَّا الدِّرْهَمُ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ انْتَهَى . [ محصل الكلام أن الدراهم التي أحال عليها النبي  أن العشر دراهم يساوي سبعة مثاقيل إلا أن الدراهم التي كانت موجودة في ذلك الوقت لم تكن على هذا الوزن , فالذي فعله عبد الملك بن مروان أنه جعلها على ذلك الوزن ] . قَوْلُهُ : ( مِنْ الْوَرِقِ ) قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَكَذَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ : خَمْسُ ذَوْدٍ . قَوْلُهُ : ( خَمْسُ أَوْسُقٍ ) جَمْعُ وَسْقٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَيَجُوزَ كَسْرُهَا كَمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ وَجَمْعُهُ حِينَئِذٍ أَوْسَاقٌ كَحَمْلٍ وَأَحْمَالٍ ؛ وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا بِالِاتِّفَاقِ ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَفِيهِ { الْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا } [ ضعيف الإرواء 803 , وهذا الكلام متفق عليه , لكن رفعه إلى النبي  ضعيف ، وقوله : أخرجها أبو داود لكن قال : ستون مختومًا [ قال أبو داود : أبو البختري لم يسمع من أبي سعيد , قال الألباني : إسناده ضعيف لانقطاعه كما ذكر المصنف , والْجَمَلِيُّ الراوي عن أبي البختري مدلس وقد عنعن – ضعيف أبي داود 273 10/104 . وعن إبراهيم النخعي قال : الوسق ستون صاعًا مختومًا بِالْحَجَّاجِيِّ . قال الألباني : إسناده صحيح مقطوع ( لأن إبراهيم النخعي من التابعين , والمقطوع هو الموقوف على التابعي ) صحيح أبي داود 1395 / 5 / 282 ] وَأَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُد أَيْضًا لَكِنْ قَالَ : سِتُّونَ مَخْتُومًا . وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ : الْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ .
قَوْلُهُ : ( عِشْرُونَ دِينَارًا ) الدِّينَارُ مِثْقَالٌ ، وَالْمِثْقَالُ دِرْهَمٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ الدِّرْهَمِ ، وَالدِّرْهَمُ سِتَّةُ دَوَانِيقَ ، وَالدَّانِقُ قِيرَاطَانِ ، وَالْقِيرَاطُ طَسُّوجَانِ ، وَالطَّسُّوجُ حَبَّتَانِ ، وَالْحَبَّةُ سُدُسُ ثُمُنِ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ , كَذَا فِي الْقَامُوسِ فِي فَصْلِ الْمِيمِ مِنْ حَرْفِ الْكَافِ , وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ دِينَارًا ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ , وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ نِصَابَهُ أَرْبَعُونَ ، وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ الْأَكْثَرِ [ أي للحسن روايتان , رواية وافق فيها الجمهور , ورواية أنه أربعون ] : ونِصَابُهُ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِهِ . وَقَالَ طَاوُسٌ : إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي نِصَابِهِ التَّقْوِيمُ بِالْفِضَّةِ ، فَمَا بَلَغَ مِنْهُ مَا يَقُومُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَيَرُدُّهُ الْحَدِيثُ [ قال ابن قدامة : قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ إذَا كَانَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ ، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهَا ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَلَا يَبْلُغُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ .
وَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ : نِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِيمَتِهَا ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْفِضَّةِ ، فَمَا كَانَ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ  تَقْدِيرٌ فِي نِصَابِهِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى الْفِضَّةِ . [ طبعًا مرَّ بنا حديث عليٍّ  ] .
... وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ  كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا نِصْفَ دِينَارٍ ، وَمِنْ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا } اهـ . صحيح بشواهده - الإرواء 813 3/289 . والذهب مال تجب فيه الزكاة فلا يعتبر بغيره كسائر الأموال الزكوية ] .
قَوْلُهُ : ( وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَوْلِ فِي زَكَاةِ الذَّهَبِ وَمِثْلُهُ الْفِضَّةُ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالصَّادِقُ وَالْبَاقِرُ وَالنَّاصِرُ وَدَاوُد إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ إذَا اسْتَفَادَ نِصَابًا أَنْ يُزَكِّيَهُ فِي الْحَالِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ : { فِي الرَّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ } وَهُوَ مُطْلَقٌ مُقَيَّدٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ [ هُم تمسكوا بحديث على الأول ولكنه مقيد بحديث عليٍّ الثاني ] ، فَاعْتِبَارُ الْحَوْلِ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَالضَّعْفُ الَّذِي فِي حَدِيثِ الْبَابِ مُنْجَبِرٌ بِمَا عِنْدَ ابْنِ مَاجَةَ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ اعْتِبَارِ الْحَوْلِ وَفِي إسْنَادِهِ حَارِثَةُ بْنُ أَبِي الرِّجَالِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَبِمَا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ ، وَفِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَحَدِيثُهُ عَنْ غَيْرِ أَهْلِ الشَّامِ ضَعِيفٌ ، وَبِمَا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ، وَفِيهِ حَسَّانُ بْنُ سِيَاهٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ [ هذه أحاديث كلها ضعيفة لكن يشد بعضها بعضًا وتؤيد حديث الباب في اعتبار الحول ] . قَوْلُهُ : ( فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الذَّهَبِ رُبْعُ الْعُشْرِ ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
مسائل لابد من ذكرها ليكتمل هذا الباب :
مسألة 1 :
مَن ملك ذهبًا أو فضة مغشوشة , أو مختلطًا بغيره , فلا زكاة فيه حتى يبلغ قدر الذهب والفضة نصابًا ؛ لقوله  ( ليس فيما دون خمس أواق من الفضة صدقة ) فإن لم يعلم قدر ما فيه منهما وشك هل بلغ النصاب أم لا ؟ خُيِّر بين سكِّهما ( يصهرهما ) ليعلم قدر ما فيهما , وبين أن يستظهر ويُخْرِج , ليسقط الفرض بيقين . المغنى 3/7 .
مسألة 2 : هل يضم الذهب إلى الفضة ؟
إن كان لأحد ذهب وفضة لا يبلغان النصاب بمفردهما , فهل يضم أحدهما إلى الآخر ؟ روايتان عن أحمد , الأولى : أنه لا زكاة في أحدهما حتى يبلع كل واحد منهما نصاب على حد , فلا يضم أحدهما إلى الآخر , وهذا قول الشافعي وأبو عبيد وأبو ثور ( وبه قال ابن حزم المحلى 6/80 ) ؛ لأنهما مالان يختلف نصابهما , فلا يضم أحدهما إلى الآخر كأجناس الماشية . والثانية : يضم أحدهما إلى الآخر فى تكميل النصاب , وهوقول مالك والأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي . ثم اختلف القائلون بالضم على قولين :
الأول : أن أحدهما يضم إلى الآخر بالأجزاء , بمعنى أن كل واحد منهما يُحْتَسَبُ مِن نصابه , فإذا كملت أجزائها نصابًا , وجبت فيه الزكاة , مثل أن يكون عنده نصف نصاب من أحدهما , ونصف نصاب أو أكثر من الآخر , أو ثلث من أحدهما , وثلثان أو أكثر من الآخر , فلو مَلَكَ مائة درهم وعشرة دنانير , أو مائة وخمسين درهمًا وخمسة دنانير , أو مائة وعشرين درهمًا وثمانية دنانير , وجبت الزكاة فيهما , وإن نقص أجزائهما عن النصاب فلا زكاة فيهما , وهذا قول مالك وأبي يوسف ومحمد بن الحسن .
القول الثاني : أنها تضم بالأحوط من الأجزاء أو القيمة , ومعناه أنه يُقَوَّمُ الغالي منهما بقيمة الرخيص , فإذا بلغت قيمتها بالرخيص منهما نصابًا , وجبت الزكاة فيه , فلو ملك مائة درهم وسبعة دنانير قيمها مائة درهم , أو عشرة دنانير وسبعين درهمًا قيمها عشرة دنانير , وجبت الزكاة فيها , وهذا قول أبي حنيفة .
والصواب المذهب الأول من عدم الضم .
مسألة 3 : ما زاد على النصاب :
ذهب فريق إلى أن الزكاة تجب في الزيادة وإن قلَّت ( 200 درهم فيها 5 دراهم , فإن 201 تحسب × 1/40 ) ذهب فريق من أهل العلم إلى أن الزيادة وإن قلَّت تجب فيها الزكاة , وهذا مروي عن عليّ بن أبي طالب وابن عمر , وبه قال عمر بن عبد العزيز والنخعي ومالك والشافعي والثوري وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر .
القول الثاني : قال سعيد بن المسيب وعطاء وطاووس والحسن والشعبي ومكحول والزهري وأبو حنيفة : لا شئ فى زيادة الدراهم حتى تبلغ أربعين , ولا في زيادة الدنانير حتى تبلغ أربع دنانير ؛ لقوله  : من كل أربعين درهمًا درهمًا . وعن معاذ عن النبي  أنه قال ( إذا بلغ الورق مائتين ففيه خمسة دراهم ثم لا شئ فيه حتى يبلغ أربعين درهمًا ) وهذا مضى , ولأن له عفوًا في الابتداء فكان له عفوًا بعد النصاب كالماشية .
والصواب قطعًا القول الأول ؛ لأن في حديث عليٍّ أن النبي  قال : هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهمًا درهمًا وليس عليكم شئ حتى يتم مائتا درهمًا , فإن كان مائتا درهم ففيها خمسة دراهم , فما زاد فبحساب ذلك ) رواه الدارقطني , وسبق أن أبا داود رواه عن عليّ أيضًا , وهذا مذهب عليٍّ وابن عمر , ولا يعلم لهما مخالف مِن الصحابة . وأما ما احتجوا به من الخبر الأول فهو احتجاج بدليل الخطاب , والمنطوق مقدَّم عليه ( وأبو حنيفة لا يأخذ بدليل الخطاب ) . وأمَّا الحديث الثاني : حديث معاذ فيرويه أَبُو الْعُطُونِ - الجراح بن المنهال - وهو متروك الحديث , قال الدارقطني : وقال مالك : هو دجال من الدجاجلة , ويرويه ( الْجَرَّاحُ بْنُ الْمِنْهَالِ ) عن عبادة بن نُسيب عن معاذ , ولم يلق عبادة معاذًا فيكون مرسلاً , والماشية يشق تشخيصها بخلاف الأثمان . قاله ابن قدامة فى المغني 3/8 . قال الزيلعي في نصب الراية : حديث ضعيف , رواه الدارقطني وقال : المنهال بن الجراح هو أبو العطون متروك الحديث , ونقل أيضًا عن البيهقى أنه قال : إسناد هذا الحديث ضعيف جدًا . نصب الراية 2/376 .
مسألة 4 : هل يجوز إخراج أحد النقدين عن الآخر ؟
قولان لأهل العلم , وهما قولان في مذهب أحمد . الأول : لا يجوز . وقال ابن حزم : هو مذهب الشافعي وأبي سليمان ( وهو وداود ) , وبه نأخذ ، والثانية : يجوز , وبه قال مالك وأبو حنيفة .
والقول الأول هو المعتمد ؛ لأن أنواع الأجناس لا يجوز إخراج أحدهما من الآخر .
مسألة 5 : حلي المرأة
اختلف العلماء في حلى المرأة هل فيه زكاة أم لا ؟
فذهب الإمام أحمد في ظاهر مذهبه , ومالك والشافعي وأبو عبيد واسحاق وأبو ثور إلى أن حليَّ المرأة إذا كان مما تلبسه أو تُعِيرُه فليس فيه زكاة .
وذهب أحمد في رواية أخرى , وأصحاب الرأي وأهل الظاهر إلى أن الحليَّ تجب فيه الزكاة , وهذا مروي عن عمر وابن مسعود , قال ابن حزم : وهو عنه ( أي ابن مسعود ) فى غاية الصحة المحلى مسألة 684 6/75 , وهو مروى أيضًا عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء ومجاهد والزهري وأبو الشعثاء وابن سيرين , وهذا المذهب الأخير هو الصحيح لأمرين :
الأول : الأدلة العامة التي أوجبت الزكاة في الذهب والفضة لم تفرِّق بين الحلي وغير الحليّ , كما في قوله  ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) عن جابر وأبي سعيد ، وقوله في حديث أبي هريرة ( ما من صاحب ذهب ولافضة ... الحديث ) وقد سبق .
والثاني : الأدلة الخاصة التي وردت في هذا الشأن :
1) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : أتت امرأة من أهل اليمن رسول الله  ومعها ابنة لها , فى يديها مَسْكَتَان من ذهب ( المَسَك : السِّوار . لسان العرب ) فقال : هل تعطين زكاة هذا ؟ قالت : لا . قال : أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟ قَالَ : فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النبي  وَقَالَتْ : هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ( ) . رواه أبو داود . قال الألباني : وإسناده جيد , ورواه النسائي والترمذي , وصححه ابن القطان - الإرواء تحت حديث 817 3/296 وهو في صحيح أبي داود ( 1396 ) .
2) عن عبد الله بن شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قال : دخلنا على عائشة رضي الله عنها زوج النبي  فَقَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ  فَرَأَى فِي يَدَيَّ فَتَخَاتٍ مِنْ وَرِقٍ ( الفتخ خاتم يكون في اليد والرجل , بفص أو بغير فص ) فَقَالَ : مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟ فَقُلْتُ : صَنَعْتُهُنَّ أَتَزَيَّنُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ ؟ قُلْتُ : لَا ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ . قَالَ : هُي حَسْبُكِ مِنْ النَّارِ( ) .
رواه أبو داود والدارقطني والحاكم , وقال : صحيح على شرط الشيخين , ووافقه الذهبي , وهو كما قالا - الإرواء 3/296 ، وكذا قال العسقلاني - صحيح أبي داود ( 1393 ) .
3) وعن أُم سلمة رضي الله عنها قالت : كنت ألبس أوضاحًا لي من ذهب , فقلت : يارسول الله , أكنز هو ؟ قال : ما بلغ أن تؤدي زكاته فزُكِيَ فليس بكنز . رواه أبو داود والحاكم وصححه على شرط البخاري , ووافقه الذهبي , ذكر ذلك الشيخ أحمد شاكر في هامش المحلى 6/79 , وحسنه الألباني بشاهد له – صحيح أبي داود 1397 5/284 , وراجع السلسلة الصحيحة ( 559 ) .
واعتمد أهل القول الأول على حديث ( ليس في الحلي زكاة( ) ) وهو من حديث جابر بن عبد الله , قال الألباني : باطل , ورواه ابن أبي شيبة عن جابر موقوفًا بإسناد على شرط مسلم – الإرواء ( 817) 3/295 , وقال مالك : يزكي عامًا واحدًا , وقال الحسن وعبد الله بن عتبة وقتادة : زكاته عاريته , وقال أحمد : خمسة من أصحاب النبي  يقولون : ليس في الحلي زكاة , ويقولون : زكاته عاريته , وقد سئل جابر عن الحلي هل فيه زكاة ؟ قال : لا . قيل : ألف دينار ؟ قال : إن ذلك لكثير . رواه أبو عبيد في كتاب الأموال , والشافعي , وإسناده صحيح على شرط الشيخين الإرواء 3/295 .
4) أوراق البنكنوت بمراعاة أصلها تقارن بالذهب ؛ لأن هذا أصل نشأة أوراق البنكنوت . فقد كان الناس في الماضي – كما قال الدكتور علي السالوس - يتعاملون بالذهب لكن قد يحتاج إلى صفقة كبيرة تستلزم أن يُدخِلَ قدرًا كبيرًا من الذهب , ومع وجود قطاع الطريق واللصوص احتاج الأمر أن يُرسِلَ مع ذا الذهب قوة مسلحة لحمايته , مع التعرض إلى الأخطار وما إلى ذلك . فتطور الأمر تطزرًا آخر وهو أن التاجر مثلاً الذي يوجد في البلد ( أ ) له علاقات وثيقة بمجموعة من التجار في البلد ( ب ) فإذا أراد واحد من البلد ( أ ) أن يشتري شيئًا من التجار في البلد ( ب ) أرسل هذا التاجر من ( أ ) إلى التجار في ( ب ) : اعطوه ما يريد , وأنا سأحصل الثمن منه وأقوم بسداده لكم , ويقوم بسداد المبلغ في نهاية مدة معينة , ويسدد الأثمان إلى البلد ( ب ) مرة واحدة , ويكون هذا الإرسال عن طريق صكوكٍ يكتبها هذا التاجر بقيمة المبلغ , فصارت هذه الصكوك بعد ذلك هي النقود , وتطرو الأمر بعد ذلك تطورات كثيرة , منها : أن التاجر الذي في البلد ( أ ) لن يعطيَ كل التجار مبالغهم في نفس الوقت , ولكن في أوقات مختلفة , فمن الممكن أن يعمل إصدارات بألف دينار , ويكون بالفعل قد حصَّل الألف دينار من الناس , لكن هذه الألف دينار يُشَغِّلُ منها ستمائة , ومعه أربعمائة سائلة ؛ وذلك اعتمادًا على أن التجار في ( ب ) لن يحصلوا كلَّهم ما لهم من ذهب مرة واحدة .
ثم تطور الأمر بعد ذلك ولن تصبح المسألة ذهبًا , فلو ذهب أحد إلى بنك إنجلترا وأعطاهم جنيهًا إسترلينيًا ليأخذ ما يقابله من ذهب سيتعجبوا من حاله , وفي مصر حتى عهد قريب – عد الثورة – كان يُقَدَّمُ الجنيه المصري الذي عليه صورة الملك , ويعطوا له جنيهًا ذهبًا وخمسة تعريفة باعتبار أن الجنيه الذهب يساوي 99.5 قرش , لكن طبعًا في يومنا هذا قد انتهى هذا الكلام , وأصبح ناك غطاءً إقتصاديًا وتعقدت الأمور , لكن الأصل هو ما ذكرتُ ؛ وبناءً عليه فأوراق البنكنوت هذه تنسب إلى الذهب , وبالتالي تضاف إلى الذهب , وما يقوله البعض بأنها تضاف إلى الأرفق بمصلحة الفقير , مردود بأنه ينبغي أن يراعَى مصلحة أهل الصدقة ومصلحة المتصدق أيضًا ؛ لأن الأمر ليس إليه .
وقد سبق بيان أن تقسيمها إلى عاملة وغير عاملة , لا دليل عليه أصلاً إلا في البقر , أمَّا في الإبل والغنم فلا فالاعتبار في الإبل والغنم بين السائمة وغير السائمة ( معلوفة ) .
بَابُ : زَكَاةِ الزَّرْعِ وَالثِّمَار ( ليس فيها حَوْلٌ ؛ لقوله  وآتوا حقه يوم حصاده 
ملخص المذاهب ( من الأوسع إلى الأضيق ) :
(1) قال أبو حنيفة : تخرج الزكاة مِن كل ما خرج من الأرض ما عدا الحطب ، والغاب أو البوص ، والحشيش ( الأشجار التي ليس فيها نماء ) وتخرج مِن قليله وكثيره , ولكن هذا المذب فيه إهدار للأدلة الأخرى . وهذا المذهب قال فيه أبو بكر بن العربي أنه أصلح للفقراء , لكن طبعًا المسألة مسألة أدلة .
(2) مذهب داود الظاهري , قال : فيما يُكال تُخرَجُ الزكاة مِن كل خمسة أوسق , ومما لا يكال تُخْرَجُ من قليله وكثيره , وهذا وجه مِن أوجه الجمع .
(3) مذهب أحمد : تخرج الزكاة مِن كل ما يَيْبُس ويُدَّخَرُ وَيُكَالُ .
(4) مالك والشافعي : تُخْرَجُ الزكاةُ مِن كل ما يَيْبُس ويُدَّخَرُ وَيُكَالُ , وزاد : ويقتات , مثل : السمسم والشمر والينسون .
(5) رواية عن أحمد : تُخْرَجُ الزكاةُ مِنْ أربعةٍ فقط ( القمح – الشعير – التمر – الزبيب ) وزاد بعضهم : الذرة , ولكن هذه الزيادة لا تثبت .
(6) مذهب ابن حزم : تُخْرَجُ الزكاةُ من ثلاثة فقط ( قمح – شعير – تمر ) .
أبو حنيفة تمسك بالعموم , وقال : هذا العموم مؤيَّد بالقرآن ؛ في قوله تعالى  وءاتوا حقه يوم حصاده  وهى آية قطعية عامة , وأمَّا حديث ( ليس فيما دون خمس أوسق صدقة ) ظنِّي , وهذا مسلك غريب جدًا ؛ لأنه قواعد غير موجودة عند أبي حنيفة , فهو قال بالوضوء من القهقهة رغم أنها دليل ظني زائد على ما في القرآن .
أما داود فقال بمثل ما قال أبو حنيفة إلا في الأشياء التي تُكَالُ ؛ لحديث جابر وأبي سعيد : ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة .
1549 - ( عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ  قَالَ : { فِيمَا سَقَتْ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشُورُ ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشُورِ( ) } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ : " الْأَنْهَارُ وَالْعُيُونُ " ) .
1550 - ( وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ : { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثْرِيًّا الْعُشْرُ ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ( ) } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا ، لَكِنَّ لَفْظَ النَّسَائِيّ وَأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ " بَعْلًا " بَدَلَ " عَثْرِيًّا " ) .
[ ملاحظة :
وَلَا يُؤَثِّرُ حَفْرُ الْأَنْهَارِ وَالسَّوَاقِي فِي نُقْصَانِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَقِلُّ ، لِأَنَّهَا تَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ إحْيَاءِ الْأَرْضِ وَلَا تَتَكَرَّرُ كُلَّ عَامٍ .
وَكَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ احْتِيَاجُهَا إلَى سَاقٍ يَسْقِيهَا ، وَيُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي نَوَاحِيهَا ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ سَقْيٍ بِكُلْفَةٍ ، فَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُؤْنَةِ فِي التَّنْقِيصِ ، يَجْرِي مَجْرَى حَرْثِ الْأَرْضِ وَتَحْسِينَهَا . وَالضَّابِطُ لِذَلِكَ هُوَ أَنْ يَحْتَاجَ فِي تَرْقِيَةِ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ بِآلَةٍ مِنْ غَرْفٍ أَوْ نَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ وَنَحْوِ ذَلِك . قاله ابن قدامة – المغني 2/699 ] .
الشَّرْحُ :
قَوْلُهُ : ( وَالْغَيْمُ ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ : وَهُوَ الْمَطَرُ ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ " الْغَيْلُ " بِاللَّامِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هُوَ مَا جَرَى مِنْ الْمِيَاهِ فِي الْأَنْهَارِ ، وَهُوَ سَيْلٌ دُونَ السَّيْلِ الْكَبِيرِ . وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ : هُوَ الْمَاءُ الْجَارِي عَلَى الْأَرْضِ . قَوْلُهُ ( الْعُشُورُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ : ضَبَطْنَاهُ بِضَمِّ الْعَيْنِ جَمْعُ عُشْرٍ . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : ضَبَطْنَاهُ عَنْ عَامَّةِ شُيُوخِنَا بِفَتْحِ الْعَيْنِ . وَقَالَ : وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ : أَكْثَرُ الشُّيُوخِ يَقُولُونَهُ بِالضَّمِّ وَصَوَابُهُ الْفَتْحُ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ مِنْ الصَّوَابِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةِ رَوَوْهُ بِالضَّمِّ وَهُوَ الصَّوَابُ جَمْعُ عُشْرٍ ، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلِهِمْ : عُشُورُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالضَّمِّ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ . قَوْلُهُ : ( بِالسَّانِيَةِ ) [ البعير الذى يحرك الساقية ] هِيَ الْبَعِيرُ الَّذِي يُسْتَقَى بِهِ الْمَاءُ مِنْ الْبِئْرِ . وَيُقَالُ لَهُ : النَّاضِحُ ، يُقَالُ مِنْهُ : سَنَا يَسْنُو : إذَا اسْتَقَى بِهِ . قَوْلُهُ : ( فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ ) الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمَطَرُ أَوْ الثَّلْجُ أَوْ الْبَرَدُ أَوْ الطَّلُّ ، وَالْمُرَادُ بِالْعُيُونِ : الْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ الَّتِي يُسْتَقَى مِنْهَا دُونَ اغْتِرَافٍ بِآلَةٍ بَلْ تُسَاحُ إسَاحَةً . قَوْلُهُ : ( أَوْ كَانَ عَثْرِيًّا ) . هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ . وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ تَشْدِيدُ الْمُثَلَّثَةِ وَرَدَّهُ ثَعْلَبٌ . قَالَ الْخَطَّابِيِّ : هُوَ الَّذِي يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ مِنْ غَيْرِ سَقْيٍ ، زَادَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى : وَهُوَ الْمُسْتَنْقَعُ فِي بِرْكَةٍ وَنَحْوِهَا يُصَبُّ إلَيْهِ مَاءٌ الْمَطَرِ فِي سَوَاقٍ تَسْقِي إلَيْهِ . قَالَ : وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْعَاثُورِ ، وَهِيَ السَّاقِيَّةُ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ ؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَ يَتَعَثَّرُ فِيهَا . قَالَ : وَمِثْلُهُ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْ الْأَنْهَارِ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ أَوْ يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ كَأَنْ يُغْرَسَ فِي أَرْضٍ يَكُونُ الْمَاءُ قَرِيبًا مِنْ وَجْهِهَا فَتَصِلَ إلَيْهِ عُرُوقُ الشَّجَرِ فَيَسْتَغْنِي عَنْ السَّقْيِ [ كل هذه نلاحظ فيها أنها تشرب بنفسها سواء كان هذا النبات موجود في بركة أو موجود قريب من الماء بحيث يشرب من المياة الجوفية , أو يسقى بدون مؤنة إخراج الماء من أسفل إلى أعلى ] قَالَ الْحَافِظُ : وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَوْلَى مِنْ إطْلَاقِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ الْعَثَرِيَّ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ [ يريد أن يقول أن تفسير الخطابي وابن قدامة وأبي يعلى أولى من تفسير أبي عبيد في أن العثريَّ ما سقته السماء ؛ لأن هذا يعد تكرار للكلام يصان عنه الحديث ] ، وَكَذَا قَوْلُ مَنْ فَسَّرَ الْعَثَرِيَّ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا حَمْلَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : لَا نَعْلَمُ فِي هَذِهِ التَّفْرِقَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا خِلَافًا . [ لا حمل له = لا ثمر له . أي لا نعلم خلاف في أن ما سقي بالسماء العشور وما سقي بالساقية نصف العشور ] . قَوْلُهُ : ( بِالنَّضْحِ ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ : أَيْ بِالسَّانِيَةِ . قَوْلُهُ ( بَعْلًا ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ، وَيُرْوَى بِضَمِّهَا قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْبَعْلُ : الْأَرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ تُمْطَرُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَكُلُّ نَخْلٍ وَزَرْعٍ لَا يُسْقَى ، أَوْ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ . اهـ . وَقِيلَ : هُوَ الْأَشْجَارُ الَّتِي تَشْرَبُ بِعُرُوقِهَا مِنْ الْأَرْضِ . وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالْأَنْهَارِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ مُؤْنَةٌ كَثِيرَةٌ ، وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالنَّوَاضِحِ ، وَنَحْوِهَا مِمَّا فِيهِ مُؤْنَةٌ كَثِيرَةٌ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَإِنْ وُجِدَ مِمَّا يُسْقَى بِالنَّضْحِ تَارَةً وَبِالْمَطَرِ أُخْرَى [ هذ هو الفرع الأول ] ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِوَاءِ وَجَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا , وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ [هذا هو الفرع الثاني ] كَانَ حُكْمُ الْأَقَلِّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ , وَقِيلَ : يُؤْخَذُ بِالتَّقْسِيطِ [ وهو القول الثاني للشافعي , وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ اعْتِبَارَ مِقْدَارِ السَّقْيِ وَعَدَدِ مَرَّاتِهِ وَقَدْرِ مَا يُشْرَبُ فِي كُلِّ سَقْيَةٍ يَشُقُّ وَيَتَعَذَّرُ ، فَكَانَ الْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ مِنْهُمَا ... وَإِنْ جُهِلَ الْمِقْدَارُ ، غَلَّبْنَا إيجَابَ الْعُشْرِ احْتِيَاطًا . نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْعُشْرِ ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِوُجُودِ الْكُلْفَةِ ، فَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُسْقِطُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكُلْفَةِ فِي الْأَكْثَرِ ، فَلَا يَثْبُتُ وُجُودُهَا مَعَ الشَّكِّ فِيهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَ السَّاعِي وَرَبُّ الْمَالِ ، فِي أَيِّهِمَا سُقِيَ بِهِ أَكْثَرَ ، فَالْقَوْلُ ، قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُسْتَحْلَفُونَ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ . - المغني 2/700 ] . قَالَ الْحَافِظُ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : إنْ أَمْكَنَ فَصْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخَذَ بِحِسَابِهِ وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ : الْعِبْرَةُ بِمَا تَمَّ بِهِ الزَّرْعُ وَلَوْ كَانَ أَقَلَّ [ أي إذا كان بداية الزرع بالساقية ثم بعد ذلك بالسماء كان هذا مسقي بالآلة , لكن القول الأول قول أحمد وأبو حنيفة هو الأوجه إلا إذا استطاع - كما قال الحافظ - أن يميز كل حصة على حدة فتأخذ كل حصة بحسابها ] .
1551 - ( وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ  قَالَ { : لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ . وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ } هذه الرواية هي المقيدة لقوله : ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة . وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةِ " مِنْ ثَمَرٍ " بِالثَّاءِ ذَاتِ النُّقَطِ الثَّلَاثِ ) .
1552 - ( وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ { : الْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ [ ضعيف الإرواء ( 803 ) ] وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ زَكَاةٌ ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ مَخْتُومًا ) } .
قَوْلُهُ : ( لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ) ( الأوقية = 40 درهمًا ، والذود = الإبل ) قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْوَسْقِ وَالْأَوَاقِي وَالذَّوْدِ . قَوْلُهُ : { الْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا } [ فيكون مبلغ الخمسة أوسق : ثلاث مائة صاع , وهو ألف وستمائة رطل بالعراقي , ووزنه بالمثاقيل : سبعون مثقالاً , ثم زيد في الرطل مثقال آخر - المغني 2/700 .
إذاً خمسة أوسق = 1600 رطل عراقي .
1600 × 71 = بالمثاقيل .
الناتج × 4 وربع = بالجرامات .
ولكن النصاب معتبر بالكيل . فإن الأوساق مكيلة - المغني 2/701 .
قال مقيده : فإن المكيلات التي أُمِرْنَا أن نخرج منها مكيلة لابد أن تبقَى مكيلة , فلا يجوز عندما يقول النبي  : البُر بالبُر مثلاً بمثلٍ أن يكون ذلك في الوزن ؛ لأن الأنواع المختلفة تختلف في الكثافة .
فالحجم = الوزن ÷ الكثافة , فكلما تغيَّرتِ الكثافة , تغيَّرَ الحجم .
هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ أَبُو دَاوُد : وَهُوَ مُنْقَطِعٌ ؛ لَمْ يَسْمَعْ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : لَمْ يُدْرِكْهُ . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَاجَةَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ , قَالَ الْحَافِظُ : وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ . وَحَدِيثُ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ , وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْمَلَانِ الْخَمْسَةَ الْأَوْسُقِ وَمَا دُونَهَا ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا خَاصٌّ بِقَدْرِ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا دُونَهَا , وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ . وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى الْعَمَلِ بِالْعَامِّ ، فَقَالُوا : تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ , وَلَا يُعْتَبَرُ النِّصَابُ , وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ الْأَوْسَاقِ بِأَنَّهُ لَا يَنْتَهِضُ لِتَخْصِيصِ حَدِيثِ الْعُمُومِ ؛ لِأَنَّهُ مَشْهُورٌ وَلَهُ حُكْمُ الْمَعْلُومِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ قَطْعِيَّةٌ ، وَأَنَّ الْعُمُومَاتِ الْقَطْعِيَّةَ لَا تُخَصَّصُ بِالظَّنِّيَّاتِ [ إشارة إلى أن حديثي جابر وابن عمر في عدم ذكر النصاب يوافقان قوله تعالى  وءاتوا حقه يوم حصاده  ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِي فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ ، فَإِنَّ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ ظَنِّيَّانِ كِلَاهُمَا ، وَالْخَاصُّ أَرْجَحُ دَلَالَةً وَإِسْنَادًا , فَيُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ , تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ أَوْ قَارَنَ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ أَنَّهُ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ مُطْلَقًا ( الحنفية يقولون لكي يُبنى العام على الخاص لابد أن يكون الخاص مقارنًا للعام , لكن لو أتى الخاص بعد العام لا يخصصه , وإن جاء الخاص قبل العام , ينسخه العام , لكن عند الجمهور العام يبنى على الخاص مطلقًا وهو المذهب الحق ) وَهَكَذَا يَجِبُ الْبِنَاءُ إذَا جُهِلَ التَّارِيخُ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَقَامَ النِّزَاعِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ , وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : تَجِبُ فِي جَمِيعِ مَا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الْأَرْضِ إلَّا الْحَطَبَ وَالْقَضْبَ [ القضب موجودة في المغني : القصب , فيكون القضب : البرسيم , لكن البرسيم يُقصد به نمو الأرض ] اوَالْحَشِيشَ وَالشَّجَرَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ ثَمَرٌ انْتَهَى . وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ دَاوُد أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُهُ الْكَيْلُ يُرَاعَى فِيهِ النِّصَابُ ، وَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْكَيْلُ فَفِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْجَمْعِ [ في الحقيقة : مذهب داود متين جدًا لولا حديث معاذ الآتي ] وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَقْوَى الْمَذَاهِبِ وَأَحْوَطُهَا لِلْمَسَاكِينِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ انْتَهَى . [ كيف يكون أقوى المذاهب وقد أطاح بحديثي جابر وأبي سعيد وغيرهما ؟ وكان ينبغي أن يقول : وأحوط المذاهب للمساكين مذهب أبي حنيفة ] وَهَهُنَا مَذْهَبٌ ثَالِثٌ حَكَاهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ عَنْ الْبَاقِرِ وَالصَّادِقِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ ؛ إذْ هِيَ الْمُعْتَادَةُ فَانْصَرَفَ إلَيْهَا ، وَهُوَ قَصْرٌ لِلْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِلَا دَلِيلٍ [ كأن هذا المذهب مثل مذهب داود , لكنهم قالوا : إن ما يدخله الكيل هو التمر والبر والزبيب والشعير ] قال ابن قدامة : وَتُعْتَبَرُ خَمْسَةُ الْأَوْسُقِ بَعْدَ التَّصْفِيَةِ فِي الْحُبُوبِ ، وَالْجَفَافِ فِي الثِّمَارِ ( حتى لا يؤدي إلى ظلم صاحب المال فَلَوْ كَانَ لَهُ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ عِنَبًا ، لَا يَجِيءُ مِنْهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَبِيبًا ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ... وَرَوَى الْأَثْرَمُ عن أحمد أنه يُعْتَبَرُ نِصَابُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ عِنَبًا وَرُطَبًا ( وهذه رواية عند أحمد أن النصاب يعتبر من العنب وليس من الزبيب ومن الرطب وليس من التمر ) وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مِثْلُ عُشْرِ الرُّطَبِ تَمْرًا ... وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ يُؤْخَذُ عُشْرُ مَا يَجِيءُ بِهِ مِنْهُ مِنْ التَّمْرِ إذَا بَلَغَ رُطَبُهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ؛ لِأَنَّ إيجَابَ قَدْرِ عُشْرِ الرُّطَبِ مِنْ التَّمْرِ إيجَابٌ لِأَكْثَرَ مِنْ الْعُشْرِ ، وَذَلِكَ يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَدَ ... انتهى - المغني (2/690) .
قال مقيده :
القول الأول طبعًا هو القول الأقوى أن الخمس أوسق تعتبر بعد تصفية الحبوب وجفاف الثمار ؛ لأن رواية أبي سعيد : " ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب " تعتبر كاشفة , أي : من تمر وليس من رطب ] .
معنى الرواية الثانية لأحمد والتي ذكرها ابن قدامة – وهذا للفهم فقط ؛ لأنها رواية مرجوحة - : لو بلغت خمسة أوقص من الرطب يُخْرَجُ العشر أو نصف العشر على حسب طريقة الري , فابن قدامة يوجه الكلام فيقول : قصد أحمد رحمه الله في هذه الرواية أنها لو بلغت خمسة أوسق من الرطب , يُخرَجُ العشر ( نصف وسق ) , فلو قلنا : سننتظر ونخرج نصف وسق تمر , يكون هذا ظلم ؛ لأن هذه خمسة أوسق رطب , وليست خمسة أوسق تمر , وبذلك جعلناه يخرج أكثر من المفروض عليه , لكن توجيه كلام أحمد : بأنها لو بلغت خمسة أوسق رطب, نخرج عشر ما يَرْميه هذا الرطب من تمر.
قال ابن قدامة : فَصْلٌ : وَلَا وَقَصَ فِي نِصَابِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ بَلْ مَهْمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ أَخْرَجَ مِنْهُ بِالْحِسَابِ ، فَيُخْرِجُ عُشْرَ جَمِيعِ مَا عِنْدَهُ . المغني (2/702) .
[ عندما أقول : فيما سقت الأنهار والأمطار العشور وفيما سقى بالساقية نصف العشور , فالفارق هنا في مقدار الزكاة هو طريقة الري , المراد بها أن يحتاج الماء إلى رفع من أسفل إلى أعلى ,
ولما أجد : " فيما دون خمسة أوسق صدقة " وتعتبر الأوساق الخمسة بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار ] .
1553 - ( وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ : { أَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ [ الصواب : موسى بن المغيرة – االإرواء ] أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرْضِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةً ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ : لَيْسَ لَك ذَلِكَ ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ  كَانَ يَقُولُ : لَيْسَ فِي ذَلِكَ صَدَقَةٌ } رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ ، هُوَ مِنْ أَقْوَى الْمَرَاسِيلِ لِاحْتِجَاجِ مَنْ أَرْسَلَهُ بِهِ ) [ موسى بن طلحة هو الذي أرسل الحديث وهو الذي احتج به ] قال الألباني : فلولا أن الحديث صحيح عن موسى بن طلحة , لَمَا احتجَّ به إن شاء الله تعالى - الإرواء (3/279) ] .
الشَّرْحُ
الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ مُعَاذٍ بِلَفْظِهِ , وَأَمَّا الْقِثَّاءُ وَالْبِطِّيخُ وَالرُّمَّانُ وَالْقَضْبُ فَعَفْوٌ ، عَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ  . قَالَ الْحَافِظُ : وَفِيهِ ضَعْفُ انْقِطَاعٍ . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ بَعْضَهُ مِنْ حَدِيثِ عِيسَى [ الصواب : موسى ] بْنِ طَلْحَةَ عَنْ مُعَاذٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَيْسَ يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ  شَيْءٌ ، يَعْنِي فِي الْخَضْرَاوَاتِ ، إنَّمَا يُرْوَى عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ النَّبِيِّ  مُرْسَلًا , وَذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْعِلَلِ وَقَالَ : الصَّوَابُ مُرْسَلٌ . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بَعْضَهُ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ : عِنْدَنَا كِتَابُ مُعَاذٍ . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ : مُوسَى تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ لَا يُنْكِرُ أَنَّهُ لَقِيَ مُعَاذًا [ لما يكون موسى بن طلحة ثقة ويقول : عندنا كتاب معاذ فهذه وجادة , فيكون الحديث متصلاً ] [ قال الألباني : وكذلك رواه الدارقطني , ووافق الذهبي الحاكم فقال : على شرطهما . قال الألباني : لا وجه عندي لإعلال هذا السند بالإرسال ؛ لأن موسى إنما يرويه عن كتاب معاذ , ويصرِّح بأنه كان عنده , فهي رواية من طريق الوجادة , وهي حجة على الراجح من أقوال أصول الحديث , ولا قائل باشتراط اللقاء مع صاحب الكتاب , وإنما يشترط الثقة بالكتاب , وأنه غير مدخول . فإذا كان موسى ثقةً , ويقول : " عندنا كتاب معاذ في ذلك " فهى وجادة من أقوى الوجادات ؛ لقرب العهد بصاحب الكتاب - الإرواء 801 3/276 ، وراجع تمام المنة ص 369 ] وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا وَلَا أَدْرَكَهُ . [ لكنا عرفنا أنه وإن لم يلق معاذًا لكنه روى عنه وجادة ] .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ . وَرَوَى الْبَزَّارُ وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ نَبْهَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا { لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ } قَالَ الْبَزَّارُ : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ إلَّا الْحَارِثَ بْنَ نَبْهَانَ , وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَدِيٍّ تَضْعِيفَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ مُوسَى مُرْسَلٌ . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ السِّنْجَارِيِّ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ فَقَالَ : عَنْ أَنَسٍ , بَدَلَ قَوْلِهِ : عَنْ أَبِيهِ ، وَلَعَلَّهُ تَصْحِيفٌ مِنْهُ ، وَمَرْوَانُ مَعَ ذَلِكَ ضَعِيفٌ جِدًّا . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مِثْلَهُ ، وَفِيهِ الصَّقْرُ بْنُ حَبِيبٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَفِي الْبَابِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ ، وَفِي إسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ .
قِيلَ عَنْهُ : إنَّهُ يَسْرِقُ الْحَدِيثَ , وَعَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضًا ، وَفِيهِ صَالِحُ بْنُ مُوسَى وَفِيهِ ضَعْفٌ , وَعَنْ عَلِيٍّ موقوفًا عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ , وَعَنْ عُمَرَ كَذَلِكَ عِنْدَهُ .
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَا : إنَّمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا يُكَالُ وَيُدَّخَرُ لِلِاقْتِيَاتِ , وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَخْرُجُ مِمَّا يُكَالُ وَيُدَّخَرُ وَلَوْ كَانَ لَا يُقْتَاتُ , وبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ . وَأَوْجَبَهَا فِي الْخَضْرَاوَاتِ الْهَادِي وَالْقَاسِمُ إلَّا الْحَشِيشَ وَالْحَطَبَ لِحَدِيثِ : { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ } وَوَافَقَهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ اسْتَثْنَى السَّعَفَ وَالتِّبْنَ , وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى :  خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً  ، وَقَوْلِهِ :  وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ  ، وَقَوْلِهِ :  وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ،  وَبِعُمُومِ حَدِيثِ { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } وَنَحْوِهِ , قَالُوا : وَحَدِيثُ الْبَابِ ضَعِيفٌ لَا يَصْلُحُ لِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ , وَأُجِيبَ بِأَنَّ طُرُقَهُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَيَنْتَهِضُ لِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ , وَيُقَوِّي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ { أَبِي مُوسَى وَمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُمَا النَّبِيُّ  إلَى الْيَمَنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ أَمْرَ دِينِهِمْ فَقَالَ : لَا تَأْخُذَا الصَّدَقَةَ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ : الشَّعِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَهُوَ مُتَّصِلٌ . [ ورواه الدارقطني , وقال الحاكم : صحيح الإسناد , ووافقه الذهبي , وأقره الزيلعي في نصب الراية وصححه الألباني [ إرواء الغليل (801) 3/277 . وطالما الرواة ثقات وفيه اتصال إذًا الحديث صحيح ] وَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ : { إنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ  الزَّكَاةَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ } فَذَكَرَهَا . وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عُمَرَ , قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : مُوسَى عَنْ عُمَرَ مُرْسَلٌ . وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِلَفْظِ : { إنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ  الزَّكَاةَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ } زَادَ ابْنُ مَاجَهْ " وَالذُّرَةِ " وَفِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيُّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ [ وانظر التلخيص الجبير (839) ] وَمَا أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ : { لَمْ تَكُنِ الصَّدَقَةُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ  إلَّا فِي خَمْسَةٍ } فَذَكَرَهَا [ قال الألباني : وهذا مع كونه مرسلاً فهو ضعيف ؛ لأن عتاب وحصيف ضعيفان ] ( الحديث من طريق عتاب الجزري عن حَصِيف عن مجاهد ) تمام المنة ص 369 ] وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ ( ضعيف جدًا تمام المنة ص 366 ) فَقَالَ : { لَمْ يَفْرِضْ الصَّدَقَةَ النَّبِيُّ  إلَّا فِي عَشَرَةٍ فَذَكَرَ الْخَمْسَةَ الْمَذْكُورَةَ وَالْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ  إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ : إنَّمَا الصَّدَقَةُ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : هَذِهِ الْمَرَاسِيلُ طُرُقُهَا مُخْتَلِفَةٌ وَهِيَ يُؤَكِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَمَعَهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى ، وَمَعَهَا قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ : " لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ زَكَاةٌ " انْتَهَى . فَلَا أَقَلَّ مِنْ انْتِهَاضِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لِتَخْصِيصِ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ الَّتِي قَدْ دَخَلَهَا التَّخْصِيصُ بِالْأَوْسَاقِ وَالْبَقَرِ الْعَوَامِلِ وَغَيْرِهِمَا ، فَيَكُونُ الْحَقُّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ مِنْ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ إلَّا فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ لَا فِيمَا عَدَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ مِمَّا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ . [ وهو قول ابن عمر وموسى بن طلحة وابن سيرين وابن المبارك وابن أبي ليلى وأبي عبيد , وذكر ابن قدامة أنه حُكِيَ عن أحمد - المغني (2/692) . وبه قال ابن حزم إلا في الزبيب - المحلى مسألة 640 5/209 ] وَأَمَّا زِيَادَةُ " الذُّرَةِ " فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ فِي إسْنَادِهَا مَتْرُوكًا وَلَكِنَّهَا مُتَعَضَّدَةٌ بِمُرْسَلِ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ . [ مرسل مجاهد ضعيف ] [ قال الألباني : وكأنه رحمه الله لم يتبع أسانيدها , وإلا لم يقل هذا , كيف ؟ ومرسل الحسن فيه متروك مع الشك في إحدى الروايتين عنه , والأخرى لو صحت تشهد للحديث الصحيح , وليس لهذه الزيادة المنكرة ( الذرة ) على أن الشوكاني رَجَعَ عن الذرة في السيل الجرار – السيل الجرار 2/43 - تمام المنة ص 370 ] .
فعندما نأتي لنفحص هذا الأمر , سنرتبه على هذه الطريقة :
(1) ما رواه الحاكم والطبراني والبيهقي من حديث أبي موسى ومعاذ حينما بعثهما النبي  إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم فقال " فلا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة : الشعير – الحنطة – الزبيب والتمر " والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي وأقره الزيلعي وقال البيهقي : رواته ثقات , وهو متصل , وصححه الشيخ الألباني , فهذا عن معاذ وأبي موسى عن النبي  مباشرةً .
(2) والحديث السابق موافق لِما رواه الحاكم والدارقطني عن موسى بن طلحة عندما قال : " عندنا كتاب معاذ " وهذه وجادة من أقوى الوجادات , ومن ثَمَّ صححه الحاكم على شرطهما , ووافقه الذهبي .
(3) وكذلك موسى بن طلحة احتج بهذا على موسى بن المغيرة مما يدل على أن الحديث صحيح عنده , وهو قول ابن عمر , وعن ابن عمر في صدقة الثمار والزرع قال : ما كان من نخل أو عنب أو حنطة أو شعير . رواه أبو عبيد بسند صحيح - تمام المنة ص 372 ] .
1554 - ( وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ , ثُمَّ يُخَيِّرُ يَهُودَ يَأْخُذُونَهُ بِذَلِكَ الْخَرْصِ أَوْ يَدْفَعُونَهُ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْخَرْصِ لِكَيْ يُحْصِيَ الزَّكَاةَ قَبْلَ أَنْ تُؤْكَلَ الثِّمَارُ وَتُفَرَّقَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد ) . ضعيف أبي داود (282) (10/115) .
1555 - ( وَعَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ  كَانَ يَبْعَثُ عَلَى النَّاسِ مَنْ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ كُرُومَهُمْ وَثِمَارَهُمْ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ ) .
1556 - ( وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ  أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ ، فَتُؤْخَذَ زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤْخَذُ صَدَقَةُ النَّخْلِ تَمْرًا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ) . ضعيف أبي داود (280) (10/112) .
1557 - ( وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلُثَ ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبْعَ } رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ ) ضعيف فيه مَن لا يُعْرَفُ – السلسلة الضعيفة ( 2556 ) وضعيف أبي داود ( 281 ) .
حَدِيثُ عَائِشَةَ فِيهِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالزُّهْرِيِّ وَلَمْ يُعْرَفْ [ قال الألباني : ورجاله كلهم ثقات غير أنه منقطع بين ابن جريج وابن شهاب , وله شاهد من حديث جابر عند البيهقي وأحمد والطحاوي , وفيه عنعنة أبي الزبير عن جابر غير أنه صرَّح بالتحديث في رواية ثانية لأحمد بسند صحيح على شرط مسلم . الإرواء تحت حديث (805) (3/280) ] وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالدَّارَقُطْنِيّ بِدُونِ الْوَاسِطَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ مُدَلِّسٌ فَلَعَلَّهُ تَرَكَهَا تَدْلِيسًا وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ فَقَالَ : رَوَاهُ صَالِحٌ عَنْ أَبِي الْأَخْضَرِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَرْسَلَهُ مَعْمَرٌ وَمَالِكٌ وَعَقِيلٌ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَبَا هُرَيْرَةَ . وَحَدِيثُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ ، وَبِاللَّفْظِ الثَّانِي النَّسَائِيّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيّ ، وَمَدَارُهُ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَتَّابٍ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد : لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ، وَقَالَ ابْنُ قَانِعٍ : لَمْ يُدْرِكْهُ وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ : انْقِطَاعُهُ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ مَوْلِدَ سَعِيدٍ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ ، وَمَاتَ عَتَّابٌ يَوْمَ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ ، وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ . وَقَالَ ابْنُ السَّكَنِ : لَمْ يَرْوِ عَنْ رَسُولِ اللَّه  مِنْ وَجْهٍ غَيْرُ هَذَا ، وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِسَنَدٍ فِيهِ الْوَاقِدِيُّ فَقَالَ : عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : الصَّحِيحُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ " أَنَّ النَّبِيَّ  أَمَرَ عَتَّابًا " مُرْسَلٌ وَهَذِهِ رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ . وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ ، وَفِي إسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ نِيَارٍ الرَّاوِي عَنْ ابْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَقَدْ قَالَ الْبَزَّارُ : إنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ . وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : لَا يُعْرَفُ حَالُهُ . قَالَ الْحَاكِمُ : وَلَهُ شَاهِدٌ بِإِسْنَادٍ مُتَّفَقٍ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ بِهِ وَمِنْ شَوَاهِدِهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا { خَفِّفُوا فِي الْخَرْصِ } الْحَدِيثَ , وَفِي إسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْخَرْصِ فِي الْعِنَبِ وَالنَّخْلِ [ وقد عمل بالخرص النبي  فخرص على أمرأه بوادي القرى حديقة لها( ) ) متفق عليه من حديث أبي حميد الساعدي - تلخيص الجبير (848) .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ بِوُجُوبِهِ مُسْتَدِلًّا بِمَا فِي حَدِيثِ عَتَّابٍ مِنْ " أَنَّ النَّبِيَّ  أَمَرَ بِذَلِكَ ,
وَذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَمَالِكٌ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ جَائِزٌ فَقَطْ , وَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا إلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ , وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَرُدُّ عَلَيْهِ [ العمل بالتخريص مذهب الجمهور , وعزاه ابن قدامة لأكثر أهل العلم , قال : وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْخَرْصَ بِدْعَةٌ . وَقَالَ أَهْلُ الرَّأْيِ : الْخَرْصُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ ، لَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَرْصُ تَخْوِيفًا لِلْأَكَرَةِ لِئَلَّا يَخُونُوا ، فَأَمَّا أَنْ يَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ فَلَا ... وَقَوْلُهُمْ : هُوَ ظَنٌّ . قُلْنَا : بَلْ هُوَ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الثَّمَرِ وَإِدْرَاكِهِ بِالْخَرْصِ ، الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْمَقَادِيرِ وَالْمَعَايِيرِ ، فَهُوَ كَتَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ . وَلِأَنَّ فَائِدَةَ الْخَرْصِ مَعْرِفَةُ الزَّكَاةِ ، وَإِطْلَاقُ أَرْبَابِ الثِّمَارِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا . المغني (2/706) ، وقد صح حديثان في التخريص فلا وجه لإنكاره ] وَقَدْ قَصْرَ جَوَازَ الْخَرْصِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ فَقَالَ : لَا يَجُوزُ إلَّا فِي النَّخْلِ وَالْعِنَبِ ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ شُرَيْحٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ ، وَقِيلَ : يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالْخَرْصِ [ لا نحتاج إلى هذا إلا فى النخل والعنب ] .
وَاخْتَلَفَ فِي خَرْصِ الزَّرْعِ فَأَجَازَهُ لِلْمَصْلَحَةِ الْإِمَامُ يَحْيَى وَمَنَعَتْهُ الْهَادَوِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ [ ووقت الخرص حين يبدو الصلاح هو لقول عائشة رضي الله عنها : كَانَ النَّبِيُّ  يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إلَى يَهُودَ ، فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمْ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ . المغني (2/706) ] .
قَوْلُهُ : ( وَدَعَوَا الثُّلُثَ ) قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : لَهُ مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَتْرُكَ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبْعَ مِنْ الْعُشْرِ .
وَثَانِيهِمَا أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ أَنْ تُعْشَرَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أَنْ يَدَعَ ثُلُثَ الزَّكَاةِ أَوْ رُبْعَهَا لِيُفَرِّقَهَا هُوَ بِنَفْسِهِ . وَقِيلَ : يَدْعُ لَهُ وَلِأَهْلِهِ قَدْرَ مَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَخْرُصُ وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ الصَّلْتِ بْنِ زُبَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْخَرْصِ فَقَالَ : أَثْبِتْ لَنَا النِّصْفَ وَبَقِّ لَهُمْ النِّصْفَ فَإِنَّهُمْ يَسْرِقُونَ وَلَا تَصِلُ إلَيْهِمْ } [ قال الشيخ لم أعثر عليه ] .
1558 - ( وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ  عَنْ الْجُعْرُورِ وَلَوْنِ الْحُبَيْقِ أَنْ يُؤْخَذَا فِي الصَّدَقَةِ } قَالَ الزُّهْرِيُّ : تَمْرَيْنِ مِنْ تَمْرِ الْمَدِينَةِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ) . صحيح أبي داود (1425) (5/315) .
1559 - ( وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ  :  وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ  ، قَالَ : هُوَ الْجُعْرُورُ وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ ، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ  أَنْ يُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ الرُّذَالَةُ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ ) صحيح أبي داود (1425) . وسنن النسائي (5/43) .
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ , وَرِجَالُ إسْنَادِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ [ لكنهم أنكروا قوله : " عن أبيه " , فيكون عن أبي أُمامة مباشرة , وأقل أحواله أن يكونَ مرسلَ صحابي , وهو حجة بالاتفاق , وراجع صحيح أبي داود ] وَالْحَدِيثُ الثَّانِي فِي إسْنَادِهِ عَبْدُ الْجَلِيلِ بْنُ حَبِيبِ الْيَحْصُبِيُّ وَلَا بَأْسَ بِهِ وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ وَقَدْ أَخْرَجَ نَحْوَهُ التِّرْمِذِيُّ [ الحديث في سنن الترمذى (2987) (5/218) وقال الألباني : صحيح – صحيح الترمذى (2389) ] وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ ، قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى :  وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ  ، نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ كُنَّا أَصْحَابَ نَخْلٍ ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ نَخْلِهِ عَلَى قَدْرِ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي بِالْقِنْوِ وَالْقِنْوَيْنِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إذَا جَاعَ أَتَى الْقِنْوَ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فَسَقَطَ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ فَيَأْكُلُ ، وَكَانَ نَاسٌ مِمَّنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ يَأْتِي الرَّجُلَ بِالْقِنْوِ فِيهِ الشِّيصُ [ الشيص بكسر الشين : تمر لا يشتد نواه – القاموس ] وَالْحَشَفُ وَالْقِنْوِ قَدْ انْكَسَرَ فَيُعَلِّقُهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ  ، قَالَ  : لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أُهْدِيَ إلَيْهِ مِثْلُ مَا أَعْطَى لَمْ يَأْخُذْهُ إلَّا عَلَى إغْمَاضٍ وَحَيَاءٍ . قَالَ : فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ يَأْتِي أَحَدُنَا بِصَالِحِ مَا عِنْدَهُ [ وعن عوف بن مالك  قال : دخل علينا رسول الله  وفي يده عصا , الْمَسْجِدَ وَبِيَدِهِ عَصَا وَقَدْ عَلَّقَ رَجُلٌ قَنَا حَشَفًا فَطَعَنَ بِالْعَصَا فِي ذَلِكَ الْقِنْوِ وَقَالَ لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا , وَقَالَ : إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَأْكُلُ الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . رواه أبو داود والنسائي . وقال الألباني : حسن . صحيح أبي داود (1426) (5/316) قال السِّندي : الحشف هو الفاسد اليابس من التمر – سنن النسائي 5/44 ] .
قَوْلُهُ : ( الْجُعْرُورُ ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا رَاءٌ قَالَ فِي الْقَامُوسِ : هُوَ تَمْرٌ رَدِيءٌ . قَوْلُهُ : ( وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَهَا قَافٌ قَالَ فِي الْقَامُوسِ : حُبَيْقٌ كَزُبَيْرٍ : تَمْرٌ دَقَلٌ ( ردئ التمر ) ففي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير  قال : ذُكِرَتِ الدنيا عند عمر  وما أصاب الناس منها . فقال عمر  : لقد رأيت رسول الله  يظل اليوم يتلوى من الجوع , ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه ) ] . قَوْلُهُ : ( الرُّذَالَةُ ) بِضَمِّ الرَّاءِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ : هِيَ مَا انْتَفَى جَيِّدُهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ [ مثل الحثالة ففي حديث مِرْدَاسٍ الأسلمي  في صحيح البخاري أن رسول الله  قال : يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ وَيَبْقَى حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ الشَّعِيرِ أَوْ التَّمْرِ لَا يُبَالِيهِمْ اللَّهُ بَالَةً( ) ] .
قَوْلُهُ : ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ  ...إلَخْ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَ الرَّدِيءَ عَنْ الْجَيِّدِ [ الجيد يخرج من جيد , والردئ يخرج منه ردئ , كما قلنا في المواشي : إلا أن يشاء ربها ] الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ نَصًّا فِي التَّمْرِ وَقِيَاسًا فِي سَائِرِ الْأَجْنَاسِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ . [ ولِم القياس والآية عامة  يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تُغمضوا فيه  وهذا يشمل كل شئ ] .
بَابُ : مَا جَاءَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ
1560 - ( عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ الْمُتَعِيِّ قَالَ : { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّ لِي نَخْلًا ، قَالَ : فَأَدِّ الْعُشُورَ ، قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِ لِي جَبَلَهَا ، قَالَ : فَحَمَى لِي جَبَلَهَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ ) . سنن ابن ماجه (1823) (1/584) .
1561 - ( وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ  أَنَّهُ { أَخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرَ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةَ [ في إسناده نُعَيم بن حمَّاد وهو ضعيف (3/284) ] . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ : جَاءَ هِلَالٌ أَحَدُ بَنِي مُتْعَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ  بِعُشُورِ نَخْلٍ لَهُ (3/284) ، وَكَانَ سَأَلَهُ أَنْ يَحْمِيَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ : سَلَبَةُ ، فَحَمَى لَهُ ذَلِكَ الْوَادِي فَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَتَبَ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ إلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَكَتَبَ عُمَرُ : إنْ أَدَّى إلَيْكَ مَا كَانَ يُؤَدِّي إلَى رَسُولِ اللَّهِ  مِنْ عُشُورِ نَخْلِهِ فَاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ ، وَإِلَّا فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَنْ يَشَاءُ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ . [ صحيح الإرواء تحت حديث (810) (3/284) ] وَلِأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ بِنَحْوِهِ وَقَالَ : مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ )
الشَّرْحُ
حَدِيثُ أَبِي سَيَّارَةَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ [ قال البوصيري : أبو سيارة ليس له عند ابن ماجة إلا هذا الحديث الواحد , وليس له شئ في الأصول الخمسة – سنن ابن ماجه (1823) (1/584) ] . قال مقيده : [ ليس له حديث فى الكتب الستة إلا هذا الحديث ] وَهُوَ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ قَالَ الْبُخَارِيُّ : لَمْ يُدْرِكْ سُلَيْمَانُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ شَيْءٌ [ واضح أن الحديث الذي عند أبي داود والنسائي أن هلال أحد بني متعان طلب من النبي  أن يحميَ له وادي يقال له : سلبة , وكان يدفع للنبي  العشور مقابل أن يحمي له النبي  الوادي , وليس هذا زكاة ؛ بدليل أن عمر حينما كتب له سفيان بن وهب قال : إن أدَّى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله من عشور نخله فاحم له سلبة , وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء ] يَصِحُّ . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا يَقُومُ بِهَذَا حُجَّةٌ , وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : يُرْوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ وَابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مُسْنَدًا , وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شعيب عَنْ عُمَرَ مُرْسَلًا , قَالَ الْحَافِظُ : فَهَذِهِ عِلَّتُهُ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَابْنُ لَهِيعَةَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْإِتْقَانِ [ فعبد الرحمن بن الحارث وابن لهيعة اللذان روياه عن عمرو بن شعيب متصلاً , ضعيفاان لا تقوم بهما حجة , ويحيى بن سعيد الأنصاري رواه مرسلاً ] ، لَكِنْ تَابَعَهُمَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَحَدُ الثِّقَاتِ ، وَتَابَعَهُمَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ [ إسناد عمرو بن الحارث صحيح , وإسناد أُسامة بن زيد حسن – سنن ابن ماجه (1823) (1/584) ] عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ . وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ : { فِي الْعَسَلِ فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَزْقَاقٍ زِقٌّ } وَفِي إسْنَادِهِ صَدَقَةُ السَّمِينِ وَهُوَ ضَعِيفُ الْحِفْظِ وَقَدْ خُولِفَ [ قال الترمذي : سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال : هو عن نافع عن النبي  مرسل . قال الترمذي : في إسناده مقال , وقال : لا يصح عن النبي  في هذا الباب كبير شيء , وصدقه بن عبد الله ليس بحافظ . الإرواء (3/286) ] وَقَالَ النَّسَائِيّ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ , وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ : تَفَرَّدَ بِهِ صَدَقَةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَقَدْ تَابَعَهُ طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ ، ذَكَرَهُ الْمَرْوَزِيِّ , وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ تَضْعِيفهُ ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَقَالَ : هُوَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ  مُرْسَلٌ , وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ ، وَفِي إسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَرَّرٍ بِمُهْمَلَاتٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ ، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ أَنَّ النَّبِيَّ  اسْتَعْمَلَهُ عَلَى قَوْمِهِ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ : { أَدُّوا الْعُشْرَ فِي الْعَسَلِ } وَفِي إسْنَادِهِ مُنِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَالْأَزْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا . قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَسَعْدُ بْنُ أَبِي ذِئَابٍ يَحْكِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ  لَمْ يَأْمُرْهُ فِيهِ بِشَيْءٍ , وَأَنَّهُ شَيْءٌ هُوَ رَآهُ ، فَيَتَطَوَّعُ لَهُ بِهِ قَوْمُهُ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَيْسَ فِي الْبَابِ شَيْءٌ ثَابِتٌ [ هذه الأحاديث كلها ضعيفة , وحديث هلال ليس فيه أنه كان يدفعها على أنها زكاة , وإنما مقابل أن يحمي له النبي  سلبه , فقول البخاري وافق قول الترمذى , وقول ابن عبد البر , وقول ابن المنذر : ليس فى الباب شئ يصح ] .
قَوْلُهُ : ( مُتْعَانُ ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ ، وَكَذَا الْمُتَعِيُّ [ عند ابن ماجة : المتقي( ) ] . قَوْلُهُ : ( سَلَبَةَ ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ : هُوَ وَادٍ لِبَنِي مُتْعَانَ ، قَالَهُ : الْبَكْرِيُّ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ , وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ، وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، [ سوف يحكي ابن المنذر عن الجمهور خلاف هذا ] وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْهَادِي وَالْمُؤَيَّدِ بِاَللَّهِ وَأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ , وَقَدْ حَكَى الْبُخَارِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْعَسَلِ شَيْءٌ مِنْ الزَّكَاةِ [ إسناد أبي شيبة صحيح - الإرواء (3/286) ] وَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا مِثْلَ مَا رَوَى عَنْهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ ، وَلَكِنَّهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ , وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْجُمْهُورِ [ وهو مذهب داود وابن حزم مسألة (341) (5/230) ] إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَسَلِ ، وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَشَارَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ إلَى أَنَّ الَّذِي نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْجُمْهُورِ أَوْلَى مِنْ نَقْلِ التِّرْمِذِيِّ . وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي سَيَّارَةَ وَحَدِيثَ هِلَالٍ إنْ كَانَ غَيْرَ أَبِي سَيَّارَةَ لَا يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَسَلِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَطَوَّعَا بِهَا ، وَعَقَلَ عُمَرُ الْعِلَّةَ فَأَمَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ الصَّدَقَاتِ لَمْ يُخَيِّرْ فِي ذَلِكَ , وَبَقِيَّةُ أَحَادِيثِ الْبَابِ لَا تَنْتَهِضُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا , وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ الْوُجُوبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى { مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ أَتَى بِوَقْصِ الْبَقَرِ وَالْعَسَلِ فَقَالَ مُعَاذٌ : كِلَاهُمَا لَمْ يَأْمُرنِي فِيهِ  بِشَيْءٍ } قَوْلُهُ : ( وَإِلَّا فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُؤَدُّوا عُشُورَ النَّحْلِ ، فَالْعَسَلُ مَأْخُوذٌ مِنْ ذُبَابِ النَّحْلِ ، وَأَضَافَ الذُّبَابَ عَلَى الْغَيْثِ لِأَنَّ النَّحْلَ يَقْصِدُ مَوَاضِعَ الْقَطْرِ لمَا فِيهَا مِنْ الْعُشْبِ وَالْخِصْبِ . قَوْلُهُ : ( يَأْكُلُهُ مَنْ يَشَاءُ ) يَعْنِي الْعَسَلَ ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمُقَدَّرِ الْمَحْذُوفِ , وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَسَلَ الَّذِي يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ يَكُونُ مَنْ سَبَقَ إلَيْهِ أَحَقَّ بِهِ [ فالقول ما قال الشافعي ومالك والنووي والجمهور من أن العسل ليس فيه زكاة ؛ لأنه لم تصح فيه أحاديث ] .
بَابُ : مَا جَاءَ فِي الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ
1562 - ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ : { الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ ) . [ العجماء جرحها جبار : أي البهائم إذا أصابت أحد جرحته , فلا دية , وهذا على تفصيل , فهناك أحاديث تبيِّن أنها إن أتلفت شيئًا بالنهار فالضمان على مالك الشئ , أما بالليل فعلى صاحبها أن يكفها , وكذلك مَن تركها في طريق الناس أو في السوق أو كانت عقور فأصابت , فمالكها هو الضامن ] [ والبئر جبار : أي مَن كان يحفر في بئر فانهار عليه فهو هدر ، والمعدن جبار : أي مَن يعمل في المناجم وأصابه شئ فهو هدر , وليس هناك إصابة عمل إلا أن تعطيه الدولة نفسها , أما صاحب العمل فليس عليه شئ ؛ لأنه استأجره مقابل أُجرة يدفعها له , أمَّا إن أعطاه صاحب العمل بطيب نفس فجائز لكنه ليس حق عليه ] .
[ هذا الحديث قال ابن المنذر : لا نعلم أحدًا خالف هذا الحديث إلا الحسن البصري , فإنه فرَّق بين ما يوجد في أرض الحرب وأرض العرب , فقال : فيما يوجد في أرض الحرب : الخمس , وفيما يوجد في أرض العرب : الزكاة . المغني (3/19) ] .
1563 - ( وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمُزَنِيّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ ، وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إلَّا الزَّكَاةُ إلَى الْيَوْمِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ ) [ رواه أبو داود في باب في إقطاع الأراضين حديث رقم (5938) (4/258) في معالم السنة . وقال المنذري : هذا مرسل . قال الألباني : فالحديث بمجموع طرقه ثابت في إقطاع الأرض لا في أخذ الزكاة من المعادن ( أي بدون العبارة الأخيرة : لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم ) الإرواء (830) (3/311) [ وبهذا تكون المسألة طاحت , فإن كان في الركاز الخمس , فتخرج مرة واحد فقط , إذًا استقر الأمر عندنا أن الزكاة في تسعة أصناف [ التمر – الزبيب – الشعير – القمح – الإبل – الغنم – البقر – الذهب – الفضة ] .
الشَّرْحُ
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ لَهُ طُرُقٌ وَأَلْفَاظٌ , وَالْحَدِيثُ الثَّانِي أَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِدُونِ قَوْلِهِ : " وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ ...إلَخْ " . قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ أَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ : لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنْ النَّبِيِّ  إلَّا إقْطَاعُهُ , وَأَمَّا الزَّكَاةُ فِي الْمَعَادِنِ دُونَ الْخُمْسِ فَلَيْسَتْ مَرْوِيَّةً عَنْ النَّبِيِّ  . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : هُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ الْمَذْكُورِ مَوْصُولًا وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ ، وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ , وَرَوَاهُ أَبُو سَبْرَةَ الْمَدِينِيُّ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بِلَالٍ مَوْصُولًا لَكِنْ لَمْ يُتَابِعْ عَلَيْهِ , وَرَوَاهُ أَبُو أُوَيْسٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ [ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ضعيف جدًا , بل قال الشافعي : ركن من أركان الكذب ] وَعَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَأَخْرَجَهُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ أَبُو دَاوُد ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُشَارُ إلَيْهِ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي إقْطَاعِ الْمَعَادِنِ مِنْ كِتَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ [ كل هذه الطرق ليس فيها العبارة الأخيرة : لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم , وبذلك فهي لا تفيد إلا إقطاع الأرض ] قَوْلُهُ : ( الْعَجْمَاءُ ) سُمِّيَتْ الْبَهِيمَةُ عَجْمَاءَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ . قَوْلُهُ : ( جُبَارٌ ) أَيْ هَدَرٌ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ .
قَوْلُهُ : ( وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ ) الرِّكَازُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْكَافِ وَآخِرُهُ زَايٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّكْزِ بِفَتْحِ الرَّاءِ ، يُقَالُ : رَكَزَهُ يَرْكُزُهُ : إذَا دَفَعَهُ فَهُوَ مَرْكُوزٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ [ قال ابن قدامة : يُقَالُ : رَكَزَ الرُّمْحَ ، إذَا غَرَزَ أَسْفَلَهُ فِي الْأَرْضِ . وَمِنْهُ الرِّكْزُ وَهُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ ، قَالَ تَعَالَى :  أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا  ] .
قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : الرِّكَازُ : دَفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ [ وهو قول أحمد ] وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا : إنَّ الْمَعْدِنَ رِكَازٌ ، وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِقَوْلِ الْعَرَبِ : أَرْكَزَ الرَّجُلُ : إذَا أَصَابَ رِكَازًا ، وَهِيَ قِطَعٌ مِنْ الذَّهَبِ تَخْرُجُ مِنْ الْمَعَادِنِ , وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الْجُمْهُورُ فَقَالُوا : لَا يُقَالُ لِلْمَعْدِنِ : رِكَازٌ ، وَاحْتَجُّوا بِمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا بِالْعَطْفِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُغَايَرَةِ [ لأنه قال : والمعدن جبار وفي الركاز الخمس ] ، وَخَصَّ الشَّافِعِيُّ الرِّكَازَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . وَقَالَ الْجُمْهُورُ : لَا يُخْتَصُّ , وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ [ الجمهور ( مالك – أحمد – الشافعي ) قالوا : الركاز هو دفن الجاهلية إلا أن الشافعي جعله دفن الجاهلية من الذهب والفضة على الخصوص , أما أبو حنيفة فقال : الركاز المعدن , ورد عليه الجمهور بأن العطف فى الحديث نقيض المغايرة , والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من عدم الإختصاص ] .
قَوْلُهُ : ( الْقَبَلِيَّةِ ) مَنْسُوبَةٌ إلَى قَبَلِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْبَاءِ : وَهِيَ نَاحِيَةٌ مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خَمْسَةُ أَيَّامٍ , وَالْفَرْعُ : مَوْضِعٌ بَيْنَ نَخْلَةَ وَالْمَدِينَةِ . وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الرِّكَازِ الْخُمْسُ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي تَفْسِيرِهِ , قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ فِي الرِّكَازِ الْخُمْسَ إمَّا مُطْلَقًا أَوْ فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَدِيثِ اهـ [ أي رجح مذهب الجمهور أنها غير مختصة بالذهب والفضة ] وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ لَهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فَيَخْرُجُ الْخُمْسُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ [ الجمهور قالوا : سواء الذى عثر عليه ذمي أو مسلم عليه أن يخرج الخمس ؛ لأنها ليست زكاة , والشافعي قال : لا يؤخذ من الذمي ؛ لأن هذه زكاة ] وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَوْلُ [ وفيه نظر ] .
، بَلْ يَجِبُ إخْرَاجُ الْخُمْسِ فِي الْحَالِ ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَأَغْرَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فَحَكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ الِاشْتِرَاطَ ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ وَلَا كُتُبِ أَصْحَابِهِ ، وَمَصْرِفُ هَذَا الْخُمْسِ مَصْرِفُ خُمْسِ الْفَيْءِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَصْرِفُ الزَّكَاةِ , وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ [ ملخص ما سبق :
(1) تعريف الركاز .
(2) القدر الذى يؤخذ منه الخمس من قليله أو كثيره .
(3) يشمل الذمي والمسلم .
(4) لا يشترط فيه الحول .
(5) معرفة مصرفه , قال الجمهور : مصرف الفئ , وعند الشافعي مصرف الزكاة , ولأحمد روايتان ] .
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عَدَمُ اعْتِبَارِ النِّصَابِ ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْعِتْرَةُ , وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : يُعْتَبَرُ لِقَوْلِهِ  : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ } وَقَدْ تَقَدَّمَ , وَأُجِيبَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ فَلَا تَتَنَاوَلُ الْخَمْسَ وَفِيهِ نَظَرٌ .
قَوْلُهُ : ( فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إلَّا الزَّكَاةُ ) [ ذكرنا أنها غير ثابتة ] فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ : إنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَعَادِنِ الزَّكَاةُ وَهِيَ رُبْعُ الْعُشْرِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ , وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا قَوْلُهُ  : { فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ } وَيُقَاسُ غَيْرُهَا عَلَيْهَا , وَذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالزُّهْرِيُّ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ ؛ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرِّكَازِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ .
قال مقيده : الركاز هو دفن الجاهلية أي المدفون في الأرض . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ هَذَا الْحَدِيثَ ، إلَّا الْحَسَنَ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ ، وَأَرْضِ الْعَرَبِ ، فَقَالَ : فِيمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ الْخُمْسُ ، وَفِيمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ الزَّكَاةُ . وَأَوْجَبَ الْخُمْسَ فِي الْجَمِيعِ الزُّهْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسَةِ فُصُولٍ :
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّ الرِّكَازَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْخُمْسِ مَا كَانَ مِنْ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ . وهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ . وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِأَنْ تُرَى عَلَيْهِ عَلَامَاتُهُمْ ، كَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ ، وَصُوَرِهِمْ وَصُلُبِهِمْ ( جمع صليب ) ، وَصُوَرِ أَصْنَامِهِمْ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ ، أَوْ اسْمُ النَّبِيِّ  أَوْ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ وَالٍ لَهُمْ ( مثل عبد الملك بن مروان ) ، أَوْ آيَةٌ مِنْ قُرْآنِ أَوَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَهُوَ لُقَطَةٌ ( لأننا قلنا أن الركاز دفن الجاهلية وهذا في الإسلام ) ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ مُسْلِمٍ لَمْ يُعْلَمْ زَوَالُهُ عَنْهُ . وَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ ، وَعَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ الْكُفْرِ ، فَكَذَلِكَ . لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَارَ إلَى مُسْلِمٍ ، وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُهُ عَنْ مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَشْبَهَ مَا عَلَى جَمِيعِهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ .
الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا أَنْ يَجِدَهُ فِي مَوَاتٍ ( أرض ميتة ) ، أَوْ مَا لَا يُعْلَمُ لَهُ مَالِكٌ ، مِثْلُ الْأَرْضِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا آثَارُ الْمُلْكِ ، كَالْأَبْنِيَةِ الْقَدِيمَةِ ، وَالتُّلُولِ ، وَجُدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَقُبُورِهِمْ . فَهَذَا فِيهِ الْخُمْسُ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، سِوَى مَا ذَكَرْنَاهُ . وَلَوْ وَجَدَهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ عَلَى وَجْهِهَا ، أَوْ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ ، أَوْ قَرْيَةٍ خَرَابٍ ، فَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ ( لكن لو وجده في طريق مسلوك فهو لُقطة ) ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ  عَنْ اللُّقَطَةِ ؟ فَقَالَ : مَا كَانَ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ ، فَعَرِّفْهَا سَنَةً ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا ، وَإِلَّا فَلَكَ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ ، وَلَا فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ ، فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ . ( ورواه أبو داود أيضًا وإسناده حسن – صحيح الجامع (5658) .
الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنْ يَجِدَهُ فِي مِلْكِهِ الْمُنْتَقِلِ إلَيْهِ ، فَهُوَ لَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ كَافِرٍ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ ، فَكَانَ لِمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ كَالْغَنَائِمِ ، وَلِأَنَّ الرِّكَازَ لَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ ، لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا ، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ . ( هناك قول آخر , لكن هذا القول و الصواب أن دفن الجاهلية لمن ظهر عليه , لكن لو استأجرت رجلاً يحفر لي بئرًا فوجد كنزًا فهو حقه هو , لكن لو قلت له احفر لي هذه الأرض لأني أبحث عن كنز فوجده فهو لي وهو له أجرة الحفر ) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ ،:أَنْ يَجِدَهُ فِي مِلْكِ آدَمِيٍّ مُسْلِمٍ مَعْصُومٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ، فَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِصَاحِبِ الدَّارِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ ، فِي مَنْ اسْتَأْجَرَ حَفَّارًا لِيَحْفِرَ فِي دَارِهِ ، فَأَصَابَ فِي الدَّارِ كَنْزًا عَادِيًّا : فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ .
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِوَاجِدِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لَهُ فِي دَارِهِ ، فَأَصَابَ فِي الدَّارِ كَنْزًا : فَهُوَ لِلْأَجِيرِ ... وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ . وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ القاضي , وهذا القول هو الذي صححه القاضى أبو يعلى [ وهو القول الذي ينبغي أن يكون صحيحًا ؛ لأن الكنز لا يملك بملك الدار , وإنما هو لمَن وجده ] .
ويمكن تلخيص المسألة في قول الأوزاعي قال : إذَا اسْتَأْجَرْت أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لِي فِي دَارِي ، فَوَجَدَ كَنْزًا ، فَهُوَ لَهُ . وَإِنْ قُلْت : اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحْفِرَ لِي هَاهُنَا رَجَاءَ أَنَّ أَجِدَ كَنْزًا ، فَسَمَّيْتُ لَهُ ، فَلَهُ أَجْرُهُ ، وَلِي مَا يُوجَدُ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ ، أَنْ يَجِدَهُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ إلَّا بِجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ لَهُمْ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ ، فَهُوَ لِوَاجِدِهِ ، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ وَجَدَهُ فِي مَوَاتٍ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِي صِفَةِ الرِّكَازِ الَّذِي فِيهِ الْخُمْسُ : وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ مَالًا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ ، مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ [ الصفر من أنقى أنواع النحاس ] وَالنُّحَاسِ وَالْآنِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
القول الثاني : لَا تَجِبُ إلَّا فِي الْأَثْمَانِ ( الذهب – الفضة ) قال ابن قدامة : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْخُمُسَ يَجِبُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، فِي قَوْلِ إمَامِنَا ، وَمَالِكٍ ، وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ .
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : يُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِيهِ . والصواب طبعًا هو القول الأول .
الْفَصْلُ الرَّابِعُ : فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ فِي الرِّكَازِ وَمَصْرِفِهِ : أَمَّا قَدْرُهُ فَهُوَ الْخُمْسُ ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ ، وَأَمَّا مَصْرِفُهُ فقد قال أحمد فى رواية عنه : هُوَ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ . وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ . والرواية الثانية عن أحمد : مَصْرِفُهُ مَصْرِفُ الْفَيْءِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ ، وَأَقْيَسُ عَلَى مَذْهَبِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْمُزَنِيُّ .
الْفَصْلُ الْخَامِسُ : فِي مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمْسُ :
وَهُوَ كُلُّ مَنْ وَجَدَهُ ، مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ ، وَكَبِيرٍ وَصَغِيرٍ ، وَعَاقِلٍ وَمَجْنُونٍ ، إلَّا أَنَّ الْوَاجِدَ لَهُ إذَا كَانَ عَبْدًا فَهُوَ لِسَيِّدِهِ , وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَهُوَ لَهُمَا ، وَيُخْرِجُ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا . وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وأما الذمي فقد قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي الرِّكَازِ يَجِدُهُ الْخُمْسَ .
قَالَهُ مَالِكٌ ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَغَيْرُهُمْ .
[ ابن المنذر والطبري وابن عبد البر عندهم أن مخالفة الواحد والاثنين لا تقدح في صحة الإجماع ] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجِبُ الْخُمْسُ إلَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ؛ لِأَنَّهُ زَكَاةٌ . وَحُكِيَ عَنْهُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الرِّكَازَ . وهذا مردود بعموم الحديث .
كل ما سبق من المغني (3/19) . وهذا الملخص أفضل من الموجود في نيل الأوطار , والشوكاني عنده خطأ في العزو , والعبارات تجدها مختلطة .
أَبْوَابُ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ
بَابُ : الْمُبَادَرَةِ إلَى إخْرَاجِهَا
1564 - ( عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : { صَلَّى النَّبِيُّ  الْعَصْرَ فَأَسْرَعَ ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ ، فَقُلْتُ : أَوْ قِيلَ لَهُ [ يعني : كُلِّمَ في ذلك ] فَقَالَ : كُنْت خَلَّفْت فِي الْبَيْتِ تِبْرًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَكَرِهْت أَنْ أُبَيِّتَهُ فَقَسَمْتُهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ) . [ يؤيد ذلك قوله تعالى :  وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم  ] .
1565 - ( وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ : { مَا خَالَطَتْ الصَّدَقَةُ مَالًا قَطُّ إلَّا أَهْلَكَتْهُ } رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَالْحُمَيْدِيُّ ، وَزَادَ قَالَ : { يَكُونُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْك فِي مَالِكَ صَدَقَةٌ فَلَا تُخْرِجْهَا فَيُهْلِكُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ } ( وهذا الحديث رواه أيضًا البيهقي وابن عدي , وهو ضعيف – ضعيف الجامع (5057) . وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَرَى تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ ) .
[ لأننل لو قلنا أن الزكاة في الذمة وكان هذا الحديث صحيحًا سيكون هناك إشكالاً ؛ لأنه يقول : يأتي وقت الزكاة , فتأخر في إخراجها , فالحرام يهلك الحلال ؛ إذًا هذا متعلق بعين المال , وليس بالذمة , لكن الحديث ضعيف ] .
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ : ( تِبْرًا ) بِكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ : الذَّهَبُ الَّذِي لَمْ يَصْفُ وَلَمْ يُضْرَبْ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : لَا يُقَالُ إلَّا لِلذَّهَبِ ، وَقَدْ قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْفِضَّةِ انْتَهَى ، وَأَطْلَقَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى جَمِيعِ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تُصَاغَ وَتُضْرَبَ ، حَكَاهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ الْكِسَائِيّ ، كَذَا أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ دُرَيْدٍ [ يبدو أن الأكثرين على أن التبر لا يقال إلا للذهب ] .
قَوْلُهُ : ( أَنْ أُبَيِّتَهُ ) أَيْ أَتْرُكَهُ يَبِيتُ عِنْدِي . قَوْلُهُ : ( فَقَسَمْتُهُ ) فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ " فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ " .
وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُبَادَرَةِ بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : فِيهِ أَنَّ الْخَيْرَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادَرَ بِهِ ، فَإِنَّ الْآفَاتِ تَعْرِضُ وَالْمَوَانِعَ تَمْنَعُ ، وَالْمَوْتَ لَا يُؤْمَنُ ، وَالتَّسْوِيفَ غَيْرُ مَحْمُودٍ , زَادَ غَيْرُهُ : وَهُوَ أَخْلَصُ لِلذِّمَّةِ , وَأَنْفَى لِلْحَاجَةِ , وَأَبْعَدُ مِنْ الْمَطْلِ الْمَذْمُومِ , وَأَرْضَى لِلرَّبِّ تَعَالَى وَأَمْحَى لِلذَّنْبِ ، [ لو واحد وجبت عليه الزكاة يجب عليه أن يبادر إلى إخراجها , وممكن يعجل بها قبل أن يحل موعد الوجوب ] .
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ مُخَالَطَةِ الصَّدَقَةِ لِغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ سَبَبٌ لِإِهْلَاكِهِ , وَظَاهِرُهُ وَإِنْ كَانَ الَّذِي خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ عَازِمًا عَلَى إخْرَاجِهَا بَعْدَ حِينٍ ؛ لِأَنَّ التَّرَاخِيَ عَنْ الْإِخْرَاجِ مِمَّا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ [ لأن الأكثرين على أن الزكاة إذا حان وقت وجوبها فحق عليه أن يبادر بإخراجها عند أول أوقات التمكن ] ، أَعْنِي هَلَاكَ الْمَالِ ، وَاحْتِجَاجُ مَنْ احْتَجَّ بِهِ عَلَى تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالذِّمَّةِ لَمْ يَسْتَقِمْ هَذَا الْحَدِيثُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَالِ فَلَا يَسْتَقِيمُ اخْتِلَاطُهَا بِغَيْرِهَا وَلَا كَوْنُهَا سَبَبًا لَإِهْلَاكِ مَا خَالَطَتْهُ .
بَابُ : مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِهَا
1566 - ( عَنْ عَلِيٍّ  { أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سَأَلَ النَّبِيَّ  فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ } رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ ) . [ ساق الألباني لهذا للحديث ستة طرق ضعيفة ، والطريق السادس منها مرسل صحيح الإسناد , ثم نقل عن الحافظ قوله : وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموعة هذه الطرق . قال الألباني : وهو الذي نجزم به لصحة سندها مرسلاً , وهذه شواهد لم يشتد ضعفها فهو يتقوى بها ويرتقي إلى درجة الحسن على أقل الأحوال – الإرواء (857) ] .
قال مقيده : هذا بالإضافة إلى ما في الأمر من نظر أن الصلاة والصيام والحج عبادات محضة ولكن الزكاة حقوق مالية يجوز أدائها قبل حلول موعدها ] [ الجمهور على أنه يجوز تعجيل الزكاة قبل حلول موعدها والخلاف هنا عند مالك وابن حزم قالا : كيف يخرجها قبل أن تجب عليه ؟ فأجاب الجمهور أن هذه حقوق مالية كرجل عليه دين موعده يحل بعد ستة أشهر , فهل هناك ما يمنع من سداد هذا المال في الوقت الحالي ؟ فهذه فيها نفس المعنى أن الإنسان يجوز له أن يخرج الزكاة قبل أن يحل موعد وجوبها عليه , وإن نقص المال عن النصاب قبل حلول الموعد , لا يرجع إلى الفقير بشيء وأجره عند الله ] .
1567 - ( وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ  عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَقِيلَ : مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَبَّاسٌ عَمُّ النَّبِيِّ  ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ ؛ وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا ، قَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا ؛ ثُمَّ قَالَ : يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْت أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ ؟ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ [ هذا الحديث أقوى دليل احتج به مَن قال أن عروض التجارة فيها زكاة ؛ لأن زكاة خالد كانت أدراع وأعتاد . لكن الحديث تتطرق إليه احتمالات كثيرة كما سيأتي إن شاء الله ] . وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ عُمَرَ ، وَلَا مَا قِيلَ لَهُ فِي الْعَبَّاسِ ، وَقَالَ فِيهِ " فَهِيَ عَلَيْهِ وَمِثْلُهَا مَعَهَا " قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : أَرَى - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ أَخَّرَ عَنْهُ الصَّدَقَةَ عَامَيْنِ لِحَاجَةٍ عَرَضَتْ لِلْعَبَّاسِ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَخِّرَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ ، ثُمَّ يَأْخُذَهُ ، وَمَنْ رَوَى فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا ، فَيُقَالُ : كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ صَدَقَةَ عَامَيْنِ ، ذَلِكَ الْعَامِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ ) . حَدِيثُ عَلِيٍّ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ ، فِيهِ اخْتِلَافٌ ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَرَجَّحَ إرْسَالَهُ ، وَكَذَا رَجَّحَهُ أَبُو دَاوُد . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا أَدْرِي أَثَبَتَ أَمْ لَا ، يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ : { إنَّا كُنَّا احْتَجْنَا ، فَأَسْلَفَنَا الْعَبَّاسُ صَدَقَةَ عَامَيْنِ } رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا ، وَيُعَضِّدُهُ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ . قَوْلُهُ : ( يَنْقِمُ ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ , وَابْنُ جَمِيلٍ هَذَا قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ : لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ ، لَكِنْ وَقَعَ فِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ الشَّافِعِيِّ وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ بْنُ الْمُلَقِّنِ أَنَّ بَعْضَهُمْ سَمَّاهُ حُمَيْدًا , وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بَدَلَ ابْنِ جَمِيلٍ وَهُوَ خَطَأٌ لِإِطْبَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى ابْنِ جَمِيلٍ , وَقَوْلُ الْأَكْثَرِ : إنَّهُ كَانَ أَنْصَارِيًّا ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ فَهُوَ قُرَشِيٌّ فَافْتَرَقَا . قَوْلُهُ : ( وَأَعْتَادَهُ ) جَمْعُ عَتَادٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَوْقِيَّةٌ وَبَعْدَ الْأَلْفِ دَالٌ مُهْمَلَةٌ ، وَالْأَعْتَادُ : آلَاتُ الْحَرْبِ مِنْ السِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا , وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أَعْتِدَةٍ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ خَالِدٍ زَكَاةَ أَعْتَادِهِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا لِلتِّجَارَةِ وَأَنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ ، فَقَالَ لَهُمْ : لَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَيَّ ، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ  : إنَّ خَالِدًا مَنَعَ الزَّكَاةَ . فَقَالَ : إنَّكُمْ تَظْلِمُونَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَبَسَهَا وَوَقَفَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ الْحَوْلِ عَلَيْهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا [ لو كان المعنى على هذا النحو فهذا دليل على وجوب الزكاة في عروض التجارة ] ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَأَعْطَاهَا وَلَمْ يَشِحَّ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَفَ أَمْوَالَهُ لِلَّهِ تَعَالَى مُتَبَرِّعًا فَكَيْفَ يَشِحُّ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ ؟ وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا وُجُوبَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ خِلَافًا لِدَاوُدَ , وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ وَصِحَّةِ وَقْفِ الْمَنْقُولِ , وَبِهِ قَالَتْ الْأُمَّةُ بِأَسْرِهَا إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَبَعْضَ الْكُوفِيِّينَ [ هناك حديث ابن عمر في الصحيحين أن عمر أصاب حائط من خيبر كان أنفس أمواله إليه , فذهب إلى النبي  يستشيره كيف يتصرف فيها . فقال النبي  : احبس رقبتها وسبِّل ثمرتها ( لا تباع ولا توهب ولا تُوَرَّث , فما يأتي منها يأكل منه الفقراء , والأصل محبوس لله ) فأبو حنيفة اعتمد على الحديث الذي في الكتاب وهي أعتاد متنقلة ، ولكن هنا في حديث ابن عمر أرض ثابتة ] وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هَذِهِ الصَّدَقَةُ الَّتِي مَنَعَهَا ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدٌ وَالْعَبَّاسُ لَمْ تَكُنْ زَكَاةً إنَّمَا كَانَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ ، حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ : وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ وَذَكَرَ فِي رِوَايَتِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ  نَدَبَ النَّاسَ إلَى الصَّدَقَةِ } وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ [ كلهم يريدون أن لا يتهموا الصحابة ] قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَلْيَقُ بِالْقِصَّةِ ، وَلَا يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ مَنْعُ الْوَاجِبِ ، وَعَلَى هَذَا فَعُذْرُ خَالِدٍ وَاضِحٌ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَمَا بَقِيَ لَهُ مَالٌ يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ ، وَيَكُونُ ابْنُ جَمِيلٍ شَحَّ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَعَتَبَ عَلَيْهِ , وَقَالَ فِي الْعَبَّاسِ : " هِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا " أَيْ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ إذَا طُلِبَتْ مِنْهُ ، انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْقَصَّارِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا فِي الزَّكَاةِ لِقَوْلِهِ : { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ  عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ وَإِنَّمَا كَانَ يَبْعَثُ فِي الْفَرِيضَةِ } وَرَجَّحَ هَذَا النَّوَوِيُّ . قَوْلُهُ : ( فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا ) مِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ  أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ تَعَجَّلَ مِنْ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ : مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ { أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ لِعُمَرَ : إنَّا كُنَّا تَعَجَّلْنَا صَدَقَةَ مَالِ الْعَبَّاسِ عَامَ الْأَوَّلِ } وَمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّهُ  تَسَلَّفَ مِنْ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ } وَفِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ ذَكْوَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ , وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ ، وفِي إسْنَادِهِ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ , وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي إسْنَادِهِ مِنْدَلُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْعَزْرَمِيُّ وَهُمَا ضَعِيفَانِ ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ : مُرْسَلٌ . وَمِمَّا يُرَجِّحُ أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ  لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَمَّلَ مَا عَلَيْهِ لِأَجْلِ امْتِنَاعِهِ لَكَفَاهُ أَنْ يَتَحَمَّلَ مِثْلَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، وَأَيْضًا الْحَمْلُ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِيهِ سُوءُ ظَنٍّ بِالْعَبَّاسِ .
وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَلَوْ لِعَامَيْنِ ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَبِهِ قَالَ الْهَادِي وَالْقَاسِمُ . قَالَ الْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ : وَهُوَ أَفْضَلُ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَسُفْيَانُ وَالثَّوْرِيُّ وَدَاوُد وَأَبُو عُبَيْدِ بْنُ الْحَارِثِ ، وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ النَّاصِرُ : إنَّهُ لَا يُجْزِئُ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَعْلِيقُ الْوُجُوبِ بِالْحَوْلِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ وَتَسْلِيمُ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ التَّعْجِيلِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَوْلِ فَلَا نِزَاعَ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْإِجْزَاءِ قَبْلَهُ .
[ قال ابن قدامة : وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ . وَلَوْ مَلَكَ بَعْضَ نِصَابٍ فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ ، أَوْ زَكَاةَ نِصَابٍ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَ الْحُكْمَ قَبْلَ سَبَبِهِ ( يعنى لو واحد ملك نصف نصاب فأخرج زكاته , أو أخرج زكاة النصاب كله , لم يجز ؛ لأنه تعجل الشيء قبل وجوب سببه ) - المغني (2/631) ] لكن بعد اكتمال النصاب يجوز إخراج الزكاة قبل حولان الحول , وأما قبل اكتمال النصاب لا يجزئ .
بَابُ : تَفْرِقَةِ الزَّكَاةِ فِي بَلَدِهَا وَمُرَاعَاةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَا الْقِيمَةِ وَمَا يُقَالُ عِنْدَ دَفْعِهَا :
المسألة الأولى : عدم نقل الزكاة من بلدها .
المسألة الثانية : مراعاة ما نص عليه الشارع لا قيمته كما في حديث أنس : شاتين أو عشرين درهمًا .
المسألة الثالثة : ما يقال عند دفعها .
1568 - ( عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ : { قَدِمَ عَلَيْنَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ  فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَجَعَلَهَا فِي فُقَرَائِنَا ، فَكُنْتُ غُلَامًا يَتِيمًا فَأَعْطَانِي مِنْهَا قَلُوصًا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ) . ضعيف . ( القلوص لغةً : الفتية من الإبل , بمنزلة الجارية من النساء ، وقيل : هي الثنية ، وقيل : هي ابنة المخاض ، وقيل : هي كل أنثى من الإبل حين تُرْكَب - لسان العرب . وهذا لن يؤثر معنا في شيء ؛ لأن المسألة كلها أن أبا جحيفة كان غلامًا يتيمًا فأعطاه المُصَدِّقُ قَلُوصًا , أي : ناقة ) .
1569 - ( { وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ : أَيْنَ الْمَالُ قَالَ : وَلِلْمَالِ أَرْسَلْتَنِي ؟ أَخَذْنَاهُ مِنْ حَيْثُ كُنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ  وَوَضَعْنَاهُ حَيْثُ كُنَّا نَضَعُهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ ) . صحيح أبي داود ( 1437) .
1570 - ( وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ : كَانَ فِي كِتَابِ مُعَاذٍ : { مَنْ خَرَجَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ فَإِنَّ صَدَقَتَهُ وَعُشْرَهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ } رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ ) .
الشَّرْحُ
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ هُوَ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ ، وَهَؤُلَاءِ ثِقَاتٌ إلَّا أَشْعَثَ بْنَ سَوَّارٍ فِيهِ مَقَالٌ ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ لَهُ مُتَابَعَةً . قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ : وَفي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ [ قال : وحديث أبي جحيفة حديث حسن – الزيادة من سنن الترمذي حديث رقم (649) (3/31) , وضعف الألباني إسناده كما في ضعيف الترمذى (99) ] . وَالْحَدِيثُ الثَّانِي سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ وَرِجَالُ إسْنَادِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ إلَّا إبْرَاهِيمَ بْنَ عَطَاءٍ وَهُوَ صَدُوقٌ [ وحديث عمران موافق لحديث ابن عباس في الصحيحين : " فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم " ] وَالْحَدِيثُ الثَّالِثُ : أَخْرَجَهُ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى طَاوُسٍ بِلَفْظِ : " مَنْ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَصَدَقَتُهُ وَعُشْرُهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ " وَفِي الْبَابِ عَنْ مُعَاذٍ عَنْ الشَّيْخَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ  لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَضَعْهَا فِي فُقَرَائِهِمْ } وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَرْفِ زَكَاةِ كُلِّ بَلْدَةٍ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِهِ وَكَرَاهَةِ صَرْفِهَا فِي غَيْرِهِمْ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا فِي غَيْرِ فُقَرَاءِ الْبَلَدِ . وَقَالَ غَيْرُهُمْ : إنَّهُ يَجُوزُ مَعَ كَرَاهَةٍ [ قال الحافظ : وقد اختلف العلماء في هذه المسألة , فأجاز النقل الليث وأبو حنيفة وأصحابهما ونقله ابن المنذر عن الشافعي واختاره . والأصح عند الشافعية والمالكية والجمهور : ترك النقل , فلو خالف ونقل , أجزأ عند المالكية على الأصح , ولم يجز عند الشافعية على الأصح , إلا إذا فقد المستحقون لها – فتح الباري (3/419) .
ونقل ابن قدامة عن أحمد أنه لا يجوز نقل الصدقة من بلدها إلى مسافة القصر , فإن خالف ونقلها أجزأته في قول أكثر أهل العلم – المغني (2/672) .
قلت : وهو المعتمد إذ لا دليل على الشرطية .
مسألة : قَالَ أَحْمَدُ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي بَلَدٍ ، وَمَالُهُ فِي بَلَدٍ ، فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ تُؤَدَّى حَيْثُ كَانَ الْمَالُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَيْثُ هُوَ ، وَبَعْضُهُ فِي مِصْرٍ ، يُؤَدِّي زَكَاةَ كُلِّ مَالٍ حَيْثُ هُوَ ... فَإِنْ كَانَ الْمَالُ تِجَارَةً يُسَافِرُ بِهِ , يُفَرِّقُ زَكَاتَهُ حَيْثُ حَالَ حَوْلُهُ ، فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ . المغني (2/673) .
لِمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ  كَانَ يَسْتَدْعِي الصَّدَقَاتِ مِنْ الْأَعْرَابِ إلَى الْمَدِينَةِ وَيَصْرِفُهَا فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؛ كَمَا أَخْرَجَ النَّسَائِيّ [ يبدو أنها السنن الكبرى ؛ لأنني لم أقف عليه في السنن الصغرى بعد طول بحث ] مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ  فَقَالَ : كِدْت أَنْ أُقْتَلَ بَعْدَك فِي عَنَاقٍ أَوْ شَاةٍ مِنْ الصَّدَقَةِ ، فَقَالَ  : لَوْلَا أَنَّهَا تُعْطَى فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ مَا أَخَذْتُهَا } ضعفه الألباني . وَلِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ : " ائْتُونِي بِكُلِّ خَمِيسٍ [ الخميس : ثوب طوله خمسة أذرع ] وَلَبِيسٍ [ اللبيس : هو الملبوس ، قاله الداودي والجوهري – فتح الباري (3/366) الذراع : ما بين طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى ( شبرين ) أنثى وقد تُذَكَّر - لسان العرب . آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ أَرْفَقُ بِكُمْ وَأَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ " وَفِيهِ انْقِطَاعٌ . وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ : إنَّهُ مُرْسَلٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لَا سِيَّمَا مَعَ مُعَارَضَتِهِ لِحَدِيثِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَعْضُ الرُّوَاةِ : مِنْ الْجِزْيَةِ ، بَدَلَ قَوْلِهِ : الصَّدَقَةِ ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ كِفَايَةِ مَنْ فِي الْيَمَنِ ، وَإِلَّا فَمَا كَانَ مُعَاذٌ لِيُخَالِفَ رَسُولَ اللَّهِ  [ هذا الأثر ( أثر معاذ ) فيه (1) أنه قول صحابي – ثم (2) أنه مرسل و (3) لفظة الصدقة جاءت في بعض الطرق بلفظة الجزية و (4) مخالف لحديثه المتفق عليه ] . قَوْلُهُ : ( مِنْ مِخْلَافٍ ...إلَخْ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ انْتَقَلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ كَانَ زَكَاةُ مَالِهِ لِأَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي انْتَقَلَ مِنْهُ مَهْمَا أَمْكَنَ إيصَالُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ .
1571 - ( وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ : خُذْ الْحَبَّ مِنْ الْحَبِّ ، وَالشَّاةَ مِنْ الْغَنَمِ , وَالْبَعِيرَ مِنْ الْإِبِلِ ، وَالْبَقَرَةَ مِنْ الْبَقَرِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَة . ضعيف – ضعيف الجامع (2816) والسلسلة الضعيفة (3544). وَالْجُبْرَانَاتُ الْمُقَدَّرَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيمَةَ لَا تُشْرَعُ وَإِلَّا كَانَتْ تِلْكَ الْجُبْرَانَاتُ عَبَثًا ) الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِهِمَا ، وَفِي إسْنَادِهِ عَطَاءٌ عَنْ مُعَاذٍ ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ فِي سَنَةِ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ . وَقَالَ الْبَزَّارُ : لَا نَعْلَمُ أَنَّ عَطَاءً سَمِعَ مِنْ مُعَاذٍ , وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا تَجِبُ الزَّكَاةُ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا إلَى الْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِهَا وَعَدَمِ الْجِنْسِ [ ذكرنا قبل ذلك أنه لو وجب عليه بنت لبون أو بنت مخاض , وليست عنده , يمكنه أن يشتريَ , فإن لم يشترِ وليست عنده , يدفع الأكبر ويأخذ من المُصَدِّق شاتين أو عشرين درهمًا أو يدفع الأقل ويدفع معها شاتين أو عشرين درهمًا ] ، وَبِذَلِكَ قَالَ الْهَادِي وَالْقَاسِمُ وَالشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ يَحْيَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ : إنَّهَا تُجْزِئُ مُطْلَقًا ، وَبِهِ قَالَ النَّاصِرُ وَالْمَنْصُورُ بِاَللَّهِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ مُعَاذٍ : " ائْتُونِي بِكُلِّ خَمِيسٍ وَلَبِيسٍ " فَإِنَّ الْخَمِيسَ وَاللَّبِيسَ لَيْسَ إلَّا قِيمَةً عَنْ الْأَعْيَانِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ ، وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ فِعْلُ صَحَابِيٍّ لَا حُجَّةَ فِيهِ ، فِيهِ انْقِطَاعٌ وَإِرْسَالٌ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي الشَّرْحِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا ، فَالْحَقُّ أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ مِنْ الْعَيْنِ لَا يُعْدَلُ عَنْهَا إلَى الْقِيمَةِ إلَّا لِعُذْرٍ . قَوْلُهُ : ( وَالْجُبْرَانَاتُ ) بِضَمِّ الْجِيم جَمْعُ جُبْرَانٍ : وَهُوَ مَا يُجْبَرُ بِهِ الشَّيْءُ ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ السَّابِقِ : " وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا " فَإِنَّ ذَلِكَ وَنَحْوَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَيْنِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِيمَةُ هِيَ الْوَاجِبَةَ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَبَثًا لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ ، فَتَقْدِيرُ الْجُبْرَانِ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ لَا يُنَاسِبُ تَعَلُّقَ الْوُجُوبِ بِالْقِيمَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى طَرَفٍ مِنْ هَذَا .
1572 - ( وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { إذَا أَعْطَيْتُمْ الزَّكَاةَ فَلَا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا أَنْ تَقُولُوا : اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا ، وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ) . موضوع – ضعيف الجامع (386) , الإرواء(852) .
1573 - ( وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  إذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَةٍ قَالَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ ، فَأَتَاهُ أَبِي أَبُو أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) . قال الألباني : ذكر البوصيري لهذا الحديث شاهدًا الحديث الآتي ( ابن أبي أوفى ) ولست أدري كيف يكون هذا شاهدًا لذلك وهو في الدعاء للمتصدق من غيره , وذاك في دعاء المتصدق لنفسه مع اختلاف صيغة الدعاء فيهما – الإرواء (3/344) ] .
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : إسْنَادُهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَةَ هَكَذَا : حَدَّثَنَا سُوَيْد بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الْبَخْتَرِيِّ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَهُ [ البخترى عن أبيه قال أبو نعيم : روى عن أبيه عن أبي هريرة موضوعات – الإرواء (3/344) ] وَالْبَخْتَرِيُّ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّابِخِيُّ مَتْرُوكٌ .وَسُوَيْدِ بْنُ سَعِيدٍ فِيهِ مَقَالٌ .
وَفِي الْبَابِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عِنْدَ النَّسَائِيّ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : فِي رَجُلٍ بَعَثَ بِنَاقَةٍ حَسَنَةٍ فِي الزَّكَاةِ : اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَفِي إبِلِهِ } صحيح النسائي (2306) .
قَوْلُهُ : ( فَلَا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا أَنْ تَقُولُوا ) كَأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْقَوْلَ نَفْسَ الثَّوَابِ مَا كَانَ لَهُ دَخْلٌ فِي زِيَادَةِ الثَّوَابِ . قَوْلُهُ : ( اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ ) فِي رِوَايَةٍ : " عَلَى آلِ فُلَانٍ " وَفِي أُخْرَى : " عَلَى فُلَانٍ " قَوْلُهُ : ( عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى ) يُرِيدُ أَبَا أَوْفَى نَفْسَهُ ؛ لِأَنَّ الْآلُ يُطْلَقُ عَلَى ذَاتِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ { أَبِي مُوسَى : لَقَدْ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد } [ المراد بالمزامير : مزامير داود , وأكثر صيغ الصلاة على النبي  : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ] وَقِيلَ : لَا يُقَالُ ذَلِكَ إلَّا فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْجَلِيلِ الْقَدْرِ . وَاسْمُ أَبِي أَوْفَى عَلْقَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيُّ ، شَهِدَ هُوَ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ . وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ . قَالَ ابْنُ التِّينِ : وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعَكَّرُ عَلَيْهِ . وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : يَدْعُو آخِذُ الصَّدَقَةِ للمتصدق بِهَذَا الدُّعَاءِ لِهَذَا الْحَدِيثِ , وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ إلَّا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ الْمَدْعُوِّ لَهُ ، فَصَلَاةُ النَّبِيِّ  عَلَى أُمَّتِهِ دُعَاءٌ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ ، وَصَلَاةُ أُمَّتِهِ دُعَاءٌ لَهُ بِزِيَادَةِ الْقُرْبَةِ وَالزُّلْفَى , ولِذَلِكَ كَانَتْ لَا تَلِيقُ بِغَيْرِهِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ أَخْذِ الزَّكَاةِ لِمُعْطِيهَا . وَأَوْجَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ , وَحَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ . وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ  السُّعَاةَ ؛ وَلِأَنَّ سَائِرَ مَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ مِنْ الْكَفَّارَاتِ وَالدُّيُونِ وَغَيْرِهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الدُّعَاءُ فَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ . وَأَمَّا الْآيَةُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ خَاصًّا بِهِ، لِكَوْنِ صَلَاتِهِ  سَكَنًا لَهُمْ بِخِلَافِ غَيْرِهِ [ هذا هو الظاهر وليس محتملاً ] .
بَابُ : مَنْ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى مَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا فَبَانَ غَنِيًّا :
1574 - ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  عَنْ رَسُولِ اللَّهِ  قَالَ : { قَالَ رَجُلٌ : لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ ف .َقَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ ، فَقَالَ : لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى سَارِقٍ وَعَلَى غَنِيٍّ ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ : أَمَّا صَدَقَتُك فَقَدْ قُبِلَتْ ، أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهِ مِنْ زِنَاهَا ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ أَنْ يَسْتَعِفَّ بِهِ عَنْ سَرِقَتِهِ ، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ  } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ : ( قَالَ رَجُلٌ ) وَقَعَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ الْأَعْرَجِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ . [حديث رقم (8602) (14/256) . وابن لهيعة سئ الحفظ , والراوي عنه اسمه الحسن , فليس من أحد العبادلة الثلاثة , ولذلك قال محققوا المسند : صحيح دون قوله : " من بني إسرائيل " ؛ لأن قوله من بني إسرائيل يدل على أنه شرع مَن قبلنا ] . قَوْلُهُ ( لَأَتَصَدَّقَنَّ ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا " اللَّيْلَةَ " وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْ بَابِ الِالْتِزَامِ كَالنَّذْرِ مَثَلًا ، وَالْقَسَمُ فِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَتَصَدَّقَنَّ . [ اللام لام القسم , فألزم نفسه بها فأصبحت الصدقة واجبة ] . قَوْلُهُ : ( فِي يَدِ سَارِقٍ ) أَيْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ سَارِقٌ وَكَذَلِكَ عَلَى زَانِيَةٍ وَكَذَلِكَ عَلَى غَنِيٍّ . قَوْلُهُ : ( تُصُدِّقَ ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ . قَوْلُهُ : ( لَكَ الْحَمْدُ ) أَيْ لَا لِي ؛ لِأَنَّ صَدَقَتِي وَقَعَتْ فِي يَدِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فَلَكَ الْحَمْدُ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ بِإِرَادَتِكَ لَا بِإِرَادَتِي . قَالَ الطِّيبِيِّ : لَمَّا عَزَمَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى مُسْتَحِقٍّ فَوَضَعَهَا بِيَدِ سَارِقٍ حَمِدَ اللَّهَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى مَنْ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا ، أَوْ أَجْرَى الْحَمْدَ مَجْرَى التَّسْبِيحِ فِي اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ مَا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَمَّا تَعَجَّبُوا مِنْ فِعْلِهِ تَعَجَّبَ هُوَ أَيْضًا فَقَالَ : " اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ " أَيْ تَصَدَّقْتُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ .
قَالَ الْحَافِظُ : وَلَا يَخْفَى بَعْدَ هَذَا الْوَجْهِ . وَأَمَّا الَّذِي قَبْلَهُ فَأَبْعَدُ مِنْهُ , وَاَلَّذِي يَظْهَرُ الْأَوَّلُ وَأَنَّهُ سَلَّمَ وَفَوَّضَ وَرَضِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ فَحَمِدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لِأَنَّهُ الْمَحْمُودُ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَا يُحْمَدُ عَلَى الْمَكْرُوهِ سِوَاهُ , وَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ  كَانَ إذَا رَأَى مَا لَا يُعْجِبُهُ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ } [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله  إذا رأى ما يحب قال : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات , وإذا رأى ما يكره قال : الحمد لله على كل حال . رواه ابن ماجة وقال الألباني : حديث صحيح – صحيح الجامع (4727) ] .
قَوْلُهُ : ( فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ ) فِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ " فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَأُتِيَ فِي مَنَامِهِ " وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ وَالْإِسْمَاعِيلِيّ ، وَفِيهِ تَعْيِينُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ .
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ : قَوْلُهُ : " أُتِيَ " أَيْ أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَوْ سَمِعَ هَاتِفًا مَلَكًا أَوْ غَيْرَهُ ، أَوْ أَخْبَرَهُ نَبِيٌّ ، أَوْ أَفْتَاهُ عَالِمٌ . وَقَالَ غَيْرُهُ : أَوْ أَتَاهُ مَلَكٌ فَكَلَّمَهُ ، فَقَدْ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُكَلِّمُ بَعْضَهُمْ كَانَتْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ ، وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا سَلَفَ أَنَّ الْوَاقِعَ هُوَ الْأَوَّلُ دُونَ غَيْرِهِ . [ أي المتعيّن هو الأول أنه رأى في المنام , وأما أن الملائكة تكلم بعضهم في بعض الأمور ؛ فالثابت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة  أن النبي  قال : إن رجلاً خرج ليزور أخًا له في قرية , فأرسل الله له رجل على مَدْرَجَته ( أي على طريقه ) فقال له : أين تريد ؟ قال : أريد أن أزور أخاً لي في قرية كذا . قال : هل له عندك نعمة تردها ؟ قال : لا والله غير أني أحبه في الله . فقال : فإني رسول الله إليك أن الله أحبك كما أحببته فيه ] . قَوْلُهُ : ( أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ ) فِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ " إنَّ اللَّهَ قَدْ قَبِلَ صَدَقَتَكَ " فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مُخْتَصَّةً بِأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَلِهَذَا تَعَجَّبُوا . وَفِيهِ أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَلَوْ لَمْ تَقَعْ الْمَوْقِعَ , وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِجْزَاءِ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْفَرْضِ ، [ قال ابن قدامة : عن أحمد روايتان , أحدهما تجزئ وهذا قول الحسن وأبو عبيدة وأبي حنيفة ؛ لأن النبي  أعطى الرجلين الجلدين ( الجلد من الرجال أي القوى ) وقال : إن شئتما أعطيتكما منها , ولاحظ فيها لغنيٍ ولا لقويٍ مكتسب ( لأن ظاهرهما كان يخالف حال أهل الصدقة لأنهما كانا جلدين ) ( وهو عن رجلين من الصحابة ) وقال الألباني : إسناده صحيح على شرط البخاري , وصححه ابن عبد الهادي , وجوده أحمد – صحيح أبي داود (1443) وراجع صحيح الترغيب حديثي (836، 837) (1/354) وهما :
836 : عن أبي سعيد الخدري  قال : بينما رسول الله  يقسم ذهبًا إذ أتاه رجل فقال : يارسول الله , أعطني فأعطاه ، ثم قال : زدني فزاده ثلاث مرات , ثم ولَّى مدبرًا فقال رسول الله  : يأتينى الرجل فيسألني فأعطيه ثم يسألني فأعطيه ( ثلاث مرات ) ثم يولي مدبرًا , وقد جعل في ثوبه نارًا إذا انقلب إلى أهله – رواه ابن حبان في صحيحه . قال الألباني : صحيح .
837 : عن عمر بن الخطاب  أنه دخل على النبي  فقال: يارسول الله , رأيت فلانًا يشكر يَذكر أنك أعطيته دينارين . فقال رسول الله : لكن فلان قد أعطيته ما بين العشرة إلى المائة , فما شكره وما يقول إن أحدكم ليخرج من عندي بحاجته متأبطا ( واضعها تحت إبطه ) وما هي إلا النار . قال عمر : يارسول الله , لِـمَ تُعطيهم ؟ قال : يأبون إلا أن يسألوني ويأبي الله لي البخل . – رواه ابن حبان وأحمد وأبو يعلي من حديث أبي سعيد وقد تقدم برقم (809) .
قال ابن قدامة : ولحديث الباب [ أي حديث أبي هريرة في الرجل الذي تصدق على سارق ... الخ والرواية الثانية عن أحمد لا يجزئ , وهو قول الثوري والحسن بن صالح وأبي يوسف وابن المنذر , وللشافعي قولان كالروايتين – المغني (2/667) ] .
وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْإِجْزَاءِ وَلَا الْمَنْعِ [ كيف يقول : لا دلالة على الإجزاء وقد قال في الحديث : قد قبلت صدقتك ؟ ] ، وَلِهَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ فَقَالَ : بَابُ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ وَلَمْ يَجْزِمْ بِالْحُكْمِ [ لم يجزم بالحكم إشارة إلى الخلاف ] قَالَ فِي الصَّحِيحِ : فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا تَضَمَّنَ قِصَّةً خَاصَّةً وَقَعَ الِاطِّلَاعُ فِيهَا عَلَى قَبُولِ الصَّدَقَةِ بِرُؤْيَا صَادِقَةٍ اتِّفَاقِيَّةٍ . [ لكن مَن الذي يقول هذا , أليس هو النبي  ؟ ] فَمِنْ أَيْنَ يَقَعُ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ التَّنْصِيصَ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَلَى رَجَاءِ الِاسْتِعْفَافِ هُوَ الدَّالُّ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ ، فَيَقْتَضِي ارْتِبَاطَ الْقَبُولِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ انْتَهَى [ إذًا إن دفع صدقته إلى مَن يظنه فقيرًا فبان أنه غني , الصواب أنها تُجزئ ولا يلزمه أن يخرجها مرة أخرى , وهذا قول أحمد وأبو حنيفة ] .
بَابٌ : بَرَاءَةِ رَبِّ الْمَالِ بِالدَّفْعِ إلَى السُّلْطَانِ مَعَ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ وَأَنَّهُ إذَا ظَلَمَ بِزِيَادَةٍ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ عَنْ شَيْءٍ :
1575 - ( عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ  : إذَا أَدَّيْتَ الزَّكَاةَ إلَى رَسُولِكَ فَقَدْ بَرِئْت مِنْهَا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ إذَا أَدَّيْتَهَا إلَى رَسُولٍ فَقَدْ بَرِئْت مِنْهَا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَلَكَ أَجْرُهَا وَإِثْمُهَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا } مُخْتَصَرٌ لِأَحْمَدَ . [ المسند (19/186) رقم (12394) قال الهيثمي في المجمع : رجاله رجال الصحيح (3/66) ] قال محققوا المسند : رجاله ثقات رجال الشيخين لكن قيل في رواية سعيد بن هلال عن أنس : إنها مرسلة , والحديث أخرجه الحاكم من طريق أبي الوليد الطيالسي عن الليث بن سعد بهذا الإسناد , وصححه على شرط الشيخين , ووافقه الذهبي ] .
وَقَدْ احْتَجَّ بِعُمُومِهِ مَنْ يَرَى الْمُعَجَّلَةَ إلَى الْإِمَامِ إذَا هَلَكَتْ عِنْدَهُ مِنْ ضَمَانِ الْفُقَرَاءِ دُونَ الْمُلَّاكِ ) .
1576 - ( وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ : { إنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ قَالَ : تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .
1577 - ( وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ  وَرَجُلٌ يَسْأَلُهُ فَقَالَ : أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَمْنَعُونَا حَقَّنَا وَيَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ ؟ فَقَالَ : اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ) .
ملخص المسألة : هل تدفع الزكاة إلى أُمراء الجور ؟ فقد اختلف السلف في ذلك :
- فعند الإمام أحمد يجوز دفعها إليهم ويجوز أن يخرجها الرجل بنفسه .
- ومالك والشافعي قالا : الزكاة الظاهرة يخرجها للإمام , وأما الزكاة الباطنة يخرجها بنفسه , إن كان جائرًا لا يضع الزكاة في موضعها .
- وذهب سفيان الثوري إلى أنهم إن حلفوه يحلف لهم ويكذب , ولا يُعطيهم شئ من المال بل يخرجه بنفسه ] .
الشَّرْحُ
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ : أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَارِثُ بْنُ وَهْبٍ ، وَأَوْرَدَهُ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ وَسَكَتَ عَنْهُ .
وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَبِي دَاوُد بِلَفْظِ : { سَيَأْتِيكُمْ رَكْبٌ مُبْغِضُونَ ، فَإِذَا أَتَوْكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْتَغُونَ فَإِنْ عَدَلُوا فَلِأَنْفُسِهِمْ وَإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهَا ، وَأَرْضُوهُمْ فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ رِضَاهُمْ } ضعيف – ضعيف الجامع (3297) ، وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ مَرْفُوعًا { ادْفَعُوا إلَيْهِمْ مَا صَلَّوْا الْخَمْسَ } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : " أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُمْ عَنْ الدَّفْعِ إلَى السُّلْطَانِ ، فَقَالُوا : ادْفَعْهَا إلَى السُّلْطَانِ " وَفِي رِوَايَةٍ " أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ : هَذَا السُّلْطَانُ يَفْعَلُ مَا تَرَوْنَ . فَأَدْفَعُ إلَيْهِ زَكَاتِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ " وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُمْ وَعَنْ غَيْرِهِمْ أَيْضًا . [ عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال : أتيت سعد بن أبي وقاص فقلتُ : عندي مال وأُريد أن إخراج زكاته , وهؤلاء القوم على ما ترى . فقال : ادفعها إليهم . فأتيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد  فقالوا مثل ذلك ) قال الألباني : صحيح , أخرجه ابن أبي شيبة وأبو عبيد والبيهقي – إرواء الغليل (874) (3/380) ] .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ قَزَعَةَ قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ : " إنَّ لِي مَالًا فَإِلَى مَنْ أَدْفَعُ زَكَاتَهُ ؟ قَالَ : ادْفَعْهَا إلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ : يَعْنِي الْأُمَرَاءَ ، قُلْتُ : إذًا يَتَّخِذُونَ بِهَا ثِيَابًا وَطِيبًا ، قَالَ : وَإِنْ " [ سنده صحيح – الإرواء تحت (873) (3/380) ] وَفِي رِوَايَةٍ " أَنَّهُ قَالَ : ادْفَعُوا صَدَقَةَ أَمْوَالِكُمْ إلَى مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ ، فَمَنْ بَرَّ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَثِمَ فَعَلَيْهَا " وَفِي الْبَابِ أَيْضًا عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَعَائِشَةَ , وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ قَالَ : " ادْفَعُوهَا إلَيْهِمْ وَإِنْ شَرِبُوا الْخُمُورَ " [ وروى ابن أبي شيبة عن الأعرج قال : سألتُ ابن عمر فقال : ادفعها إليهم وإن أكلوا بها لحوم الكلاب , فلما عادوا إليه قال : ادفعها إليهم – إسناده صحيح الإرواء تحت (873) (3/380) ] وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ  : { إذَا أَتَاكَ الْمُصَّدِّقُ فَأَعْطِهِ صَدَقَتَكَ ، فَإِنْ اعْتَدَى عَلَيْكَ فَوَلِّهِ ظَهْرَك وَلَا تَلْعَنْهُ وَقُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَحْتَسِبُ عَنْدك مَا أَخَذَ مِنِّي } .
قَوْلُهُ : ( أَثَرَةً ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِالْمُثَلَّثَةِ : هِيَ اسْمٌ لِاسْتِئْثَارِ الرَّجُلِ عَلَى أَصْحَابِهِ [ الأنانية ] وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ اسْتَدَلَّ بِهَا الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى سَلَاطِينِ الْجَوْرِ وَإِجْزَائِهَا .
تفصيل : [ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : أَعْجَبُ إلَى أَنْ يُخْرِجَهَا ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى السُّلْطَانِ . فَهُوَ جَائِزٌ . وَقَالَ الْحَسَنُ وَمَكْحُولٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ يَضَعُهَا رَبُّ الْمَالِ فِي مَوْضِعِهَا . وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : احْلِفْ لَهُمْ ، وَأَكْذِبْهُمْ ، وَلَا تُعْطِهِمْ شَيْئًا ، إذَا لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا ، وَقَالَ : لَا تُعْطِهِمْ . وَقَالَ عَطَاءٌ : أَعْطِهِمْ . إذَا وَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا . قال ابن قدامة : فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يُعْطِيهِمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ : إذَا رَأَيْت الْوُلَاةَ لَا يَعْدِلُونَ ، فَضَعْهَا فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِهَا . وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : ضَعُوهَا فِي مَوَاضِعِهَا ، وَإِنْ أَخَذَهَا السُّلْطَانُ أَجْزَأَك ... وَمِمَّنْ قَالَ : يَدْفَعُهَا إلَى الْإِمَامِ ؛ الشَّعْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ... وَالْأَوْزَاعِيُّ ... وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُفَرِّقُ الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ إلَّا الْإِمَامُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :  خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا  .
وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ  طَالَبَهُمْ بِالزَّكَاةِ وَقَاتَلَهُمْ عَلَيْهَا ... وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا ... وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ . المغني (2/642، 643) .
قال ابن قدامة : وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ دَفْعَهَا إلَى الْإِمَامِ ، سَوَاءٌ كَانَ عَادِلًا أَوْ غَيْرَ عَادِلٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ ، وَيَبْرَأُ بِدَفْعِهَا سَوَاءٌ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْإِمَامِ أَوْ لَمْ تَتْلَفْ ، أَوْ صَرَفَهَا فِي مَصَارِفِهَا أَوْ لَمْ يَصْرِفْهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ  ( ولحديث أنس ) ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ نَائِبٌ عَنْهُمْ شَرْعًا ( أي عن الفقراء ) فَبَرِئَ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ... وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَيْضًا فِي أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ . المغني (2/644) .
قال مقيده : ملخص المسألة أن أمراء الجور الذين يضعونها في غير موضعها , إن أتوا يطلبونها جاز له أن يعطيهم الزكاة ولا يخرج عن طاعتهم , ويجوز أن يستخدم المعاريض , بل قال سفيان الثوري : احلف لهم واكذبهم ولا تعطيهم شيئًا من الأموال ، وأما الأمول التى يستطيعون إخفاءها أو التي لم يطالبون بأداء زكاتها إلى الإمام فيضعونها هُم في أهلها ومواضعها ] .
وَحَكَى الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْعِتْرَةِ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الظَّلَمَةِ وَلَا يُجْزِئ ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :  لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ  ، وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى تَسْلِيمِ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ عُمُومُهَا مُخَصَّصٌ بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ .
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِ الْمُجَوِّزِينَ لِأَنَّهَا فِي الْمُصَدِّقِ ، وَالنِّزَاعُ فِي الْوَالِي وَهُوَ غَفْلَةٌ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْبَابِ .
وَقَدْ حُكِيَ فِي التَّقْرِيرِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى وَالْبَاقِرِ مِثْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ ، وَكَذَلِكَ عَنْ الْمَنْصُورِ وَأَبِي مُضَرَ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ لِلْمَانِعِينَ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ : سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ الزَّكَاةِ فَقَالَ : ادْفَعْهَا إلَيْهِمْ ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا تَدْفَعْهَا إلَيْهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ .
وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ قَوْلَ صَحَابِيٍّ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ ضَعَّفَ الْإِسْنَادَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ , وَمِنْ جُمْلَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ صَاحِبُ الْبَحْرِ لِلْقَائِلِينَ بِالْجَوَازِ : بِأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ تُؤْخَذُ كَذَلِكَ وَلَا تُعَادُ ، وَبِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُثْنِ عَلَى مَنْ أَعْطَى الْخَوَارِجَ [ أي لم يطالبهم بإعادة دفعها ] ، وَأَجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ [ أي مَن قال : لا تعاد ؛ لأن هناك مَن قال تعاد , فلا إجماع ] وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِعُذْرٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ إذْ لَا تَصْرِيحَ بِالْإِجْزَاءِ ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْجَوَابِ ، وَالْحَقُّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ الْجَوَازِ وَالْإِجْزَاءِ . [ هذا هو المعتمد ] .
1578 - ( وَعَنْ بَشِيرِ ابْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ : { قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ الصَّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا ، أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا ؟ فَقَالَ : لَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ) . قال الألباني : ضعيف ؛ في إسناده دَيْسَم , لا يدر مَن هو كما قال الذهبي – ضعيف أبي داود (277) (10/180) .
الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ ، وَفِي إسْنَادِهِ دَيْسَمٌ السَّدُوسِيُّ ، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ . وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ : مَقْبُولٌ , وَفِي الْبَابِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ . وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَتْمُ شَيْءٍ عَنْ الْمُصَدِّقِينَ وَإِنْ ظَلَمُوا وَتَعَدَّوْا . وَقَدْ عُورِضَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ  : " مَنْ سُئِلَ فَوْقَ ذَلِكَ فَلَا يُعْطِهِ " كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ  . وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ ذَلِكَ هُنَالِكَ . قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ : لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْمَنْعِ مِنْ الْكَتْمِ أَنَّ مَا أَخَذَهُ السَّاعِي ظُلْمًا يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ ، فَإِنْ قَدَرَ الْمَالِكُ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ مِنْهُ اسْتَرْجَعَهُ وَإِلَّا اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِ [ أي استقر في ذمة الساعي , ولا يجوز للمُصَّدِّق أن يقول : إن هذا الساعي أخذ مني قبل ذلك زيادة , فأخفي منه هذه المرة , لكن إن استطاع أن يأخذ منه ما أخذه منه فبها ونعمت , وإن لم يستطع فهو واقع في الظلم , وسوف يأخذ حقه يوم القيامة – لكن الحديث ضعيف ] .
بَابُ : أَمْرِ السَّاعِي أَنْ يُعِدَّ الْمَاشِيَةَ حَيْثُ تَرِدُ الْمَاءَ وَلَا يُكَلِّفُهُمْ حَشْدَهَا إلَيْهِ :
1579 - ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَالَ : { تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مِيَاهِهِمْ } رَوَاهُ أَحْمَدُ . صحيح – صحيح الجامع (2904) ورواه ابن ماجة أيضًا [ الحديث إذا كان في أحد الكتب الستة ويقتصر على قول رواه أحمد , فهذا قصور في التخريج ] .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد : { لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ ، وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إلَّا فِي دِيَارِهِمْ } ) . صحيح الجامع (7484) [ وكل هذا الكلام ليس موجودًا الآن طبعًا ] .
الشَّرْحُ
الْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ وَالْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ ، وَفِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ عَنْعَنْ . وَفِي الْبَابِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ وَصَحَّحَاهُ بِمِثْلِ حَدِيثِ الْبَابِ . وَعَنْ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ وَابْنِ حِبَّانَ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ [ يعني الحديث له طرق ] .
قَوْلُهُ : ( لَا جَلَبَ ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَاللَّامِ ( وَلَا جَنَبَ ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالنُّونِ . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : مَعْنَى لَا جَلَبَ : أَنْ تُصَدَّقَ الْمَاشِيَةُ فِي مَوْضِعِهَا وَلَا تُجْلَبُ إلَى الْمُصَدِّقِ . [ أي لا يأمرهم أن يخرجوها له بل يعدها وهي تشرب ] وَمَعْنَى لَا جَنَبَ : أَنْ يَكُونَ الْمُصَدِّقُ بِأَقْصَى مَوَاضِعِ أَصْحَابِ الصَّدَقَةِ فَتُجْنَبُ إلَيْهِ ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ .
وَفَسَّرَ مَالِكٌ الْجَلَبَ : بِأَنْ تُجْلَبَ الْفَرَسُ فِي السِّبَاقِ فَيُحَرَّكَ وَرَاءَهُ الشَّيْءُ يُسْتَحَثُّ بِهِ فَيَسْبِقَ .
وَالْجَنَبُ : أَنْ يُجْنَبَ الْفَرَسُ الَّذِي سَابَقَ بِهِ فَرَسًا آخَرَ حَتَّى إذَا دَنَا تَحَوَّلَ الرَّاكِبُ عَنْ الْفَرَسِ الْمَجْنُوبِ فَسَبَقَ . قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ : لَهُ تَفْسِيرَانِ فَذَكَرَهُمَا ، وَتَبِعَهُ الْمُنْذِرِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ [ يعني : حاشيته على سنن أبي داود , وعلى كل حال فالقول الأول هو المراد وليس قول مالك .
قال الخطابي : في المعالم (2/40- 41) الجلب ، يفسر تفسيرين يقال : إنه في رهان الخيل ، وهو أن يجلب عليها عند الركض ( ليحتدّ في الجري ) ويقال : هو في الماشية . يقول : لا ينبغي للمصدق أن يقيم بموضع ، ثم يرسل إلى أهل المياه فيجلبوا إليه مواشيهم فيصدقها , ولكن ليأتهم على مياهم حتى يصدقهم هناك . وأما الجنب فتفسيره أيضًا على وجهين ، أحدهما أن يكون في الصدقة وهو أن أصحاب الأموال لا يجنبون عن مواضعهم أي لا يبعدون عنها حتى يحتاج المصدق إلى أن يتبعهم ويمعن في طلبهم . وقيل : الجنب في الرهان ، وهو أن يركب فرسًا فيركضه وقد أجنب معه فرسًا آخر , فإذا قارب الغاية ركبه وهو جامٌّ فيسبق صاحبه . اهـ .
قال المنذري : وأخرجه أبو داود في الجهاد من حديث الحسن البصري عن عمران بن الحصين وليس فيه : " ولا تؤخذ صدقاتهم في دورهم " . وأخرجه أيضًا مِن هذا الوجه الترمذي والنسائي . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . هذا آخر كلامه . وقد ذكر علي بن المديني وأبو حاتم الرازي وغيرهما من الأئمة أن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين . انتهى كلامه . وعن محمد بن إسحاق في قوله: " لا جَلَبَ ، ولا جَنَب " قال : أن تصدق الماشية في مواضعها ، ولا تجلب إلى المصدق والجَنَبُ عن هذه الطريقة أيضًا لا يتجنب أصحابها ، يقول : ولا يكون الرجلُ بأقْصَى مواضع أصحابِ الصدقةِ فيجَنبُ إليه ، ولكن تؤخذُ في مَوضعِهِ( ) . اهـ .
إذًا لها معنيان , معنى متعلق بالمُصَدِّق , ومعنى متعلق بأصحاب الأموال : فالمتعلق بالمُصَدِّق أن لا يجلس في مكان ويطلب منهم أن يأتوا بأموالهم إليه . والمتعلق بأصحاب الأموال ألا يبعدون بها ويجهدون الساعي ] .
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُصَدِّقَ . هُوَ الَّذِي يَأْتِي لِلصَّدَقَاتِ وَيَأْخُذُهَا عَلَى مِيَاهِ أَهْلِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ لَهُمْ .
بَابُ : سِمَةِ الْإِمَامِ الْمَوَاشِيَ إذَا تَنَوَّعَتْ عِنْدَه :
أي يعلِّم إبل الصدقة من إبل الجزية وإبل الزكاة وغيرها .
1580 - ( عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { غَدَوْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ  بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ لِيُحَنِّكَهُ فَوَافَيْتُهُ فِي يَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَةِ } . أَخْرَجَاهُ وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ : دَخَلْت عَلَى النَّبِيِّ وَهُوَ يَسِمُ غَنَمًا فِي آذَانِهَا ) .
1581 - ( وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ : إنَّ فِي الظَّهْرِ نَاقَةً عَمْيَاءَ ، فَقَالَ : أَمِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ ، أَوْ مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ ؟ قَالَ أَسْلَمُ : مِنْ نَعَمِ الْجِزْيَةِ ، وَقَالَ : إنَّ عَلَيْهَا مِيسَمَ الْجِزْيَةِ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ) [ رواه الشافعي عن مالك عن أنس عن زيد بن أسلم عن أبيه , وهذا إسناد موقوف صحيح ] .
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ : ( الْمِيسَمُ ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَأَصْلُهُ مُوسَمٌ لِأَنَّ فَاءَهُ وَاوٌ ، لَكِنَّهَا لَمَّا سَكَنَتْ وَكُسِرَ مَا قَبْلَهَا قُلِبَتْ يَاءً ، وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُوسَمُ بِهَا : أَيْ يُعَلَّمُ بِهَا وَهُوَ نَظِيرُ الْخَاتَمِ . [ ميسم على وزن مفعل , والفاء في موسم مقابلة للواو ] وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وَسْمِ إبِلِ الصَّدَقَةِ ، وَيَلْحَقُ بِهَا غَيْرُهَا مِنْ الْأَنْعَامِ ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ تَمْيِيزُهَا ، وَلِيَرُدَّهَا مَنْ أَخَذَهَا وَمَنْ الْتَقَطَهَا وَلِيَعْرِفَهَا صَاحِبُهَا فَلَا يَشْتَرِيهَا إذَا تُصُدِّقَ بِهَا مَثَلًا لِئَلَّا يَعُودَ فِي صَدَقَتِهِ . [ هناك نهي أن يشتري الرجل صدقته كما سيأتي ] قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَصْرِيحٍ بِمَا كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى مِيسَمِ النَّبِيِّ  إلَّا أَنَّ ابْنَ الصَّبَّاغِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ نَقَلَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَبُ فِي مِيسَمِ الزَّكَاةِ زَكَاةٌ أَوْ صَدَقَةٌ . وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْوَسْمَ بِالْمِيسَمِ لَدُخُولِهِ فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ .
وَحَدِيثُ الْبَابِ يُخَصِّصُ هَذَا الْعُمُومَ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ . وَفِي الْحَدِيثِ اعْتِنَاءُ الْإِمَامِ بِأَمْوَالِ الصَّدَقَةِ وَتَوَلِّيهَا بِنَفْسِهِ , وَجَوَازُ تَأْخِيرِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهَا لَوْ عُجِّلَتْ لَاسْتُغْنِيَ عَنْ الْوَسْمِ . [ الأموال في بيت المال , ويجوز أن تؤخر في بيت المال ؛ لأنها لو كانت توزع مباشرة فلا حاجة إلى وسمها ] . قَوْلُهُ : ( إنَّ عَلَيْهَا مِيسَمَ الْجِزْيَةِ ...إلَخْ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَسْمَ إبِلِ الْجِزْيَةِ كَانَ يُفْعَلُ فِي أَيَّامِ الصَّحَابَةِ كَمَا كَانَ يُوسَمُ إبِلُ الصَّدَقَةِ .
أَبْوَابُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ :
بَابُ : مَا جَاءَ فِي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكَيْنِ وَالْمَسْأَلَةِ وَالْغَنِيِّ :
- الشافعي قال : الفقير أشد بؤسًا من المسكين .
- أبو حنيفة قال : بل المسكين أشد بؤسًا من الفقير .
- مالك سوَّى بينهما .
استدل الشافعي بأن النبي  كان يستعيذ من الفقر ويقول : " اللهم أحييني مسكينًا وأمتني مسكينًا " . لكن ليس المراد هنا بالمسكين المسكين الذي من أهل الزكاة إطلاقًا ، ولكن المسكين يطلق على الضعيف كقوله " اللهم إنا نسألك حب المساكين " فالإنسان يكون دائمًا محب للضعفاء سواء كان ضعيف ماديًا أو غير ذلك .
واستدل أبو حنيفة بقوله تعالى  أو مسكيناً ذا متربة  أي : الملتصق بالتراب من شدة الفاقة . ولن يؤثر كون المسكين أشد من الفقير أو العكس في شئ , فالاثنين من أهل الزكاة , إلا أن الشافعي اعتمد على قوله تعالى في سورة الكهف  وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر  فهم مساكين ومع ذلك عندهم سفينة , فمعناه أن المسكين له دخل ولكن لا يفي بإحتياجاته ، وأما الفقير فهو أشد من ذلك ] .
1582 - ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ، إنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ :  لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا  وَفِي لَفْظِ { لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ ، تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ ، وَلَا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلَ النَّاسَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا ) [ أي : اللفظين ] .
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ : ( وَلَا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ) فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : " الْأَكْلَةُ وَالْأَكْلَتَانِ " . قَوْلُهُ : ( يُغْنِيهِ ) هَذِهِ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْغِنَى الْمَنْهِيِّ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الْيَسَارِ لِلْمَرْءِ أَنْ يَغْنَى بِهِ بِحَيْثُ لا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ . وَكَأَنَّ الْمَعْنَى نَفْيُ الْيَسَارِ الْمُقَيَّدِ بِأَنَّهُ يُغْنِيهِ مَعَ وُجُودِ أَصْلِ الْيَسَارِ . [ يعني : عنده يسار لكن لا يكفيه , وهو نفس المعنى المستنبط من سورة الكهف , فليس عنده اليسار الذى يُغنيه عن مساعدة الغير ] وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ عَدَمِ الْغِنَى وَعَدَمِ تَفَطُّنِ النَّاسِ لَهُ مَا يُظَنُّ بِهِ لِأَجْلِ تَعَفُّفِهِ وَتُظْهِرُهُ بِصُورَةِ الْغَنِيِّ مِنْ عَدَمِ الْحَاجَةِ ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ الْمُسْتَعْفِفُ عَنْ السُّؤَالِ [ ففي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود أن النبي  كان يقول : " اللهم إني إسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ] .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمِسْكَيْنِ ، وَإِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَهُ شَيْءٌ لَكِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ ، وَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى :  أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ  فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ مَعَ أَنَّ لَهُمْ سَفِينَةً يَعْمَلُونَ فِيهَا ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ كَمَا قَالَ فِي الْفَتْحِ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْعِتْرَةُ إلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ دُونَ الْفَقِيرِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } ، قَالُوا : لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يُلْصِقُ التُّرَابَ بِالْعَرَى . وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ : إنَّهُمَا سَوَاءٌ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَرَجَّحَهُ الْجَلَالُ قَالَ : لِأَنَّ الْمَسْكَنَةَ لَازِمَةٌ لِلْفَقْرِ ، إذْ لَيْسَ مَعْنَاهَا الذُّلُّ وَالْهَوَانُ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بِغِنَى النَّفْسِ أَعَزَّ مِنْ الْمُلُوكِ الْأَكَابِرِ ، بَلْ مَعْنَاهَا : الْعَجْزُ عَنْ إدْرَاكِ الْمُطَالَبِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَالْعَاجِزُ سَاكِنٌ عَنْ الِانْتِهَاضِ إلَى مَطَالِبِهِ انْتَهَى .
وَقِيلَ : الْفَقِيرُ الَّذِي يَسْأَلُ ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ ، حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ .
وَظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّ الْمِسْكِينَ مِنْ اتَّصَفَ بِالتَّعَفُّفِ وَعَدَمِ الْإِلْحَافِ فِي السُّؤَالِ ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ بِمَعْنَاهُ : الْمِسْكِينُ الْكَامِلُ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ أَصْلِ الْمَسْكَنَةِ [ أي : هذه صفات المسكين الكامل , وليس معناه أنه لو فقد صفة من هذه الصفات , تسقط صفة المسكنة عنه ] بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ : " أَتَدْرُونَ مِنْ الْمُفْلِسُ " الْحَدِيثُ [ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . قال : المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة ... فهذا هو المفلس الكامل , وليس المراد أن مَن لا درهم له ولا متاع لا يسمَّى مفلسًا ] ، وقَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ الْبِرُّ } ، الْآيَةَ [ أى هذا هو البر لكامل ولكن ممكن أن يكون الإنسان معه أصل البر وليس عنده البر الكامل , فليس معنى أنه فقد صفة منها أنه فقد صفة البر لكن فقد البر الكامل , وكذلك مثل الإيمان المطلق ومطلق الإيمان ] ، وَكَذَا قَرَّرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ . وَمِنْ جُمْلَةِ حُجَجِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ  : { اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينَا } مَعَ تَعَوُّذِهِ مِنْ الْفَقْرِ [ وهو من حديث عائشة في صحيح مسلم ] وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالُ : الْمِسْكِينُ مَنْ اجْتَمَعَتْ لَهُ الْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ ، وَالْفَقِيرُ مَنْ كَانَ ضِدَّ الْغَنِيِّ كَمَا فِي الصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْغِنَى فَيُقَالُ لِمَنْ عُدِمَ الْغِنَى : فَقِيرٌ ، وَلِمَنْ عُدِمَهُ مَعَ التَّعَفُّفِ عَنْ السُّؤَالِ وَعَدَمِ تَفَطُّنَ النَّاسِ لَهُ : مِسْكِينٌ . وَقِيلَ : إنَّ الْفَقِيرَ مَنْ يَجِدُ الْقُوتَ ، وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ , وَقِيلَ : الْفَقِيرُ : الْمُحْتَاجُ ، وَالْمِسْكِينُ : مَنْ أَذَلَّهُ الْفَقْرُ ، حَكَى هَذَيْنِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ . [ في بعض الأحيان أهل اللغة يعرفون الألفاظ بمذاهبهم الفقهية , ولكن الصواب في هذا ما ذهب إليه الشافعي والجمهور أن الفقير أشد حاجة من المسكين , والاثنين من أصناف الزكاة , لكن واحد عنده ما لا يُغنيه , وإنما يحتاج إلى مال آخر , وواحد ليس عنده أصلاً , وكلاما من أهل الزكاة ] .
1583 - ( وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ  أَنَّهُ قَالَ : { الْمَسْأَلَةُ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ : لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ , أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْغَارِمَ لَا يَأْخُذُ مَعَ الْغِنَى ) . ضعيف الإرواء (867) (3/370) .
1584 - ( وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ } رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ ، لَكِنَّهُ لَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَلِأَحْمَدَ الْحَدِيثَان ) . قال الألباني : صحيح , وصححه ابن الجارود , وحسنه الترمذي – صحيح أبي داود 1444) (5/336) , وراجع الإرواء (877) (3/381) .
1585 - ( وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ : { أَنَّ رَجُلَيْنِ ( هما من الصحابة , وجهالة الصحابي لا تضر ) أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ  يَسْأَلَانِهِ مِنْ الصَّدَقَةِ ، فَقَلَّبَ فِيهِمَا الْبَصَرَ وَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ ، فَقَالَ : إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ . قال الألباني : إسناده صحيح على شرط البخاري , وصححه ابن عبد الهادي , وجوده أحمد – صحيح أبي داود (1443) (5/335) وَقَالَ أَحْمَدُ : هَذَا أَجْوَدُهَا إسْنَادًا ) .

الشَّرْحُ
حَدِيثُ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَقَالَ : لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ الْأَخْضَرِ بْنِ عَجْلَانَ انْتَهَى . وَالْأَخْضَرُ بْنُ عَجْلَانَ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : صَالِحٌ ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ : يُكْتَبُ حَدِيثُهُ , وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَذَكَرَ أَنَّ شُعْبَةَ لَمْ يَرْفَعْهُ ، وَفِي إسْنَادِهِ رَيْحَانُ بْنُ يَزِيدَ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ : شَيْخٌ مَجْهُولٌ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمْ يَصِحَّ إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو . وَقَالَ أَبُو دَاوُد : الْأَحَادِيثُ الْأُخَرُ عَنْ النَّبِيِّ  بَعْضُهَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ وَبَعْضُهَا لِذِي مِرَّةٍ قَوِيٍّ . وَحَدِيثُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِيّ . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ .
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ . [ له طريقان , الأولى : عن سالم بن أبي الجعد عنه مرفوعًا به , أخرجه النسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم , وإسناده ظاهره الصحة . والثانية : عن أبي حازم عن أبي هريرة يبلغ به ( أي إلى النبي  ) أخرجه الحاكم وقال : على شرط الشيخين , ووافقه الذهبي - الإرواء (3/382 ) ] وَفِي الْبَابِ عَنْ طَلْحَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ عَدِيٍّ . وَعَنْ حَبَشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ . [ في إسناده مجالد بن سعيد الإرواء (3/384) ] . وَعَنْ جَابِرٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ . وَعَنْ أَبِي زَمِيلٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي هِلَالٍ عِنْدَ أَحْمَدَ ( سنده جيد ( الإرواء 3/385) . وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ .
قَوْلُهُ : ( مُدْقِعٍ ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ : وَهُوَ الْفَقْرُ الشَّدِيدُ الْمُلْصِقُ صَاحِبَهُ بِالدَّقْعَاءِ : وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي لَا نَبَاتَ بِهَا . قَوْلُهُ : ( أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ ) الْغُرْمُ بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ : هُوَ مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ تَكَلُّفًا لَا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ [ أي ليس مقابل مثلاً أقساط لسيارة أو ما إلى ذلك ] ؛ وَالْمُفْظِعُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ : وَهُوَ الشَّدِيدُ الشَّنِيعُ الَّذِي جَاوَزَ الْحَدَّ . قَوْلُهُ : ( أَوْ لِذِي دَمٍّ مُوجِعٍ ) هُوَ الَّذِي يَتَحَمَّلُ دِيَةً عَنْ قَرِيبِهِ أَوْ حَمِيمِهِ أَوْ نَسِيبِهِ الْقَاتِلِ يَدْفَعُهَا إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا قُتِلَ قَرِيبُهُ أَوْ حَمِيمُهُ الَّذِي يَتَوَجَّعُ لِقَتْلِهِ وَإِرَاقَةِ دَمِهِ . [ إذًا القتل هنا قتل عمد ] وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ [ والحديث ضعيف ] وهناك حديث قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ عند مسلم وسوف يأتي أن المسألة لا تحل إلا لثلاثة ] . قَوْلُهُ : { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ } قَدْ اخْتَلَفَتْ الْمَذَاهِبُ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الرَّجُلُ غَنِيًّا ، فَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْغَنِيَّ مَنْ مَلَكَ النِّصَابَ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخَذُ الزَّكَاةِ ، وَاحْتَجُّوا بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ مِنْ قَوْلِهِ  : { تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ } قَالُوا : فَوَصَفَ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِالْغَنِيِّ ، وَقَدْ قَالَ : { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ } , وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مَنْ وَجَدَ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ ، حَكَاهُ الْخَطَّابِيِّ . وَاسْتَدَلَّ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ النَّارِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَمَا يُغْنِيهِ ؟ قَالَ : قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ } [ هنا قال : مَن سأل , لكن لم يتكلم على أنه ليس من أهل الزكاة ] والحديث قال الألباني : إسناده صحيح على شرط مسلم , وصححه ابن حبان – صحيح أبي داود (1441) (5/331) وَسَيَأْتِي . قَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : هُوَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا . وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا : { مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَمَا يُغْنِيهِ ؟ قَالَ : خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ حِسَابُهَا مِنْ الذَّهَبِ } وَسَيَأْتِي . [ صحيح رواه الخمسة – صحيح الجامع (6279) والسلسلة الصحيحة (499) ] . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ : إذَا كَانَ عِنْدَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَكْثَرُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الزَّكَاةِ . وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ غَنِيًّا بِالدِّرْهَمِ مَعَ الْكَسْبِ وَلَا يُغْنِيهِ الْأَلْفُ مَعَ ضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ سَلَّامٍ : هُوَ مَنْ وَجَدَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْآتِي بِلَفْظِ " وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ " [ قال الألباني : حسن صحيح , وصححه ابن حبان , وهو مخرج في الصحيحة (1719) , وهو في صحيح أبي داود (1440) (5/3) ] ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ الدِّرْهَمِ قِيمَةُ الْأُوقِيَّةِ . وَقِيلَ : هُوَ مَنْ لَا يَكْفِيهِ غَلَّةُ أَرْضِهِ لِلسَّنَةِ ، حَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ أَبِي طَالِبٍ وَالْمُرْتَضَى .
[ إذًا تحصل لدينا خمسة مذاهب :
مذهب أبي حنيفة : مَن يملك النصاب .
وأقل مذهب ما حكاه الخطابي : أن يجد ما يغذيه ويعيشه .
وبينهم مذهب أحمد واسحاق : مَن يملك خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب , واحتج أحمد بحديث سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ .
الشافعي : من الممكن أن يملك خمسين درهمًا ويكون محتاجًا ومن أهل الزكاة .
ومنهم مَن قال : أربعون درهمًا استدلالاً بحديث أبي سعيد ] .
قَوْلُهُ : ( وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ ) الْمِرَّةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْمِرَّةُ : الْقُوَّةُ وَشِدَّةُ الْعَقْلِ ، وَرَجُلٌ مَرِيرٌ : أَيْ قَوِيٌّ ذُو مِرَّةٍ . وَقَالَ غَيْرُهُ : الْمِرَّةُ : الْقُوَّةُ عَلَى الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ ، وَإِطْلَاقُ الْمِرَّةِ هُنَا وَهِيَ الْقُوَّةُ مُقَيَّدٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ أَعْنِي قَوْلَهُ : " وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ " فَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْقُوَّةِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ الِاسْتِحْقَاقِ إلَّا إذَا قُرِنَ بِهَا الْكَسْبُ . وَقَوْلُهُ : " سَوِيٍّ " أَيْ مُسْتَوِي الْخَلْقِ [ لأنه قد يكون قوي لكنه أعمى أو مقطوع اليد وما إلى ذلك ] قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ ، وَالْمُرَادُ اسْتِوَاءُ الْأَعْضَاءِ وَسَلَامَتُهَا . قَوْلُهُ : ( جَلْدَيْنِ ) بِإِسْكَانِ اللَّامِ : أَيْ قَوِيَّيْنِ شَدِيدَيْنِ .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْجَلْدُ بِفَتْحِ اللَّامِ : هُوَ الصَّلَابَةُ وَالْجَلَادَةُ تَقُولُ مِنْهُ : جَلُدَ الرَّجُلُ بِالضَّمِّ فَهُوَ جَلْدٌ ، يَعْنِي بِإِسْكَانِ اللَّامِ ، وَجَلِيدٌ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالْجَلَادَةِ [ إذًا الرجل الجلد أي الصلب ] . قَوْلُهُ : ( مُكْتَسِبٍ ) أَيْ يَكْتَسِبُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ , وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَوْ الْمَالِكِ [ وذلك لقوله : إن شئتما أعطيتكما , ولا حظ فيها لغني ولا ذي مرة سوي ] الْوَعْظُ وَالتَّحْذِيرُ , وَتَعْرِيفُ النَّاسِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ , وَلَا ذِي قُوَّةٍ عَلَى الْكَسْبِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ  , وَيَكُونُ ذَلِكَ بِرِفْقٍ .
1586 - ( وَعَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد [ ضعيف الجامع (4746) , والسلسلة الضعيفة (1378) , لكن الناس لا يُحَلَّفُون على صدقاتهم ] ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي قَبُولِ قَوْلِ السَّائِلِ مِنْ غَيْرِ تَحْلِيفٍ وَإِحْسَانِ الظَّنِّ بِهِ ) .
1587 - ( وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { مَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ ) [ صحيح الجامع , وقد سبق تخريجه , ويلاحظ أن كل هذا في السؤال .
1588 - ( وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ  قَالَ : { مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُغْنِيهِ ؟ قَالَ : مَا يُغَدِّيهِ أَوْ يُعَشِّيهِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِهِ ، وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ : " يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ " ) . صحيح الجامع (6280) , وصحيح أبي داود (1441) سبق تخريجه .
1589 - ( وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ كُدُوشًا فِي وَجْهِهِ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَمَا غِنَاهُ ؟ قَالَ : خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ حِسَابُهَا مِنْ الذَّهَبِ } رَوَاهُ الْخَمْسَةُ [ صحيح الجامع (6279) وقد سبق تخريجه ] وَزَادَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ : فَقَالَ رَجُلٌ لِسُفْيَانَ : إنَّ شُعْبَةَ لَا يُحَدِّثُ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ ، فَقَالَ سُفْيَانُ : حَدَّثَنَاهُ زُبَيْدٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ ) .
الشَّرْحُ
أَمَّا حَدِيثُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَاَلَّذِي وَقَفْنَا عَلَيْهِ فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ مِنْ هَذَا . الْكِتَابِ أَنَّ الرَّاوِيَ لِلْحَدِيثِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهَا أَنَّ الرَّاوِيَ لِلْحَدِيثِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ .
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي إسْنَادِهِ يَعْلَى بْنُ أَبِي يَحْيَى ، سُئِلَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ فَقَالَ : مَجْهُولٌ . وَقَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ السَّكَنِ : قَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ حُضُورُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ  , وَلَعِبُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَقْبِيلُهُ إيَّاهُ , فَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي يَرْوِيهَا عَنْ النَّبِيِّ  فَكُلُّهَا مَرَاسِيلُ . وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيّ فِي مُعْجَمِهِ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَذَّاءِ : سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ  وَرَآهُ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إلَّا ظَهْرٌ وَاحِدٌ [ أي إلا رجل واحد ] . وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ ، وَرِجَالُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ الْمَذْكُورُ فِي إسْنَادِهِ قَدْ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْنُ مَعِينٍ ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَقَالَ : رُبَّمَا أَخْطَأَ , وَحَدِيثُ سَهْلٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ . وَحَدِيثُ ابْنُ مَسْعُودٍ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : وَقَدْ تَكَلَّمَ شُعْبَةُ فِي حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ .
قَوْلُهُ : ( وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ ) فِيهِ الْأَمْرُ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي امْتَهَنَ نَفْسَهُ بِذُلِّ السُّؤَالِ فَلَا يُقَابِلُهُ بِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ وَاحْتِقَارِهِ ، بَلْ يُكْرِمُهُ بِإِظْهَارِ السُّرُورِ لَهُ ، وَيُقَدِّرُ أَنَّ الْفَرَسَ الَّتِي تَحْتَهُ عَارِيَّةٌ ، أَوْ أَنَّهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ مَعَ الْغِنَى كَمَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً [ معناه : الرجل الذي يريد الإصلاح بين فريقين , ويترتب على الإصلاح دفع مال , لا يوافق عليه الفريقين , فيقول الرجل : هي عندي , فتحمل حمالة لإصلاح ذات البين , وهو أحد الثلاثة الذين ورد ذكرهم في حديث قبيصة بن المخارق ] أَوْ غَرِمَ غُرْمًا لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ .
قَوْلُهُ : (وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ ) قَالَ أَبُو دَاوُد : زَادَ هِشَامٌ فِي رِوَايَتِهِ : وَكَانَتْ الْأُوقِيَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ  أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا . قَوْلُهُ : ( فَقَدْ أَلْحَفَ ) قَالَ الْوَاحِدِيُّ : الْإِلْحَافُ فِي اللُّغَةِ : هُوَ الْإِلْحَاحُ فِي الْمَسْأَلَةِ . قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ : لَيْسَ لِلسَّائِلِ الْمُلْحِفِ مِثْلُ الرَّدِّ . [ الإنسان على كل حال يتذكر قوله تعالى  وأما السائل فلا تنهر  وكذلك قوله  : " يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل " . قَالَ الزَّجَّاجُ : مَعْنَى أَلْحَفَ : شَمَلَ بِالْمَسْأَلَةِ وَالْإِلْحَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ : هُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى وُجُوهِ الطَّلَبِ بِالْمَسْأَلَةِ كَاشْتِمَالِ اللِّحَافِ فِي التَّغْطِيَةِ . وَقَالَ غَيْرُهُ : مَعْنَى الْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ : أَلْحَفَ الرَّجُلُ إذَا مَشَى فِي لُحُفِ الْجَبَلِ وَهُوَ أَصْلُهُ كَأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْخُشُونَةَ فِي الطَّلَبِ . قَوْلُهُ : ( فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ ) أَيْ يَطْلُبُ الْكَثْرَةَ . قَوْلُهُ : ( مَا يُغَدِّيهِ ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ : أَيْ مِنْ الطَّعَامِ بِحَيْثُ يُشْبِعُهُ . قَوْلُهُ : ( وَيُعَشِّيهِ ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْضًا . [ عند أحمد : ما يغذيه أو يعشيه ، وعند أبي داود : يغذيه ويعشيه ] فَعَلَى رِوَايَةِ التَّخْيِيرِ يَكُونُ الْمَعْنَى : أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا حَصَلَ لَهُ أَكْلَةٌ فِي النَّهَارِ غَدَاءٌ أَوْ عَشَاءٌ كَفَتْهُ وَاسْتَغْنَى بِهَا . وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَمْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُ فِي يَوْمِهِ أَكْلَتَانِ كَفَتَاهُ . قَوْلُهُ : ( خُدُوشًا ) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ خَدْشٍ , وَهُوَ خَمْشُ الْوَجْهِ بِظُفْرٍ أَوْ حَدِيدَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا [ في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أنس بن مالك  أن النبي  قال : لمَّا عُرج بي مررتُ بأقوام لهم أظافر من نحاس يخدشون بها وجوههم وصدورهم . فقلتُ مَن هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ] . قَوْلُهُ : ( أَوْ كُدُوشًا ) بِضَمِّ الْكَافِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَ الْوَاوِ شِينٌ مُعْجَمَةٌ جَمْعُ كَدْشٍ وَهُوَ الْخَدْشُ . قَوْلُهُ : ( أَوْ حِسَابُهَا مِنْ الذَّهَبِ ) هَذِهِ رِوَايَةُ أَحْمَدَ ، وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُد " أَوْ قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ قَدْ اسْتَدَلَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا طَائِفَةُ الْمُخْتَلِفِينَ فِي حَدِّ الْغِنَى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهَا بِأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَحْرُمُ السُّؤَالُ عِنْدَهُ هُوَ أَكْثَرُهَا ، وَهِيَ الْخَمْسُونَ عَمَلًا بِالزِّيَادَةِ .
[ هناك فرق بين الغني الذي يمنع من الزكاة , وبين الغني عن السؤال , فالغنى الذي يمنع الإنسان من السؤال هو خمسون درهمًا , لكن هذا لا يمنع أن يكون من أهل الصدقة فيُعطى من الصدقة دون أن يسأل , وسيأتي ] .
1590 - ( وَعَنْ سَمُرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : { إنَّ الْمَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكِدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ إلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ) [ صحيح أبي داود (1447) (5/339) قال الألباني : إسناده صحيح , وصححه الترمذي وابن حبان , وهذا يعد استثناء من الأحاديث السابقة في جواز المسألة , حتى لو كان مالكًا لخمسين درهمًا ] .
1591 - ( وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ : { لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ ، وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ النَّاسِ ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَعَنْهُ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ  : { مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ ) .
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ : ( كَدٌّ ) هَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد " كَدْحٌ " وَهِيَ آثَارُ الْخُمُوشِ . قَوْلُهُ : ( إلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ سُؤَالِ السُّلْطَانِ مِنْ الزَّكَاةِ أَوْ الْخُمْسِ أَوْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، يَخُصُّ بِهِ عُمُومَ أَدِلَّةِ تَحْرِيمِ السُّؤَالِ . قَوْلُهُ : ( أَوْ فِي أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَالْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ عِنْدَهَا مِنْ السُّؤَالِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ . [ هذا الحديث يخصص عموم أدلة تحريم السؤال ] .
قَوْلُهُ : ( وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ..إلَخْ ) فِيهِ الْحَثُّ عَلَى التَّعَفُّفِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْهَا وَلَوْ امْتَهَنَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَارْتَكَبَ الْمَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ ، وَلَوْلَا قُبْحُ الْمَسْأَلَةِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ لَمْ يُفَضِّلْ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ لِمَا يَدْخُلُ عَلَى السَّائِلِ مِنْ ذُلِّ السُّؤَالِ وَمِنْ ذُلِّ الرَّدِّ إذَا لَمْ يُعْطَ ، وَمَا يَدْخُلُ عَلَى الْمَسْئُولِ مِنْ الضِّيقِ فِي مَالِهِ إنْ أَعْطَى كُلَّ سَائِلٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : " خَيْرٌ " فَلَيْسَتْ بِمَعْنَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ ، إذْ لَا خَيْرَ فِي السُّؤَالِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ , وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ سُؤَالَ مَنْ هَذَا حَالُهُ حَرَامٌ , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ فِيهِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِ السَّائِلِ وَتَسْمِيَةِ الَّذِي يُعْطَاهُ خَيْرٌ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ شَرٌّ [ أي إن كنت تعتبر أن هذا خير , فالأخير منه أن تكتسب وتعتمد على نفسك ] . قَوْلُهُ : ( تَكَثُّرًا ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُؤَالَ التَّكَثُّرِ مُحَرَّمٌ ، وَهُوَ السُّؤَالُ لِقَصْدِ الْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ . قَوْلُهُ : ( فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا ...إلَخْ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : مَعْنَاهُ : أَنَّهُ يُعَاقَبُ بِالنَّارِ . قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَأَنَّ الَّذِي يَأْخُذُهُ يَصِيرُ جَمْرًا يُكْوَى بِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ . [ احتمال دخول النار ؛ لأنه يعتدي على أموال الآخرين فكل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه ... إلى آخره , فإن أخذ هذا المال لحاجته فبها ونعمت, وإن أخذه تكثرًا فهذا اعتداء على أموال الآخرين ].
1592 - ( وَعَنْ خَالِدِ بْنِ عَدِيٍّ الْجُهَنِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ { مَنْ بَلَغَهُ مَعْرُوفٌ عَنْ أَخِيهِ عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إشْرَافِ نَفْسٍ فَلْيَقْبَلْهُ وَلَا يَرُدَّهُ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ ) . قال محققوا المسند : إسناده صحيح رجاله رجال الشيخين غير أنه صحابي ليست له رواية في أي من الكتب الستة ( لكن هذا لا يضر ؛ لأنه صحابي ) المسند (17936) (29/456) .
1593 - ( وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : سَمِعْتُ { عُمَرَ  يَقُولُ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  يُعْطِنِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ : أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إلَيْهِ مِنِّي ، فَقَالَ : خُذْهُ , إذَا جَاءَك مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) .
الشَّرْحُ
حَدِيثُ خَالِدِ بْنِ عَدِيٍّ أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ . قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ : وَرِجَالُ أَحْمَدَ رِجَالُ الصَّحِيحِ .
قَوْلُهُ : ( وَلَا إشْرَافِ نَفْسٍ ) الْإِشْرَافُ بِالْمُعْجَمَةِ : التَّعَرُّضُ لِلشَّيْءِ وَالْحِرْصُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ : أَشْرَفَ عَلَى كَذَا إذَا تَطَاوَلَ لَهُ ، وَقِيلَ : لِلْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ مُشْرِفٌ لِذَلِكَ . قَالَ أَبُو دَاوُد : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ إشْرَافِ النَّفْسِ فَقَالَ : بِالْقَلْبِ . وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْهُ فَقَالَ : هُوَ أَنْ يَقُولَ مَعَ نَفْسِهِ : يَبْعَثُ إلَيَّ فُلَانٌ بِكَذَا . وَقَالَ الْأَثْرَمُ : يَضِيقُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ . قَوْلُهُ : ( يُعْطِينِي ) سَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَطِيَّةَ النَّبِيِّ  لِعُمَرَ بِسَبَبِ الْعُمَالَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ السَّعْدِيِّ ، وَلِهَذَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ : لَيْسَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّدَقَاتِ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْأَمْوَالُ ، وَلَيْسَتْ هِيَ مِنْ جِهَةِ الْفَقْرِ ، وَلَكِنْ شَيْءٌ مِنْ الْحُقُوقِ ، فَلَمَّا قَالَ عُمَرُ : أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إلَيْهِ مِنِّي لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ لِمَعْنًى غَيْرِ الْفَقْرِ . [ أي أن النبي  أعطى عمر ؛ لأنه من العاملين عليها , وليس لفقر ] . قَالَ : وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ : " خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الصَّدَقَاتِ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ جَاءَهُ مَالٌ هَلْ يَجِبُ قَبُولُهُ أَمْ يُنْدَبُ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ حَكَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ . [ أجمعوا على مشروعية قبول هذا المال ] .
قَالَ النَّوَوِيُّ : الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ فِي غَيْرِ عَطِيَّةِ السُّلْطَانِ ، وَأَمَّا عَطِيَّةُ السُّلْطَانِ - يَعْنِي الْجَائِرَ - فَحَرَّمَهَا قَوْمٌ وَأَبَاحَهَا آخَرُونَ وَكَرِهَهَا قَوْمٌ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ غَلَبَ الْحَرَامُ فَهُمَا فِي يَدِ السُّلْطَانِ حُرِّمَتْ ، وَكَذَا إنْ أَعْطَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ الْحَرَامُ فَمُبَاحٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَلْبِ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْأَخْذِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : الْأَخْذُ وَاجِبٌ مِنْ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ مَنْدُوبٌ فِي عَطِيَّةِ السُّلْطَانِ دُونَ غَيْرِهِ [ لكن الجمهور على أنه مستحب إن كان من غير السلطان , أما إن كان من السلطان ففيه التفصيل السابق , فالإمام أحمد قاطع ابنه الصالح ؛ لأنه أخذ جائزة السلطان , فلما احتاج الإمام أحمد إلى خبز أتوه بخبز , فقال : أين خبزتموه ؟ قالوا : في تنور صالح ؛ فدفعه ولم يأكله ؛ لأنه أخذ عطية السلطان ] وَحَدِيثُ خَالِدِ بْنِ عَدِيٍّ يَرُدُّهُ . قَالَ الْحَافِظُ : وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ سَمُرَةَ فِي السُّنَنِ إلَّا أَنْ يَسْأَلَ ذَا سُلْطَانٍ . قَالَ : وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ عُلِمَ كَوْنُ مَالِهِ حَلَالًا فَلَا تُرَدُّ عَطِيَّتُهُ ، وَمَنْ عُلِمَ كَوْنُ مَالِهِ حَرَامًا فَتَحْرُمُ عَطِيَّتُهُ ، وَمَنْ شُكَّ فِيهِ فَالِاحْتِيَاطُ رَدُّهُ وَهُوَ الْوَرَعُ . وَمَنْ أَبَاحَهُ أَخَذَ بِالْأَصْلِ انْتَهَى . [ المشكوك فيه فيكون الأصل في أموال المسلمين الإباحة , لكن يقول : الاحتياط على جهة الورع ؛ لأنه ثبت عن أحمد وأصحاب السنن عن الحسن بن عليّ  أن النبي  قال : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَاحْتَجَّ مَنْ رَخَّصَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْيَهُودِ :  سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ  وَقَدْ رَهَنَ الشَّارِعُ  دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ . [ اليهودي الذي رهن الرسول عنده درعه لم يعلم  أنه يتاجر في الخمر أو الخنزير فالأصل الإباحة ) وَكَذَا أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَكْثَرَ أَمْوَالِهِمْ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ إذَا رَأَى لِذَلِكَ وَجْهًا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَحْوَجَ إلَيْهِ مِنْهُ ، وَأَنَّ رَدَّ عَطِيَّةَ الْإِمَامِ لَيْسَ مِنْ الْأَدَبِ وَلَا سِيَّمَا مِنْ الرَّسُولِ  لِقَوْلِهِ تَعَالَى :  وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ  . قَوْلُهُ : ( مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إلَيْهِ مِنِّي ) ظَاهِرُهُ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا لِأَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلَ تَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الِافْتِقَارُ إلَى الْمَالِ ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ أَمْرِهِ  لَهُ بِالْأَخْذِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَشْرِفًا وَلَا سَائِلًا أنه لَهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا ، وَهَكَذَا فِي قَبُولِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ عَدِيٍّ ، [ لأنه رزق ساقه الله إليه ] وَسَيُكَرِّرُ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ خَالِدِ بْنِ عَدِيٍّ هَذَا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ ، وَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قال ابن قدامة : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْغِنَى الْمَانِعِ مِنْ أَخْذِهَا . وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : أَظْهَرُهُمَا ، أَنَّهُ مِلْكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ قِيمَتِهَا مِنْ الذَّهَبِ ، أَوْ وُجُودُ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ عَلَى الدَّوَامِ ؛ مِنْ كَسْبٍ ، أَوْ تِجَارَةٍ ، أَوْ عَقَارٍ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . [ كواحد موظف له راتب شهري , قد يكون في آخر الشهر لا يملك خمسون درهمًا لكن سيأتي له من الشهر التالي ما يكفيه ، وكذلك ممكن يكون العامل في الحكومة من المساكين ؛ لأن هذا الدخل لا يكفيه ] وَلَوْ مَلَكَ مِنْ الْعُرُوضِ ، أَوْ الْحُبُوبِ أَوْ السَّائِمَةِ ، أَوْ الْعَقَارِ ، مَا لَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ ، لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا ، وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا ، هَذَا الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقَ .
واحتجوا بحديث ابن مسعود السابق [ أي عند أحمد لو ملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب , لا يسأل , لكن لو كان يملك من العروض والحبوب والسائمة وليس من الذهب والفضة فعنده إن كان يملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب أو ما يحصل به الكفاية . حتى لو كان يملك نصابًا من الحبوب لكن لا تحصل به الكفاية , يستحق للزكاة .
فالحالة الوحيدة التي لا يستحق فيها الوكاة : أن يملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب ، والكفاية تختلف من شخص إلى آخر , ومن زمان إلى آخر , ومن مكان إلى آخر ؛ لكن الكفاية تكون في الملبس والمسكن والمأكل ؛ مثل الثلاجة في هذا الزمان ؛ لأن الأكل يتلف بدونها فلا أعطيه ثلاجة ولكن أُعطيه من مال الزكاة ما يشترى به ثلاجة .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لأحمد : أَنَّ الْغِنَى مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا [ كواحد عنده مرتب يكفي حاجته لكن ليس عنده أملاك يحرم عليه الصدقة ] ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا ، وَالْأَثْمَانُ وَغَيْرُهَا فِي هَذَا سَوَاءٌ . [ لأن أحمد في الرواية الأولي فرّق بين مَن يملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب , فهذا شَيءٌ فهذا ( لا يستحق الزكاة دون النظر هل يحصل له كفاية أم لا ؟ ) وبين مَن يملك , حتى لو مَلَكَ حبوبًا أوسائمة أو عروض أو أي شيء , ننظر هل تكفي أم لا ؟ فإن كان يحصل له كفاية فلا يستحق , وإن كانت لا تحصل له كفاية فيستحق ] وهذا قول مالك والشافعي ؛ لأن النبي  قَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ : { لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ : رَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ : قَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ، أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَمَدَّ إبَاحَةَ الْمَسْأَلَةِ إلَى وُجُودِ إصَابَةِ الْقِوَامِ أَوْ السِّدَادِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ هِيَ الْفَقْرُ ، وَالْغِنَى ضِدُّهَا ، فَمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَهُوَ فَقِيرٌ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّصِّ ، وَمَنْ اسْتَغْنَى دَخَلَ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الْمُحَرِّمَةِ ... ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَحْرُمَ الْمَسْأَلَةُ وَلَا يَحْرُمُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ إذَا جَاءَتْهُ مِنْ غَيْرِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي حديث ابن مسعود تَحْرِيمُ الْمَسْأَلَةِ فَنَقْتَصِرُ عَلَيْهِ . وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدٍ : الْغِنَى مِلْكُ أُوقِيَّةٍ لحديث أبي سَعِيدٍ . وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : الْغِنَى الْمُوجِبُ لِلزَّكَاةِ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ أَخْذِهَا ، وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، مِنْ الْأَثْمَانِ أَوْ الْعُرُوضِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ أَوْ السَّائِمَةِ أَوْ غَيْرِهَا . المغني (2/362) .
قال مقيده : ولا يخفى حسن وقوة الرواية الثانية عند أحمد , والتي قال بها مالك والشافعي . اهـ .
مســــألة : قال النووي في قدر المصروف إلى الفقير والمسكين :
قال أصحابنا العراقيون وكثيرون من الخراسانيين : يعطيان ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى , وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام , وهذا هو نص الشافعي رحمه الله واستدل له الأصحاب بحديث قبيصة بن المخارق الصحابي أن رسول الله  قال : " إن المسألة لاتحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش أو قال : سدادًا من عيش ، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوس الحجا من قومه : لقد اصابت فلان فاقه , فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش أو قال سدادًا من عيش . فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا " رواه مسلم في صحيحه . والقوام والسداد بكسر أولهما وهما بمعنى .
قال أصحابنا : فأجاز رسول الله  المسألة حتى يصيب ما يسد حاجته , فدل على ما ذكرناه . قالوا : وذكر الشهادة للاستظهار لا للاشتراط [ لأن أي شهادة في الأموال يأتي فيها شاهدان , فقوله : " حتى يقول ثلاثة من ذيى الحجا ... " هذا للإستظهار ] .
قال أصحابنا : فإن كان عادته الاحتراف أُعطِيَ ما يشترى به حرفته أو الآلات حرفته . قَلَّتْ قيمة ذلك أو كثرت , ويكون قدره بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته غالبًا تقريبًا , ويختلف ذلك باختلاف الحرف والبلاد والأزمان والأشخاص , وقرَّب جماعة من أصحابنا ذلك فقالوا : من يبيع البقل يعطَى خمس دراهم أو عشرة ، ومَن حرفته بيع الجوهر يعطى عشرة آلاف درهمٍ مثلاً إذ لم يتأت له الكفاية بأقل منها ، ومَن كان تاجرًا أو خبازًا أو عطارًا أو صرافًا أُعطِيَ بنسبة ذلك ، ومَن كان خياطًا أو نجارًا أو قصارًا أو قصابًا أو غيرهم من أهل الصنائع أُعطيَ ما يشتري به الالآت التي تصلح لمثله , وإن كان مِن أهل الضِياع يُعطَى ما يشتري به ضيعة أو حصة في ضيعة تكفيه غلته على الدوام .
قال أصحابنا : فإن لم يكن محترفًا ولا يُحسن صنعة أصلاً ولا تجارة ولا شيء من أنواع المكاسب , أُعطيَ كفاية العمر الغالب لأمثاله في بلاده , ولا يتقدر بكفاية سنة .
قال المتولي وغيره : يُعطى ما يشتري به عقارًا يستغل منه كفايته ( أي الغلَّة الخارجة ) قال الرافعي : ومنهم مَن يُشْعِرُ كلامُه بإنه يعطَى ما ينفق عينه في مدة حياته . والصحيح بل الصواب هو الأول , هذا الذي ذكرناه من إعطائه كفاية عمره , هو المذهب الصحيح الذي قطع به العراقيون وكثير من الخراسانيين , ونص عليه الشافعي .
وذكر البغوي والغزالي وغيرهما من الخراسنيين أنه يُعطَى كفاية سنة ولا يُزاد ؛ لأن الزكاة تتكرر كل سنة , فيحصّل كفايته منها سنة سنة ( فريق قال : يعطى كفاية عمره , وفريق قال : يعطَى كفاية سنة , ثم ننظر إذا كانت حاجته مازالت قائمة , يعطى زكاة سنة أخرى ... وهكذا ) والصحيح الأول , وهو كفاية عمره . قال الشيخ نصر المقدسي : هو قول عامة أصحابنا . قال : وهو المذهب . وقال الرافعيُّ : هو قول أصحابنا العراقيين وآخرين . وقال صاحب البيان : هو المنصوص وقول جمهور أصحابنا ( الشافعية ) .
مسألة : إذا عُرِفَ لرجل مال , فادَّعى تلفه , وأنه فقير أو مسكين , لم يقبل منه إلا ببينة :
[ لأنه من أصحاب الأموال أساسًا , فلما يدعي تلف ماله , يطالب بالبينة ] لأنه ثبت غناه فلا تقبل دعوى الفقر إلا ببينة , كما لو وجب عليه دين آدمى , وعُرف له مال فادَّ عى الإعسار , وهذا لا خلاف فيه .
قال الرافعي : ولم يفرقوا بين دعواه الهلاك بسببٍ خَفِيٍّ كالسرقة , أو ظاهر كالحريق . وإن لم يُعْرَفْ له المال وادَّعى الفقر أو المسكنة قُبل قوله ولا يطالب ببينة بلا خلاف ؛ لأن الأصل في الإنسان الفقر .
مسألة : إذا ادَّعى أنه لا كسب له :
فإن كان ظاهره عدم الكسب كشيخ هَرِم أو شاب ضعيف البنية ونحوهما , قُبِلَ قوله بدون يمين بغير خلاف ؛ لأن الأصل والظاهر عدم الكسب . وإن كان شابًا قويًا لم يُكَلَّفْ البينة بلا خلاف , بل يُقبل قوله . وهل يحلف ؟ فيها وجهان : أحدهما : لا يحلف ؛ لأن النبي  لم يُحَلِّفْ الرجلين الجَلْدين ، والثاني : يُحَلَّفُ ؛ لأنه يقدر على الكسب مع القوة . وهذا القول الأخير يتأول أصحابه الحديث على أن النبي  علم من حالهما عدم الكسب والقدرة , وهذا تأويل ضعيف ؛ فإن آخر الحديث يخالف هذا . انتهى . المجموع (6/175) .
بَابُ : الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا :
1594 - ( عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ ابْنَ السَّعْدِيِّ الْمَالِكِيَّ قَالَ : اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا وَأَدَّيْتُهَا إلَيْهِ أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ ، فَقُلْتُ : إنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ ، فَقَالَ : خُذْ مَا أُعْطِيتَ ، فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ  فَعَمَّلَنِي ، فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ  : { إذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) . [ إن عمل الرجل عملاً لله ثم أخذ الأجرة , لا ينقص هذا من أجره مادام قد نوى ذلك في الأصل ] .
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ : ( أَنَّ ابْنَ السَّعْدِيِّ ) هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَقْدَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدٍّ بْنِ نَضْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْبَلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ . وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ : السَّعْدِيُّ : لِأَنَّ أَبَاهُ اسْتَرْضَعَ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، وَقَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ  قَدِيمًا وَقَالَ : " وَفَدْت فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ  " , وَالْمَالِكِيُّ نِسْبَةٌ إلَى مَالكِ بْنِ حَنْبَلٍ .
قَوْلُهُ : ( بِعُمَالَةٍ ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْعُمَالَةُ بِالضَّمِّ : رِزْقُ الْعَامِلِ عَلَى عَمَلِهِ . قَوْلُهُ : ( فَعَمَّلَنِي ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ : أَيْ أَعْطَانِي أُجْرَةَ عَمَلٍ وَجَعَلَ لِي عُمَالَةً .
َوْلُهُ : ( مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا حَصَلَ مِنْ الْمَالِ عَنْ مَسْأَلَةٍ . [ إلا لو كانت المسألة بحقها – أو سأل السلطان – أو سأل في أمر لابد منه ] وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَمَلَ السَّاعِي سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأُجْرَةَ كَمَا أَنَّ وَصْفَ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ [ كما أن الفقر والمسكنة سبب في استحقاق الزكاة , كذلك عمل السعي على الزكاة سبب في استحقاق الأجرة من هذه الزكاة ] ، وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ هُوَ السَّبَبَ اقْتَضَى قِيَاسُ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ أَنَّ الْمَأْخُوذَ فِي مُقَابِلَتِهِ أُجْرَةٌ ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ تَبَعًا لَهُ : إنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ [ إذًا العامل على الزكاة له سهم في الزكاة , وبما أن ما يأخذه مقابل قيامه بتحصيل الزكاة , فالذي يأخذه أجرة , وتكون كأجرة المثل ] وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ نَوَى التَّبَرُّعَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ الْعَامِلِ يَطِيبُ لَهُ وَإِنْ نَوَى التَّبَرُّعَ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا اهـ .
1595 - ( { وَعَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ انْطَلَقَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ  قَالَ : ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَا فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْنَاكَ لَتُؤَمِّرَنَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ ، فَنُصِيبُ مَا يُصِيبُ النَّاسُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، وَنُؤَدِّي إلَيْكَ مَا يُؤَدِّي النَّاسُ ، فَقَالَ : إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ } مُخْتَصَرٌ لِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ .
هذا الحديث يبيِّن أنه حتى لو كان آل محمد  من العاملين عليها , فلا تحل لهم , فإنهم ممنوعون من ذلك . وسيأتي مََن هم آل محمد , وسوف يتبيَّن أنهم بنو هاشم باتفاق , وبنو عبد المطَّلِب باختلاف , لكن الصواب أن بني عبد المطلب داخلون في الآل , وهو قول الشافعي , ورواية عن أحمد , وهو قول ابن حزم ، وذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية أخرى أنهم بنو هاشم فقط ] .
وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا : { لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ } ) .
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ : ( أَوْسَاخُ النَّاسِ ) هَذَا بَيَانٌ لَعِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَالْإِرْشَادِ إلَى تَنَزُّهِ الْآلِ عَنْ أَكْلِ الْأَوْسَاخِ .
وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ أَوْسَاخًا ؛ لِأَنَّهَا مُطَهِّرَةٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ وَنُفُوسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى :  تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا  ، فَذَلِكَ مِنْ التَّشْبِيهِ ، وَفِيهِ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَى الْآلِ إنَّمَا هُوَ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا تَطْهِيرُ الْمَالِ . وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ [ صدقة التطوع لا تعتبر أوساخًا ] فَنَقَلَ الْخَطَّابِيِّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَى النَّبِيِّ  وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ أَنَّهَا تَحِلُّ ، وَتَحِلُّ لِلْآلِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ بِالتَّحْرِيمِ [ هذا هو الصواب ؛ لأن الأدلة لم تفصل أن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد , فإن النبي  كان إذا أوتي بشيء ( طعام مثلاً ) سأل : أصدقة أم هدية ؟ فإن قيل : صدقة , قال لأصحابه : كلوا ، وإن كان هدية أكل معهم  ] ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ ، وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُمْ وَلَوْ كَانَ أَخْذُهُمْ لَهَا مِنْ بَابِ الْعُمَالَةِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالنَّاصِرُ : الْعُمَالَةُ مُعَاوَضَةٌ بِمَنْفَعَةٍ ، وَالْمَنَافِعُ مَالٌ ، فَهِيَ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ ، وَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُصَادَمَتِهِ لَلنَّصِّ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ ، وَهَذَا الْحَديث صَرِيحٌ فِي رَدِّهِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ مَا لَفْظُهُ : وَهُوَ يَمْنَعُ جَعْلَ الْعَامِلِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى انْتَهَى . وَتُعُقِّبَ [ المتعقب هنا هو الحافظ ] بِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا يَمْنَعُ دُخُولَ ذَوِي الْقُرْبَى فِي سَهْمِ الْعَامِلِ , وَلَا يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِهِمْ عُمَّالًا عَلَيْهَا وَيُعْطَوْنَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَقَدْ اسْتَعْمَلَ عَلِيٌّ  بَنِي الْعَبَّاسِ  .
1596 - ( وَعَنْ أَبِي مُوسَى  قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { إنَّ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الْأَمِينَ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَقَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ ، حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) . [ بعض الناس عندما تأتي له أموال صدقات يدفعها بغير طيبة نفس , رغم أنها ليست أمواله , ولا أموال أبيه , ولكن أحوال الناس كذلك , فالخازن المسلم الأمين إذا أعطى الناس الصدقة بطيبة نفس له أجر المتصدق ] .
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ : ( طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ ) هَذِهِ الْأَوْصَافِ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا فِي تَحْصِيلِ أُجْرَةِ الصَّدَقَةِ لِلْخَازِنِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِينًا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُ الْخِيَانَةِ ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الصَّدَقَةِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ طَيِّبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَا يُؤْجَرُ . قَوْلُهُ : ( أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : لَمْ نَرْوِهِ إلَّا بِالتَّثْنِيَةِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَازِنَ بِمَا فَعَلَ مُتَصَدِّقٌ وَصَاحِبُ الْمَالِ مُتَصَدِّقٌ آخَرُ فَهُمَا مُتَصَدِّقَانِ قَالَ : وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى الْجَمْعِ فَتُكْسَرُ الْقَافُ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُتَصَدِّقٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَصَدِّقِينَ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَكَةَ فِي الطَّاعَةِ تُوجِبُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْأَجْرِ ، وَمَعْنَى الْمُشَارَكَةِ أَنَّ لَهُ أَجْرًا كَمَا أَنَّ لِصَاحِبِهِ أَجْرًا ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُزَاحِمُهُ فِي أَجْرِهِ ( هذا كمن أفطر صائمًا أو مَن دعى إلى هُدى , ومَن سن في الإسلام سنة حسنة وما إلى ذلك , كل هذا لا ينقص من أجر أحدهم شيئًا ] ، بَلْ الْمُشَارَكَةُ فِي الطَّاعَةِ فِي أَصْلِ الثَّوَابِ ، فَيَكُونُ لِهَذَا ثَوَابٌ وَلِهَذَا ثَوَابٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ ثَوَابِهِمَا سَوَاءً بَلْ قَدْ يَكُونُ ثَوَابُ هَذَا أَكْثَرَ وَقَدْ يَكُونُ عَكْسَهُ ، فَإِذَا أَعْطَى الْمَالِكُ خَازِنَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ نَحْوَهَا لِيُوصِلَهَا إلَى مُسْتَحِقٍّ لَلصَّدَقَةِ عَلَى بَابِ دَارِهِ فَأَجْرُ الْمَالِكِ أَكْثَرُ [ لأن هذا يأتى له على الباب , وليس هناك مجهود يُبذل ] ، وَإِنْ أَعْطَاهُ رُمَّانَةً أَوْ رَغِيفًا أَوْ نَحْوِهِمَا حَيْثُ لَهُ كَثِيرُ قِيمَةٍ لِيَذْهَبَ بِهِ إلَى مُحْتَاجٍ فِي مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ ، بِحَيْثُ يُقَابِلُ ذَهَابُ الْمَاشِي إلَيْهِ الْأَكْثَرَ مِنْ الرُّمَّانَةِ وَنَحْوِهَا فَأَجْرُ الْخَازِنِ أَكْثَرُ . وَقَدْ يَكُونُ الذَّهَابُ مِقْدَارَ الرُّمَّانَةِ فَيَكُونُ الْأَجْرُ سَوَاءً . قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ : يَدْخُلُ فِي الْخَازِنِ مَنْ يَتَّخِذُهُ الرَّجُلُ ، عَلَى عِيَالِهِ مِنْ وَكِيلٍ وَعَبْدٍ وَامْرَأَةٍ وَغُلَامٍ ، وَمَنْ يَقُومُ عَلَى طَعَامِ الضِّيفَانِ . [ كل هذا يدخل في أجر الصدقة إن كان أمينًا . ولحديث أتى به المصنف للدلالة على أن الخازن من العاملين عليها ؛ فالشافعية قالوا : يُعطَى الحاشي والعَرِّيف والحاسب والكاتب والجابى ( فالحاشي هو الذي يجمع أرباب الأموال ، والعريف هو كالنقيب للقبيلة الذي يعرِّف العمال أرباب أهل الأموال ... كل هؤلاء داخلين في أجر العاملين عليها ) . وابن حزم لا يعتبر كل هذه الأمور , وإنما يعتبر أن العامل عليها هو المُصَدِّق الذي يحسب ويجمع الزكاة ] .
1597 - ( وَعَنْ بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ  قَالَ : { مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدُ فَهُوَ غُلُولٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ) . صحيح – صحيح الجامع (6023) . الْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد وَالْمُنْذِرِيُّ وَرِجَالُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْعَامِلِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فَرَضَ لَهُ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ ، وَأَنَّ مَا أَخَذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الْغُلُولِ [ فالنبي  استعمل على الصدقة فقال مَن استُعمِلَ : هذا لكم وهذا لي . فقال النبي  ما بال رجل نستعمله فيقول : هذا لكم وهذا لي , أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا( ) ؟ ] ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا إجَارَةٌ وَلَكِنَّهَا فَاسِدَةٌ يَلْزَمُ فِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَلِهَذَا ذَهَبَ الْبَعْضُ إلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ الْمَفْرُوضَةَ مِنْ الْمُسْتَعْمِلِ لِلْعَامِلِ تُؤْخَذُ عَلَى حَسَبِ الْعَمَلِ فَلَا يَأْخُذُ زِيَادَةً عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ . وَقِيلَ : يَأْخُذُ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الصَّرْفِ . [ ما دام العامل قد استُعمل على أُجرة معينة , فليس له أن يأخذ الزيادة , فما يأخذه العامل من مال الزكاة , بما أنه على جهة المعاوضة فهو أجر , فإن استُعمل على مبلغ معين , لا يجوز له أن يأخذ أكثر من ذلك ، وإن استُعمل ولم يسم له أجر , فيكون له أجر المثل . وعروض التجارة إن كانت على عوض باطل , إن كان الأجر باطلاً , أو غير مسمى , فله أجر المثل , ولا أدري لماذا حكم عليها بالفساد ؟ فالزيادة التي يأخذها , تعتبر غلول , ولكن هذا لا يُبطل عقد الإجارة ويجعله فاسدًا ] وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله : وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَأْخُذَ الْعَامِلُ حَقَّهُ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ ، فَيَقْبِضُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ انْتَهَى [ يعني : إن اتفق مع رب المال على مبلغ معين , فمن الممكن أن يأخذ هذا المبلغ من الصدقات التي تحت يده , والذي يعيِّن العاملين عليها هو الإمام , فإن لم يكن هناك إمام فلابد أن تخبر رب المال وتعلمه أنك ستأخذ من الصدقات , وكذلك الفقير لا يجوز إن أعطاه رب المال الزكاة ليوزعها أن يأخذ منها لنفسه باعتبار أنه من الفقراء إلا أن يُعلِمَ رب المال . راجع فتاوى اللجنة الدائمة في مسألة الزكوات والصدقات .
ويجوز للإنسان أن يشتري الصدقة , لكن دون أن يشتري صدقة نفسه , لكن لو رب المال قال : إنَّ هذه الملابس مثلاً أريد أن تعطَى للفقراء , فلا يجوز بيعها وتوزيع ثمنها ؛ لأن هذه وكالة , فلابد أن صاحب المال يفوضه ] .
بَابُ : الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ :
1598 - ( عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  لَمْ يَكُنْ يُسْأَلُ شَيْئًا عَلَى الْإِسْلَامِ إلَّا أَعْطَاهُ ، قَالَ : فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ ، فَأَمَرَ لَهُ بِشَاءٍ كَثِيرٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مَنْ شَاءِ الصَّدَقَةِ ، قَالَ : فَرَجَعَ إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ : يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ) . [ قال محققوا المسند : إسناده صحيح على شرط الشيخين , وأخرجه ابن خزيمة وأبو عوانة , وكذلك أخرجه مسلم . المسند (12051) (19/107) ] .
1599 - ( وَعَنْ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ سَبْيٍ فَقَسَمَهُ ، فَأَعْطَى رِجَالًا وَتَرَكَ رِجَالًا ، فَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ ، وَأَدَعُ الرَّجُلَ ، وَاَلَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي ، وَلَكِنِّي أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا أَرَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إلَى مَا جُعِلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ ، فَوَاَللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ  حُمْرَ النَّعَمِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ ) . وكذلك فعل هذا النبي  في غزوة حنين , غَنِمَ أموالاً طائلة فأعطى المهاجرين ومسلمة الفتح , وترك الأنصار , فوجدوا في أنفسهم , فقالوا : إذا كان القتال دُعِيَ الأنصار , وإذا كانت الغنائم دُعِيَ المهاجرون . فذهب إليه سعد بن الربيع فذكر له ذلك , فقال له رسول الله  : فما تقول أنت يا سعد ؟ قال : ما أنا إلا رجل من قومي . فجمع  الناس فقال : ألا تحبون أن يرجع الناس بالشاء والبعير , وترجعون أنتم برسول الله إلى رحالكم ؟ وسيأتي ] .
الشَّرْحُ
الْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ التَّأْلِيفِ لِمَنْ لَمْ يَرْسُخْ إيمَانُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ  وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ : مِنْهَا إعْطَاؤُهُ  أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ وَعُيَيْنَةَ بْنَ حُصَيْنٍ وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ . وَرُوِيَ أَيْضًا { أَنَّهُ أَعْطَى عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ مِائَةً ، ثُمَّ قَالَ لِلْأَنْصَارِ لَمَّا عَتَبُوا عَلَيْهِ : أَلَّا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْإِبِلِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ  إلَى رِحَالِكُمْ ؟ ثُمَّ قَالَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ قَالُوا : يُعْطِي صَنَادِيدَ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا : إنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِأَتَأَلَّفَهُمْ } كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ . وَقَدْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ التَّأْلِيفِ الْعِتْرَةُ وَالْجُبَّائِيُّ وَالْبَلْخِيُّ وَابْنُ مُبَشِّرٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا نَتَأَلَّفُ كَافِرًا ، فَأَمَّا الْفَاسِقُ فَيُعْطَى مِنْ سَهْمِ التَّأْلِيفِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ : قَدْ سَقَطَ بِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَتِهِ , وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِامْتِنَاعِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ إعْطَاءِ أَبِي سُفْيَانَ وَعُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ وَعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ ، وَالظَّاهِرُ جَوَازُ التَّأْلِيفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ فِي زَمَنِ الْإِمَامِ قَوْمٌ لَا يُطِيعُونَهُ إلَّا لِلدُّنْيَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إدْخَالِهِمْ تَحْتَ طَاعَتِهِ بِالْقَسْرِ وَالْغَلَبِ فَلَهُ أَنْ يَتَأَلَّفَهُمْ وَلَا يَكُونُ لِفُشُوِّ الْإِسْلَامِ تَأْثِيرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَعُ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ , وَقَدْ عَدَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَسْمَاءَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ فَبَلَغُوا نَحْوَ الْخَمْسِينَ نَفْسًا .
[ سهم المؤلفة قلوبهم باقٍ , وهذا مذهب أحمد وابن حزم . المحلى (6/145) مسألة (719) ، وقال ابن قدامة : وبه قال الحسن والزهري وأبو جعفر محمد بن عليّ .
وقال الشعبي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي : انقطع سهم المؤلفة بعد رسول الله  , وقد أعز الله الإسلام وأغناه عن أن يُتألف عليه رجال فلا يعطى مشرك تألفاً بحال. قالوا: وقد رُوِيَ هذا عن عمر .
قال ابن قدامة : ولَنَا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمُؤَلَّفَةَ فِي الْأَصْنَافِ الَّذِينَ سَمَّى الصَّدَقَةَ لَهُمْ ... وَكَانَ النَّبِيُّ  يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ كَثِيرًا ، فِي أَخْبَارٍ مَشْهُورَةٍ حَتَّى مَاتَ } ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ كِتَابِ اللَّهِ وَسَنَةِ رَسُولِهِ إلَّا بِنَسْخٍ ، وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ .
ثُمَّ إنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ  ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ بِنَصٍّ ، وَلَا يَكُونُ النَّصُّ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ  وَانْقِرَاضِ زَمَنِ الْوَحْيِ ... فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالتَّحَكُّمِ ، أَوْ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ، عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً يُتْرَكُ لَهَا قِيَاسٌ [ يعني : إذا كان عندهم قياس جلي يخالف قول الصحابي , لا يلتفتون إلى قول الصحابي ] فَكَيْفَ يَتْرُكُونَ بِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ، قَالَ الزُّهْرِيُّ : لَا أَعْلَمُ شَيْئًا نَسَخَ حُكْمَ الْمُؤَلَّفَةِ . عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى لَا خِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَإِنَّ الْغِنَى عَنْهُمْ لَا يُوجِبُ رَفْعَ حُكْمِهِمْ ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ عَطِيَّتَهُمْ حَالَ الْغِنَى عَنْهُمْ ، فَمَتَى دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى إعْطَائِهِمْ أُعْطُوا ، فَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَصْنَافِ ، إذَا عُدِمَ مِنْهُمْ صِنْفٌ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ سَقَطَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ خَاصَّةً ، فَإِذَا وُجِدَ عَادَ حُكْمُهُ ، كَذَا هُنَا . المغني (2/666) .
إلا أن المؤلفة قلوبهم يسقط سهمهم وكذلك سهم العاملين عليها إذا تولى المرءُ قسمةَ صدقة نفسه ؛ لأنه ليس هناك عاملين عليها , وأمر المؤلفة إلى الإمام لا إلى غيره – راجع المحلى مسألة (719) (6/145) ] .
بَابُ : قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :  وَفِي الرِّقَابِ  :
[ إشارة سريعة للموضوع :
اختلف العلماء في المراد بالرقاب :
فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن المراد بذلك المكاتب .
وذهب فريق آخر ( مالك – أحمد ) إلى أن المراد بذلك عتق الرقاب .
والفرق بينهما أن المكاتب إنسان يساهم مع غيره في دفع ما تبقى من مال حتى يتحرر ، أما عتق الرقاب فإنه يدفع مال الزكاة لعتق الرقاب من أصلها وليس مساهمة .
والصواب أنه يُدفَعُ مال الزكاة في الأمرين سواء عتق رقبة من الأصل أو مساهمة في عتق رقبة , وهو قول ابن حزم والزهرى ] .
1600 - ( وَهُوَ يَشْمَلُ بِعُمُومِهِ الْمُكَاتَبَ وَغَيْرَهُ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا بَأْسَ أَنْ يَعْتِقَ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ , ذَكَرَهُ عَنْهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ ) . [ كأن فيه ردًا على مَن قال : لا يعتق من زكاة المال , ولكن تعطى للمكاتبين ، فالمكاتب الذي قال له سيده : ادفع لي مبلغ كذا , وأنا أعتقك ، فالرجل دفع جزء ويحتاج إلى الآخر ] .
1601 - ( وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ  قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ  فَقَالَ : دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إلَى الْجَنَّةِ ، وَيُبْعِدُنِي مِنْ النَّارِ ، فَقَالَ : أَعْتِقْ النَّسَمَةَ ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَيْسَا وَاحِدًا ؟ قَالَ : لَا , عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تُفْرَدَ بِعِتْقِهَا ، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ [ قال محققوا المسند : إسناده صحيح , رجاله رجال الثقات المسند (18647) (30/600) ] . وَالدَّارَقُطْنِيّ ) .
1602 - ( وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ : { ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُ : الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الْمُتَعَفِّفُ } رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد ) . [ حسن صحيح الجامع (3050) ] .
الشَّرْحُ
حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ : رِجَالُهُ ثِقَاتٌ ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ . قَوْلُهُ : ( الْمُكَاتَبُ وَغَيْرُهُ ) قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :  وَفِي الرِّقَابِ  ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْعِتْرَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُكَاتَبُونَ يُعَانُونَ مِنْ الزَّكَاةِ عَلَى الْكِتَابَةِ [ قال النووي : قال الشافعي والأصحاب : يصرف سهم الرقاب إلى المكاتبين , هذا مذهبنا وبه قال أكثر العلماء ... واحتج أصحابنا بأن قوله تعالى  :  وَفِي الرِّقَابِ  كقوله  وفى سبيل الله  وهناك يجب الدفع إلى المجاهدين , فكذا يجب هنا الدفع إلى الرقاب , ولا يكون دفعًا إليهم إلا على مذهبنا . المجموع (6/184) . أي : أنه مختص بالمكاتب ليسدد لسيده , أما العبد فلا يعطى له مال أصلاً , إنما يعطى المال لسيده مقابلاً لعتقه . لكن طبعًا قوله تعالى :  وَفِي الرِّقَابِ  أي : في عتق الرقاب , أو في تحرير الرقاب ] وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا تُشْتَرَى رِقَابٌ لِتُعْتَقَ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا لَوْ اخْتَصَّتْ بِالْمُكَاتَبِ لَدَخَلَ فِي حُكْمِ الْغَارِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ [ هذه الإجابة ضعيفة ؛ لأن الله جعل هناك سهم للفقراء , وسهم للمساكين , والفقير قريب من المسكين في كثير من الأحوال , فهنا أراد الله أن يبيِّنَ أن سهم الرقاب مستقل عن سهم الغارمين لئلا يدخل تحت سهم الغارمين ] .
قال النووى : فالجواب أنه لا يُفْهَمُ أحدُ الصنفين مِنَ الآخر , ولأنه جمع بينهما للإعلام ؛ لأنه لا يجوز الاقتصار على أحدهما ( الغارم أو في الرقاب ) وأن لكل صنف منهما سهمًا مستقلاً كما جمع بين الفقراء والمساكين , وإن كان كل واحد منهما يقوم مقام الآخر فى غير الزكاة . المجموع (6/185) ] .
وَبِأَنَّ شِرَاءَ الرَّقَبَةِ لِتُعْتَقَ أَوْلَى مِنْ إعَانَةِ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعَانُ وَلَا يُعْتَقُ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ؛ وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يَتَيَسَّرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : إنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ [ وهو مذهب ابن حزم , قال : والرقاب هم المكاتبون والعتقاء , فجائز أن يعطوا من الزكاة – المحلى مسألة (720) – (6/149) ] وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ , وَهُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَكَّ الرِّقَابِ غَيْرُ عِتْقِهَا ، وَعَلَى أَنَّ الْعِتْقَ وَإِعَانَةَ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى مَالِ الْكِتَابَةِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَةِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالْمُبْعِدَةِ مِنْ النَّارِ . قَوْلُهُ : ( حَقٌّ عَلَى اللَّهِ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى إعَانَةَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَيَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يُحْوِجَهُمْ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْغَازِي غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُكَاتَبُ مُرِيدًا لِلْأَدَاءِ ، وَالنَّاكِحُ مُتَعَفِّفًا . [ المجد ابن تيمية أتى بهذا الحديث ليبيِّنَ أن المكاتب داخل في الزكاة ؛ فإن كان هؤلاء حق على الله أن يعينهم , فلابد أن يجعل لهم سهمًا في الزكاة ] . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا كَانَ فَاسِقًا هَلْ يُعَانُ عَلَى الْكِتَابَةِ أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا يُعَانُ ، قَالُوا : لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِي إعَانَتِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ يَحْيَى وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ : يُعَانُ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ [ وبه قال ابن حزم ؛ لأن عنده أن المكاتب إذا دخل في الإسلام يكفي الإسلام ] .

بَابُ الْغَارِمِينَ :
1603 - ( عَنْ أَنَسٍ  أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ : { إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ : لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد ) . [ ضعيف , وقد مرَّ تخريجه – الإرواء (867) ] .
1604 - ( وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ  قَالَ : { تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ  أَسْأَلُهُ فِيهَا ، فَقَالَ : أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا ، ثُمَّ قَالَ : يَا قَبِيصَةُ إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ : رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ [ هذا هو محل الشاهد ] وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ، أَوْ قَالَ : سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ ، حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ : لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ، أَوْ قَالَ : سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ فَسُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد ) .
الشَّرْحُ
حَدِيثُ أَنَسٍ تَقَدَّمَ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكَيْنِ وَالْمَسْأَلَةِ ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ هُنَالِكَ .
قَوْلُهُ : ( حَمَالَةً ) بِفَتْحِ الْهَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْإِنْسَانُ وَيَلْتَزِمُهُ فِي ذِمَّتِهِ بِالِاسْتِدَانَةِ لِيَدْفَعَهُ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ [ لكن مَن قال أن سهم الغارمين مقتصر على هذا فقط ( مَن تحمل حمالة ) ؟ سيأتي الكلام إن شاء الله ] ، وَإِنَّمَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ بِسَبَبِهِ وَيُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَدِينَ لِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْبَاقِرُ وَالْهَادِي وَأَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو طَالِبٍ وَرُوِيَ عَنْ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمُؤَيَّدِ بِاَللَّهِ أَنَّهُ يُعَانُ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُفَصِّلْ [ هناك سقط في الكلام فسننقل كلام الشافعي . قال الشافعي وأصحابه : الغارمين ضربان :
الضرب الأول : مَن غرم لإصلاح ذات البين , ومعناه أن يستدين مالاً ويصرفه في إصلاح ذات البين , كأن يخاف فتنة بين قبيلتين أو طائفتين أو شخصين فيستدين مال ويصرفه في تسكين تلك الفتنة , فَيُنْظَرُ : إن كان ذلك في دم , تنازع فيه قبيلتان أو غيرهما , ولم يظهر القاتل أو نحو ذلك , وبَقِيَ الدَّين في ذمته , فهذا يُصرف إليه من سهم الغارمين من الزكاة , سواء كان غنيًا أو فقيرًا , هذا هو المذهب . وإن استدان لإصلاح ذات البين في غير دم , بأن تحمَّل قيمة مال مُتْلَفٍ , فوجهان مشهوران : أصحهما يُعطَى مع الغنى ؛ لأنه غارم لإصلاح ذات البين فأشبه بالدم ( أي أشبه بغارم الدم ) .
مسألة : وإنما يُعطَى الغارم لإصلاح ذات البين ما دام الدين باقيًا عليه , سواء كان الدين لمَن استدانه منه في الإصلاح , أو كان تحمَّل الدية مثلاً لأهل القتيل ولم يؤدها بعد ، فيُدفَع إليه ما يؤديه فى دينه , أو إلى ولي القتيل , فلو كان قضاه مِن ماله , أو أدَّاه ابتداءً مِن ماله لم يُعط بلا خلاف ؛ لأنه ليس بغارم ؛ إذ لا شئ عليه .
هذا هو الضرب الأول في الذي تحمَّل حمالة لإصلاح ذات البين فغرم , الذي أراد الشوكاني أن يقصر سهم الغارمين عليه فيما أظن .
الضرب الثاني : مَن غرم لصلاح نفسه وعياله , فإن استدان ما أنفقه على نفسه أو عياله فى غير معصية , أو أتلف شيئًا على غيره سهوًا ( مخطئ ؛ لأن العامد يعتبر عاصي ) فهذا يُعطَى ما يقضي به دينه بشروط , أحدها : أن يكون محتاجًا إلى ما يقضي به الدين , فلو كان غنيًا قادرًا بنقدٍ , أو عَرَضٍ على ما يقضي به ( عرض من عروض التجارة ) فقولان مشهوران , أصحهما وهو نص الشافعي في الأُم أنه لا يُعطَى , كما لا يُعطَى المكاتَب وابن السبيل مع الغنى , بخلاف الغارم لذات البين , فإن مصلحته عامة ؛ فعلى هذا الوجه لو وجد ما يَقضي به بعضَ الدَّين , يُعطَى ما يقضي به الباقي فقط , فلو لم يملك شيئًا وقدر على قضاء الدين بالاكتساب فوجهان :
أحدهما : لا يعطى كالفقير ؛ ( لأن النبي  قال : لاحظ فيها لا لغني ولا لقوي مكتسب ) والصحيح وبه قطع الجمهور أنه يُعطى ؛ لأنه لا يمكنه قضاءه إلا بعد زمان , وقد يعرض ما يمنعه من القضاء بخلاف الفقير [ لأننا لو قلنا أنه قوي مكتسب فلا يُعطى , سيظل دينه زمنًا طويلاً وهذا في إضرار بالدائن , وقد يعرض له ما يمنعه من القضاء كالمرض بخلاف الفقير ] فإنه يحصل حاجته بالكسب في الحال [ ليس في ذمته شئ للآخرين لكن حاجته متمثلة في أكل وملبس وما إلى ذلك ] .
الشرط الثاني : أن يكون دينه لطاعة أو مباح [ كشخص استدان ليؤدي أمر من أمور الطاعة مثل الأضحية والعقيقة والعمرة ] فإن كان في معصية كالخمر ونحوه , وكالإسراف في النفقة لم يُعط قبل التوبة , هذا هو المذهب , وبه قطع الجمهور ؛ لأن في إعطائه إعانة له على المعصية , وهو متمكن مِن الأخذ بالتوبة , فإن تاب فهل يُعطى ؟ فيه وجهان :
الأول : لا يُعطى ؛ لأن في إعطائه إعانة له ولغيره على المعصية .
الثاني : وهو الأصح عند الأكثرين يُعطى , وهو الصحيح المختار ؛ لقول الله  :  والغارمين  , ولأن التوبة تجُب ما قبلها , إلا أن الرُّويَاني ( مِن كبار الشافعية ) قال : يُعطى على أصح الوجهين إذا غَلب على الظنِّ صدقه في توبته [ أي : إن غلب على ظن المتصدق أنه صادق في توبته , وهذا هو المعتمد ] .
الشرط الثالث : أن يكون الدين حَالًّا , فإن كان مؤجلاً ففي إعطائه ثلاثة أوجه :
أصحها ( قول النووي ) : لا يُعطى ؛ لأنه ليس محتاجًا إليه الآن .
والثاني : يُعطى ؛ لأنه يسمى غارمًا .
والثالث : حكاه الرافعي أنه إن كان الأجَل يحل تلك السنة , أُعطيَ , وإلا فلا يُعطى من صدقات تلك السنة .
قال مقيده : وفي نظرى أن القول الثالث هو الأصح ؛ لأنه لو كان سيحُل في أثناء السنة , يُعط , ولعل النووي صحح القول الأول ؛ لأنه طالما لم يَحُلَّ الدينُ , فقد يغتني إلى أن يَحُلَّ الأجل , أي : في أثناء المدة ] .
مسألة : قال النووي : قال أصحابنا : إنما يُعطى الغارم ما دام الدين عليه , فإن وفَّاه أو برئ منه , لم يُعط بسببه , وإنما يُعطى قدر حاجته , فإن أُعطيَ شيئًا فلم يقض الدين منه , بل أُبرئ منه [ أي سامحه صاحب الدين ] أو قُضيَ عنه [ واحد قضاه عنه ] أو قضاه هو لا مِن مال الزكاة , بل من غيره , فالصحيح أنه يُستَرجَعُ منه ؛ لاستغنائه عنه ( ونفس الكلام قاله ابن قدامة ) .
مسألة : إذا ضمن رجلٌ عن رجلٍ مالاً من ثمن مبيع ( كرجل اشترى سيارة فدفع مقدم وعليه الباقي وضمنه آخر ) ونحوه فله أربعة أحوال :
الأول : أن يكونا معسرين , فيُعطَى الضامن ما يقضي به الدين , ويجوز إعطاء المضمون عنه ؛ ( لأن المدين الأصلي إن عجز أو امتنع عن السداد , فالضامن هو الذي يسدد عنه , فإن كان الاثنين معسرين , فالزكاة هنا تُعطى لأي واحد من الاثنين ) .
الثاني : أن يكونا موسرين , فلا يُعطى الضامن ( كأن يكون المدين الأصلي غائب أو امتنع , فالضامن يدفع ؛ لأنه موسر , والمدين الأصلي موسر , فيستطيع الضامن أن يرجع عليه بالقاضي ليأخذ منه ؛ لأنه موسر ) ؛ لأنه إذا غرم رجع على المضمون عنه , فلا يضيع عليه شيء .
والثالث : أن يكون الضامن معسرًا دون المضمون عنه ( أي أن الضامن معسر لكن المدين الأصلي موسر ) فلا يُعطى ؛ لأنه يرجع عليه .
الرابع : أن يكون الضامن موسر دون المضمون عنه , فيجوز إعطاء المضمون عنه , وفي الضامن وجهان , أصحهما لا يُعطى ؛ لأن الصرف إلى المضمون عنه [ وهو المدين الأصلي ] ممكن , وإذا برئ الأصيل , برئ الكفيل ( الأصيل : أي المدين الأصلي إذا سدد برئ الضامن ) بخلاف الغارم لذات البين . كل ما سبق من المجموع جـ 6 , ابتداءً من صـ 191 . بتصرف .
نعود إلى كلام الشوكاني :
وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحَمَالَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لِتَسْكِينِ فِتْنَةٍ ، وَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ اقْتَضَتْ غَرَامَةً فِي دِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا قَامَ أَحَدُهُمْ فَتَبَرَّعَ بِالْتِزَامِ ذَلِكَ وَالْقِيَامِ بِهِ حَتَّى تَرْتَفِعَ تِلْكَ الْفِتْنَةُ الثَّائِرَةُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، وَكَانُوا إذَا عَلِمُوا أَنَّ أَحَدَهُمْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً بَادَرُوا إلَى مَعُونَتِهِ أَوْ أَعْطَوْهُ مَا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ ، وَإِذَا سَأَلَ لِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ نَقْصًا فِي قَدْرِهِ بَلْ فَخْرًا [ أي إن سأل هو الناس أن يُعينوه على حمالة , لا يُعد ذلك عيب بل فخر ] . قَوْلُهُ : ( فَنَأْمُرَ لَكَ ) بِنَصْبِ الرَّاءِ . [ هذا الحديث من ضمن الأدلة التي تدل على أنه يجوز دفع الزكاة في صنف واحد ؛ لأن قبيصة تحمل حمالة , أي : غارم ، والنبي  قال : أقِم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ؛ إذًا الصدقة يجوز إنفاقها في صنف واحد , وكذلك سبق معنا في حديث معاذ : تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم , وسيأتي هذا في باب : قسم الصدقات ] . قَوْلُهُ : ( لِرَجُلٍ ) يَجُوزُ فِيهِ الْجَرُّ عَلَى الْبَدَلِ وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ . قَوْلُهُ : ( جَائِحَةٌ ) هِيَ مَا اجْتَاحَ الْمَالَ وَأَتْلَفَهُ إتْلَافًا ظَاهِرًا كَالسَّيْلِ وَالْحَرِيقِ . [ كمن استدان لحريق نزل به , أو رجل عنده زرع وجاءت آفة حشرية ] . قَوْلُهُ : ( قِوَامًا ) بِكَسْرِ الْقَافِ : وَهُوَ مَا تَقُومُ بِهِ حَاجَتُهُ وَيَسْتَغْنِي بِهِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ : الِاعْتِدَالُ . قَوْلُهُ : ( سِدَادًا ) هُوَ بِكَسْرِ السِّينِ : مَا تُسَدُّ بِهِ الْحَاجَةُ وَالْخَلَلُ . وَأَمَّا السَّدَادُ بِالْفَتْحِ فَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ : هُوَ الْإِصَابَةُ فِي النُّطْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالرَّأْيِ ، وَمِنْهُ سَدَادٌ مِنْ عَوَزٍ .
قَوْلُهُ : ( مِنْ ذَوِي الْحِجَا ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَقْصُورُ الْعَقْلِ [ من أرباب العقول ] ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْعَقْلَ مُعْتَبَرًا ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ , وَإِنَّمَا قَالَ : " مِنْ قَوْمِهِ " لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُ بِحَالِهِ وَأَعْلَمُ بِبَاطِنِ أَمْرِهِ ، وَالْمَالُ مِمَّا يَخْفَى فِي الْعَادَةِ وَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِحَالِهِ ، وَظَاهِرُهُ اعْتِبَارُ شَهَادَةِ ثَلَاثَةٍ عَلَى الْإِعْسَارِ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَقَالَ الْجُمْهُورُ : تُقْبَلُ شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ غَيْرِ الزِّنَا ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ . [ هذه شهادة , والشهادة تحتاج إلى رجلين أو رجل وامرأتان فيما عدا الزنا , فإنه يحتاج إلى أربعة شهداء ] [ قال مقيده : ومذهب الجمهورهو الأصح ) . قَوْلُهُ : ( فَاقَةٌ ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْفَاقَةُ : الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ . قَوْلُهُ : ( فَسُحْتٌ ) بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ ، وَرُوِيَ بِضَمِّ الْحَاءِ : وَهُوَ الْحَرَامُ ، وَسُمِّيَ سُحْتًا لِأَنَّهُ يُسْحَتُ : أَيْ يُمْحَقُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَصَّصٌ بِمَا فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ مِنْ جَوَازِ سُؤَالِ الرَّجُلِ لِلسُّلْطَانِ وَفِي الْأَمْرِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فَيَزْدَادَنِ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَيَكُونُ الْجَمِيعُ خَمْسَةً .
بَابُ : الصَّرْفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ :
1605 - ( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ  [ عند إطلاق أبي سعيد يراد به الخدري ؛ لأن هناك أبو سعيد بن المعلَّب ] قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ ، أَوْ جَارٍ فَقِيرٍ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَيُهْدِي لَكَ أَوْ يَدْعُوَكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَفِي لَفْظٍ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إلَّا لِخَمْسَةٍ : لِعَامِلٍ عَلَيْهَا ، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ ، أَوْ غَارِمٍ ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِهَا فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ ) [ صحيح باللفظ الثاني , أما اللفظ الأول فهو ضعيف ؛ لأنه عن عطية عن أبي سعيد به , وعطية ضعيف – الإرواء (3/78) .
قال مقيده : لو تأملنا الحديث : " لا تحل الصدقة لغنى إلا لخمسة :
- لعامل عليها حتى لو كان غنيًا فهو ممَن تحل لهم الصدقة .
- أو رجل اشتراها بماله , اللفظ هنا عام , لكن في حديث عمر بن الخطاب  أن النبي  نهى أن يشتريَ الرجل صدقته التي تصدق بها [ أنا أعطيت زيدًا صدقة ثم قلت له : بعها لي , فالنبى  لمَّا عمر حمل على فرس فى سبيل الله , فالرجل الذي أخذ هذا الفرس ضيَّعه ولم يعتن به , فهزل الفرس , فأراد عمر أن يشتريَه منه مرة أخرى , فنهاه النبي  وقال له : لا تعُد في صدقتك يا عمر – متفق عليه ؛ ولذلك ذهب فريق من أهل العلم إلى أنه لا يجوز للإنسان أن يشتري الصدقة التي تصدق بها , فيكون حديث عمر مخصِّص لحديث أبي سعيد الذي معنا ، والذين ذهبوا إلى المنع هم : أحمد , ومالك , وأبو حنيفة له روايتان ، والذين ذهبوا إلى الجواز : الشافعي وابن حزم , وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله .
- إذاً إلا لخمسة : لعامل عليها أو رجل اشتراها بماله , أو غارم وقد تكلمنا على الغارم من قبل .
- ثم : أو غازٍ في سبيل الله , وفي الرواية الأولى الضعيفة : " إلا في سبيل الله " وفي هذه الرواية : " أو غازٍ فى سبيل الله " ؛ لأن الجمهور على أن قوله تعالى  وفي سبيل الله  أي : الغزو والجهاد ، وذهب أحمد إلى أن الحج في سبيل الله , وسوف يأتي إن شاء الله .
- أو مسكينٍ تُصدق عليه بها , فأهدى منها الغني , أي : مسكين تصدق عليه بها , فأهدى بها الغني , ونحن نعلم أن الصدقة عندما تصل إلى مستحقها , صارت مِلكًا له , فيتغيَّر حكمها , فله أن يتصرف فيها كيف شاء ، فالنبي  تحرُم عليه الصدقة , وبريرة رضي الله عنها تُصُدِّقَ عليها بشاة , فأهدت جزءًا منها إلى النبي  , فقيل : يارسول الله , إنها صدقة. فقال: هي لها صدقة , ولنا هدية .
فهؤلاء هم الخمسة : (1) عامل عليها . (2) أو رجل اشتراها بماله , وقد علمنا أن ذلك شريطة ألا تكون صدقته , وسيأتي الكلام عليه . (3) الغارم . (4) أو غازٍ في سبيل الله . (5) أو مسكين تُصدق عليه فأهدى منها لغني .
الشَّرْحُ
الْحَدِيثُ أَيْضًا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْبَزَّارُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ، وَقَدْ أُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ ؛ لِأَنَّهُ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ النَّبِيِّ  [ يعني : مرسلاً , ولم يذكروا أبا سعيد الخدري ) ، وَلَكِنَّهُ رَوَاهُ الْأَكْثَرُ عَنْهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، وَالرَّفْعُ زِيَادَةٌ يَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهَا . [ قال الحاكم : حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه لإرسال مالك إياه عن زيد بن أسلم , ثم ساقه ( أي الحاكم ) عن طريق مالك ثم قال : هو صحيح موصولاً , وقد يرسل مالك الحديث ويصله أو يسنده ثقة , والقول فيه قول الثقة الذي يصله أو يسنده [ لأننا قلنا أن الرفع زيادة فإذا كانت من ثقة تُقبل ] قال الألباني : ووافقه الذهبي وهو الراجح عندي – الإرواء (3/378) ] . قَوْلُهُ : ( لِغَنِيٍّ ) قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكَيْنِ . قَوْلُهُ : ( إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أَيْ لِلْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْآخِرَةِ . قَوْلُهُ : ( أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ ) قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : هُوَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطِعُ يَأْخُذُ مِنْ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ [ قال مقيده : قوم قالوا : هو المسافر المنقطع , مثلاً واحد من أهل القاهرة وموجود في الأسكندرية , ليس مقيمًا بها , يأخذ من الصدقات ولو كان غنيًا في بلده حتى لو وجد من يقرضه , لا يلزمه كما سيأتي ) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ الَّذِي قُطِعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ ( يعني : أُخِذَ ماله ) . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ابْنُ السَّبِيلِ الْمُسْتَحِقُّ لِلصَّدَقَةِ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَيَعْجَزُ عَنْ بُلُوغِ مَقْصِدِهِ إلَّا بِمَعُونَةٍ ( قال مقيده : إذًا واحد يريد أن يُنشأ سفرًا , أي : ليس عابرَ سبيلٍ , ولا مارًّا في بلد ليست بلد له , لكن هذا رجل يريد أن يُنشأ سفرًا مباحًا في غير معصية فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة .
إذًا لو أن رجلاً يريد أن يسافر ليعمل أو ليصل أرحامه أو ليعمل عمرة فهو يريد أن يُنشأ سفرًا , فهذا يُعان على مذهب الشافعي وابن حزم .
وقوم قالوا : لا , ابن السبيل هو الذي في بلد الغربة وليس معه مال حتى لو كان غنيًا في بلده , ولا مانع أن يشمل الاثنين .
فنلاحظ أن الإمام أحمد قال : ابن السبيل هو المار في بلد الغربة وإن كان غنيًا فى بلده , والصورة الثانية ليست موجودة عنده , والصورة الأولى التي قال بها أحمد قال فيها بعض الشافعية : لا يأخذ لأنه لا يجوز نقل الصدقة من بلد إلى بلد , وهذا قول ضعيف .
قال ابن حزم : وَابْنُ السَّبِيلِ: هُوَ مَنْ خَرَجَ فِي غير مَعْصِيَةٍ فَاحْتَاجَ .
قال النووي : قال الشافعي والأصحاب : ابن السبيل ضربان :
أحدهما : مَن أنشأ سفرًا من بلد كان مقيمًا بها سواء وطنه أو غيره .
والثاني : غريب مسافر يجتاز بالبلد .
فالأول يُعطى بلا خلاف , وأما الثاني فالمذهب الصحيح الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي أنه يُعطى أيضًا مطلقًا . وقال بعض الشافعية : لا يُعطى من صدقة بلد يجتاز به إذا منعنا نقل الصدقة ، وهذا ضعيف أو غلط .
وإنما يُعطى المسافر بشرط حاجته في سفره , ولا يضر غناه في غير سفره , فيُعطى مَن ليس معه كفايته في طريقه وإن كان له أموال في بلد آخر , سواء كانت في البلد الذي يقصده أو غيره إذا لم يكن في بلد الإعطاء .
فإذا كان سفره طاعة كحج وغزو وزيارة مندوبة ونحو ذلك , دُفِعَ إليه بلا خلاف ، وإن كان معصية كقطع الطريق ونحوه لم يُدفع إليه بلا خلاف ، وإن كان مباحًا كطلب آبق وتحصيل كسب أو استيطان في بلد أو نحو ذلك فوجهان :
أحدهما : لا يُعطى ؛ لأنه غير محتاج إلى هذا السفر .
والثاني : يُعطى ؛ لأن ما جُعِلَ رفقًا للمسافر في طاعة الله , جُعِلَ رِفْقًا بالمسافر في مباح ( لأن مَن الرفق بالمسافر أن يفطر في رمضان , ويُشرع له في قصر الصلاة , ويرخص له في الجمع بين الصلاتين , فإن قلنا أن النبي  فعل ذلك في حج أو عمرة أو جهاد في سبيل الله , إن قلنا أن النبي  فعل ذلك فب حج أو عمرة أو جهاد في سبيل الله - وهذه كانت أسفاره  - لكن هذا لا يمنع من القول بأن هذه الرخص يتمتع بها من سافر في مباح كما قلنا في الفطر في رمضان , والقصر في الصلاة للمسافر ) كالقصر والفطر وهو الأصح ، ولو سافر لتنزه أو تفرج فطريقان مشهوران : المذهب أنه كالمباح فيكون على الوجهين [ الوجهين السابقين في المسافر سفر مباح وجه قال بالجواز ووجه قال بالمنع ] والثاني : لا يعطى قطعًا ؛ لأنه نوع من الفضول [ هذا القول هو الذي ينبغي أن يعتمد , لكننا نقول هذه المذاهب للإشارة إلى أن هذه المسائل مختلف فيها ] وإذا أنشأ سفر معصية ثم قطعه في أثناء الطريق , وقصد الرجوع إلى وطنه , أُعطيَ حينئذٍ من الزكاة ؛ لأنه الآن ليس سفر معصية – أي : أقلع عن المعصية ) . المجموع (6/202، 203) .
سؤال : هل يُعطى من يريد أن يسافر للعمرة ؟
الإجابة : [ سوف يأتي في الباب الذي بعد هذا , باب : استيعاب الأصناف , سنجد أن الشافعي وابن حزم يذهبان إلى أنه يجب الصرف في الأصناف الثمانية المذكورة في الآية بالتساوي , وكل صنف من الأصناف الثمانية تُعطى الزكاة لثلاثة على الأقل من هذا الصنف ؛ لأن الآية قالت  إنما الصدقات للفقراء والمساكين ...  وهذا جمع , وأقل الجمع ثلاثة , فهي واردة بصيغة الجمع , فيعطَى كل صنف من الأصناف جزءً متساويًا من المال , وهذا الجزء يعطى لثلاثة أفراد على الأقل .
وذهب الجمهور إلى أنه يجوز أن تُخرَج زكاة المال في صنف واحد , بل يجوز أن تعطى لواحد فقط من هذا الصنف , فيجوز أن يعطيها لفقير واحد فقط .
الإمام مالك رحمه الله - وهذا ما رجحناه عندما قرأنا كلام ابن قدامة في المغني - يبدأ بذوي الاحتياجات , فممكن أن يزوج منها الشباب , ولكن بعد سد حاجة الفقير , فيعطَى الأشد حاجة , فالذي يليه , فالذي يليه , وهذا المذهب هو الراجح ] .
قال النووى : ذكرنا أن مذهبنا أن ابن السبيل يقع على مُنشئ السفر , والمجتاز , وقال أبو حنيفة ومالك : لا يعطى المُنشئ , بل يختص بالمجتاز . المجموع (6/205) .
قل مقيده : وهذا هو الذى يترجح لديَّ ؛ لأن الإنسان إذا كان في بلده لا يسمى ابن سبيل , ولكنه إن خرج من البلد انطبق عليه هذا الاسم .
فنحن نرى تفاصيل المذاهب .
سؤال : أخت تريد أن تذهب للحج هل تعطى من الزكاة ؟
الجواب : كما سيأتي أن هذا مذهب أحمد ، وسنرى أنه مذهب ابن عمر وابن عباس , ولكن هنا نقطة هل تطلب هي ؟
لا يجوز لها أن تطلب , ولكن على مذهب أحمد يجوز أن تعطى دون أن تسأل , ولكن على مذهبي ( أي الشيخ ) لا تعطى فهى ليس لها أن تطلب , وعلى مذهبي مهما ألحت في الطلب لا أعطيها من مال الزكاة .
سؤال : فإن كانت لا تسأل لكن تلمح بذلك ؟
الجواب : تلمح كما شاءت لكن لا تعطى .
قال النووي : لو وجد من يقرضه كفايته , وله في بلده وِفَادة [ يعني عنده فلوس في بلده , وهذا المقرض سوف يأتي إلى بلده ] لم يلزمه أن يقترض منه [ قال مقيده : أي عنده فلوس في بلده , فالمقرض له وفادة على بلد ابن السبيل , وهو غني في بلده , فلا يلزمه أن يقترض بل يحق له أن يأخذ من الزكاة .
مثال : واحد من مصر سافر إلى السعودية واحتاج مال , وهو غنى في مصر , والذي سيعطيه سوف يأتي إلى مصر , هل يقترض , أم يحل له أن يأخذ من الزكاة ؟
يحق له أن يأخذ من الزكاة ولا يلزمه أن يقترض منه . المجموع (6/205) .
قلنا أن ابن السبيل هو المنشئ أو والمجتاز عند الشافعي وابن حزم ، وعند مالك وأبي حنيفة هو المجتاز فقط ، وبعض الشافعية قالوا : إن المجتاز لا يعطى أصلاً إن قلنا بمنع نقل الزكاة من بلدها , وهذا مذهب ضعيف ، والذي يظهر لي أن ابن السبيل هو المجتاز فقط على مذهب أبي حنيفة ومالك على اعتبار أنه حينئذٍ يسمى ابن سبيل , لكن المقيم فى بلده لا يسمى ابن سبيل .
نعود إلى كلام الشوكاني :
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : هُوَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطِعُ يَأْخُذُ مِنْ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ ( وقلنا : إن هذا هو المعتمد ) وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ الَّذِي قُطِعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ ( م : أُخِذَ ماله ) .وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ابْنُ السَّبِيلِ الْمُسْتَحِقُّ لِلصَّدَقَةِ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَيَعْجَزُ عَنْ بُلُوغِ مَقْصِدِهِ إلَّا بِمَعُونَةٍ
قَوْلُهُ : ( لِعَامِلٍ عَلَيْهَا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَيَدْخُلُ فِي الْعَامِلِ : السَّاعِي ( م : هي أساسًا واردة في الساعي ) وَالْكَاتِبُ ( م : الذي يكتب الداخل والخارج ) وَالْقَاسِمُ ( م : الذى يقسمها بين الناس ) وَالْحَاشِرُ الَّذِي يَجْمَعُ الْأَمْوَالَ , وَحَافِظُ الْمَالِ وَالْعَرِيفُ وَهُوَ كَالنَّقِيبِ لِلْقَبِيلَةِ ( م : العريف يعمل عملان : يعرِّف المُصَدِّق أهل المال ليأخذ منهم , ويعرف المصدق أيضًا الأفراد الموجودون في هذه القبيلة ليعطى من الزكاة ) وَكُلُّهُمْ عُمَّالٌ ، لَكِنَّ أَشْهَرَهُمْ السَّاعِي وَالْبَاقِي أَعْوَانٌ لَهُ ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّرْفُ مِنْ الزَّكَاةِ إلَى الْعَامِلِ عَلَيْهَا ( م : طبعًا هذا هو القول ؛ لأن هؤلاء إن لم يُعطوا من الزكاة فمن أين يعطون , والله تعالى قال  والعاملين عليها  فيدخل كل ذلك . لكن إن كنت أنا الذي أُعطي الناس الزكاة , أو طُلِب مني توزيع الزكاة , فالأمر غير ذلك ؛ لأننا رأينا أن الساعي على الزكاة – أى المُصَدِّّق – يذهب ليقوم الأموال ويحسب , وليس من الضروري أن تُساق إليه , بل يذهب إليها ليحسبها على الماء إن كانت من الأنعام أو يذهب ليخرِّص إذا كانت من الثمار وما إلى ذلك ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّرْفُ مِنْ الزَّكَاةِ إلَى الْعَامِلِ عَلَيْهَا ، سَوَاءٌ كَانَ هَاشِمِيًّا أَوْ غَيْرَ هَاشِمِيٍّ ، وَلَكِنَّ هَذَا مُخَصَّصٌ بِحَدِيثِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ الْمُتَقَدِّمِ ( م : هو انطلق مع الفضل بن العباس إلى النبي  وطلب منه أن يؤمِّرهما على الصدقة ليصيبوا ما يصيب الناس من المنافع فالنبي  قال : " إنما هى أوساخ الناس , وإن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد ) ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْعَامِلِ الْهَاشِمِيِّ ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ الْآتِي فِي بَابِ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ  لَمْ يُجَوِّزْ لَهُ أَنْ يَصْحَبَ مَنْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ  عَلَى الصَّدَقَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ ( م : ومولى القوم منهم ؛ لأن النبي  قال : الولاء كلحمة النسب , وسيأتي إن شاء الله ) .
قَوْلُهُ : ( أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ) فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِ دَافِعِ الزَّكَاةِ شِرَاؤُهَا [ والشافعي قال : يجوز ] وَيَجُوزُ لِآخِذِهَا بَيْعُهَا وَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ . ( م : أما آخذ الزكاة فكونه يبيعها فهذا جائز متفق عليه عند جميع العلماء , لكن المهم الذي يشتري الصدقة أو الزكاة لا يكون هو الذي بذلها ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ إذَا مَلَكَهَا الْآخِذُ تَغَيَّرَتْ صِفَتُهَا وَزَالَ عَنْهَا اسْمُ الزَّكَاةِ وَتَغَيَّرَتْ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا . ( م : ويؤيده قوله  في حديث بريرة : " هي لها صدقة ولنا هدية " متفق عليه من حديث عائشة فىيقصة بريرة . قَوْلُهُ : ( أَوْ غَارِمٍ ) وَهُوَ مَنْ غَرِمَ لَا لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ كَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بِأَنْ يَخَافَ وُقُوعَ فِتْنَةٍ بَيْنَ شَخْصَيْنِ أَوْ قَبِيلَتَيْنِ فَيَسْتَدِينُ مَنْ يَطْلُبُ صَلَاحَ الْحَالِ بَيْنَهُمَا مَالًا لِتَسْكِينِ الثَّائِرَةِ فَيَجُوزُ لَهُ أَوْ يَقْضِي ذَلِكَ مِنْ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا ( م : لكن لو دفع هو من ماله لم يكن غارم , فلا يأخذ ) .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله : وَيُحْمَلُ هَذَا الْغَارِمُ عَلَى مَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ كَمَا فِي حَدِيثِ قَبِيصَةَ لَا لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ : " أَوْ ذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ " انْتَهَى ( م : لماذا يحمل على هذا فقط ؟ فهذا قصر للعام على بعض أفراده ) .
قَوْلُهُ : ( فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ ) فِيهِ جَوَازُ إهْدَاءِ الْفَقِيرِ الَّذِي صُرِفَتْ إلَيْهِ الزَّكَاةُ بَعْضًا مِنْهَا إلَى الْأَغْنِيَاءِ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الزَّكَاةِ قَدْ زَالَتْ عَنْهَا . وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ . ( م : يجوز لي إن كنت عالمًا بأن أحدًا يأخذ صدقات , وأعطاني هدية من تلك الصدقات ؛ لحديث بريرة ، ولهذا الحديث ( حديث الباب - حديث أبي سعيد - وقلنا أنه صحيح ) . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ ، وَمَا وَرَدَ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ كَانَ مُخَصِّصًا لِهَذَا الْعُمُومِ كَحَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ فِي بَابِ : مَا جَاءَ فِي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ . ( م : لما أعطاه النبي  مال فقال : يارسول الله , أعطه من هو أحوج مني . فقال : إن جاءك هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفس فخذه , فإن شئت فكله وإن شئت فأطعمه غيرك ) .
1606 - ( وَعَنْ ابْنِ لَاسٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ : { حَمَلَنَا النَّبِيُّ  عَلَى إبِلٍ مِنْ الصَّدَقَةِ إلَى الْحَجِّ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا ) . ( م : قال محققوا المسند : إسناده حسن ؛ محمد بن اسحاق صدوق حسن الحديث , وقد صرح بالتحديث في الرواية الثانية عنه . المسند (17938– 17939) (29/458) .
نلاحظ هنا أمران : الأول أن محمد بن اسحاق بن يسار وإن كان مدلسًا قد صرح بالتحديث إلا أنه لا يتحمل التفرد ؛ لأنه حسن الحديث , وهذا أصل من الأصول , ويلاحظ أيضًا أن النبي  لما حملهم على إبل من الصدقة ولم يبيَّنْ أنها كانت من الزكاة , وسيأتي مزيد بيان ) .
1607 - ( وَعَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ الْأَسَدِيَّةِ { أَنَّ زَوْجَهَا جَعَلَ بَكْرًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنَّهَا أَرَادَتْ الْعُمْرَةَ ، فَسَأَلَتْ زَوْجَهَا الْبَكْرَ فَأَبَى ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ  فَذَكَرَتْ لَهُ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ ) . [ لاحظ أنها أرادت العمرة وليس الحج . وراجع إرواء الغليل حديث رقم (869) (3/372) ستجد أن الحديث فيه اضطراب شديد , فأُم معقل سألت زوجها أن يعطيَها البكر فأبى النبي  أن يعطيها البكر ثم قال : الحج والعمرة في سبيل الله ] .
1608 - ( وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ مَعْقِلٍ قَالَتْ : { لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ  حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ فَجَعَلَهُ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَأَصَابَنَا مَرَضٌ , وَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ وَخَرَجَ النَّبِيُّ  ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حَجَّتِهِ جِئْتُهُ فَقَالَ : يَا أُمَّ مَعْقِلٍ مَا مَنَعَكِ أَنْ تَخْرُجِي ؟ قَالَتْ : لَقَدْ تَهَيَّأْنَا فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ هُوَ الَّذِي نَحُجُّ عَلَيْهِ فَأَوْصَى بِهِ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَالَ : فَهَلَّا خَرَجْتِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ) . [ هناك تفاوت شديد في سياق القصتين مع ملاحظة أن " في سبيل الله " كما قال ابن حزم : أي إنفاق هو في سبيل الله , فلما أقول : " جعلت هذا الشيء في سبيل الله " فمرادي غير مراد الشرع , فأنا مرادي غير مراد الشرع فممكن أقول : " في سبيل الله " أي يُنفَقُ في أي طاعة من الطاعات , لكن عندما يقول الشرع : " في سبيل الله " ثم يأتي في حديث أبي سعيد يبيِّن أن الصدقة لا تحل لغني إلا لخمسة منهم غازٍ في سبيل الله , والغازي في سبيل الله لا يمكن إلا أن يكون سهم المخصص في قوله تعالى :  وفي سبيل الله  ؛ لأنه لا يمكن أن يعطى من سهم الفقراء ولا المساكين ؛ لأن الحديث يقول : " لا تحل الصدقة لغني " وهو غني , فإذا نظرنا إلى سهم الفقراء لا نجده واقع فيهم , وكذلك المساكين والعاملين عليها , ليس داخل في هذه الثلاثة , والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل , فلن نجد إلا أنه الغازي كما ورد في الحديث , فهو الذى ينطبق عليه قوله تعالى :  وفي سبيل الله  فكل طاعة هي فى سبيل الله , وكل نفقة في طاعة فهي في سبيل الله ، وكل نفقة في القربات فهي نفقة في سبيل الله .
ما أُريد أن أُنبِّه عليه أن قولي أنا - محمد عبد المقصود - سأنفق هذا في سبيل الله , أنا ممكن أن يكون مرادي أي طاعة من الطاعات التى ترضي الله  , لكن مراد ومقصد الشرع , غير مرادي ومقصدي , فلما يقول الله :  وفي سبيل الله  فسبيل الله في الكتاب والسُنة هي الجهاد , يؤكد هذا حديث أبي سعيد : " أو غازٍ فى سبيل الله " .
الإمام أحمد احتج بهذا الحديث على أن الحج والعمرة في سبيل الله , فيُعطى مَن أراد الحج والعمرة مِن سهم " في سبيل الله " .
والجمهور قالوا : لا ، في سبيل الله هو الغازي فقط , وهو الذي يتبيَّن لي , ورأي الجمهور هو المعتمد ؛ لأن حديث ابن لاس أو أبي لاس ؛ لأن فيها خلاف , تفرد به محمد بن اسحاق ومحمد بن اسحاق لا يتحمل التفرد بأصل كهذا , وهذا أولاً ، وثانيًا : حديث أم معقل فيه اضطراب , ولو افترضنا أن الحديث صحيح , فأبو معقل قال : هذه الناقة في سبيل الله ؛ وفي سبيل الله يعني : ممكن يكون مراده أي طاعة , وهذا غير مراد الرب  ؛ لأن عرف الشرع أو سبيل الله في عرف الشرع هي الجهاد , ليس هذا فحسْب , بل حديث أبي سعيد قاطع بهذا , أن الصدقة لا تحل لغني إلا لخمسة منهم غازٍ فى سبيل الله , وهذه تدخل تحت أي قسم من الأقسام الثمانية في الآية , نجدها تدخل في قسم " في سبيل الله " ولا تصلح في قسم الفقراء , والمساكين , والعاملين عليها , والمؤلفة قلوبهم , وفي الرقاب , والغارمين , وفي سبيل الله , وابن السبيل ؛ إذًا الغازي في سبيل الله هو المراد بقوله تعالى :  وفى سبيل الله  .
ننتقل إلى الإرواء : الشيخ ناصر قال : صحيح بدون ذكر العمرة , وأما بها ( أي بذكر العمرة ) فشاذ , وإليك البيان :
أخرج الحديث أحمد , ومن طريقه الحاكم , والطيالسي في مسنده عن شعبة عن إبراهيم بن مهاجر [ إبراهيم بن مهاجر فيه ضعف ] . عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث قال : أرسل مروان إلى أُم معقل الأسدية يسألها عن هذا الحديث فحدثته أن زوجها جعل بكرًا لها فى سبيل الله ، وأنها أرادت العمرة ، فسألت زوجها البكر فأبى ، فأتت النبي  فذكرت ذلك له , فأمره أن يعطيها , وقال النبي  : " الحج والعمرة في سبيل الله " وقال : " عمرة في رمضان تعدل حجة , أو تجزئ حجة " وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم , ووافقه الذهبي .
قلت ( الألباني ) : وهو على شرط مسلم كما قالا إلا أن إبراهيم بن مهاجر في حفظه ضعف كما أشار إلى ذلك الذهبي نفسه فى إيراده إياه في الضعفاء ، وقوله : " ثقة " قال النسائي : ليس بالقوي , وقال الحافظ : " صدوق لين الحفظ " .
قلت ( الألباني ) : ومما يؤيد ذلك : روايته لهذا الحديث , فإنه قد اضطرب في إسناده ومتنه اضطرابًا كثيرًا , وخالف الثقات في ذكر العمرة فيه , مما يدل على أنه لم يضبطه ولم يحفظه . [ إذًا الحديث الرواية الأولى له من طريق شعبة عن إبراهيم بن مهاجر عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ] . فهو في رواية شعبة هذه قال : عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث قال : فأرسله عن أبي بكر بن عبد الرحمن [ لأن أبي بكر قال أرسل مروان إلى أُم معقل الأسدية فهذا إرسال ] وخالفه محمد بن أبي إسماعيل وهو ثقة فقال : عن إبراهيم بن مهاجر عن أبي بكر عن معقل بن أبي معقل أن أُمه أتت رسول الله  فذكر معناه . أخرجه أحمد (6/406) . [ هذه قصة مختلفة , أرسل مروان إلى أُم معقل يسألها فحدثته ، والرواية الثانية : عن معقل بن أبي معقل أن أُمه أتت النبي  فذكر معناه ] فهو في هذه الرواية أدخل بين أبي بكر وبين أُم معقل ابنها معقل وجعله من سنده ! مع أنه قد ثبت أن أبا بكر هذا قال : كنتُ فيمن ركب مع مروان حين ركب إلى أُم معقل قال : وكنتُ فيمن دخل عليها من الناس معه , وسمعتها حين حدثت هذا الحديث . أخرجه أحمد من طريق ابن اسحاق قال : حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن الحارث بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه . قلت : وهذا سند جيد قد صرح فيه ابن اسحاق بالسماع , فهذا يصحح أن أبا بكر تلقاه عن أُم معقل مباشرةً . [ الشيخ ناصر يقول : في الرواية الثانية - رواية محمد بن أبي اسماعيل - أدخل بين أبي بكر وأُم معقل ابنها معقل وجعله من مسند معقل , مع أنه قد ثبت أن أبا بكر قال : كنتُ مع مروان ... ] .
الشيخ ناصر يقول : إن هذا إسناد جيد صرح فيه ابن اسحاق بالسماع ... مباشرةً , ويؤيده رواية الزهري عن أبي بكر عن امرأة من بني أسد بن خزيمة يُقال لها : أُم معقل قالت : " أردتُ الحج فضلَّ بعيري فسألتُ رسول الله  فقال : اعتمري في شهر رمضان , فإن عمرة فى شهر رمضان تعدل حجة " .
[ الشيخ ناصر أتى بهذا الحديث هنا لكى يبيَن أن أبا بكر بن عبد الرحمن سمع من أُم معقل ] .
أخرجه أحمد وسنده صحيح على شرط الشيخين , وهو خلاف قول إبراهيم بن مهاجر في روايته السابقة " أرادتُ العمرة " فهي شاذة كما ذكرنا , ويؤيده رواية أبي سلمة عن معقل بن أبي معقل قال : " أرادت أُمي الحج وكان جملها أعجف ... إلى نهاية الحديث . أخرجه أحمد (4/210) قال : ثنا يحيي بن سعيد عن هشام حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة , وذكره في مكان آخر بهذا الإسناد إلا أنه زاد فيه : " عن أُم معقل الأسدية " وهي وهم ظاهر .
[ الألباني جاء بالجزء الأخير كى يُثبت أن أبا بكر سمع من أُم معقل ] .
ثم قال أحمد (6/405) حدثنا : رَوْحٌ ومحمد بن مصعب قال : ثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أُم معقل أنها قالت : يارسول الله , إني أريد الحج , وجملي أعجف فما تأمرني ؟ قال : إعتمري فى رمضان فإن عمرة رمضان تعدل حجة . ورواه بن سعد (8/295) عن ابن مصعب وحده . ثم قال أحمد (6/406) : ثنا عبد الملك بن عمرو قال : ثنا هشام عن يحيي عن أبي سلمة عن معقل بن أم معقل الأسدية قالت : " أردتُ الحج مع رسول الله  : فذكرت ذلك للنبي  فذكر نحو حديث الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير" .
وهذه الأسانيد صحيحة , وإن اختلف فيها على يحيى وإن اختلف فيها على يحي هل هو من سند أم معقل أو ابنها معقل ؟ وسواء كان الصواب هذا أو ذاك , فهو صحيح ؛ لأن معقلاً صحابي أيضًا , وقد اتفقت الروايات كلها في ذكر الحج دون العمرة . وهو رواية لإبراهيم بن مهاجر فقال الإمام أحمد (6/375) : ثنا عفان ، ثنا أبو عوانة قال : ثنا إبراهيم بن مهاجر عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال : أخبرني رسول مروان الذي أرسل إلى أُم معقل قال : قالت : " جاء أبو معقل مع النبي  حاجًا , فلما قدم أبو معقل قال : قالت أُم معقل : قد علمت أن علىّ حجة وأن عندك بكرًا فأعطني فلأحج عليه . قال : فقال لها : إنك قد علمتِ أنى قد جعلته فى سبيل الله . قالت : فاعطني صرام نخلك . قال : علمتِ أنه قوت أهلي . قال قالت : فإني مكلمة للنبي  وذكرته له قال : فانطلقا يمشيان حتى دخلا عليه قال : فقلت له : يارسول الله , إن علىّ حجة , وإن لأبي معقل بكرًا ، قال أبو معقل : صدقتِ , فجعلته في سبيل الله قال : أعطها فلتحج عليه , فإنه فى سبيل الله ، قال : فلما أعطاها البكر قالت : يارسول الله , إنى إمرأة قد كبرت وسقمت , فهل من عمل يجزئ عني عن حجتي ؟ قال : فقال " عمرة في رمضان تجزئ لحجتك " .
[ نلاحظ هنا أن إبراهيم بن مهاجر ضعيف , والرسول هنا مجهول , والسياق هذا مختلف , ففي السياق الأول كان عمرة , وإبراهيم بن مهاجر اضطرب في متن هذا الحديث , وفي سنده اضطراب كثير ] .
ونجد في هذه الرواية مخالفة أخرى للرواية السابقة وهي قوله  فيها : " فلتحج عليه فإنه في سبيل الله " فلم يذكر العمرة مع الحج وهذا هو المحفوظ في مثل هذه القصة , فإن لها شاهدًا من حديث أبي طليق حدثهم : فذكر قصته مع زوجه أُم طليق , تشبه هذه من بعض الوجوه , وفيها : " فسألته أن يعطيها الجمل تحج عليه قال : ألم تعلمي أني حبسته في سبيل الله ؟ قالت : إن الحج في سبيل الله , فأعطنيه يرحمك الله " وفيها : " فأتيت رسول الله  فأقرأته منها السلام وأخبرته بالذي قالت أم طليق قال : صدقت أم طليق لو أعطيتها الجمل كان في سبيل الله ... " أخرجه الدولابي في الكنى والأسماء (1/41) بسند صحيح . وقال الحافظ في الإصابة بعد أن ساقه من هذا الوجه : " وأخرجه ابن أبي شيبة وابن السكن وابن منده وسنده جيد " وذكره بنحوه في المجمع (3/280) وقال : " رواه الطبراني في الكبير والبزار باختصار ؛ ورجال البزار رجال الصحيح ، وقال المنذري في الترغيب (2/115) : إسناد الطبراني جيد , وله شاهد من حديث ابن عباس نحوه بلفظ : " أما إنك لو أحججتها عليه كان فى سبيل الله " . أخرجه أبو داود والطبراني والحاكم وصححه , وإنما هو حسن فقط كما بينتُه في " الحج الكبير " وسأذكر لفظه والكلام عليه في كتاب الوقف إن شاء الله تعالى .
فائدة :
هذا الحديث الصحيح دليل صريح على أن الزكاة يجوز إعطاؤها للفقير على ما ترى قال : ادفعها إليه فأتيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد  فقالوا مثل ذلك ليحج بها . وهو مذهب أحمد فقال ابنه عبد الله في " مسائله " صـ 134 : سمعت أبي يقول : " يُعطى من الزكاة في الحج ؛ لأنه من سبيل الله , وقال ابن عمر : الحج من سبيل الله " .
وكذا روى اسحاق المروزي في " مسائله " (ق 35/1) عن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه أنه يعطِي الزكاة في الحج , وثبت مثل ذلك عن ابن عياض أيضًا فروى ابن شيبة (4/41) وأبو عبيد في الأموال (1784) عن حسان بن الأشرس عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسًا أن يعطِي الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق منه الرقبة .
قلت : وإسناده جيد ، وعلقه البخاري .
وأما أثر ابن عمر الذي علقه أحمد , فوصله أبو عبيد بسند صحيح عنه , ومع ذلك فقد قال أبو عبيد عقبه : وليس الناس على هذا ولا أعلم أحدًا أفتى به أن تصرف الزكاة إلى الحج " .
قلت : في العبدين : ابن عباس وابن عمر خير قدوة ، لاسيما ولا يعلم لهما مخالف من الصحابة مع تقدمهما من الحديث .
قال مقيده : حديث إبراهيم بن مهاجر , لابد أن نضرِبَ عليه ؛ لأن فيه اضطراب شديد في السند والمتن , والشيخ ناصر يريد أن يثبت أن أبا بكر بن عبد الرحمن سمع من أُم معقل مباشرة , لكن القدر الذي سمعه منها غير القدر الذي ذكره إبراهيم بن مهاجر في أن الحج من سبيل الله , والنصوص التي تثبت أن أبا بكر سمع من أُم معقل :
- أردتُ الحج فضل بعيرى فسألتُ رسول الله  فقال : اعتمري في شهر رمضان ؛ فإن عمرة في شهر رمضان تعدل حجة .
والسؤال : متى حجوا , والنبي  لما رجع سألها فقال : يا أُم معقل لِمَ لم تحجي معنا ؟ ثم ترجع في رواية وتقول : كبر سني ولم استطع أن أحج ؟
وإذا كنت لا تقدري على الحج فلماذا عملت مشكلة مع أبي معقل ؟
ليس هذا مما نحن فيه .
وأما حديث أبي طليق أن امرأته سألته أن يعطيَها جمله تحج عليه , فقال : ألم تعلمي أني حبسته في سبيل الله ؟ حبسه : أي وَقَفَهُ , والحبس هو الوقف , وحديث ابن عمر في الصحيحين أن عمر أصاب بستانًا من خيبر كان أجود ماله فسأل النبي ماذا يعمل فيه قال : إن شئتَ فأحبس رقبته وسبِّل ثمراته لا تُباع ولا تورث ولا توهب , وسبل ثمرته : اجعلها في سبيل الله . فهو حبس هذه الناقة في سبيل الله , والنبي  صدَّقها في هذا لكن هل هذا هو سبيل الله المذكور في الآية ؟
أنا نفسي لا تطمئن إلى هذا مطلقًا لاسيما وأن الله  قد قال :  ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً  فلم يجعل الحج فرض إلا على مَن مَلَكَ سبيل الاستطاعة , سواء كانت استطاعة بدنية أو مالية , والأمر محل خلاف كما هو واضح , والراجح عندي مذهب الجمهور .
قال النووى : ومذهبنا أن سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة , يُصرَفُ إلى الغُزاة الذين لا حق لهم في الديوان ؛ [ لأن الذين لهم حق في الديوان يأخذون أجرة على الغزو , لكن هؤلاء غُزاة متطوعين لاحق لهم في الديوان ) وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى . وقال أحمد في أصح الروايتين عنه : يجوز صرفه إلى مريد الحج , ورُوِيَ مثله عن ابن عمر . واحتج أصحابنا [ لهم حجتان ] : أن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو الغزو , وأكثر ما جاء في القرآن العزيز كذلك , وبحديث أبي سعيد الخدري [ يعني : السابق : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة ... فذكر منهم الغازي ] وليس في الأصناف الثمانية مَن يُعطَى بإسم الغزاة إلا الذين نعطيهم من سهم " في سبيل الله تعالى " . وأما الحديثان اللذان احتجوا بهما فأحدهما ضعيف , والجواب عن الثاني أن الحج يسمى " سبيل الله " ولكن الآية محمولة على الغزو لما ذكرناه . المجموع (6/198- 200) باختصار .
وبمثل هذا قال ابن حزم - المحلى (6/151) مسألة (720) .
حَدِيثُ ابْنِ لَاسٍ سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَحَدِيثُ أُمِّ مَعْقِلٍ أَخْرَجَهُ بِنَحْوِهِ - الرِّوَايَةُ الْأُولَى - أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ ، وَفِي إسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ . وَفِي إسْنَادِهِ أَيْضًا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرِ بْنِ جَابِرٍ الْبَجَلِيِّ الْكُوفِيُّ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ .وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيهِ ، فَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ مَرْوَانَ الَّذِي أَرْسَلَهُ إلَى أُمِّ مَعْقِلٍ عَنْهَا . وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ . وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أَبِي مَعْقِلٍ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُد فِي إسْنَادِهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ . قَوْلُهُ : ( ابْنِ لَاسٍ ) هَكَذَا فِي نُسَخِ الْكِتَابِ الصَّحِيحَةِ بِلَفْظِ ابْنِ ، وَاَلَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ أَبِي لَاسٍ ، وَكَذَا فِي التَّقْرِيبِ مِنْ تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَنَمَةَ ، وَلَاسٍ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ : خُزَاعِيٍّ اُخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ : زِيَادٌ وَقِيلَ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَنَمَةَ بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ مَفْتُوحَتَيْنِ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ ، لَهُ صُحْبَةٌ وَحَدِيثَانِ هَذَا أَحَدُهُمَا ، وَقَدْ وَصَلَهُ مَعَ أَحْمَدَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِهِ . قَالَ الْحَافِظُ : رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّ فِيهِ عَنْعَنَةَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَلِهَذَا تَوَقَّفَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي ثُبُوتِهِ وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَأَنَّ مَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَازَ لَهُ صَرْفُهُ فِي تَجْهِيزِ الْحُجَّاجِ وَالْمُعْتَمِرِينَ ، وَإِذَا كَانَ شَيْئًا مَرْكُوبًا [ كلمة وإذا كان شيئًا مركوبًا تدل على أن هذا لم يكن زكاة ؛ لأن الزكاة تعطى للناس وتملَّكُ لهم ) جَازَ حَمْلُ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ عَلَيْهِ . وَتَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ شَيْءٍ مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الزَّكَاةِ إلَى قَاصِدِينَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ . [ فمَن رأى أن الحديث ثابت وأن كلمة " في سبيل " الله تنطبق على قوله تعالى :  وفي سبيل الله  , يتمذهب بمذهب أحمد .
ومَن يرى أن حديث من طريق إبراهيم بن مهاجر الذي اضطرب في متنه وإسناده اضطرابًا كثيرًا وأن سماع أبي بكر بن عبد الرحمن من أُم معقل ثابت , لكن ليس بهذه الرواية أبدًا , بالإضافة إلى أنه من طريق محمد بن اسحاق , مع أن حديث ابن لاس من طريق ابن اسحاق , وكذلك حديث أبي طليق وأُم طليق الذي أورده الشيخ الألباني وصححه وهو وغيره من أهل العلم , والواضح منه أن أبا طليق أوقف في سبيل الله وليس زكاةً , ففي سبيل الله معناها كما قال النووى وابن حزم : كل نفقة في طاعة الله , فهي في سبيل الله , لكن المراد بقوله  فى الآية :  وفى سبيل الله  الغزو , لاسيما مع وجود حديث أبي سعيد الخدري : " لا يحل الصدقة إلا لخمسة ... منهم : وغازٍ في سبيل الله " .
البكر : الفتي من الإبل ، وقيل هو ابن المخاض إلى أن يُثْنِيَ ، وقيل هو ابن اللبون ، وقيل البكر ولد الناقة فلم يُحدَّ ولا وقِّفَ ، وقيل : البكر من الإبل بمنزلة الفتي من الناس والبِكرة بمنزلة الفتاة . ( لسان العرب ) .
بَابُ : مَا يُذْكَرُ فِي اسْتِيعَابِ الْأَصْنَافِ :
قلنا أن الشافعي وابن حزم قالا أنه لابد من تقسم الزكاة ثمانية أقسام حتى تستوعبها المصارف الثمانية إلا إن كان صاحب المال هو الذي يتولى إخراج المال بنفسه , فيسقط سهم العاملين عليها , والمؤلفة قلوبهم ؛ لأن أمر المؤلفة قلوبهم إلى السلطان وليس إلى آحاد الناس , ويعطي كل صنف ثلاثة على الأقل لصيغة الجمع , فهذا أقل شئ .
وناس من أهل العلم قالوا : لا ؛ ممكن أن تعطى لصنف واحد , وهذا قول الجمهور ,
والإمام مالك قال : يبدأ بذوي الحاجات , وإبراهيم النخعي قال : إن كان المال كثيرًا يقسم ثمانية أقسام , وإن كان المال قليلاً , لا يقسم بل يعطه لواحد , وسيأتى دليل الجمهور بإذن الله .
1609 - ( عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ قَالَ : { أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ  فَبَايَعْتُهُ ، فَأَتَى رَجُلٌ فَقَالَ : أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ  : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . [ ضعيف الإرواء (859) (3/353) ] وَيُرْوَى { أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ لِسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ : اذْهَبْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَقُلْ لَهُ فِيهَا فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ } ) [ سلمة بن صخر البياضي , وهو المجامع في نهار رمضان .
وقوله اذهب : " اذْهَبْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَقُلْ لَهُ فِيهَا فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ " معناها أنها يجوز أن تصرف لصنف واحد , بل لشخص واحد . والحديث من حديث سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياضي . رواه أبو داود برقم (1126) . وقال المنذري : وأخرجه الترمذى وابن ماجة . وقال الترمذى : وهذا حديث حسن . وقال محمد – يعنى البخاري ، والكلام لا يزال للترمذى - : سليمان بن يسار لم يسمع عندي من سلمة بن صخر . وقال البخاري أيضًا : هو مرسل ؛ سليمان بن يسار لم يدرك سلمة بن صخر . هذا آخر كلامه ( أي الترمذى ) . وفي إسناده محمد بن اسحاق وقد تقدم الكلام عليه . انتهى كلام المنذري . ( المنذري تكلم عن الحديث وقال : رواه فلان وفلان , ثم الترمذي قال : حديث حسن , والترمذي قال : إنه مرسل , ثم انتهى كلام الترمذي , وقال المنذري : وفي إسناده محمد بن اسحاق وقد تقدم الكلام عليه . انتهى . مختصر السنن (3/139) .
قال الألباني : صحيح - الإرواء (2091) .
[ قال مقيده : ومحل الشاهد منه لم يرد في الشاهدين اللذين أوردهما ] .
الشَّرْحُ
حَدِيثُ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ فِي إسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ الْإِفْرِيقِيُّ ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَحَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ لَهُ طُرُقٌ وَرِوَايَاتٌ يَأْتِي ذِكْرُ بَعْضِهَا فِي الصِّيَامِ , وَهَذِهِ إحْدَاهَا . وَقَدْ أَخْرَجَهَا بِهَذَا اللَّفْظِ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّحْدِيثِ ، وَمَعَ هَذَا فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُعَارِضُ مَا سَيَأْتِي مِنْ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ { أَنَّ النَّبِيَّ  أَعَانَهُ بِعِرْقٍ مِنْ تَمْرٍ } مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ [ لكن لم يقل له : اذهب إلى صدقة بنى زريق ] . وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هَهُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى أَنَّ الصَّرْفَ فِي مَنْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ مِنْ الزَّكَاةِ جَائِزٌ . [ م : كلا بل أوردها للاستدلال بها على جواز إخراج الزكاة في مصرف ( مصرف ) واحد ؛ لما ذكر الحديث الأول فجزأها ثمانية أجزاء , لكن أورد حديث ثانٍ يبيِّن أنه يجوز أن تصرف لواحد فقط ( اذهب إلى صاحب صدقة بنيؤ زريق , فقل له فليدفعها إليك ) فكل صدقة بني زريق تُدفع إليه .
وكذلك العنوان يدل على خلاف ما ذهب إليه الشوكاني .
قَوْلُهُ : ( فَجَزَّأَهَا ) بِتَشْدِيدِ الزَّايِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ الْآيَةِ يَرُدُّ عَلَى الْمُزَنِيّ وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَا : إنَّهُ لَا يُصْرَفُ خُمْسُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ يُصْرَفُ إلَيْهِ خُمْسُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ , وَيُرَدُّ أَيْضًا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ حَيْثُ قَالُوا : يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى الْوَاحِدِ . [ م : بعض أهل العلم قال : إن النبي  لما حرم الصدقة على آل محمد ( وقد أجمعوا على أن بني هاشم تحرم عليهم الصدقة ( وبنو هاشم خمسة فروع ثلاثة أولاد أبي طالب بن عبد المطلب : على وجعفر وعقيل ، واثنين أخوات أبي طالب : وهما العباس بن عبد المطلب والحارث بن عبد المطلب ) أجمعوا على أن بني هاشم تحرم عليهم الصدقة ، واختلفوا في بني عبد المطلب , فلأحمد روايتان , رواية تحرم عليهم الزكاة أيضًا وبها قال جماعة من السلف , والرواية الثانية لا تحرم عليهم , وبها قال أبو حنيفة .
فهم يقولون : حَرُمَت عليهم الزكاة ؛ لأنها أولاً : أوساخ الناس وثانيًا : لأن الله  جعل لهم نصيبًا في الخمس من الغنيمة  واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسهُ وللرسول ولذي القربى ...  فهم يُعطون خمس الخمس , ولا يعطون من الزكاة .
فهو يرد على المزني وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ حيث قالا : لا يصرف خمس الزكاة إلا لمَن يصرف إليه خمس الفيء والغنيمة ، ويرد أيضًا على أبي حنيفة والثوري والحسن البصري حيث قالوا : يجوز صرفها إلى بعض الأصناف الثمانية حتى قال أبو حنيفة يجوز صرفها إلى الواحد ] . وَعَلَى مَالِكٍ حَيْثُ قَالَ : يَدْفَعُهَا إلَى أَكْثَرِهِمْ حَاجَةً : أَيْ لِأَنَّ كُلَّ الْأَصْنَافِ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ لِلْحَاجَةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ أَمَسِّهِمْ حَاجَةً . [ قال ابن قدامة : ذهب الإمام أحمد إلى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا شَخْصًا وَاحِدًا . ( لأن كلام الشوكاني يوهم بأن هذا كلام أبي حنيفة والثوري والحسن بل أبي حنيفة قال : يجوز أن تصرف لواحد فقط ) , وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ . وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَحْتَمِلُ الْأَصْنَافَ ، قَسَمَهُ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا ، جَازَ وَضْعُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ ، وَيُقَدِّمُ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى . وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ أَنْ يَقْسِمَ زَكَاةَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ مَالِهِ ، عَلَى الْمَوْجُودِ مِنْ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ الَّذِينَ سُهْمَانُهُمْ ثَابِتَةٌ ، قِسْمَةً عَلَى السَّوَاءِ ( لأنه هو الذي يقسم ماله بنفسه , أما لو كان السلطان هو الذي يقسم فهي ثمانية أقسام ) ، ثُمَّ حِصَّةُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ ، لَا تُصْرَفُ إلَى أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ ، إنْ وَجَدَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا وَاحِدًا ، صَرَفَ حِصَّةَ ذَلِكَ الصِّنْفِ إلَيْهِ . وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ كَذَلِكَ . ( فأحمد له روايتان ) وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ( الخرقي ) ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الصَّدَقَةَ لِجَمِيعِهِمْ ، وَشَرَّك بَيْنَهُمْ فِيهَا ، فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ  لِمُعَاذٍ : " أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ " . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِرَدِّ جُمْلَتِهَا فِي الْفُقَرَاءِ ، وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُمْ ، ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ ، فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ ثَانٍ سِوَى الْفُقَرَاءِ ، وَهُمْ الْمُؤَلَّفَةُ : الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ , وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ , وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ ، وَزَيْدٌ الْخَيْرُ , قَسَّمَ فِيهِمْ الذُّهَيْبَةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إلَيْهِ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ . وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الصَّدَقَةُ . ( ابن حزم يقول : مَن قال : إنها صدقات ؟ ! ) . ثُمَّ أَتَاهُ مَالٌ آخَرُ ؛ فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ آخَرَ ؛ لِقَوْلِهِ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقُ حِينَ تَحَمَّلَ حِمَالَةً ( هذا واحد غارم ) فَأَتَى النَّبِيَّ  يَسْأَلُهُ ، فَقَالَ : أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ ، فَنَأْمُرَ لَك بِهَا . وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَّاضِي أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ بِصَدَقَةِ قَوْمِهِ . ( يُنْظَرُ في حديث سلمة , لكن الشيخ ناصر صححه ) وَالْآيَةُ أُرِيدَ بِهَا بَيَانُ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ . المغني (2/668) .
بَابُ : تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَمَوَالِيهِمْ دُونَ مَوَالِي أَزْوَاجِهِمْ :
1610 - ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ : { أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : كَخْ كَخْ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ ؟ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَلِمُسْلِمٍ " إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ " ) .
الشَّرْحُ قَوْلُهُ : ( فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ { فَلَمْ يَفْطِمْ لَهُ النَّبِيُّ  حَتَّى قَامَ وَلُعَابُهُ يَسِيلُ ، فَضَرَبَ النَّبِيُّ  شِدْقَيْهِ } . قَوْلُهُ : ( كَخْ كَخْ ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ مُثَقَّلًا وَمُخَفَّفًا ( مقيده : كَخْ ، كَخّ أو كِخْ , كِخّ , كِخْ , كِخٍ ) وَبِكَسْرِهَا مُنَوَّنَةً وَغَيْرَ مُنَوَّنَةٍ ، فَيُخْرِجُ ذَلِكَ سِتَّ لُغَاتٍ ، وَالثَّانِيَةُ تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى وَكَلِمَةٌ تُقَالُ لِرَدْعِ الصَّبِيِّ عِنْدَ تَنَاوُلِهِ مَا يُسْتَقْذَرُ ، قِيلَ إنَّهَا عَرَبِيَّةٌ ، وَقِيلَ أَعْجَمِيَّةٌ ، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيُّ أَنَّهَا مُعَرَّبَةٌ وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ : مَنْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ [ م : نريد أن نعرف هنا أنهم أجمعوا على أن الصدقة محرمة على بني هاشم ، وبني هاشم خمسة بطون هم : آل علىّ بن أبي طالب , وآل عقيل , وآل جعفر بن أبي طالب , وآل الحارث بن عبد المطلب , وآل العباس بن عبد المطلب . أما بني المطلب فالجمهور على أنها تحرم عليهم أيضًا الصدقة بالأدلة التي ستأتي إن شاء الله , حتى أنهم لا يجوز أن يكونوا من العاملين عليها .
سؤال : لما فرقنا بين العباس أو مَن هم بنو عبد المطلب , أليس العباس والحارث من بني عبد المطلب ؟
الجواب : بني عبد المطلب يراد بهم الفرع الثاني الذي فيه أبو سفيان - أظنه هكذا - فالمراد ببني هاشم النبي  وأعمامه ] .
قَوْلُهُ : ( ارْمِ بِهَا ) فِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ " أَلْقِهَا يَا بُنَيَّ " وَكَأَنَّهُ كَلَّمَهُ أَوَّلًا بِهَذَا فَلَمَّا تَمَادَى قَالَ لَهُ : كَخْ كَخْ إشَارَةً إلَى اسْتِقْذَارِ ذَلِكَ ، وَيُحْتَمَلُ الْعَكْسُ . قَوْلُهُ : ( لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ ) وَفِي رِوَايَةٍ { لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ الصَّدَقَةُ } ، وَكَذَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّحَاوِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ نَفْسِهِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ وَلِلطَّبَرَانِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي لَيْلَى الْأَنْصَارِيِّ نَحْوُهُ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ  وعلى آله . وَاخْتُلِفَ مَا الْمُرَادُ بِالْآلِ هُنَا ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ [ أبو حنيفة هو الذي عنده الخلاف في هذه المسألة ] . وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ  أَشْرَكَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى وَلَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ غَيْرَهُمْ [ قال الشافعي وجماعة من العلماء أنهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب – راجع المجموع (6/220) وبه يقول ابن حزم – المحلى (719) – (6/146) .
قال ابن حزم : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ : فَقَالَ قَوْمٌ : هُمْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَطْ ؛ لاَِنَّهُ لاَ عَقِبَ لِهَاشِمٍ مِنْ غَيْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ آلُ مُحَمَّدٍ بِيَقِينٍ ؛ لاَِنَّهُ لاَ عَقِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ وَالِدِ رَسُولِ اللَّهِ  فَلَمْ يَبْقَ لَهُ عليه الصلاة والسلام أَهْلٌ إلاَّ وَلَدُ الْعَبَّاسِ , وَأَبِي طَالِبٍ , وَالْحَارِثِ , وَأَبِي لَهَبٍ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَطْ .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ [الذين ذكرناهم من قبل ذلك ] , وَبَنُو الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَطْ وَمَوَالِيهِمْ . اهـ .
قال مقيده : عبد مناف أنجب ولدين : هاشم والمطلب , ثم هاشم أنجب عبد المطلب , وعبد المطلب أنجب عبد الله , والعباس , والحارث , وأبو طالب , وأبو لهب وسيأتي خلاف هل أسلم أحد من أولاد أبو لهب أم لم يسلم ؟ وقال البعض : بل أسلم بعض أولاده , فليلحقوا بالآل ولم ينجب عبد الله إلا النبي  من الذكور ولا إناث , فصار أهله  هم الأعمام وأولاد الأعمام . وهذا الصواب لما سيأتي من دليل .
قال ابن حزم : وَقَالَ أَصْبَغُ من المالكية : آلُ مُحَمَّدٍ جَمِيعُ قُرَيْشٍ .
قال مقيده : وهو قول شاذ لا يُلتفت إليه .
نعود إلى نيل الأوطار : وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ  أَشْرَكَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى ( م : خمس الخمس ) ، وَلَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ غَيْرَهُمْ , وَتِلْكَ الْعَطِيَّةُ عِوَضٌ عُوِّضُوهُ بَدَلًا عَمَّا حُرِمُوهُ مِنْ الصَّدَقَةِ [ م : رُوِيَ عن النبي  أنه قال : أليس في خمس الخمس ما يُغنيكم " ؟ أورده في مجمع الزوائد , وعزاه للطبراني في الكبير , وقال : فيه حسين بن قيس الملقب بحنش , وفيه كلام كثير وقد وثقه أبو محسن ( فالحديث لا يثبت ) – مجمع الزوائد (3/94) . وسيذكر الحديث الذي يدل على أن بني عبد المطلب داخلون في الآل ] .
، كَمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ { جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ : مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إلَى النَّبِيِّ  فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا وَنَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : إنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ } وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ لِمُوَالَاتِهِمْ لَا عِوَضًا عَنْ الصَّدَقَةِ [ م : لموالاتهم ليس مقصودًا بها أنهم من الموالي , بل هُم أحرار ، يريد أن يقول : هنا أن بني المطلب أعطاهم النبي عليه الصلاة والسلام مع بني هاشم والاثنين أخذوا من الخمس , وليس عوضًا عما حُرموه من الصدقة .
فالعلماء يقولون : الحكم في ذلك أن الاثنين لما جعل الله لهم خمس الخمس من المغانم كان هذا بدلاً من الصدقات , فليس لهم فى الزكاة , وإنما عوضهم عن ذلك بخمس الخمس , وسوف يأتي قول مَن قال – وأظنه الشافعي – أنه حتى لو لم يوجد خمس الخمس لعدم وجود غزوات أخذوا من الصدقات في هذه الحالة , هذا مذهب البعض ) . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْهَادَوِيَّةُ : هُمْ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ , وَعَنْ أَحْمَدَ فِي بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رِوَايَتَانِ ( م : نحن نستطيع أن نقول أن الإمام أحمد له روايتان : بنو هاشم فقط وهذه الرواية قال بها مالك وأبو حنيفة ، والرواية الثانية بنو هاشم وبنو المطلب وبها قال الشافعي وابن حزم ) . وَعَنْ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا بَيْنَ هَاشِمٍ وَغَالِبِ بْنِ فِهْرٍ قَوْلَانِ : فَعَنْ أَصْبَغَ مِنْهُمْ هُمْ بَنُو قُصَيٍّ ، وَعَنْ غَيْرِهِ بَنُو غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ كَذَا فِي الْفَتْحِ ( م : كل هذه أقوال لا دليل عليها ، ابن حزم اقتصر وقال : قال أصبغ : قريش كلها ) . وَالْمُرَادُ بِبَنِي هَاشِمٍ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ الْعَبَّاسِ وَآلُ الْحَارِثِ ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ آلُ أَبِي لَهَبٍ لِمَا قِيلَ : مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حَيَاتِهِ  ، وَيَرُدُّهُ مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ أَنَّهُ أَسْلَمَ عُتْبَةُ ، وَمُعَتِّبٌ ابْنَا أَبِي لَهَبٍ عَامَ الْفَتْحِ وَسُرَّ  بِإِسْلَامِهِمَا وَدَعَا لَهُمَا ، وَشَهِدَا مَعَهُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ ، وَلَهُمَا عَقِبٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّسَبِ . [ م : إن كان هذا الكلام حدث ؛ إذًا آل أبو لهب أيضًا لا تحل لهم الصدقة . إذًا عندنا آل علىّ , وآل عقيل , وأما حمزة فلأنه لم يُنجب فلا عقب له , ومَن لم يدخل أبو لهب , قال : لأنه لم يسلم منهم أحد , وتعقب بالكلام المكتوب ] .
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ لَا تَحِلُّ لَهُمْ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ ، وَكَذَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْبَحْرِ ، وَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ ابْنُ رَسْلَانَ . وَقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ الْجَوَازَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقِيلَ : عَنْهُ : تَجُوزُ لَهُمْ إذَا حُرِمُوا سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى ، حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ , وَنَقَلَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ الْأَبْهَرِيِّ مِنْهُمْ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ . [ م : وبه قال أبو سعيد الإصطخري , والأصح عند الشافعية أنها لا تحل , قال النووي : وهو المذهب – المجموع (6/220) ] .
وَحَكَى فِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تَحِلُّ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لَا مِنْ غَيْرِهِمْ ، [ م : إن الزكاة تحل من بعضهم لبعض , يعني : واحد غني منهم يعطي زكاته لواحد فقير منهم ] وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالْمُرْتَضَى وَأَبِي الْعَبَّاسِ وَالْإِمَامِيَّةِ .وَحَكَاهُ فِي الشِّفَاءِ عَنْ ابْنَيْ الْهَادِي وَالْقَاسِمِ الْعَيَّانِيِّ [ م : نحن الآن عندنا أن الصدقة لا تحل لآل محمد ، اختلفوا في الآل , روايتان عن أحمد , الرواية الأولى : أنهم بنو هاشم فقط وبها قال مالك وأبو حنيفة ، والرواية الثانية : أنهم بنو هاشم وبنو المطلب وبها قال الشافعي وابن حزم , وقال أصبغ هُم قريش كلها .
الذين قالوا أنهم بنو هاشم فقط قالوا : تحل لبني المطلب , وأضافوا إلى ذلك أنه قد ورد عن أبي حنيفة وأبي سعيد الإصطخري من الشافعية والأبهري من المالكية أنهم إن حُرموا سهم ذوي القربى جاز لهم أن يأخذوا من الزكاة , فهذا قول ، وهذه الأقوال مردودة كلها ، ونُقل عن أبي يوسف رحمه الله ثم أعاد الكلام من أوله .
عندنا ثلاثة أقوال تخالف قول الجمهور :
القول الأول : الآل هم قريش كلهم وهذا قول أصبغ من المالكية .
القول الثاني : مروي عن أبي حنيفة وبه قال الأبهري من المالكية وأبو سعيد الإصطخري من الشافعية أنهم إن حُرموا سهم ذوي القربى جاز لهم أن يأخذوا من الصدقة .
والقول الثالث : عن أبي يوسف القاضي أنهم يحل لهم الصدقة بين بعضهم البعض , ولا تحل لهم من غيرهم .
هذا الكلام في بني هاشم وبنو المطلب ؛ لأن أبو حنيفة عنده أن بني المطلب ليسوا داخلين في الآل , فهم يتكلمون في بني هاشم ؛ لذلك قال ابن قدامة : لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة ... إلى أن قال : وكذا حكى الإجماع ابن رسلان , وقد نقل الطبري الجواز عن أبي حنيفة , وقيل عنه ... ( فهذه هي الرواية الأمتن ؛ لأن الذي رواها الطحاوي , وأهل مكة أدرى بشعابها ) : تجوز لهم إذا حرموا سهم أولوا القربى حكاه الطحاوي وَنَقَلَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ الْأَبْهَرِيِّ مِنْهُمْ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ . ( الذي هو أبو سعيد الإصطخري ) وحكى فيه الطحاوي عن أبي يوسف أنها تحل من بعضهم لبعض , لا من غيرهم ، ] وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالْمُرْتَضَى وَأَبِي الْعَبَّاسِ وَالْإِمَامِيَّةِ . وَحَكَاهُ فِي الشِّفَاءِ عَنْ ابْنَيْ الْهَادِي وَالْقَاسِمِ الْعَيَّانِيِّ ] .
قَالَ الْحَافِظُ : وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ : الْجَوَازُ ، الْمَنْعُ ، وَجَوَازُ التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ ، عَكْسُهُ . ( م : جواز الفرض دون التطوع ) وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّحْرِيمِ عَلَى الْعُمُومِ تَرُدُّ عَلَى الْجَمِيعِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ تَوَاتُرًا مَعْنَوِيًّا ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :  قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى  ، وَقَوْلُهُ :  قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ  [ م : وهذا من حكم الشريعة أن الرسول  الذي يحض الناس على الصدقة , والذي جاءنا بالإسلام وأحد مبانيه الزكاة حُرِّمت عليه صيانةً لجناب النبوة ؛ لئلا يُقال أنه يقاتل على مال مثلاً , وما ترك من مال فإنه ليس لورثته ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا من مال فهو صدقة ) وهذا الحديث ثابت في الصحيحين عن جماعة من الصحابة  , وكذلك روى أبو داود والترمذى وأحمد عن أبي الدرداء في حديث طويل في شرف العلم , وفي آخره : " وإن العلماء ورثة الأنبياء , إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا , وإنما ورثوا العلم , فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر " . ورواه الإمام أحمد عن ابن عمر { أن النبي  قال : " بُعثتُ بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له " محل الشاهد : " وجُعل رزقي تحت ظل رمحي , وجعل الذل والصغار على مَن خالف أمري , ومَن تشبّه بقومٍ فهو منهم " .
نعود إلى كلام الشوكاني : وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :  قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى  ، وَقَوْلُهُ :  قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ  ، وَلَوْ أَحَلَّهَا لِآلِهِ أَوْ شَكَّ أَنْ يَطْعَنُوا فِيهِ [ م : أي يطعن الناس فيه ] ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى :  خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا  ، وَثَبَتَ عَنْهُ  : { أَنَّ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ النَّاسِ } كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ . [ م : عن المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أن النبي  قال له وللفضل بن العباس بن عبد المطلب : إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس , وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد . رواه مسلم – صحيح الجامع (2264) , ومعنى ذكر صحيح الجامع بعد ذكر أنه في مسلم : أنني أتيت بالحديث وبتخريجه من صحيح الجامع حتى إن قلنا : رواه مسلم لا يقول أحد : أين هذا الكلام ؟ فلابد أن يكون عندك المصادر , وكل التعليقات تكون موثقة ] .
وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِحِلِّهَا لَلْهَاشِمِيِّ مِنْ الْهَاشِمِيِّ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي النَّوْعِ السَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ عُلُومِ الْحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ كُلِّهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ { أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّكَ حَرَّمْتَ عَلَيْنَا صَدَقَاتِ النَّاسِ ، هَلْ تَحِلُّ لَنَا صَدَقَاتُ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ } فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أَتَّهِمُ بِهِ بَعْضَ رُوَاتِهِ ، وَقَدْ أَطَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ بِصَالِحٍ لِتَخْصِيصِ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ الصَّحِيحَةِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْعَلَامَةِ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْوَزِيرُ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ مَا لَفْظُهُ : وَأَحْسَبُ لَهُ مُتَابِعًا لِشُهْرَةِ الْقَوْلِ بِهِ . قَالَ : وَالْقَوْلُ بِهِ قَوْلُ جَمَاعَةٍ وَافِرَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِتْرَةِ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ ، بَلْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إجْمَاعُهُمْ ، وَلَعَلَّ تَوَارُثَ هَذَا بَيْنَهُمْ يُقَوِّي الْحَدِيثَ انْتَهَى . [ م : قوله ( احسب أن له متابعًا ) ما هكذا تورد الإبل , أي : ما هكذا تصحح الأحاديث ، ثم يقول : وبه يقول جماعة من أهل البيت , يقال له : فكان ماذا ؟
ثم يقول : إن بعضهم حكى الإجماع , فيتعقب بأن هناك ناس كثيرون جدًا من آل البيت خالفوا هذا الإجماع المدعى ] .
فَكَلَامٌ لَيْسَ عَلَى قَانُونِ الِاسْتِدْلَالِ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْحُسْبَانِ أَنَّ لَهُ مُتَابِعًا ، وَذَهَابُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ إلَيْهِ لَا تَدُلُّ عَلى صِحَّتِهِ . وَأَمَّا دَعْوَى أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَبَاطِلٌ بَاطِلٌ ، وَمُطَوَّلَاتُ مُؤَلَّفَاتِهِمْ وَمُخْتَصَرَاتِهَا شَاهِدَةٌ لِذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُ الْأَمِيرِ فِي الْمِنْحَةِ : إنَّهَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ وُجْدَانِ سَنَدِهِ ، وَمَا عَضَّدَهُ مِنْ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فَقَدْ عَرَفْتَ بُطْلَانَ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ ، وَكَيْفَ يَصِحُّ إجْمَاعٌ لِأَهْلِ الْبَيْتِ وَالْقَاسِمُ وَالْهَادِي وَالنَّاصِرُ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَكَابِرِهِمْ بَلْ جُمْهُورُهُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ . وَأَمَّا مُجَرَّدُ وُجْدَانِ السَّنَدِ لِلْحَدِيثِ بِدُونِ كَشْفٍ عَنْهُ فَلَيْسَ مِمَّا يُوجِبُ سُكُونَ النَّفْسِ . ( م : فهو رد على محمد بن إبراهيم الوزير وعلى الأمير الصنعاني ) . وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَحْرِيمَ الزَّكَاةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ مَعْلُومٌ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ أَنْ يَكُونَ الْمُزَكِّي هَاشِمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ ، فَلَا يَتَّفِقُ مِنْ الْمَعَاذِيرِ عَنْ هَذَا الْمُحْرِمِ الْمَعْلُومِ إلَّا مَا صَحَّ عَنْ الشَّارِعِ لَا مَا لَفَّقَهُ الْوَاقِعُونَ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ مِنْ الْأَعْذَارِ الْوَاهِيَةِ الَّتِي لَا تَخْلُصُ وَلَا مَا لَمْ يَصِحَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي التَّخْصِيصِ ، وَلِكَثْرَةِ أَكْلَةِ الزَّكَاةِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ خُصُوصًا أَرْبَابَ الرِّيَاسَةِ ، قَامَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ فِي الذَّبِّ عَنْهُمْ وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَقَامًا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَلَا نُقَّادُ الْعُلَمَاءِ ، فَأَلَّفَ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ كَالسَّرَابِ الَّذِي يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَصَارَ يَتَسَلَّى بِهَا فِي أَرْبَابِ النَّبَاهَةِ مِنْهُمْ .
( م : أرباب الرياسة هم الذين يأخذزن زكاوات الناس , فالمسألة فيها مصيبتان :
الأولى : الذين يأخذون زكاوات الناس هم أصحاب الحوزات العلمية , يأخذون خمس أموال الناس , ويعتبرونها عوض عن المغانم .
والثانية : نكاح المتعة . يعني : فشهوة المال وشهوة النكاح ] .
وَقَدْ يَتَعَلَّلُ بَعْضُهُمْ بِمَا قَالَهُ الْبَعْضُ مِنْهُمْ : إنَّ أَرْضَ الْيَمَنِ خَرَاجِيَّةٌ ( م : هُم قالوا : أرض خراجية , كيف تكون خراجية الأرض ؟ كي تكون خراجية لابد أن تكون اليمن فُتحت عنوة , هذا معنى الأرض الخراجية , إذا فتح المسلمون بلدًا عنوةً , فأسلم صاحب الأرض , دخل في الإسلام بأرضه , وإن لم يسلم صارت الأرض خراجية , وصار للمسلمين جزء نصيب منها حتى وإن أسلم بعد ذلك ، فالأرض الخراجية تظل خراجية , لكن حاشا وكلا أن تكون اليمن فتحت عنوة ) ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلَاتِ لَيْسَتْ مِمَّا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى أُصُولِهِمْ - فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ - مَا أَسْرَعَ النَّاسُ إلَى مُتَابَعَةِ الْهَوَى وَإِنْ خَالَفَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ . [ م : أمير المؤمنين عليّ له أثر رواه ابن أبي شيبة وابن المبارك وعلق البخاري بعضه قال عليّ : " إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى , وطول الأمل , فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة " - والجزء الأخير منه علقه البخاري – : " ألا وإن الدنيا ارتحلت مُدبرة , والآخرة ارتحلت مُقبلة , ولكل واحد منهما بنون , فكونوا من أبناء الآخرة , ولا تكونوا من أبناء الدنيا , فإن اليوم عمل ولاحساب , وغدًا حساب ولا عمل .
وابن القيم يقول : الهوى مذموم في الكتاب والسنة , وليس هناك موضع في الكتاب ولا السنة مدح الهوى إلا في حديث واحد : " لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به " وهو ضعيف , لكن معناه صحيح , ونجد دائمًا في كتاب ربنا أن الهوى في مقابل الحق وفي مقابل الهدى ؛ كقوله  يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيُضلك عن سبيل الله  ,  وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ  , وقال تعالى :  إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى . وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ : { لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ } عَدَمُ حِلِّ صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ ، وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْخَطَّابِيِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا عَلَيْهِ  . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي التَّطَوُّعِ قَوْلًا . وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ . وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : لَيْسَ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِوَاضِحِ الدَّلَالَةِ [ م : أي ليس ما نقل عن أحمد من أن صدقة التطوع تحل له  بواضح الدلالة على ذلك كيف وهو كان إذا جاءه طعام سأل أصدقة أم هدية ؟ فإن كان صدقة قال لأهل الصُفة : كلوا , وإن كان هدية ضرب بيده معهم  فأكل ] وَأَمَّا آلُ النَّبِيِّ  فَقَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمُصَحَّحُ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَكَثِيرُ مِنْ الزَّيْدِيَّةِ : إنَّهَا تَجُوزُ لَهُمْ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرْضِ ، قَالُوا : لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ وَذَلِكَ هُوَ الزَّكَاةُ لَا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ [ م : الزكاة فرضت بقوله تعالى :  خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم ...  ] . وَقَالَ فِي الْبَحْرِ : إنَّهُ خَصَّصَ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالْوَقْفِ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ : إنَّهَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ كَصَدَقَةِ الْفَرْضِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يَفْصِلْ . [ م : المجمع عليه قليل والمختلف فيه كثير , لكن ما الدليل على أن صدقة التطوع تستثنى من ذلك ؟ ] .
1611 - ( وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ  { بَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ : اصْحَبْنِي كَيْمَا تُصِيبَ مِنْهَا ، قَالَ : لَا ، حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ  فَأَسْأَلُهُ ، وَانْطَلَقَ فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَنَا ، وَإِنَّ مَوَالِيَ الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَةَ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ ) [ صحيح - الإرواء (880) (3/387) .
لو نظرنا إلى العنوان نجد أن تحريم الصدقة على بني هاشم وهو مجمع عليه ، ومواليهم ؛ لأن مولى القوم من أنفسهم , وهذا أبو رافع مولى النبي  قال الرجل لأبي رافع : أصحبني كيما أُصيب منها , قال أبو رافع : لا حتى آتي رسول الله فأسأله ، فانطلق فسأله فقال  : " إن الصدقة لا تحل لنا , وإن موالى القوم من أنفسهم " ] . الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَاهُ . وَفِي الْبَابِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ قَوْلُهُ : ( مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) بِضَمِّ الْفَاءِ ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ " مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ " أَيْ حُكْمُهُ كَحُكْمِهِمْ . الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى النَّبِيِّ  وَتَحْرِيمِهَا عَلَى آلِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ . وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا عَلَى مَوَالِي آلِ بَنِي هَاشِمٍ ، [ م : قال ابن قدامة : مَوَالِيَ بَنِي هَاشِمٍ هُمْ مَنْ أَعْتَقَهُمْ هَاشِمِيٌّ ، لَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَرَابَةِ النَّبِيِّ  , فَلَمْ يُمْنَعُوا الصَّدَقَةَ كَسَائِرِ النَّاسِ ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَوَّضُوا عَنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ ، فَإِنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ مِنْهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحَرِّمُوهَا كَسَائِرِ النَّاسِ .
م : النبي  يقول : " الولاء لحمة كلحمة النسب " إذًا هذا المولى إن مات مَن الذى يرثه ؟ مُعتقه ، وحديث أبي رافع واضح النهي فيه , ونبه على العلة في ذلك ( فإن موالي القوم من أنفسهم ) ولو سمح للموالي أن يأخذوا من مال الصدقة , فأي واحد منهم سيموت , فبنو هاشم يرثونه , هذه هي النقطة .
نعود إلى كلام ابن قدامة : وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَوَّضُوا عَنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ [ م : ذكرنا أنه لا دليل يصح في أنهم حرموا الزكاة ؛ لأنهم عوضوا عنها بخمس الخمس , لا دليل على ذلك إلا الدليل الذي فيه حنش ] ، فَإِنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ مِنْهُ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحَرِّمُوهَا كَسَائِرِ النَّاسِ .
م : ابن قدامة يرجح التحريم وهو مذهب أحمد .
ابن قدامة : ولنا حديث أبي رافع ( الذي معنا ) وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَرَابَةٍ . قُلْنَا : هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْقَرَابَةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ  : الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ . وَقَوْلُهُ : مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ . وَثَبَتَ فِيهِمْ حُكْمُ الْقَرَابَةِ مِنْ الْإِرْثِ ( الرجل يرث مولاه ) وَالْعَقْلِ ( وهو الدية ) وَالنَّفَقَةِ ، فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ حُكْمِ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ فِيهِمْ . المغني (2/656) .
قال مقيده :
حديث : الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ . صحيح – صحيح الجامع (7157) وعزاه لابن أبي أوفى عند الطبراني وابن عمر عند الحاكم والبيهقي ثم بيَّن الألباني أنه صحيح بإسناد كالشمس عن عليّ بن أبي طالب عند البيهقي . الإرواء (1668) (6/112) . وحديث : مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ . رواه البخاري عن أنس بلفظ : مولى القوم من أنفسهم . مشكاة المصابيح (3044) ] .
نعود إلى كلام الشوكاني : وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا عَلَى مَوَالِي آلِ بَنِي هَاشِمٍ وَلَوْ كَانَ الْأَخْذُ عَلَى جِهَةِ الْعِمَالَةِ وَقَدْ سَلَفَ مَا فِيهِ . [ م : حتى لو كان من العاملين عليها , وقد أخذنا في باب العاملين عليها حديث يدل على هذا وهو حديث ربيعة بن عبد المطلب ... إلى آخره ] .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : حَرَّمَ عَلَى مَوَالِيهِ مِنْ الصَّدَقَةِ مَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ النَّاصِرِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَأَبُو طَالِبٍ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّاصِرِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَيَحْيَى وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ النَّاصِرِ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ لَهُ : إنَّهَا تَحِلُّ لَهُمْ . قَالَ فِي الْبَحْرِ : لِأَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ مَفْقُودَةٌ وَهِيَ الشَّرَفُ . قُلْنَا : جَزْمُ الْخَبَرِ يَدْفَعُ ذَلِكَ انْتَهَى . [ م : مخالفة للنص بصورة لا تحتمل ] وَنَصْبُ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي مُقَابِلِ هَذَا الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ مِنْ الْغَرَائِبِ الَّتِي يَعْتَبِرُ بِهَا الْمُتَيَقِّظُ . [ م : التمسك بالنص , فلا قول لأحد على قوله  ] .
1612 - ( وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ : { بَعَثَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ  بِشَاةٍ مِنْ الصَّدَقَةِ ، فَبَعَثْتُ إلَى عَائِشَةَ مِنْهَا بِشَيْءٍ ؛ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ  قَالَ : هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَتْ : لَا إلَّا أَنَّ نُسَيْبَةَ بَعَثَتْ إلَيْنَا مِنْ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثْتُمْ بِهَا إلَيْهَا ، فَقَالَ : إنَّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) . [ م : بلغت محلها أي صارت ملكًا لها , فهي صدقة لما تملكتها , فجاز لها أن تهدي منها . وعندنا حديث بريرة المشهور , وقد جائتنا بريرة ثلاث سنن :
الأولى : إنما الولاء لمن أعتق .
والثانية : تصدق عليها بشاة , فأهدت إلى النبي  منها , فقيل : يارسول الله , إنها صدقة . فقال  : " هي لها صدقة ولنا هدية " .
والسنة الثالثة : أنها لما ُعتِقَت خيَّرها النبي  في زوجها , مغيث فاختارت أن تنفصل عنه , فالمرأة المتزوجة من عبد إذا أُعتقت تُخيَّر في زوجها ] .
1613- َعَنْ جَوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  دَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ : هَلْ مِنْ طَعَامٍ ؟ فَقَالَتْ : لَا وَاَللَّهِ مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ إلَّا عَظْمٌ مِنْ شَاةٍ أَعْطَيْتُهَا مَوْلَاتِي مِنْ الصَّدَقَةِ ، فَقَالَ : قَدِّمِيهَا فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ ) . قَوْلُهُ : ( هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ ) أَيْ مِنْ الطَّعَامِ . [ م : هذان الحديثان لإثبات فقط أن الصدقة لما تبلغ إلى صاحبها , فأهدى منها , يتغيَّر الحكم , وأن أبا حنيفة اعتمد على حديث بريرة في قوله : إن بأن ( التـطهير ) يحدث الانتقال , وهذا القول رده الشافعي وغيره ؛ لأن حديث بريرة تملكت فيه الشاة بصورة مشروعة , وأما المال الحرام فلا يملك بصورة مشروعة ] .
قَوْلُهُ : ( نُسَيْبَةُ ) قَالَ فِي الْفَتْحِ : بِالنُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرًا : اسْمُ أُمِّ عَطِيَّةَ انْتَهَى .
وَأَمَّا نَسِيبَةُ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ فَهِيَ أُمُّ عُمَارَةَ . قَوْلُهُ : ( بَلَغَتْ مَحِلَّهَا ) أَيْ إنَّهَا لَمَّا تَصَرَّفَتْ فِيهَا بِالْهَدِيَّةِ لِصِحَّةِ مِلْكِهَا لَهَا انْتَقَلَتْ عَنْ حُكْمِ الصَّدَقَةِ فَحَلَّتْ مَحِلَّ الْهَدِيَّةِ وَكَانَتْ تَحِلُّ لِرَسُولِ اللَّهِ  بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ كَمَا تَقَدَّمَ كَذَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِكَسْرِهَا مِنْ الْحُلُولِ : أَيْ بَلَغَتْ مُسْتَقَرَّهَا ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى انْتَهَى . [ م : هى بالفتح والكسر ] وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوَالِي أَزْوَاجِ بَنِي هَاشِمٍ لَيْسَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ فَتَحِلُّ لَهُمْ الصَّدَقَةُ ( م : واضح معنى الاستدلال : جويرية رضي الله عنها مولاتها أعطتها عظم من شاة من الصدقة , أي إن مولاة جويرية أم المؤمنين تُصدق عليها , فالنبي  قال : " قد بلغت محلها " فأكل منها ؛ إذًا موالس بني هاشم ليس حكمهم كحكم موالي أزواج بني هاشم , أي : موالي الزوجات تحل لهم الصدقة . فمولى الهاشمي أو الهاشمية لا تحل له الصدقة , لكن الزوجات إن كن ليس هاشميات تحل لمواليهن الصدقة . فلو رجل هاشمي متزوج من امرأة هاشمية , لها مولاة , وهذا الهاشمي له مولى , فالصدقة لا تحل , لا لهذه , ولا لهذا ] .
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الزَّوْجَاتِ فِي ذَلِكَ [ سؤال : هل هذا يدل على أنه حتى لو كانت الزوجات هاشميات ؟
قال مقيده : لا طبعًا ؛ لأن بني هاشم يشمل الرجال والنساء وموالي القوم من أنفسهم مادامت هاشمية ولها مولاة فحكمها كحكم مُعتقيتها بالضبط , وإن كانت فقيرة تعطى من الهدايا ] وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ ذَكَرَ أَنَّ الْخَلَّالَ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : { إنَّا آلُ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ } قَالَ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا . [ م : كون عائشة زوجة النبي  هل تدخل في الآل ؟ الحديث يقول إنها تدخل , لكن هذا الحديث يحتاج إلى مراجعة ] } قَالَ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا . قَالَ الْحَافِظُ : وَإِسْنَادُهُ إلَى عَائِشَةَ حَسَنٌ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا , وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ [ م : ابن بطال قال : عدم دخول الزوجات , فكأنه هنا يريد أن يقول : لا يقدح في قول ابن بطال ؛ لأن عائشة هي التي أدخلت نفسها ليس له حكم الرفع ] ، وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنِيرِ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ الصَّدَقَةُ عَلَى الْأَزْوَاجِ قَوْلًا وَاحِدًا [ م : ابن المنير وابن بطال نقلا الاتفاق على هذا ] . وَلَا يُقَالُ إنَّ قَوْلَ الْبَعْضِ بِدُخُولِهِنَّ فِي الْآلِ يَسْتَلْزِمُ تَحْرِيمَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِنَّ ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ . [ م : إذًا دخول الزوجات في الآل , فنحن في صيغة الصلاة على النبي  نقول : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد , اختُلف مَن هم الآل , لكن رواية حديث أبي حميد الساعدي جاءت كاشفة : " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ...( ) .
إذًا الزوجات داخلين في الآل , لكن هذا لا يستلزم أن يدخلن في هذا الحكم ] وَفِي الْحَدِيثَيْنِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ الْأَكْلُ مِنْهَا بَعْدَ مَصِيرِهَا إلَى الْمَصْرِفِ وَانْتِقَالِهَا عَنْهُ بِهِبَةٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ نَحْوِهَا .
سؤال : طالما هم من الآل لماذا لا يدخلون فى الحكم ؟
م : لأن هناك اتفاق على أن الآل بنو هاشم فقط ، واختلفوا في بنو المطلب , فهذا كأنه اتفاق ثم بعد ذلك لمّا جئنا على الموالي , هناك أحاديث مصرحة , والنبي  منع أبا رافع مولاه من الخروج لتحصيل الصدقة ؛ لئلا يكون من العاملين عليها , وعلل ذلك بأن موالي القوم من أنفسهم , لكن على كل حال التطويل في هذه المسألة انتهت المسألة بالنسبة إليهن ؛ لأنهن توفين ] وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ : { أَنَّ النَّبِيَّ أُتِيَ بِلَحْمٍ ، فَقَالَتْ لَهُ : هَذَا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ ، فَقَالَ : هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ } [ م : نحن في هذا الباب وهو تحريم الصدقة على بني هاشم ومواليهم دون موالي أزواجهم قلنا :
1) إن آل محمد عن أحمد روايتان الرواية الأولى أنهم بنو هاشم فقط وبها قال مالك وأبو حنيفة ، والرواية الثانية أنه يدخل بنو المطلب أيضًا وهو قول الشافعي وابن حزم .
2) وذكرنا أن أصبغ المالكي قال : هُم قريش جميعًا .
والموضع الثاني أنه حُكِيَ عن أبي حنيفة أنهم إن حُرِمُوا سهم ذوي القربى جاز لهم أن يأخذوا الصدقة , وهو قول أبي سعيد الإصطخري والأبهري من المالكية .
والقول الثالث : هو قول أبي يوسف القاضي أنه تحل لهم الصدقة من بعضهم لبعض, لا من غيرهم .
والأحاديث بصيغها العامة تردُّ كل هذا .
وقلنا : إن آل محمد , القول الراجح فيه قول الشافعي وابن حزم وهي رواية لأحمد , بإعتبار أن النبي  في الحديث الذي قال فيه  : " إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد " .
وأما الموالي فعندنا حديث أبي رافع .
وموالي الزوجات لا يدخلن , والدليل فيه حديث جويرية بنت الحارث في صحيح مسلم , وحديث أُم عطية ، وحديث جويرية واضح الدلالة , يدل على أن موالي الزوجات لسن داخلات في الحكم , وإن كانت هي زوجة لهاشمي ] .
بَابُ : نَهْيِ الْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ :
[ م عندنا حديث أبي سعيد مرَّ من قبل : " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إلَّا لِخَمْسَةٍ : لِعَامِلٍ عَلَيْهَا ، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ ( وهذا هو محل الشاهد ) ، أَوْ غَارِمٍ ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِهَا فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ .
ومعنا هنا حديث عمر بن الخطاب  قال : " عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ ( أي أهمله ) فَأَرَدْت أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرَخْصٍ ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ  ، فَقَالَ . لَا تَشْتَرِهِ ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ .
فهنا اختلف العلماء في قوله : " ورجل اشتراها بماله " فهي تشمل المتصدق نفسه وغيره ، واحد تصدق بشئ ثم اشتراه بماله , فمن هنا قال بعض أهل العلم كالشافعي بأنه يجوز للإنسان أن يشتري صدقته , وحمل حديث عمر على أنه أوقف الفرس , ولم يتصدق به , بل أوقفه في سبيل الله ، وذهب الإمام أحمد ومالك أن الإنسان يجوز للإنسان أن يشتريَ الصدقة إلا أن تكون صدقته فلا يجوز أن يشتريَها لحديث عمر ] .
1614 - ( عَنْ { عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( أي أعطيته لمن يغزو بها ) فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ فَأَرَدْت أَنْ أَشْتَرِيَهُ وَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِرَخْصٍ ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ  ، فَقَالَ . لَا تَشْتَرِهِ ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) . [ م : أحمد ومالك سيثبتان أن هذا كان صدقة , والعلة في أن الإنسان لا يشتري صدقة أن آخذ الصدقة لن يماسكه فيها إن أراد أن يشتريَها منه , فأنا إن تصدقت بأي شئ على زيد ثم قلت له : هل تبعها لي ؟ لن يفاصل في ثمنها لأنني الذي أعطيتها له .
وثانيًا : لن يماسكني ؛ لأنه أدعى أن أتصدق عليه مرة أخرى , لكن لو فاصل معي فسأقول : أنا الذي تصدقت عليه , فإن أردت أن أشتريَها منه فاصلني , فهذا لا يدخل في المساومة .
وثالثاً : أن هذا يؤدي في النهاية إلى التصدق بالقيمة نفسها , فأنا عندما أتصدق بشاة وجبت عليَّ في الزكاة ثم أقول له : بعها لي , فيقول : نعم أبعها لك ؛ الحاصل أنني أعطيته الشاة ثم اشتريتها منه بـ 500 جنيه فكأنى أعطيته 500 جنيه في النهاية , فهذه هي الحكمة في المنع من أن يشتري الرجل صدقته ] .
1615 - ( وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَفِي لَفْظٍ : تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ثُمَّ رَآهَا تُبَاعُ ، [ لو كانت وقفًا لن تباع , فالوقف لا يُباع ] فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ  فَقَالَ : لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ يَا عُمَرُ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .زَادَ الْبُخَارِيُّ : فَبِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَتْرُكُ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئَا تَصَدَّقَ بِهِ إلَّا جَعَلَهُ صَدَقَةً ) .
[ هذا فهم ابن عمر أنه إن اشترى شئ تصدق به جعله هو نفسه صدقة مرة ثانية ؛ هذا فهم لابن عمر يأباه الحديث .
قال ابن قدامة : لَيْسَ لِمُخْرِجِ الزَّكَاةِ شِرَاؤُهَا مِمَّنْ صَارَتْ إلَيْهِ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ , وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَمَالِكٍ , قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ : فَإِنْ اشْتَرَاهَا لَمْ يُنْقَضْ الْبَيْعُ . [ طبعًا هذا مذهب متناقض ] .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : يَجُوزُ لحديث أبي سعيد ( أو رجل اشتراها بماله ) ولحديث بريدة الأسلمي ( وجب أجرك ورجعت إليك فى الميراث ) . رواه مسلم .
م : حديث بريدة هو أن امرأة سألت النبي  أنها أعطت أباها أو أمها آمة فماتت فقال لها النبي ( وجب أجر الصدقة , وردها عليك الميراث ) فهم يريدون أن يقولوا : أن هذه المرأة تصدقت بالآمة , ورجعت إليها الصدقة مرة أخرى , لكن هنا رجعت إليها بحكم الله , وليس بحكمها هي , فهذا الحديث لا دلالة فيه .
واحتج ابن قدامة بحديث الباب قال : وَلِأَنَّ فِي شِرَائِهِ لَهَا وَسِيلَةً إلَى اسْتِرْجَاعِ شَيْءٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَسْتَحْيِ مِنْهُ ، فَلَا يُمَاكِسُهُ فِي ثَمَنِهَا ، وَرُبَّمَا رَخَّصَهَا لَهُ طَمَعًا فِي أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ صَدَقَةً أُخْرَى ، وَرُبَّمَا عَلِمَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَبِعْهُ إيَّاهَا اسْتَرْجَعَهَا مِنْهُ أَوْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ ...
وَهُوَ أَيْضًا ذَرِيعَةٌ إلَى إخْرَاجِ الْقِيمَةِ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ .
أَمَّا أما حديث بريدة فَنَقُولُ بِهِ ، وَأَنَّهَا تَرْجِعُ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ النِّزَاعِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : كُلُّ الْعُلَمَاء يَقُولُونَ : إذَا رَجَعَتْ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ طَابَتْ لَهُ ، إلَّا ابْنَ عُمَرَ وَالْحَسَنَ بْنَ حَيٍّ . وَلَيْسَ الْبَيْعُ فِي مَعْنَى الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ بِالْمِيرَاثِ حُكْمًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَلَيْسَ بِوَسِيلَةٍ إلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا . المغني بتصرف (2/651) .
وذهب ابن حزم الى الجواز . المحلى مسألة (699) ( 6/106) .
قال مقيده : والمنع أصح ؛ لأن حديث أبي سعيد عام , وحديث ابن عمر خاص , فيُبنى العام على الخاص ، وقول ابن حزم : إن الفرس كان وقفًا يخالف ظاهر الروايات .
نعود إلى كلام الشوكاني ] :
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ : ( عَنْ عُمَرَ ) هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مُسْنَدِ عُمَرَ ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى تَقْتَضِي أَنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ . وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيّ الثَّانِيَ . قَوْلُهُ : ( حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ ) [ م : أي حملت فارسًا أو غازيًا على فرس في سبيل الله ليجاهد به ] الْمُرَادُ أَنَّهُ مَلَّكَهُ إيَّاهُ وَلِذَلِكَ سَاغَ لَهُ بَيْعُهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عُمَرُ قَدْ حَبَسَهُ [ م : حبسه أي أوقفه ] ، وَإِنَّمَا سَاغَ لِلرَّجُلِ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ هُزَالٌ عَجَزَ بِسَبَبِهِ عَنْ اللَّحَاقِ بِالْخَيْلِ وَضَعُفَ عَنْ ذَلِكَ وَانْتَهَى إلَى حَالَةِ ذَلِكَ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ [ م : الوقف إذا وُقِفَ على غرض معين ثم عجز ذلك الوقف عن القيام بالغرض الذي وقف له , جاز بيعه في هذه الحالة وإنفاق ثمنه في جنس ما وقف له ؛ مثال ذلك : لو رجل بنى مسجدًا ثم هذا المسجد كان في أرض زراعية , والحاصل أن الناس لا يستطيعون أن يصلوا إليه , بينما لو باع المسجد أو هدمه وباع الأنقاض وباع الأرض ثم بنى مسجدًا على الطريق ينتفع الناس به كان هذا جائزًا .
فهذا كلام ابن حزم أنه كان وقف, وإنما باعه لما حصل به من هزال جعله يعجز عن اللحاق بغيره ] .
وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ : " لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ " وَلَوْ كَانَ حَبْسًا لَعَلَّلَهُ بِهِ . [ م : الحديث الذي هو أصل في الوقف حديث ابن عمر أن عمر أصاب أرضًا من خيبر كانت أجود ماله فاستشار النبي  فقال : إن شئت فاحبس رقبته وسبِّل ثمرته , لا تباع ولا تشترى ولا تورث ولا توهب ، والشوكاني ذكر هذه اللفظة فقط ( لا تعد في صدقتك ) لكن هناك رواية أخرى من حديث ابن عمر ( تصدق بفرس في سبيل الله , ثم رآها تباع فأراد أن يشتريها ) فعمر تصدق , فهذا واضح في أنها كانت صدقة , وليست وقفًا , فهذا ظاهر الحديث , وكان الأولى لأهل الظاهر أن يأخذوا بالظاهر ] . قَوْلُهُ : ( فَأَضَاعَهُ ) أَيْ لَمْ يُحْسِنْ الْقِيَامَ عَلَيْهِ وَقَصَّرَ فِي مُؤْنَتِهِ وَخِدْمَتِهِ . وَقِيلَ : لَمْ يَعْرِفْ مِقْدَارَهُ فَأَرَادَ بَيْعَهُ بِدُونِ قِيمَتِهِ [ م : يريد أن يلقي مالاً هكذا ولا يعرف قيمته ، فممكن يكون أضاعه أي أهمل فيه حتى أُصيب بالهزال , أو أضاعه يريد أن يبيعه برخص التراب لا يعرف قيمته الحقيقية فأراد أن يبيعه بدون قيمته ] ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ : اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ مَا جُعِلَ لَهُ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ [ م : أنه قصَّر في مؤنته وخدمته ] قَوْلُهُ : ( وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ ) هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي تَنْقِيصِهِ وَهُوَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى شِرَائِهِ . قَوْلُهُ : ( لَا تَعُدْ ) إنَّمَا سَمَّى شِرَاءَهُ بِرُخْصٍ عَوْدًا فِي الصَّدَقَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا ثَوَابُ الْآخِرَةِ ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا بِرُخْصٍ فَكَأَنَّهُ اخْتَارَ عَرَضَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ فَيَصِيرُ رَاجِعًا فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الَّذِي سُومِحَ فِيهِ . [ م : كأن ابن عمر لذلك كان إذا اشتراه تصدق به ) . قَوْلُهُ : ( كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَيْءَ حَرَامٌ . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ لِلتَّنْفِيرِ خَاصَّةً لِكَوْنِ الْقَيْءِ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ . [ م : الذين أجازوا حملوا الحديث على الاستقذار , أي على الكراهة ] وَيَلْحَقُ بِالصَّدَقَةِ الْكَفَّارَةُ وَالنَّذْرُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْقُرُبَاتِ .
[ لا يمكن أن يفهم الحديث إلا على هذا المعنى : أن العائد في صدقته تصدق بهذا ناويًا أنه في سبيل الله , ثم يحاول أن تشتريه برخص ؛ لأنه بذلك يكون قد استرجع أو استرد شيئًا مما أنفقته في سبيل الله ] . قَوْلُهُ : ( لَا يَتْرُكُ أَنْ يُبْتَاعَ ...إلَخْ ) أَيْ كَانَ إذَا اتَّفَقَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِمَّا تَصَدَّقَ بِهِ لَا يَتْرُكُهُ فِي مُلْكِهِ حَتَّى يَتَصَدَّقَ بِهِ ، فَكَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَةِ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لَا لِمَنْ يَرُدُّهَا صَدَقَةً . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الرُّجُوعِ عَنْ الصَّدَقَةِ وَأَنَّ شِرَاءَهَا بِرُخْصٍ نَوْعٌ مِنْ الرُّجُوعِ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي حِلِّ الصَّدَقَةِ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ هَذَا عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ [ م : أي يحمل حديث عمر على كراهة التنزيه , وهذا عند مَن يقول : إن الإنسان يجوز أن يشتري صدقته وهو قول الشافعي وابن حزم أنه يجوز فيكون الكراهة كراهة تنزيه ] ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَحَمَلَ قَوْمٌ هَذَا عَلَى التَّنْزِيهِ وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ : " أَوْ رَجُلٌ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ " فِي خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ ، [ م : نحن لا نقول هنا هذا ؛ لأنه ليس هناك تعارضًا , فإن كان التعارض ظاهرًا , فهناك حديث عام , وحديث خاص , فعندما يأتي حديث ويقول : رجل اشتراها بماله , وحديث آخر يقول : لا تشتر صدقتك , فإذًا يجوز للرجل أن شتريَ صدقة بماله إلا أن تكون صدقته ] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ابْتِيَاعُ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ رَاوِي الْخَبَرِ ، وَلَوْ فُهِمَ مِنْهُ التَّحْرِيمُ لَمَا فَعَلَهُ وَتَقَرَّبَ بِصَدَقَةٍ تَسْتَنِدُ إلَيْهِ انْتَهَى [ م : نحن قلنا قبل ذلك : الحجة فيما رواه الصحابي , لا فيما رآه , فهذه مسألة يدخل فيها الاجتهاد والنظر , فقد يصيب وقد يخطئ ] .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ [ م : أي حديث عمر ] وَذَاكَ فِي صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ ، فَيَكُونُ الشِّرَاءُ جَائِزًا فِي صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الرُّجُوعُ فِيهَا حَتَّى يَكُونَ الشِّرَاءُ مُشَبَّهًا لَهُ , بِخِلَافِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَإِنَّهُ يَتَصَوَّرُ الرُّجُوعَ فِيهَا , فَكَرِهَ مَا يُشْبِهُهُ وَهُوَ الشِّرَاءُ ، نَعَمْ يُعَارِضُ حَدِيثَ الْبَابِ فِي الظَّاهِرِ : مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ  فَقَالَتْ : كُنْتُ تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِوَلِيدَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ وَتَرَكَتْ تِلْكَ الْوَلِيدَةَ ، قَالَ : وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَجَعَتْ إلَيْكِ فِي الْمِيرَاثِ } وَيَجْمَعُ بِجَوَازِ تَمَلُّكِ الشَّيْءِ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ بِالْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُشَبَّهًا بِالرُّجُوعِ عَنْ الصَّدَقَةِ دُونَ سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ [ م : تلاحظ أن كلام الشوكاني فيه اضطراب عما ذكره من قبل .
أقول : حديث أبي سعيد  : ( لا تحل الصدقة إلا لخمسة , منهم : ورجل اشتراها بماله ) وهو حملها على الفرض ؛ لأنه لا يمكن الرجوع فيها , أما صدقة التطوع يمكنه الرجوع فيها ؛ كيف يمكنه الرجوع فيها ؟ والراجع في الهبة كالكلب العائد في القيء , وهنا نفس التشبيه في حديث عمر " لا تشترها " .
فالحاصل أن حديث أبي سعيد بيَّن جواز أن يشتري الغني الصدقة , وحديث عمر نهى أن يشتريَ صدقة نفسه , فيُبنى العام على الخاص ، وأما حديث بريدة فليس من مسألتنا في شيء , فهذا فعل الله تعالى وحكمه , فالله  هو الذي قضى بالمواريث , هذا محصل ما في هذه المسألة , لكن الشوكاني قال كلامًا ثم كأنه تشكك فيه مرة أخرى ] .
بَابُ : فَضْلِ الصَّدَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالْأَقَارِبِ :
[1] الزوج : أمَّا عن الزوج فعندنا حديث زينب زوجة ابن مسعود  أن النبي  حضَّ على الصدقة وما إلى ذلك ؛ فذهبت مع امرأة أخرى إلى النبي  - وكان قد أُلقيَت عليه المهابة - فخرج إليهما بلال فطلبا منه أن يسأل النبي  : هل يجوز للمرأة أن تتصدق على زوجها ؟ وطلبا من بلال ألا يخبر النبي  عن شخصيهما ، فلما دخل بلال على النبي  سأله عن المرأتين , فأجابه  .
من هنا ذهب الشافعي والجمهور أنه يجوز للمرأة أن تعطي زوجها من صدقتها إن كان من أهل الصدقة ( إن كان فقيرًا ) . ومنع من ذلك أبو حنيفة رحمه الله وقال : إن الحديث يقول : " إنها كانت تنفق صدقتها على ابن مسعود وعلى أولادها " . وهل يجوز للمرأة أن تنفق الصدقة على الأولاد ؟
فالجمهور قالوا : نعم , هي ممنوعة إن كان الزوج مفقودًا ( مات ) فهي في هذه الحالة هي التي تعول الأولاد , لكن مع وجود الزوج فليست ملزمة أن تنفق على الأولاد ؛ وبالتالي يجوز لها أن تدفع صدقتها إلى الأولاد والزوج .
هذا محصل مافى مسألة الزوجة . وقد أورد أبو حنيفة إشكالات , لكنهم – أى الجمهور – قالوا : رب العزة يقول :  إنما الصدقات للفقراء والمساكين  ونحن متمسكون بعموم الآية , ولا يوجد ما يُخرج الزوج إن كان فقيرًا أو مسكينًا , وهذا كلام واضح .
المرأة ليست ملزمة بنفقة الأولاد في وجود الزوج حتى وإن كان عاجزًا عن الإنفاق , وكذلك إن عجز عن نفقة المثل لها , وإن أنفقت هى يكون ذلك دين فى رقبته ان استطاع أن يسده ( يرده ) إليها سده , وهذا في أبواب النفقات , وبر الوالدين وإن كان مقدمًا على بر الزوجة بالنسبة للرجل إلا أن النفقة لا تدخل في ذلك ؛ لأنها من باب المعاوضات , فالإنفاق على الزوجة مقدم على الإنفاق على الوالدين , بل ومقدم على الإنفاق على الأولاد , وهذه الأقوال لغربة الدين تُستبشع من قائلها أو فاعلها .
[2] الأقارب : النبي  بيَّن أن الصدقة على الغريب صدقة فقط , وعلى القريب صدقة وصلة , وأن أفضل الصدقة ما كانت على الرحم الكاشح , وهو المعادي البغيض .
الأقارب : الإمام أحمد له روايتان : الرواية الأولى وهي الراجحة في نظري وهي قول كثير من أهل العلم : أن الصدقة على الأقارب جائزة بل مقدمة على غير الأقارب ماعدا الوالدين وإن علا , والأولاد وإن نزل , فيجوز أن يدفع زكاة ماله لأي قريب كان سواء الأخ أو الأخت أو العم أو العمة الخال أو الخالة وغيرهم أو أبناء العم وكل الأقارب فيما عدا الأب وإن علا والابن وإن نزل . والمرأة والرجل في ذلك سواء . هذا هو القول الأول , فلنا أن نقول أنهم اتفقوا على أن الزكاة تدفع لمَن لا يُورَثُ مِن الأقارب . وأما يورث ولا يورث ؛ فلأن الله تعالى قال  وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ  .
إذًا الوارث كما يقولون : الغُرم بالغُرم , المولود لو مات الوارث يأخذ ماله , فكذلك إن احتاج إلى أُجرة للرضاعة ونفقة وكسوة , فالوارث هو الذي يدفعها  وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ  فأبوه لو كان ليس موجودًا ( ميت ) فالوارث يقوم بمؤنة ذلك الطفل , أي واحد موجود من الورثة الذين يرثوه هو الذى يقوم بذلك , كالجد أو ابن العم , فالنبي  يقول : " ألحقوا الفرائض بأهلها , فما بقي فلأولى رجل ذكر " .
الذين يجري بينهم الميراث : روايتان عن أحمد : قال في الأولى : ليس فيها من يرث ومن لا يرث وما إلى ذلك , فيجوز للرجل أن يدفع زكاة ماله لجميع الأقارب ماعدا الأب وإن علا , والابن وإن نزل , هذه هي الرواية الأولى , وبها قال كثير من أهل العلم ، والرواية الثانية : لا يجوز دفعها إلى الموروث ؛ لأن نفقته واجبة عليه , وطالما نفقته واجبة عليه فلا يدفع له الزكاة , والنفقة واجبة عليه بقوله تعالى :  وعلى الوارث مثل ذلك  . لكن هذه المسألة وردت في الصغير , وهذا واضح من سياق الآية .
إذًا نقول : إن الأصح في هذا هو قول مَن قال : إن الصدقة تدفع لجميع الأقارب ماعدا الأب وإن علا , والابن وإن نزل .
عندما نقول : " يَدفع الصدقةَ للأقارب " يبدأ من أين ؟
بالأقرب ؛ لأن النبي  قال : " الأقرب فالأقرب " . يعنى : الأخ والأخت , ثم العم والعمة , ثم الخال والخالة , ابن الأخ وابن الأخت , ابن العم وابن العمة ... وهكذا .
والبعض قال : يقدم أولاً المحارم ثم غير المحارم ... وهكذا .
وصدقة التطوع من باب أولى , فلا يجوز لشخص أن يتصدق على مَن تجب عليه نفقته إن كان فقيرًا , فأنا مكلَّف بالنفقة عليه .
1616 - ( عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ ، قَالَتْ : فَرَجَعْتُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ : إنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ فَأْتِهِ فَاسْأَلْهُ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنِّي وَإِلَّا صَرَفْتُهَا إلَى غَيْرِكُمْ . قَالَتْ : فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : بَلْ ائْتِيهِ أَنْتِ ، قَالَتْ : فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِبَابِ رَسُولِ اللَّهِ  حَاجَتِي حَاجَتُهَا ، قَالَتْ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ  قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ [ كان مهيبًا ؛ ففي حديث يزيد بن الأسود أن النبي لما صلى في مسجد الخَيْفِ وانصرف من الصلاة , فإذا هو برجلين معتزلين في أخرى القوم ولم يُصليا , فأقبلا ترعد فرائصهما ... وكان النبي  يقول : هوِّن عليك , ما أنا إلا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد – أي كان متواضعًا – لكن المهابة هي التي جعلت الرجلين يرتعدان ترعد فرائصهما , والفريصة : هى قطعة الجلد التي تحت الإبط مع شده الخوف ترتعش لوحدها لا يستطيع التحكم فيها ] ، قَالَتْ : فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا لَهُ : ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ  فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ يَسْأَلَانِكَ : أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا ، وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا ، وَلَا تُخْبِرْ مَنْ نَحْنُ ، قَالَتْ : فَدَخَلَ بِلَالٌ فَسَأَلَهُ ، قَالَ لَهُ : مَنْ هُمَا ؟ فَقَالَ : امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَزَيْنَبُ ، فَقَالَ : أَيُّ الزَّيَانِبِ ؟ فَقَالَ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ ، فَقَالَ : لَهُمَا أَجْرَانِ : أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . [ هذا الحديث أخذ به الجمهور , لكن أبو حنيفة عارض في هذا , فأبو حنيفة قال : إن زينب كانت تصرف هذه الأموال ؛ لأنها كانت تشتغل , فهي كانت صاحبة صنعة , وتنفق هذه الأموال من صنعتها , فكيف تعتبروه من الزكاة الواجبة ؟
فأجابوا بأن الآية تقول  إنما الصدقات للفقراء والمساكين  فما الدليل الذي أخرج الزوج من هذه الآية ؟ ونفقة الزوج لا تجب على زوجته , بل العكس هو الصحيح , فالزوج لا يجوز له أن يتصدق على زوجته ؛ لأن نفقتها واجبة عليه ] .
وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ أَيُجْزِئُ عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي ، وَعَلَى أَيْتَام فِي حَجْرِي ) . [ أي : أولادها من زوجٍ آخر لها تُوُفِّيَ ] .
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ : ( إنَّك رَجُلٌ خَفِيفٌ ذَاتَ الْيَدِ ) هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْفَقْرِ . وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ : { إنَّ زَيْنَبَ كَانَتْ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامٍ فِي حِجْرِهَا .
[ سؤال : هل الأيتام الذين في حجرها واجبة النفقة عليهم فكيف تعطيهم من زكاتها ؟ ( وردت رواية للنسائي أن الأيتام أولاد أخيها )
م : الحنفية سوف يأتون برواية أنها كانت تنفق من صنعتها، لذلك نؤكد على أن ابن قدامة رحمه الله قال : ولأن الأصل جواز الدفع لدخول الزوج فى عموم الأصناف فالحديث وإن كان فيه هذا الإشكال لكن الأصل بالآية أنها تدفع لزوجها ومن قال لا يجوز أن تعطيه فعليه بالدليل )
، فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ : سَلْ رَسُولَ اللَّهِ  أَيُجْزِئُ عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حِجْرِي مِنْ الصَّدَقَةِ } ؟ الْحَدِيثُ .قَوْلُهُ : ( فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ) زَادَ النَّسَائِيّ وَالطَّيَالِسِيُّ " يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ " وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ : " انْطَلَقَتْ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّه ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ وَامْرَأَةِ أَبِي مَسْعُودٍ ، يَعْنِي عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ " [ م : ابن مسعود وأبي مسعود لهما حديث في صحيح مسلم بنفس اللفظ " ليليني منكم أولوا الأحلام والنُهى , ثم الذين يلونهم " ] .
اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدْفَعَ زَكَاتَهَا إلَى زَوْجِهَا ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ . وَعَنْ أَحْمَدَ [ م: القول الأول قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن ورواية عن مالك ورواية عن أحمد , وهو مذهب ابن حزم . المحلى مسألة (722) (6/152) .
م : والرواية الثانية لأحمد : لا يجوز دفعها إلى الزوج , وهو مذهب أبي حنيفة . المغني (2/649) ] . وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْهَادِي وَالنَّاصِرُ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ دَلِيلًا بَعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ الْمَازِرِيُّ . [ م : المازري من كبار علماء المالكية ] . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهَا : " أَيُجْزِئُ عَنِّي " وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ : " وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ " وَكَوْنُ صَدَقَتِهَا كَانَتْ مِنْ صِنَاعَتِهَا يَدُلَّانِ عَلَى التَّطَوُّعِ ، وَبِهِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهَا : " أَيُجْزِئُ عَنِّي " أَيْ فِي الْوِقَايَةِ مِنْ النَّارِ كَأَنَّهَا خَافَتْ أَنَّ صَدَقَتَهَا عَلَى زَوْجِهَا لَا يَحْصُلُ لَهَا الْمَقْصُودُ [ م : مَن قال أنها صدقة واجبة ؟ استدلوا بقولها : " أيجزئ عنى " . فالفريق الذي يقول أنها صدقة تطوع , قالوا : إن لفظة : " أيجزئ عني " مؤوَّلة ؛ لأن النبي  قال : " ولو من حُليكن " ، وكذلك فإن صدقتها كانت من صناعتها ) ، وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ الصِّنَاعَةِ احْتَجَّ بِهِ الطَّحَاوِيُّ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّهَا لَا تَجْزِيءُ زَكَاةُ الْمَرْأَةِ فِي زَوْجِهَا فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ رَائِطَةَ امْرَأَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا كَانَتْ امْرَأَةً صَنْعَاءَ الْيَدَيْنِ ، فَكَانَتْ تُنْفِقُ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ : أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ لَهَا : { زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ عَلَيْهِمْ } قَالُوا : لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْمَهْدِيُّ فِي الْبَحِرِ وَغَيْرِهِمَا . [ م : الإشكال ليس في هذا الحديث , وإنما الإشكال في قولها : " وعلى أيتام في حجري " ] . وَتُعُقِّبَ هَذَا بِأَنَّ الَّذِي يَمْتَنِعُ إعْطَاؤُهُ مِنْ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ مَنْ تَلْزَمُ الْمُعْطِيَ نَفَقَتُهُ ، وَالْأُمُّ لَا يَلْزَمُهَا نَفَقَةُ ابْنِهَا مَعَ وُجُودِ أَبِيهِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ : وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ انْتَهَى . وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ صَرْفُ زَكَاتِهَا إلَى زَوْجِهَا ، وَأَمَّا أَوَّلًا فَلِعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ , فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ . [ م : قال ابن قدامة : لأن الأصل جواز الدفع , لدخول الزوج في عموم الأصناف المسمين في الزكاة , وليس في المنع نص ولا إجماع , وقياسه على مَن ثبت المنع في حقه ليس صحيحًا , لوضوح الفرق بينهما ( قياس مع الفارق والفرق بينهما أن الذي ثبت المنع في حقه هو مَن تجب نفقته ] فيبقى جواز الدفع ثابتًا . المغني (2/650) .
م : وهذا أقوى في نظري مِن الاستدلال بالحديث , وقولها : " أيتام في حجري " ليس من الضروري أن يكون هؤلاء أولاد لها ] . وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ تَرْكَ اسْتِفْصَالِهِ  لَهَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَفْصِلْهَا عَنْ الصَّدَقَةِ هَلْ هِيَ تَطَوُّعٌ أَوْ وَاجِبٌ ؟ فَكَأَنَّهُ قَالَ : يُجْزِئُ عَنْكِ فَرْضًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا . [ م : بذلك يستقيم الاستدلال على اعتبار أن الأيتام لم يكونوا أولادًا لها , فيستقيم الاستدلال بهذا , لاسيما أنه في حديث أبي سعيد  أن النبي  قال لها : " زوجك وولدك أحق من تصدقتِ عليهم " على اعتبار أن المرأة لا يجب عليها الإنفاق على أولادها مع وجود والدهم ] . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الزَّوْجِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ إلَى زَوْجَتِهِ ؟ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُعْطِي زَوْجَتَهُ مِنْ الزَّكَاةِ شَيْئًا لِأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ التَّعْلِيلَ بِالْوُجُوبِ عَلَى الزَّوْجِ لَا يُوجِبُ امْتِنَاعَ الصَّرْفِ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ غَنِيَّةً كَانَتْ أَوْ فَقِيرَةً , فَالصَّرْفُ إلَيْهَا لَا يُسْقِطُ عَنْهُ شَيْئًا . [ م : هنا نقطة تحتاج إلى تأمل : الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته , لكن هناك مثلاً أوجه لا يجب عليه أن ينفق على امرأته فيها مثل المرض , الرجل لا يجب عليه أن يداوي امرأته بالإجماع , وكأنهم في هذا الإجماع استندوا إلى حديث معاوية بن حيدة  لما قال : يا رسول الله , ماحق زوج أحدنا عليه ؟ قال : أن تُطعمها إذا طعمت وأن تكسوها إذا اكتسيت ... إلى آخره , مع قوله تعالى :  اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم  فلو كانت المرأة مريضة , ومرضها يحتاج إلى علاج , وهو لا يجب عليه أن يداويها , وليس في ماله سعة , فهل يخرج زكاته إلى الخارج وهي محتاجة إلى مال ؟ فهذه نقطة تحتاج إلى تأمل , لكن نحن نريد أن ننشر بين الناس هذه المقالة : " أن الرجل لا يجب عليه أن يداوي امرأته بالإجماع ؛ لأنها تتسبب في مشاكل كبيرة " فالمرأة إذا كانت محتاجة للعلاج , وزوجها مستطيع , لا يجب عليه , ويجوز لها أن تأخذ من الصدقة , وهو مستطيع لكن للعلاج ] .
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ عَلَى الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ وَبَقِيَّةِ الْقَرَابَةِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا .
1617 - ( وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ  قَالَ { الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكَيْنِ صَدَقَةٌ ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ : صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ ) . [ صحيح الجامع (3858) ورواه أيضًا النسائي ( الخمسة إلا أبا داود ) وسَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ  له حديث علقه البخاري ووصله أبو داود أن النبي  قال : مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ ، فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا ، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى( ) ] .
1618 - ( وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  : { إنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَلَهُ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ) . [ م : ورواه أبو داود والترمذي عن أبي سعيد ، والطبراني والحاكم عن أُم كلثوم بنت عقبة ، وقال الألباني : صحيح – صحيح الجامع (1110) ] .
1619 - ( وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا كَانَ ذَوُوا قَرَابَةٍ لَا تَعُولُهُمْ فَأَعْطِهِمْ مِنْ زَكَاةِ مَالِكَ ، وَإِنْ كُنْتَ تَعُولُهُمْ فَلَا تُعْطِهِمْ وَلَا تَجْعَلْهَا لِمَنْ تَعُولُ . رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ ) . حَدِيثُ سَلْمَانَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِمُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ . قَالَ الْحَافِظُ : وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ . قَوْلُهُ : ( الْكَاشِحِ ) هُوَ الْمُضْمِرُ لِلْعَدَاوَةِ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثَيْنِ عَلَى جَوَازِ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَى الْأَقَارِبِ سَوَاءٌ كَانُوا مِمَّنْ تَلْزَمُ لَهُمْ النَّفَقَةُ أَمْ لَا لِأَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِمَا لَمْ تُقَيَّدْ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ [ م : هو يقول : إن هذه الأحاديث عامة فيمَن تلزمه النفقة , ومَن لا تلزمه , وفي صدقة التطوع , وفي صدقة الفرض , لكن سيأتي إجماع ابن المنذر أنه لا يدخل في ذلك الأصول والفصول ( الأب وإن علا , والابن وإن نزل ) فسوف نستثنيهم ] ؛ وَلَكِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَصَاحِبِ الْبَحْرِ أَنَّهُمَا حَكَيَا الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَى الْأَوْلَادِ ، وَكَذَا سَائِرُ الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ كَمَا فِي الْبَحْرِ فَإِنَّهُ قَالَ : ( مَسْأَلَةٌ ) وَلَا تُجْزِئُ فِي أُصُولِهِ وَفُصُولِهِ مُطْلَقًا إجْمَاعًا . وَقَالَ صَاحِبُ ضَوْءِ النَّهَارِ : إنَّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ وَهْمٌ ، قَالَ : وَكَيْفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَرِوَايَةٌ عَنْ الْعَبَّاسِ أَنَّهَا تُجْزِئُ فِي الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ ؟ ثُمَّ قَالَ : قُلْتُ : وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْبَحْرِ لَمْ تُنْسَبْ إلَى قَائِلٍ فَضْلًا عَنْ الْإِجْمَاعِ ، وَهَذَا وَهْمٌ مِنْهُ رحمه الله فَإِنَّ صَاحِبَ الْبَحْرِ صَرَّحَ بِنِسْبَتِهَا إلَى الْإِجْمَاعِ كَمَا حَكَيْنَاهُ سَالِفًا , فَقَدْ نُسِبَتْ إلَى قَائِلٍ وَهُمْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ إلَّا أَنَّهُ يَدُلُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَأَحْمَدَ عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : { أَخْرَجَ أَبِي دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجَئْتُ فَأَخَذْتُهَا ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا إيَّاكَ أَرَدْتُ فَجِئْتُ فَخَاصَمْتُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ  فَقَالَ : لَك مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَك مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ } . [ م : لأنه أعطاها لرجل في المسجد وقال له تصرف فيها ، وصدقة الفرض لا يفعل بها هذا ... فهذا كان في صدقة التطوع , وعلى كل حال يزيد لم يخرجها إلى ولده ] . وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى – [ لأنه سيتبيَّن أنه لو وكلت واحدًا في إنفاق زكاة مالي فوضعها في غير موضعها , ثبت الأجر لي , وإن كان هذا من الفقراء , ولكن كان ابن المتصدق , وأنا كوكيل لا أعرف , فهذا أخذ ما يستحق من زكاة المال ؛ لأنه فقير , وأنا كوكيل لا إثم عليَّ ؛ لأني لا أعرف ؛ ولذلك قال النبي  : " لَك مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَك مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ " ] وَلَكِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّرْفُ فِي بَنِي الْبَنِينَ وَفِيمَا فَوْقَ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ ، وَأَمَّا غَيْرُ الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ مِنْ الْقَرَابَةِ الَّذِينَ تَلْزَمُ نَفَقَتُهُمْ فَذَهَبَ الْهَادِي وَالْقَاسِمُ وَالنَّاصِرُ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْإِمَامُ يَحْيَى : يَجُوزُ وَيُجْزِئُ إذْ لَمْ يُفَصِّلْ الدَّلِيلَ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ . [ م : عندنا الآباء والأبناء , ابن المنذر حكى الإجماع وصاحب البحر أيضًا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إليهم , والحديث الذي ذكره الشوكاني وأجاب عليه . ولا يقول أحد أن محمد بن الحسن مخالف للإجماع ؛ لأنه لو كان هذا الإجماع إجماع الصحابة والتابعين وتابعى التابعين فلا يُلتفت إلى مخالفة محمد بن الحسن وأبي العباس .
وأما الذين تجب نفقاتهم ففيه خلاف : مالك والشافعي قالا : لا يجوز دفع الزكاة إليهم ، وأبو حنيفة يقول : يجوز دفع الزكاة إليهم ؛ لأن الأدلة لم تُفصل ( الأدلة العامة ) فقالوا : أنها مخصصة بالقياس . لكن القياس على ماذا ؟ قالوا : على الطفل الرضيع ؛ لأنه عندهم أن قوله تعالى :  وعلى الوارث مثل ذلك  جعلوها أصلاً , وهذا ضعيف .
نسوغ المسألة كالآتي :
قال ابن قدامة : فَأَمَّا سَائِرُ الْأَقَارِبِ ، فَمَنْ لَا يُوَرَّثُ مِنْهُمْ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ انْتِفَاءُ الْإِرْثِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ ، لِكَوْنِهِ بَعِيدَ الْقَرَابَةِ مِمَّنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ  لَهُ مِيرَاثًا ، أَوْ كَانَ لِمَانِعٍ ( م : يعني : إما إنتفاء السبب أو وجود المانع ) ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَحْجُوبًا عَنْ الْمِيرَاثِ ، كَالْأَخِ الْمَحْجُوبِ بِالِابْنِ أَوْ الْأَبِ ( م : واحد عنده ابن , هل أخوه يرث فيه ؟ طبعًا لا ) ، وَالْعَمِّ الْمَحْجُوبِ بِالْأَخِ وَابْنِهِ وَإِنْ نَزَلَ ...
م : واحد عنده أب , هل أخوه يرث فيه ؟ لا , لكن مع وجود الأُم يرث ؛ لأن الأُنثى لا تحجب الذكر , قالذكر هو الذي يحجب ؛ قال الله تعالى :  يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ...  .
م : معنى ذلك أن الأب له الثلثان .
والأُم لا تَحْجِبُ عن الإخوة , ولكن تحط من نصيب الإخوة ، فالأخوة يرثون إن لم يكن هناك ولد أو لا يوجد أب .
لو واحد مات وله أخ أو ابن أخ أو ابن ابن : يحجب عن العم .
قال ابن قدامة : ، فَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ جُزْئِيَّةً بَيْنِهِمَا وَلَا مِيرَاثَ ، فَأَشْبَهَا الْأَجَانِبَ .
[ م : يريد أن يقول : إن سائر القرابات الذين لا يرثون يجوز دفع زكاة المال إليهم ] .
قال ابن قدامة : وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ كَالْأَخَوَيْنِ اللَّذَيْنِ يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ [ م : طبعًا هذان الروايتان في مذهب أحمد ] ؛ إحْدَاهُمَا : يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى الْآخَرِ [ م : أي : يرث كل واحد منهما الآخر رغم وجود ميراث بينهما ] ، وَهِيَ الظَّاهِرَةُ عَنْهُ ، رَوَاهَا عَنْهُ الْجَمَاعَةُ ، قَالَ : يُعْطِي كُلَّ الْقَرَابَةِ إلَّا الْأَبَوَيْنِ وَالْوَلَدَ [ م : ما المانع أن يعطيه ؟ لا فرق بين الوراثة وعدم الوراثة ؛ إن لم يكن بينهما ميراث يجوز أن يعطيه , لم يعترض أحد على ذلك أصلاً . وإن كان يرثه , قولان في مذهب أحمد , الأول : يجوز لكل واحد منهما دفع زكاته إلى الآخر وهو قول أبو حنيفة الذي ذكره الشوكاني ] . وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هُوَ الْقَوْلُ عِنْدِي ؛ لِحديث سلمان , فَلَمْ يَشْتَرِطْ نَافِلَةً وَلَا فَرِيضَةً ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَارِثِ وَغَيْرِهِ . وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ [ م : الأب ون علا , والابن وإن نزل , وهذه الرواية قول أبي حنيفة وأصحابه ] ، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْمَوْرُوثِ . وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ : وَلَا لِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ " وَعَلَى الْوَارِثِ مُؤْنَةُ الْمَوْرُوثِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ ، فَيُغْنِيه بِزَكَاتِهِ عَنْ مُؤْنَتِهِ ، وَيَعُودُ نَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَدَفْعِهَا إلَى وَالِدِهِ ... وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا . فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَرِثُ الْآخَرَ ، وَلَا يَرِثُهُ الْآخَرُ ، كَالْعَمَّةِ مَعَ ابْنِ أَخِيهَا ، وَالْعَتِيقِ مَعَ مُعْتِقِهِ [ م : العمة لا ترث ابن أخيها وهو يرثها , فإن كان عندها بنات فقط وابن أخ وليس عندها ذكور , فالبنات لهما الثلثان , وابن الأخ يأخذ الباقي , وكذلك العتيق مع المُعتق : العتيق إن مات المُعتق يرثه ؛ لأن الولاء لمَن أعتق , ولا يحدث العكس ، فهنا نقول : إن الذي يرث عليه مؤنة مَن يرثه , وفي هذه الحالة لا يجوز أن يدفع الزكاة إليه ، والذي لا يرث , ليس عليه مؤنة الآخر , يُدفَع الزكاة إليه ] فَعَلَى الْوَارِثِ مِنْهُمَا نَفَقَةُ مُوَرِّثِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْرُوثِ مِنْهُمَا نَفَقَةُ وَارِثِهِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دَفْعِ زَكَاتِهِ إلَيْهِ ، لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي لِلْمَنْعِ . [ م : المقتضي للمنع هو : كونه يرثه ] وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ . انتهى بتصرف - المغني (2/648) .
نعود إلى كلام الشوكاني ( ونضع خط على هذه الجزئية ] . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْإِمَامُ يَحْيَى : يَجُوزُ وَيُجْزِئُ إذْ لَمْ يُفَصِّلْ الدَّلِيلَ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ . وَقَالَ الْأَوَّلُونَ : إنَّهَا مُخَصَّصَةٌ بِالْقِيَاسِ وَلَا أَصْلَ لَهُ [ م : ليس هناك أصل نقيس عليه ] وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَلَامُ صَحَابِيٍّ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ لِلِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ مَسْرَحًا , وَيُؤَيِّدُ الْجَوَازَ وَالْإِجْزَاءَ الْحَدِيثُ الَّذِي تَقَدَّمَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ : { زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ عَلَيْهِمْ } وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الِاحْتِمَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ كَمَا سَلَفَ , ثُمَّ الْأَصْلُ عَدَمُ الْمَانِعِ ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقَرَابَةَ أَوْ وُجُوبَ النَّفَقَةِ مَانِعَانِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَلَا دَلِيلَ . [ م : هذ هو المهم من قوله : ثم الأصل عدم المانع ... إلى آخره ] .
قال الشيرازي صاحب المهذب : فإن كان في الأصناف أقارب له , لا يلزمه نفقتهم [ م : قلنا أن الشافعي ومالك قالا بلزوم النفقة وعدم لزوم النفقة ] فالمستحب أن يخص الأقارب .
قال النووى : قال أصحابنا : والأفضل أن يبدأ بذي الرحم المحرم , كالإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات ويقدم الأقرب فالأقرب ثم بذي الرحم غير المحرم كأولاد العم وأولاد الخال ثم المحرم بالرضاع ثم بالمصاهرة ثم المولى ثم الجار فإن كان القريب بعيد الدار [ م : في نفس البلد ] قُدِّمَ على الجار الأجنبي . المجموع (6/209 ، 210) .
قال ابن رشد : ينحصر الكلام عن الزكاة في خمس جمل :
1 - في معرفة مَن تجب عليه .
2 - ما تجري فيه من الأموال .
3 - في معرفة كم تجب ومَن كم لا تجب ؟
4 - في معرفة متى تجب ومتى لا تجب ؟
5 - في معرفة لمَن تجب وكم تجب له ؟
وقد وفينا جميع هذه النقط خلال الشرح بفضل الله  .
تنبيه : قال النووي ) يوضع في باب : براءة رب المال بالدفع إلى السلطان .
قال أصحابنا : لا يجوز للإمام ولا للساعي بيع شيء من مال الزكاة من غير ضرورة .
م : لكن إن اضطر كأن يجد غنمة سوف تموت فيبيعها لمَن يذبحها .
النووي : بل يوصلها إلى مستحقيها بأعيانها ؛ لأن أهل الزكاة أهل رشد لا ولاية عليهم فلم يجز بيع مالهم بغير إذنهم .
م : وبمثل هذا قال ابن قدامة في المغني .
النووى : قال أصحابنا ولو وجبت ناقة أو بقرة أوشاة واحدة فليس للمالك بيعها وتفريق ثمنها على الأصناف بلا خلاف , بل يجمعهم ويدفعها إليهم . وكذا حكم الإمام عند الجمهور , وخالفهم البغوي فقال : إن رأى الإمام ذلك فعل , وإن رأى البيع وتفرقة الثمن فعل , والمذهب الأول .
م : البغوي أجاز للإمام أن يبيعها ويوزع ثمنها عليهم , كأنه رأى أن الشركة في هذا ممكن تؤدي إلى شيء , لكنهم أهل رشد لا ولاية عليهم .
النووي : قال أصحابنا وإذا باع في الموضع الذي لا يجوز فيه البيع , فالبيع باطل ويَسْتَرِدُ المبيعَ ؛ لأنه تصرف فس ملك الغير , فإن تلف ضمنه والله أعلم . المجموع (6/151) .
م : ضمنه أي عليه قيمته .
الذين قالوا بوجوب الزكاة في عروض التجارة وهُم الأئمة الأربعة خلافًا لابن حزم ورواية للشافعي , قالوا : لا يكون الشيء من عروض التجارة التي تجب فيها الزكاة إلا بشرطين :
الأول : أن يتملكه بفعله , كأن يشتريه , فإن تملكه بغير فعله كأن انتقل إليه عن طريق الإرث , فليس من عروض التجارة أصلاً إلا إن كان من الأصناف المنصوص عليها , كأن يرث فضة أو ذهب أو غنم , لكن نحن نتكلم عن عروض التجارة التي ليست من الأصناف المنصوص عليها ( لكن لو كانت من الأصناف التي فيها زكاة وجبت فيها ) كأن يرث عمارة أو أراضي فهذه لا تكون عروض تجارة ؛ لأنه انتفى منها الشرط الأول (أن يتملكه بفعله ) .
والذين قالوا بالزكاة في عروض التجارة قالوا : الدليل عليها : الإجماع .
ولا إجماع , والأحاديث التي فيها ضعيفة , وأما حديث خالد بن الوليد محتمل وسوف يأتي .
فلو افترضنا أنه حصل فيها إجماع , فلنا أن نأخذ الصور التي أجمعوا عليها فقط , والصور المختلف فيها نتركها , والدليل على الشرط الأول أن مَن قال بعروض التجارة اتفقوا على هذا , واختلفوا في غيره . وهذا الكلام منصوص عليه في المغني والمجموع .
الشرط الثاني : أن ينوي عند تملكه أنه للتجارة , وأن تستمر النية طيلة الحول , فلو نوى عند تملكه أنه للاقتناء , ثم بدى له أن يتاجر فيه , لم يكن من عروض التجارة ؛ لأنه لم ينو عند تملكه أنها للتجارة , وإنما نوى أنها للاقتناء .
قلو نوى عند تملكه أنها للتجارة , وقبل أن يحول الحول نوى أن يقتنيها , فلا تجب فيها الزكاة . على قول الجمهور يخرج الزكاة عنها كل عام ( إن كانت أرض أو غيرها ) .
وعلى مذهب مالك يخرج الزكاة عنها عند بيعها .
إن كان عاجز عن مال الزكاة يكون دين عليه حتى يبيعها .
إن تملك الرجل بضائع , هذه البضائع حين قُوِّمت بلغت قيمتها النصاب - فالبضائع في عروض التجارة تُقوَّم بالمال - فإن بلغت النصاب وظلت على ذلك أثناء الحول أو زادت لكن لم تنقص عن النصاب , يزكى فيها .
الجمهور قالوا : يزكيها مال ؛ لأنها تُقوَّم بالمال كأن يقول عندي بضاعة بـ 5000 جنيه , أخرج ربع العشر ، الشافعي قال : تخرج زكاتها بضائع , أي عشر البضاعة .
قال مقيده : عروض التجارة عندي لا يثبت فيها دليل , فأنا أُسهِّل في هذا الأمر , لكن لا أُصرح بمذهبي لعامة الناس ؛ لأن عامة الناس يأخذون بمذهب الأئمة الأربعة .
وعند الذين يقولون بوجوب الزكاة في عروض التجارة , إذا انقلب المال عرض تجارة أو انقلب العرض مال أن هذا لا يؤثر في الزكاة .
الأئمة الأربعة أوجبوا الزكاة في عروض التجارة , بل حكى بعضهم الإجماع على ذلك , لكن لا يصح الإجماع في هذه المسألة ] .

التعديل الأخير تم بواسطة هجرة إلى الله السلفية ; 08-27-2011 الساعة 05:51 AM
رد مع اقتباس