06-16-2008, 03:37 PM
|
|
ماتَتْ بِنْتُ المهجَرِ!
ماتَتْ بِنْتُ المهجَرِ!
(كتبه الشيخ : أبوبصير الطرطوسي حفظه الله)
بسم الله الرحمن الرحيم
تذكرون بنت المهجر التي حدثتكم عنها من قبل، تحت عنوان " ابنة المحنة تكتب من بلاد المهجر " قد ماتت ـ رحمها الله ـ عن عمرٍ يُناهز العشرين بقليل ..!
وأنا إذ أكتب عنها من جديد .. لا لكونها تلميذة لي كما كانت تعتبر نفسها .. أو ابنة لأخ فاضل لنا عزيز كريم .. صابر ومحتسب .. نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله .. لا؛ ليس لشيء من هذا .. وإنما لأنها كانت تفكر كما يفكر العظماء الكبار .. وتكتب كما يكتب الأدباء الكبار ..
وتقاتل وتجاهد كما يُقاتل المجاهد الكبير في ساحات الوغى .. وتحمل في قلبها هموماً وقلقاً على الإسلام والمسلمين، والجهاد والمجاهدين .. لا نجده عند كثير من الشيوخ والدعاة الكبار .. وذلك منذ نعومة أظافرها .. ولجرأتها في الحق يعتذر الناشرون عن نشر كلماتها .. ومن كانت كذلك فحقها علينا أن نذكرها عند رحيلها .. وندعو الله لها بالقبول والغفران.
وهي إذ كانت تسعد وتُسَر كتلميذة لي، فأنا أسعد بها كشيخ ومعلم لها .. وإن كان لشيخٍ أن يفتخر بتلميذه أو تلميذته، فحق لي أن أفتخر بها .. وإليكم من جديد بعض كلماتها التي خطتها بأناملها قبل رحيلها رحمها الله:
ابنة المحنة تكتب من بلاد المهجر
بسم الله الرحمن الرحيم
أوَلم تكن كلمات كتبتها عني ....؟
عماه ... لو تدري ما فعلت الأيام ... تلك التي كتبت من مهجرها يوماً أسْطَرَ شِعرٍ منثورة ... ما زالت تكتب حتى اليوم ... ولا أنيس لها إلا وريقات ... وأقلاماً جفَّ معظمها ..!
أكتبُ وأكتبُ وأكتب من مهجري ... نعم ... وأظنك تعي وتفهم مهجري ... فما فائدة الوطن لروح اغتربت فلم تجد موطنها ... نعم اغتربت وشدت رحالها ... تبحث عن وطن تَقرُّ فيه وتَرفُّ فيه مع شقيقاتها أو أشقائها في الله ... مهجرٌ بين الأهلِ والأحباب ... مهجرُ الروح هكذا هو دائما ... وأظنك عنيته قبل أعوام ... ولم تعنِ إلاه!
لم أعد تلك البُنيَّة التي عرفتها طفلة ترفض أن تمدَّ يدها لمصافحة الأجنبي ... وتحلم أحلاماً ورديةً ... عن غدٍ قريب مليءٍ بالسعادة والهناء ... أوَبعد المهجر سعد...وهناء؟
كل ما أعلمه أنني كما يقولون ... أثقلت كاهلي منذ أعوام ... بهمومٍ ليست الفتيات مكلفات بحملها ... وكأنما يجب أن أكون أنانية حتى أكون كما الفتيات في عصرنا هذا ... ويا له من عصر!
أكتبُ وأكتب ... وأنْظُمُ وأنظم عل الروحِ .. تقترب من موطنها ...ويا لها من روح ... ضاقت ذرعاً بجسدٍ لا يزيدُ على أن يكونَ سجناً يمنعها من اللحاقِ بالأحبَّةِ ... تحاول أن تقتربَ فلا تجد إلا مكاناً قصياً ... هجرَهُ الناسُ ... وأقامَ فيه المجاهدون ... ولا تجدُ الابتسامةَ إلا عندما تراهُ أو تراهم موضعاً ترفُّ فيه على وجهي ... نعم إنها لا ترفُّ بحرارةٍ إلا عندما أراهم أو أرى مساكنهم ... فأصبح كأحدٍ من أولئك المجانين ـ مجانين العشق ـ أقف على الأطلال هائمةً بأطلالٍ سكنَها الأبطالُ ... هياماً بالبطولةِ التي تتجسد بشراً ينطق ويُنافِح حتى آخر المطاف ... أو آخر العمر... على حد سواء!
الجميعُ يلومُني ... ولو علموا أنني ما أريدُ إلا أن أموتَ شهيدة ... معلقة على أعوادِ مشنقة لكلمة حق ... أو في غزوةٍ أخرى ... كلهم ظنوها حماسَةَ شبابٍ ... تفورُ وما تلبِثُ أن تفتُرَ بعد أيامٍ ... وإن طالَ أمَدُها!
عمَّاه ... تِسعٌ من الأعوامِ قد مَضت ... أو ما يَقلّ أو يربو عليهنَّ بقليل ... قبلها بسنين كانت كلماتك ... قد حفرت مواقع في قلبي وعقلي ... ولربما ظننت بعدها أنها لم تُجْدِ نفعاً ... وها هي اليوم ... تنطق بها كل جارحة فيّ على لساني وفي شِعْرِي ... وفي كل ورقة يسطرها قلمي ...!
سُنونٌ مضت ... تفتَّحت تلك الزهرةُ ... فأينَعت فيَّ الروحُ ... أحلاماً ورؤى ... وأثمرت في النفس ... وتجذَّرَت حتى ارتوى من ينبوعها القلبُ ... وعاشت وأظنها ستعيش ما تعاقب ليل ونهار .. وما دام قلبي ينبض ...وحتى بعد موتي ـ في سبيل الله، في سبيل الدفاع عنها ـ لأنها الحق ...!
بدأ الزرع يؤتي أكله باكراً ... يروي عطشَ الروح الظمأى ويواسيها ... يسري عنها ..
سنون مضت ... أسماءُ تلك ( الشقيَّة ) الصغيرة ... تغيَّرتُ فيها كثيراً ...كل شئ قد تغير ... إلا كلمات تعلمتها منك ... أو يحيا النهرُ دونَ البحرِ يا عمي...؟!
ما زلتَ عمي الذي أعطاني مبادئ أُجِلُّها ... عمي الذي عاملني كفتاة واعية مع طفولتها . ..ولا أظنُّك إلا كنتَ تزرعُ بذراً أيقنتَ أنه سينبتُ يوماً ما!
لستُ أدري ما أقول ...! أأقول شيخي كما يحلو للتلاميذ أن يقولوا لأساتذتهم ...وشيوخهم أم أقولُ أبا بصيرٍ ... أم أقولُ عماه ... حقيقة لست أدري ...لربما كنت معلماً ... وشيخاً ... وعماً أيضاً ... فقد عرفتك قبلَ أيٍّ من أعمامي ... وأُحبك في الله أكثر من أي واحدٍ منهم ... فما واحد أعطاني مثلما أعطيت ... ولا أزالُ في حيرةٍ ... سُنونٌ مضت ... وأنت في مهجرك تعيش ... لست أدري ما فعلت الأيامُ بك ... لكنني ما زلت متيقنةً من أنك أنت أبو بصير الذي لطالما بش في وجهي ... متناسياً ألمه وشوقه لوطنٍ وأهلٍ حُرِمَ أن يلقاهم ويلقاه ...لكنني أحسبك ـ والله حسيبك ـ هاجرت بدينك ... وحسبك هذا شرفاً لك ... فمن أفضلُ ممن يجاهد الطاغوت وقاتل في سبيل الله ... طلباً لمرضاته وطاعته.
أملٌ يشع بداخلي ... يعطي بصيصاً من نور يخفتُ حيناً ويشعُّ ويقوى أحيُناً أخرى ... لعل النصرَ يكونُ قريبا ... لعلَّ الرجوعَ يكون قريبا ... ستقول: لا يا بُنيتي ... ما هكذا تُحسَب الأمور ... فالدرب طويل ...!سأقول: ستكون شموعُ الدرب ...سُلّمُ النصر ... رماحُ الوغى ...بل فرسانُ المعركة ...ستقول: قد نكون من بين الجماجم ...! وسأقول: من بينها سيشعُّ النور ... يُبنى سُلَّمُ النصرُ... تُشادُ قلعةُ المجد ... ومنها تدبُّ الحياة ... فإن قلتَ بعدها شيئا ...! سأقول : هوِّن عليك أبا بصير ... أئذا زرعنا ومتنا ... ماتَ الزرعُ أم أينع؟!
ستقول: ما شأن هذه بتلك ...بل أينع! فأقول عندها : هون عليك أبا بصيرٍ ... فسيُؤتي أُكُلَهُ الزرعُ ... وتلك هي العلاقة!
( أسماء .. أم الخطاب )
يتبع
|