عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 11-09-2015, 05:18 PM
عبدالله الأحد عبدالله الأحد متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي مسألة أفعال العباد والرد على المخالفين لأهل السنة

 

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله

مسألة أفعال العباد




معتقد السلف في مسألة أفعال العباد قوم على ثلاثة أصول :



الأول : أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى , فالمعتقد الصحيح في كل ما هو موجود يستند إلى مبدأ الثنائية , تلك الحقيقة التي أشارت إليها الفاتحة في قوله تعالى : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين َ) , فأثبتت الرب الواحد , والمربوب وهو العالم بأسره , ولا تخرج أفعال العباد عن أن تكون مربوبة لله تعالى ؛ لعموم ربوبيته , وتدبيره لشؤون خلقه , وهذا ما دل عليه صراحة قوله تعالى : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) , ثم إن أفعال العباد متعلقة بقدرة الله تعالى النافذة في كل ما هو ممكن , قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ٌ ).



الثاني : الإيمان التام بقدرة العبد على الفعل وتأثيرها في إيجاده على جهة السببية

يقول شيخ الإسلام رحمه الله مفصلاً منهج السلف الكرام في قضية السبب : " الذي عليه السلف وأتباعهم , وأئمة أهل السنة وجمهور الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة إثبات الأسباب , وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها , والله تعالى خلق الأسباب والمسببات , والأسباب ليست مستقلة بالمسببات , بل لا بد لها من أسباب أخر تعاونها , ولها مع ذلك أضداد تمانعها , والمسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه , ويدفع عنه أضداده المعارضة له , وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته , كما يخلق سائر المخلوقات , فقدرة العبد سبب من الأسباب , وفعل العبد لا يكون بها وحدها , بل لابد من الإرادة الجازمة مع القدرة .."[1]

وبهذا تثبت حقيقة الشرع الذي نسبه المولى تعالى لنفسه في محكم التنزيل , والإيمان بما يقتضيه الإقرار به من التكليف , وما يستلزمه من صحة نسبة القدرة على الفعل للعبد , بل وتأثيرها فيه على جهة الحقيقة , وذلك ضمن دائرة السببية , قال تعالى : { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا }(الإنسان :2) .



الثالث / الإيمان التام بالقدر دون طلب للكيف وسؤال عن الكنه , فالتسليم بالقدر دون جدال ومراء من أعظم أسس الإيمان بهذا الركن العظيم من أركان الإيمان ذلكم أنه قد نهي عن الجدال في القدر والخوض فيه بلا علم فالله تعالى لم يأمر عباده ولم يتعبدهم بكيفية القدر ؛ ولكن تعبدهم بالتسليم له ، مع عدم ضرب نصوص الدين بعضها ببعض ,

يقول الإمام الطحاوي[2]: " وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب , ولا نبي مرسل , والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان , وسلم الحرمان , ودرجة الطغيان , فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة , فإن الله طوى علم القدر عن الأنام , ونهاهم عن مرامه , كما قال تعالى في كتابه : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } (الأنبياء:23) , فمن سأل : لم فعل فقد رد حكم الكتاب , ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين " [3]





موقف المخالفين



حقيقة الخلاف ترجع إلى اعتقاد التناقض بين الشرع والقدر , وإلى هذه المهمة يلفت شيخ الإسلام أنظار الباحثين عن الحق , يقول رحمه الله :" ومسألة القدر يحتاج فيها إلى الإيمان بقدر الله , وإلى الإيمان بشرع الله , فطائفة غلب عليهم التصديق بالأمر والنهي , والوعد والوعيد , فظنوا أن هذا لا يتم إلا بالتكذيب بالقدر ؛ فأخطئوا في التكذيب به , وطائفة ظنت أن الإيمان بالقدر لا يتم إلا بأن يقول : إن الرب تعالى يخلق ويأمر لا لحكمة ولا لرحمة " [4] .



رأي المعتزلة


فالمعتزلة كما هو واضح من النص , غلبت جانب الشرع على القدر , وغلت في الإيمان بالتكليف ؛ حتى طعنت في القدر , وأنه تعالى خالق لكل شيء , ومن ذلك أفعال العباد , وقدمت لهذه النتيجة مقدمات متعددة من تعليل أفعال الله تعالى بالحكمة, واستحالة الظلم عليه , وتحسين الأشياء وتقبيحها بالعقل , كل ذلك كان بمثابة الأدلة التي أرادت بها أن تدعم موقفها من نفي هذه المرتبة من مراتب القدر المتعلقة بأفعال العباد , وقد سبق بيان مكمن ضلالها في تلك المسائل , وأنها بإرجاعها كل شيء للعقل ؛ ابتعدت عن هدي الإيمان الذي يقضي بالتسليم التام لقضاء الله تعالى وقدره كما في الحديث الشريف : ( وأن تؤمن بالقدر خيره وشره )[5].



ولا شك أن المسلك الخاطئ الذي التزمته في الاستدلال على ما يجب في حق الله تعالى وما يمتنع عنه ؛ كان له أكبر الأثر فيما وقعت فيه من مخالفة النهج القويم المستمد من الكتاب والسنة , فقياس الشاهد على الغائب حملها على رد كل ما استقبحته من الأفعال المشاهدة من العباد وقاست عليها أفعال الرب تعالى دون أدنى تفريق أو إعمال لداعي الفطرة الذي يهتف بأنه الرب سبحانه ليس كمثله أحد , وبهذا طعنت في أعظم حقيقة عرفها الوجود وهي انفراد الرب تعالى بالخلق والتدبير .



أدلتها



إن الشبهة التي اعتمدها المعتزلة هي عدم إمكان وجود فعل بقدرتين, وأرجعت الفعل إلى قدرة العبد على جهة الاستقلال ؛ استنادا إلى الضرورة العقلية التي تشهد بأن الفعل صادر عن إرادة الإنسان , يقول القاضي عبد الجبار : " إن هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصودنا ودواعينا , ويجب انتفاؤها بحسب كراهتنا وصارفنا مع سلامة الأحوال إما محققاً وإما مقدراً , فلولا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا وإلا لما وجب ذلك فيها ؛ لأن هذه الطريقة تثبت احتياج الشيء إلى غيره , كما يعلم احتياج المتحرك إلى الحركة والساكن إلى السكون , وهذه هي الدلالة المعتمدة "[6].



وهذا كما هو صريح من جانب الرد التقعيدي الإيجابي , أما من جهة السلب أو الإلزام ؛ كما يعبر عنه , فيعتقد أن في نسبة الفعل إلى الرب تعالى ما ينسب إليه القبيح من الظلم المنافي لإرادة الحكمة والعدل[7].


ويعتقد إلى جانب هذا أن في القول بخلق الأفعال طعنا في جانب التكليف , المتمثل بإرسال الرسل , وإنزال الكتب بما فيها من أوامر ونواه ؛ حتى يؤدي ذلك إلى نسبة العبث المنافي لتمام الحكمة والعدل للرب تعالى .[8]









موقف الأشاعرة



ظهرت الجبرية معظمة لجانب القدر , ملتزمة للإقرار بربوبية الله تعالى , ولكنها أجحفت في الجانب الآخر : جانب الشرع , فالجبرية الغلاة أتباع الجهم ذهبوا إلى نفي الاختيار تماما عن العبد , وعدم التفريق بين ما يضطر إليه من الأفعال وما يريده , ونفت بذلك قدرة العبد تماماً , وردت الشرع , وجوزت على الله تعالى أن يعذب من قضى ساعات عمره في طاعة الله تعالى , وليس هذا هو مجال عرض أثر هذا المعتقد الضال عليها , وكان ممن تأثر بمنهجها فرقة الأشاعرة ؛ حيث عدلت فيه بعض التعديلات ؛ نتيجة اعتبارها للتكليف وجانب الشرع , فأثبتت قدرة العبد الحادثة , ونسبت له الكسب ؛ حتى يصح تكليفه بذلك , ولكن مفهوم الكسب عندها داخله اضطراب كبير , لم يعد يملك نتيجة له أحقية مفارقة مذهب الجبر , مع اختلاف في أثر المعتقد على الإيمان بالشرع , وسيأتي الحديث عنه فيما يلي إن شاء الله .







أدلة الأشاعرة



وكذلك الأشعرية التزمت نفس الشبهة في منع صدور الفعل بقدرتين وقادرين , ولكن مع اختلاف في النتيجة ؛ حيث أثبتت وجود القدرة الحادثة في العبد , ولكن دون أن يكون لها أدنى أثر فى إحداث الفعل , فالفعل فعل الله تعالى , وقدرة العبد ما هي إلا سبب اقتراني يوجد الفعل عنده لا به , وكان هذا هو مذهب الأشعري وعليه بنى النظرية المعروفة بالكسب .
هذا والمذهب الأشعري الممثل بكبار منظريه ؛ قد حصل فيه اضطراب في حقيقة الكسب , وذلك أن القاعدة التي أسسها الأشعري لتصور علاقة الإنسان بأفعاله لم تكن مستساغة لدى جميع من سار على نهجه .[9]


وعلى الرغم من هذه المحاولات العديدة من الأشاعرة في رفض الجبر عقيدة ومذهبا , وإضفاء نوع من الواقعية لفكرة الكسب ؛ حتى تبعده عن مذهب الجبر , إلا أن الرازي وهو العالم بخفايا المذهب , الواقف على أغوار مراميه , يتفطن إلى أن المراد بالكسب تقرير مذهب الجبر , ويدعم موقفه هذا بالأدلة التي يرى فيها تأييدا لما ذهب إليه ؛ فيستدل على أمرين ليصل بنتيجتيهما إلى ما يريد من تقرير الجبر : خلق أفعال العباد بدليل الإمكان ؛ إذ لا تخرج عن كونها إما ممكنة ، أو واجبة . ولما استحال وجوبها ؛ إذ لا يرجح وجودها على عدمه إلا بمرجح , لم يبق إلا كونها ممكنة ؛ بمعنى مخلوقة " [10].


وقد يعارض موقف الرازي من حقيقة الكسب بموقف آخر لواحد من كبار منظري المذهب الأشعري , ذلكم هو الإمام الجويني ؛ حيث رد على من نفى التأثير مطلقا من جهة العبد , وأرجع حقيقة الكسب إلى السببية ؛ فأثبت بهذا لقدرة العبد أثرا فى الفعل على جهة السببية , ودون الاستقلال. [11]







**********

الرد على المخالفين الجملي



سبق وأن أشرت إلى أن أساس الضلال الحاصل في المسائل المتعلقة بالقدر؛ اعتقاد ثمة تناقض بين الشرع والقدر , وعليه فالواجب أولا بيان انتفاء التناقض بينهما , وأنه لا يلزم لإثبات القدر القدح في الشرع ؛ كما فعلت الجبرية , ولا يلزم لإثبات الشرع القدح في القدر ؛ كما فعلت القدرية , وأن التسليم بكليهما يقتضي عدم الميل بأحدهما عما يجب فيه , لذا كان المنهج الصحيح هو التوسط وعدم ضرب نصوص الشرع بعضها ببعض , بل الإيمان بأن : كلا من عند ربنا ، " فأدلة الجبرية متضافرة صحيحة على من نفى قدرة الرب على شيء من الأعيان والأفعال , وعموم مشيئته وخلقه لكل موجود , وأثبت في الوجود شيئا بدون مشيئته وخلقه.



وأدلة القدرية متضافرة صحيحة على من نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره , وقال: إنه ليس بفاعل شيئاً , والله يعاقبه على ما لم يفعله , ولا له قدرة عليه بل هو مضطر إليه مجبور عليه "[12]



وجماع هذين الأمرين, أعني : إثبات مشيئة العبد وإرجاعها أولاً وأخيراً إلى مشيئة الرب تعالى , قوله عز من قائل : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }(التكوير:29) , يقول شيخ الإسلام : " وهذه الآية رد على الطائفتين : المجبرة الجهمية , والمعتزلة القدرية , فإنه تعالى قال : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } (التكوير:28) فأثبت للعبد مشيئة وفعلا ,ثم قال :{ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} , فبين أن مشيئة العبد معلقة بمشيئة الله , والأولى رد على الجبرية , وهذه رد على القدرية الذين يقولون : قد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله ".[13]


الرد على المعتزلة



ـ عند سبر أقوال المخالفين لمنهج السلف من القدرية؛ نجد أن الانحراف داخلهم من رد نصوص بعض الكتاب , أو استخدام بعض الألفاظ التي لم ترد في الشرع , فهؤلاء القدرية ردوا صريح الكتاب بأن الله تعالى خالق لكل شيء , وأنه لا أحد يملك الخروج عن مشيئته ؛ كما قال : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين }(يونس:99) , فدلالة هذه النصوص على إثبات خلق الله تعالى لأفعال العباد صريحة صحيحة , لا يجادل فيها إلا مكابر , قد قدم هواه على الشرع الحكيم , وليس في ذلك ما يبطل الشرع وحكمة المولى تعالى ؛ كما فعل غلاة الجبرية ، ومتوسطوهم , فالله حكيم يضع كل شيء في محله , وقد تقدم هذا

ونكتة ضلالهم أنهم لم يفرقوا بين الخلق والفعل فالله تعالى لا يوصف بأنه فاعل لأفعال العباد وإنما خالق لها , فلا تنسب أفعالهم إليه تعالى إلا على جهة الخلق والإحداث أما أحكامها وأوصافها فهي تحيق بالعباد خيرها وشرها .

فكل دليل في نسبة الفعل إلى العبد يدل على قيامه به لا أنه خالق له محدث إياه من العدم .

وبهذا كان لا بد من اعتقاد أن قدرة العبد ليست مستقلة في صدور الفعل وهذا معنى كونها حادثة وأن ما يصدر عنها من الأفعال حادث لحدوثها . فلا معنى إذا من اعتقاد أن نسبة الفعل للعبد يلزم معها أن يكون خالقا له .



وقد تقدم بطلان شبههم في منع القول بخلق أفعال العباد من جهة ما يلزم عنها من نسبة القبيح والظلم للرب تعالى



الرد على الأشاعرة





الجبر مما لم يرد لأفعال العباد ؛ فلا يقال جبر وإنما خلق وجبل , فالله تعالى أعظم من أن يجبر أحدا على شيء , وإنما يخلق ويجبل عبده على ما يريد ؛ حتى يجعل العبد مريدا لأفعاله عن اختيار ومشيئة .[14]

لذا كان هذا من الألفاظ التي كرهها الإمام أحمد رحمه الله , فقد رد على من قال : إن الله جبر العباد , فقال : هكذا لا تقول وأنكر هذا وقال : يضل من يشاء ويهدي من يشاء , وفي رواية أخرى أنه في رده قال : بئس ما قال , ولم يقل شيئا غير هذا . [15]



وقد استدل الأشاعرة بقوله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } (الأنفال:17) , ولا دلالة لهم على مذهبهم في الجبر , فقد أثبت المولى تعالى رمي العبد ولكنه نفى عنه الاستقلال بالرمي وهذه هي حقيقة الأسباب التي أثبتها أهل السنة وأرجعوا إليها فعل العبد وقدرته على إنجاز ما يريد , ومن هنا نأتي إلى مناقشة نظرية الكشف فى الفكر الأشعري .



نظرية الكسب في الفكر الأشعري :



من خلال عرض أقوال طائفة من كبار منظري المذهب الأشعري تبين وبوضوح أن نظرية الكسب كانت محل اختلاف واضطراب عند أصحاب المذهب وأن هذا الاضطراب كان نتيجة لعدم اقتناع بحقيقة الكسب , يقول عبد الرحمن البدوي : " يظهر أن موقف أبي الحسن الأشعري لا يمكن قبوله ولا بد من تعديله : فعدله الباقلاني ؛ بأن أثبت للقدرة الإنسانية تأثيراً ، هو حال به يتصف صاحب القدرة بكسبه لهذا الفعل , وجعل هذه الحال هي التي ينالها العقاب والثواب , لكن الجويني رأى أن هذا غير معقول , ويساوي نفي التأثير الذي قال به الأشعري , ولهذا خطا خطوة أبعد فأقر قيام نسبة حقيقية بين فعل العبد وبين قدرته , لكن في غير أمور الإحداث والخلق , وهذه النسبة تطرد من فعل إلى سببه , باستمرار حتى نصل إلى مسبب الأسباب ؛ أي الله تعالى " .[16]



ومما سبق يظهر وجه الاستحالة في نظرية الكسب ؛ لأنها محاولة في التوسط بين الاختيار والجبر ، والحقيقة أنه لا توسط بينهما ، ولا بد من القول بأحدهما في نهاية المطاف , وهذه هي حقيقة الكسب ؛ تنظير للجبر بقالب الاختيار ؛ فإن نزع التأثير من فعل العبد تماماً وإرجاع حصول الفعل عند قدرته إلى مجرد الاقتران ينفي تماما صورة الاختيار عن فعل العبد , ويقضي بالجبر الذي كثيرا ما صرح به المتكلمون الأشاعرة .

وصريح كلام الشهرستاني وهو أحد كبار منظري المذهب الأشعري في نسبة الجبر لمن نفى التأثير تماما عن فعل العبد بالجبر , ومع ذلك فإن العدل يقضي ببيان وجه مخالفة الأشعرية لمذهب جهم ؛ وذلك أن الأشعري يفرق ـ كما هو ظاهر من كلامه ـ بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية , كما أنه ينسب للعبد قدرة حادثة وهذا ما لا يقول به جهم وأتباعه[17] .



وعليه فمناقشته في هذه القضية ترجع إلى أمرين :



أولاً : إثبات أن لقدرة العبد الحادثة أثرا في وجود الفعل على جهة السببية لا الإحداث والخلق .



ثانياً : أن الله عز وجل لا يوصف بأنه فاعل لأفعال العباد ؛ بل خالق لها.



وحقيقة ما تقدم في إثبات الأثر أنه لا يمكن بحال التفريق بين أفعال العبد الاختيارية و الاضطرارية ؛ إلا مع إثبات تأثير لقدرة العبد في وجود الفعل , وهذا ما عليه مذهب أهل السنة والجماعة , ومع ذلك فإن هذا التأثير ليس على جهة الخلق والإيجاد , التي تقضي بالاستقلال في وجود الفعل وإخراجه من حيز العدم , وإنما على جهة السببية التي ترجع إلى مسبب الأسباب وحده جل في علاه , وليس في هذا أي تناقض كما يتصور الأشاعرة , بل المناقضة في مخالفة ذلك , يقربه أنه كما أثبتم للعبد قدرة حادثة ليس في إثباتها منازعة للقدرة القديمة ؛ فليس بممتنع أن يثبت لهذه القدرة تأثيرا حادثا في وجود الفعل , ليس له استقلال في ذلك , أما نفي التأثير عن القدرة فهو حكم بعدمها , فالمعقول من القدرة معنى به يفعل الفاعل , ولا تثبت قدرة لغير فاعل , ولا قدرة يكون وجودها وعدمها بالنسبة إلى الفاعل سواء ".[18]



وأساس هذا إثبات السببية على جهة الحقيقة , وأن في الأسباب قوة أوجدها الله تعالى فيها , تستمد منها وجودها وفاعليتها , والمذهب الأشعري في نفيه للأسباب يغالط مبدأ من أسمى مبادئ التفكير الإنساني , الذي وهبه الله تعالى للعقل البشري, والذي يعد الدليل الأول , والمقدمة الأولى , التي لا نزاع في التسليم لها ؛ للاستدلال على وجوده سبحانه.



لذا كان التشكيك في هذه المسلمة ؛ من أهم ما يرمي إليه أعداء الدين من الملاحدة , وحتى لا يخرج بي الكلام عن المقام ؛ أقول أن الطعن في هذا الأساس والركيزة الفطرية المسلمة ليس له أساس من الصحة يعتمد عليه , وكل ما هنالك أن هذا التصرف من الشيخ الأشعري عليه رحمة الله تعالى ؛ كان من قبيل ردود الأفعال ضد الغلاة في مطالعة الأسباب من القدرية أو الفلاسفة المنتسبين ؛ حتى أدى بهم ذلك إلى أن أثبتوا لها الإحداث على جهة الاستقلال , وهذا ما لا يقول به السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم , وكثيرا ما يؤكد الإمام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم على حقيقة السبب في المنظور الشرعي , وأنه غير كاف في ترتب مقتضاه على وجوده حتى تتحقق له الشروط وتنتفي الموانع , وكل ذلك لا يكون إلا بإرادة المولى ومشيئته النافذة .



وهذا ما يفسر به الأئمة ما حدث عند إلقاء الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم في النار ؛ فإن النار سبب للإحراق , ولكن لما أن أراد المولى تعالى إبطال السبب لعدم توفر شرط إعماله من مشيئة الله تعالى النافذة , كان ما كان من تحول النار برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام , وهذا ما يقال أيضاً في قصة الخليل مع ابنه إسماعيل عليه السلام , ولا داعي لمعارضة الأحكام الكونية بمثل هذه التأويلات المخالفة للعقل والشرع .



وبذلك تنتفي حجة الأشاعرة في نفي التأثير عن قدرة العبد ؛ فمع الأخذ بمفهوم السببية كما قرره السلف رضوان الله عليهم , وما يترتب عليه من نسبة التأثير على جهة الحقيقة الحادثة لا على جهة الخلق والإحداث ؛ لم يعد للأشعرية حجة في نفي السبب عقلا ولا شرعاً.

ـ أما المحور الثاني في مناقشتهم ؛ وهو عدم تفريقهم بين الخلق والمخلوق والفعل والمفعول ؛ فهذا أيضا مما لبس عليهم فيه , وخلطوا نتيجة لذلك بين حق وباطل , فالله تعالى خالق لأفعال العباد , موجد لها من العدم ؛ فتنسب إلى أفعاله من جهة الخلق كباقي المخلوقات , ولا تنسب إلى أفعاله من حيث قيام الوصف به .



ولذا كان الصحيح في المسألة ما ذكره شيخ الإسلام في التفريق بين الفعل والمفعول , فالفعل للعبد وهو الانفعال في المراد , والمفعول بمعنى المخلوق هو لله تعالى , يقول : " وأما الجمهور الذين يفرقون بين هذا وهذا , فيقولون هذه مخلوقة لله مفعولة لله ليست هي نفس فعله , وأما العبد فهي فعله القائم به , وهي أيضا مفعولة له إذا أريد بالفعل المفعول " [19] وهذا " إجماع من أهل السنة حكاه الحسين بن مسعود البغوي [20] وغيره , فالعبد فعله حقيقة , والله خالقه وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة وخالق فاعليته "[21] .

وبهذا يتضح معنى الكسب المذكور في قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }(البقرة:286) ويكون المعنى الذي أراده الأشعرية للكسب من جملة المستحيلات ,لأنه " لا يعقل فرق بين الفعل الذي نفاه والكسب الذي أثبته " لذا قال الناس : " عجائب الكلام ثلاثة : طفرة النظام , وأحوال أبي هاشم , وكسب الأشعري " [22].

وكان هذا الضلال الذي وقع في الأشعرية نتيجة لهذا الخلط المشين بين فعل الله تعالى وفعل العبد أساسا اعتمده المتصوفة في التفريق بين الحقيقة والشريعة , والذي سوغ لغلاتهم التشدق بمذهب الجبر دون تورع ووجل ,: فنسبة القبيح إلى الله تعالى واستحسانه لذلك , والجهر بعذر الخلق طائعهم وفاجرهم ؛ لأنهم مظاهر لأفعال الله , كل هذا كان محصلة تلك الأهواء الفاسدة في نفي الفعل عن العبد حقيقة .

ومهما تستروا بستار الكسب ؛ فإن ألفاظهم تدل صراحة على اعتناق الجبر , والمتأمل لكلام الرازي يجد صراحة الإقرار بهذا , وعليه فلا سبيل بين الجبر والاختيار , فمن أثبت الاختيار بحال لا يمكن أن يقر بمذهب الجبر إطلاقا والعكس صحيح , ومن رام خلافه وقع في التناقض.



الجبر في الفكر الصوفي .



يستخدم الصوفية عبارات فيها إطلاق مسمى الحقيقة على القدر الحاصل بما فيه من خير وشر ؛ ويقعون في التجاوزات نتيجة لذلك, : فعندهم" من نظر للخلق بعين الحقيقة عذرهم , ومن نظر لهم بعين الشريعة مقتهم , فعذرهم بالنظر لخلق الله الضلال والهدى في قلوبهم , فالخالق للضلال والهدى والأفعال جميعها هو الله وحده ؛ فمن نظر لذلك لم يستقبح فعل أحد ؛ لأنه فعل الله في الحقيقة , قال الشاعر :



إذا ما رأيت الله في الكل فاعلا رأيت جمـــيع الكائنات ملاحـــاً

وإن لم تر إلا مظاهر صنعــه حجبت فصيرت الحسان قباحاً "[23]



********

الرد عليهم



حقيقة ما تكلم فيه هؤلاء المتصوفة من عذر الخلق بفعل الرب , والتفريق بين الشريعة والحقيقة ؛ هو الاحتجاج بالقدر على معصيته تعالى , وقد بين شيخ الإسلام رحمه ضلالهم , فقال : " وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية وهي ربوبيته تعالى لكل شيء , ويجعلون ذلك مانعاً من اتباع أمره الديني الشرعي على مراتب في الضلال .

فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقا عاما ؛ فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة , وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى , وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيَْ }(الأنعام:148)

وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضاً , بل كل من احتج بالقدر فإنه متناقض , فإنه لا يمكن أن يقر كل آدمي على ما فعل " إلى أن قال :" فيقال له إن كان القدر حجة ؛ فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك , وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك حجة.

ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة ؛ فيزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه فعلا , وأثبت له صنعا , أما من شهد أن أفعاله مخلوقة , أو أنه مجبور على ذلك , وأن الله متصرف فيه كما تحرك سائر المتحركات , فإنه يرتفع عنه الأمر والنهي والوعد والوعيد ...." إلى أن قال رحمه الله : " وهذه المقالات هي محادة لله ورسوله , ومعاداة له , وصد عن سبيله , ومشاقة له , وتكذيب لرسله , ومضادة له في حكمه "[24].

ومن خلال النص السابق يظهر أن أقوى دليل في إبطال الاحتجاج بالقدر هو ما لا يمكن دفعه من إرادة العبد وقدرته على الاختيار , وهذا ما يقتضيه التكليف الشرعي , فالله تعالى قد كلف عباده ما في وسعهم وتحت تصرفهم , وفي ذلك مقولة أهل العلم : إذا سلب ما وهب ؛ أسقط ما أوجب , وعليه فلا تناقض بين الشرع والقدر حتى يحتج هؤلاء على معارضة الشرع بالقدر , فأساس ما يبطل به الاحتجاج بالقدر على المعصية إثبات التكليف , وقد علم أن المكلف لا تقام عليه الحجة بالتكليف حتى تقام عليه الحجة من إرسال الرسل وإبلاغه بذلك , وتحقق الشروط فيه من البلوغ والعقل , وانتفاء الموانع ؛ فأي عذر بعد هذا للمحتج بالقدر على معصية الله تعالى !



ومن كل ما سبق ؛ نرجع إلى التأكيد على الحقيقة السابقة الذكر , من أن أساس الضلال في كل المسائل المتعلقة بالقدر , ومن جملتها مسألة الاحتجاج به , هو اعتقاد التناقض بين الشرع والقدر , وكانت هذه الألفاظ كـ لفظ الحقيقة والشريعة والظاهر والباطن من المتصوفة تعبيرا ناطقاً عن هذا التناقض , الذي لا أساس له صحيح من عقل ولا نقل .







[1] مجموع الفتاوى:(8/487).

[2] هو الإمام العلامة الحافظ أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة بن سليم الأزدي الطحاوي الحنفي ولد سنة:237هـ , قال عنه الشيرازي : انتهت إلى أبي جعفر رياسة أصحاب أبي حنيفة بمصر , صنف في اختلاف العلماء وفي الشروط وفي أحكام القرآن العظيم ومعاني الآثار , توفي سنة:321.انظر: تذكرة الحفاظ:(3/808).

[3] شرح العقيدة الطحاوية:249.

[4] درأ التعارض:(8/405).

[5] أخرجه البخاري : كتاب الإيمان ـ باب سؤال جبريل عليه السلام .

[6] شرح الأصول الخمسة:337. وانظر المحيط بالتكليف : 340.



[7] انظر شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : 345. وقد سبق مناقشة قضية الظلم فلتراجع : 417.

[8] مذاهب الإسلاميين , عبد الرحمن بدوي : 334. وانظر المحيط بالتكليف : 348.

[9] الإنصاف للباقلاني : 46.

[10] المباحث المشرقية للرازي : (2/544).

[11] شفاء العليل : 212.

[12] شفاء العليل :94.

[13] المرجع السابق : (8/488) .

[14] انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام : (8/461).

[15] المسائل و الرسائل المروية عن الإمام أحمد:(1/158).

[16] مذاهب الإسلاميين:561.

[17] انظر درء التعارض لشيخ الإسلام:(9/167).

[18] الفتاوى : (8468).

[19] مجموع الفتاوى:(8/122)..

[20] هو الإمام الهمام أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد ابن الفراء البغوي الفقيه الشافعي المحدث المفسر , صنف في التفسير وروى الحديث وأبان المشكلات ومن كتبه: معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم, وشرح السنة وغيرهما , توفي سنة:510هـ .انظر:وفيات الأعيان:(2/136), وسير أعلام النبلاء:(19/439).

[21] شفاء العليل:223.

[22] النبوات لشيخ الإسلام:199.

[23] حاشية الجلالين:(1/121),(1/156).

[24] الفتاوى : (10/166).

أم القرى
التوقيع

اكثروا قراءة الاخلاص وسبحان الله عدد ما خلق سبحان الله ملء ما خلق سبحان الله عدد ما في الأرض والسماء سبحان الله ملء ما في الأرض والسماء سبحان الله عدد ما أحصى كتابه سبحان الله ملء ما أحصى كتابه سبحان الله ملء ما أحصى كتابه،سبحان الله عدد كل شيء سبحان الله ملء كل شيء الحمد لله مثل ذلك وسبحان الله وبحمده عددخلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته واكثروا الصلاة على النبي واكثروا السجود ليلاونهارا
رد مع اقتباس