وسبب ذلك كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة ، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر ، وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى ، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى - وهي التي يسمونها طريقة السلف - وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف - وهي التي يسمونها طريقة الخلف - فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل وتعطيل السمع ، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات ، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه ، فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم ، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين ، بمنزلة الصالحين من العامة ، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي ، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله (1) .
والحقيقة أن الفهم السلفي لمسألة المحكم والمتشابه التي وردت في آية آل عمران ، يتسم بالدقة ويتسق مع اعتقادهم في التوحيد ، لاسيما في توحيد الصفات ، فهم لما آمنوا بصفات حقيقية جاءت بها الأدلة السمعية ، وفرقوا بين فهم المعنى الذي حواه اللفظ العربي وفهم الكيفية ، وفقوا في تفسير المحكم والمتشابه .
فإذا كان المحكم هو المعلوم الواضح المعنى ، وكان المتشابه عكس المحكم وهو المجهول الذي لا يعلم - على نحو ما تقدم - فإنهم يعتبرون معاني نصوص الصفات محكمات ، والكيفية الغيبية فقط من المتشابهات التي لا يعلمها إلا الله .
أما إذا كان معنى النص معلوما ، والكيفية التي دل عليها معلومة أيضا ، كانت الآية محكمة لأهل العلم على تفاوتهم في المعرفة والفهم ، كما هو الحال في جميع آيات الأحكام ، ولذلك - والله أعلم - سميت نصوص التكليف بما تحويه من أحكام أحكاما ، لوضوح معناها والعلم بكيفية أدائها .
__________
(1) بن تيمية : مجموع الفتاوى 5/9 بتصرف .
|