الموضوع: قضية سمرقند
عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 10-18-2010, 01:21 AM
أبو يوسف السلفي أبو يوسف السلفي غير متواجد حالياً
" ‏مَا الْفَقْرَ ‏أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي‏ ‏أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ "
 




افتراضي

قال الرجل مبتسماً : لا هذا بيت الله ، هذا المسجد .. أصليت ؟
صلىّ ؟! وكيف يصلي وهو على دين سمرقند ، ذلك الدين الذي لا يعرف منه إلا هذا المعبد المملوء بالأسرار ، وتلك الآلهة المخيفة ذات الوجه البشع المرعب ... وجعل يفكر : أين هذا المعبد من معبده المختبيء في بطن الصخر ، وأين هذا النور وهذا الجمال ، من تلك الظلمة وذلك القبح ، وشك لأول مرة في عمره في دينه الذي نشأ عليه !
وأعاد الرجل سؤاله . فقال له : لا لم أصل ، ولا أعرف الصلاة ...
قال : وما دينك ؟
قال : أنا على دين كهنة سمرقند ؟
قال : وما دينهم ؟
قال : لا أدري !
قال : من ربك ؟
قال : آلهة المعبد المرعبة ...
قال الرجل : وهل تعطيك إن سألتها ؟ وهل تشفيك إن مرضت ؟!
قال : لا أدري ...
ورآه الرجل ضالاً جاهلاً ، فألقى في هذا القلب الخالي أصول الدين الحق بوضوحها واختصارها وجمالها ، فلم تكن إلا ساعة حتى صار رسول كهنة سمرقند مؤمناً بالله ورسوله محمد ، الذي جعل الله به العرب سادة الدنيا ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ...
ثم قال الرجل قم الآن أدلك على دار الخليفة ، وإن كانت هذه هي الساعة التي يعالج شأنه فيها وشأن عياله ، وينفرد بنفسه .
وتبعه وهو يفكر في جمال هذا الدين وسموه ، وقد زالت الغشاوة عن عينيه فأدرك الآن سر هذه الفتوح ، وهذه القوة التي لم يقم لها شيء ، أين هذه الديانة السافرة الواضحة التي تجعل كل واحد من أتباعها كاهناً لها ورجل دين ... من تلك الديانة المجهولة الخفية ... أين ؟! ...
وخرج من السمجد ، من باب غير الذي دخل منه ، فما راعه إلا الرجل يقول له : مشيراً إلى باب من ألواح الخشب ، غير مصبوغة ولا منقوشة : هذه داره !
هذه ؟! أيمكن أن تكون دار الخليفة دون دور السوقة من رعيته ، وقد مرّ عليها فرأى فيها بهاءً وجلالاً ؟
ونظر إلى الرجل يحسبه يسخر منه فرآه جاداً ، فتركه وتقدم من الباب وهو شاك فيما قال الرجل ، ونظر فرأى كهلاً يصلح بالطين جدار المنزل وامرأة تعجن ... فترك الباب ولحق بالرجل مغيظاً مخنقاً فقال له :
ما كان لك أن تكذب عليّ وتسخر مني ، أسألك عن دار الخليفة فترشدني إلى دار طيان ؟
قال : ومن الطيان ؟
قال : صاحب الدار !
ووصف له ما رأى ...
قال الرجل : ويحك هذا والله أمير المؤمنين الذي ليس فوقه إلا الله ، وهذه المرأة ... ألا تدري من هذه المرأة ؟ هذه زوجة الخليفة عمر وبنت الخليفة عبد الملك ، وأخت الخليفتين وليد وسليمان ، وأخت هشام ويزيد وسيكونان خليفتين ، هذه أمجد امرأة في العرب ، ولقد كان أمير المؤمنين أرفه الناس عيشاً ، وأكثرهم طيباً ، ولكنه كان فيه عرق من عمر بن الخطاب فنزع به عرقه من عمر إلى ما ترى ، فعُد إليه فاقرع بابه وانفض إليه شكاتك ، ولا تخف فوالله ما هو المتكبر ، ولا الحاكم الجبار ولكنه عبد الله متواضع هين لين ، فإذا رأى الحق أمضاه فلم يقف دونه شيء ، وإذا غضب لله كانت العواصف الصواعق دون غضبه قوة ونفاذاً ... فاذهب موفقاً .
مضى السمرقندي نحو دار الخليفة يتعثر في مشيته ، يقدم رجلاً ويؤخر أخرى ، تتقد نار الحماسة في نفسه فيخطو ، ثم تعصف بها رياح الشك فيقف ، وكان يطير به الخيال إلى ملوك بلده ، فيتصور تلك الحجب على القصور ، وأؤلئك الحجّاب على الأبواب ، والسيوف المصلتة ، والرماح المشرعة ، ثم يبصر هذه الدار ... وهذا الذي قالوا إنه أمير المؤمنين ، فيزداد به الشك ... إنه يعرف السلطان الذي يحكم بالبطش ، والرعية التي تطيع بالخوف ، أما السلطان العدل ، وطاعة الحب ، فشيء لم يعرفه في بلده !
واستقر في نفسه أن الرجل يسخر به ، فعدا وراءه حتى لحقه وقال له : ناشدتك الله أيها الرجل ، هل هذه الدار هي دار أمير المؤمنين ؟
قال : نعم والله إنها لهي داره ! ... هذه دار الرجل الذي أورثته شريعة القرآن تيجان الملوك الأربعة : كسرى وقيصر وفرعون وخاقان ، فكانت هامته أرفع من أن يبلغها تاج منها ، فما سمت إليها إلا ( العمامة ) تاج العرب ... هذه دار الرجل الذي جبيت إليه ثمرات الأرض ، فكال الذهب كيلاً ، وأعطاه لمستحقه باليدين ، ومنح الفقراء الجوهر ، وقسم في المحتاجين الدرر ، وبقى هو وأسرته بغير شيء ... لأن نفسه أكبر من أن يملأها كل ما في الدنيا من ذهب وجوهر ، إنها أكبر من الدنيا ، فلذلك حقرتها وطمحت إلى ما هو أعظم منها : إلى الجنة !!
وما هجر الحياة ومناعمها ليأوى إلى غار في جبل فيعتزل الناس ، أو إلى مسجد فيناجي الله ، إذن لزاد العبّاد واحداً ، ولما كان في ذلك حديث يروى ، ولا عجب يؤثر ، ولكنه زهد في الدنيا وهو رجل الدنيا وواحدها ، وإليه أمرها [ والأمر أولاً وآخراً لله ] ( 1 )، وبيدها بعد القدر صلاحها وفسادها ، فهو في اللجة لا يبتل ، وهو ( في اللهب ولا يحترق ) وهو زاهد ولكن في رأسه عقل حكيم ، وفي صدره قلب بطل ، وفي فيه لسان أديب ، فهو يدير بعقله هذا الملك الواسع ، بقضائه وماليته وداخليته وخارجيته ، وسلمه وحربه ، وهو القائد وهو المفتي وهو المعلم ... أداره أحسن إدارة وأقومها ، فاستقر الأمن ، ونامت الثورات ، وقعد القائمون بالمعارضة ، وسكت الناقمون على بني أمية ، وتصافى الشيعي والخارجي(2) ، والمصري واليماني ، والأسود والأحمر ، واصطحب في البرية الذئب والحمل ... وهو يواجه بقلبه أحداث الدهر ، فترتد عنه الأحداث ارتداد الموج عن صخر الشاطيء ، وهو يصوغ ببيانه الحكمة العليا أدباً خالداً ...
سمع غداة بويع بالخلافة مكرهاً ، هزة ارتجت منها الأرض ، وكان منصرفاً من دفن أمير المؤمنين سليمان فقال : ما هذا ؟ قالوا : مراكب الخلافة قربت إليك لتركبها ، بالسروج المحلاة بالذهب ، المرصعة بالجوهر ، فقال : مالي ومالها ؟ نحّوها عني وقربوا لي بغلتي ، وأمر بها أن تباع ويدخل ثمنها بيت مال المسلمين ، فقربت إليه بغلته فركبها ، وجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة ، فقال له : تنح عني ، مالي ومالك ؟ إنما أنا رجل من المسلمين .
ومشي بين الناس ، راكباً على بغلته ( بلا موكب ولا حربة ولا راية ولا طبل ) الرجل الذي يحكم الأندلس ومراكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والحجاز ونجداً واليمن وسورية وفلسطين والأردن ولبنان والعراق والعجم وأرمينية والأفغان وبخارى والسند وسمرقند ... مشى ومشى الناس بين يديه حتى دخل المسجد ، فقام على المنبر ، فقال :
أيها الناس : إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه ، ولا طلب له ، ولا مشورة من المسلمين ، وإني قد خلعت بيعتي من أعناقكم ، فاختاروا لأنفسكم . فصاح الناس صيحة واحدة : إننا اخترناك ورضينا بك .
ومشى إلى الخضراء ، وما الخضراء ؟ جنة الأرض التي حشر إليها كل ما في الأرض من كنوز وطرف ، القصر الذي أزرت عظمته بالخورنق والسدير وغمدان والإيوان ، فأمر بستورها فأنزلت ، وببسطها ونمارقها فطويت ، وبطرفها وكنوزها فحملت ، وأمر ببيع ذلك كله ووضع ثمنه في بيت المال ، وأَمّ داره هذه .
فقال الناس : إنه رجل صالح ، ولكن المُلك له أهل ، إن المُلك لا يقيمه إلا قوي أمين ابن دنيا ...
ظنوه أمّ داره يقبع فيها يسبح ويهلل ، فإذا به يحد قلمه ، ويعد قراطيسه ، ويكتب من فوره بيده ، إلى أقاليم الأرض ، منشوراً فيه الدستور الذي لا يقوم إلا به الملك ، وينفذ الكتب من ساعته . فعلموا أن خليفتهم زاهد في الدنيا ، ولكنه ابنها وأبوها ...
فعل ذلك كله من الصباح إلى الضحى ، ثم ذهب يقيل ، فأتاه ابنه عبد الملك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ماذا تريد أن تصنع ؟ قال : أي بني أقيل . قال : تقيل ولا ترد المظالم ؟ قال : أي بني إني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان ، وإني إذا صليت الظهر رددت المظالم . قال : يا أمير المؤمنين ، من لك أن تعيش إلى الظهر ؟ فترك مقيله ، وخرج فبعث مناديه ينادي : ألا من كانت له مظلمة فليرفعها ، فإني منصفه من نفسي ومن آل بيتي ومن الناس أجمعين .
ولقد والله فعل أكثر مما قال !

( 1 ) الكلام بين القوسين [ ] زيادة من عندي
( 2 ) مع التحفظ على هذه العبارة

يتبع ..
رد مع اقتباس