حِشمةُ طالب العلم .. سألني : كنتَ تضحك من قبل ضحكة حلوة صوتها عالٍ قليلا .. قلتُ : نعم ، لكني لما انتبهتُ إليها ، عودتُ نفسي ألا أفعلها . قال : لماذا ؟ قلتُ : لأن الأكمل فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يليق بمن يتصدر لدعوة الناس أن يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم . قال : قال لي صاحبي مرة معلقا على هذه الضحكة : شيخك يضحك بالتجويد ! قلت بعد أن ضحكتُ : ينبغي لمن يتصدر لمثل هذا الأمر أن ينتهي عن مباحات ، لكنه ينتهي عنها من باب المروءة ، حفاظا على وقاره وحشمته بين الناس . قال : مثل ماذا ؟ قلتُ : مثل الضحك بصوت عال ، أو كثرة المزاح ، أو لعب الكرة مع من يعلِّمُهم من الشباب ، أو أكل شيء في الطريق ، أو فعل شيء لا يراه الناس فيه قدوة . قال : لمَ ؟! قلتُ : مقام الدعوة لا يبلغه طالبه إلا بشق الأنفس ، وهذا وجه واحد من أوجه خطورته . ألا ترى أني قبل سنة ، لما كان يأتيني فلان وفلان ، كنت أتساهل معهم وأمازحهم ، فانقلب الأمر بعد ذلك إلى إهمالهم وكثرة ضحكهم في مواطن جد ؟! اليوم لما وضعت حاجزا رقيقا بيننا صاروا لا يتجرؤون على شيء من ذلك . وقد كنتُ لا أنتبه لمثل هذا الأمر وغيره في البداية ، فلما وقفتُ على تنبيهات أهل العلم ، غيرتُ كثيرا ، فرأيت آثارا طيبة ، وفروقا واضحة . ألا ترى فلانا الذي يخطب الجمعة ، لا حشمة له بين الناس ، ولا يضعون له اعتبارا ؟ السبب أنه هوّن نفسه ، فلا يكف إذا لقي أحدهم أن يمزح معه مزاحا من فصيلة ( استظراف ) ! والعلم لا يأتيك توقيره إلا إذا أتاك ممن توقره ؛ لأنك إن رأيت سفاهة في المعلم ، لا تأبه بما عنده . قال الشيخ أبو إسحق في شرح كتاب العلم من صحيح البخاري : ذكر الخطيب البغدادي عن بعض العلماء أنه قال: علم بلا أدب كنار بلا حطب. وهذا معناه: أن الأدب هو وقود العلم، ومعناه أيضاً: أن العلم لا يصل إلا بأدب. وخلاصة الكلام: العلم لا يصل إلا بحكمة. مثلاً: كان هناك طالب من طلاب العلم، وكان طالباً نبيهاً، لكنه في صباح كل يوم جمعة يجمع الطلبة ويلعب معهم كرة نقول: لماذا تلعبون الكرة؟ يقولون: لكي نقوي عضلاتنا، ولنا نية صالحة في الموضوع. لكن ليعلم أنهم عندما يلعبون الكرة أنهم ينسون الالتزام، وينسون كل شيء، وأخلاقهم تضيق، وما إلى ذلك من سلبيات مترتبة على لعب الكرة. المهم صاحبنا طالب العلم هذا راوغ الأول والثاني والثالث، وسدد الكرة على المرمى، ومضى مسرعاً ويقول: جول! جول! فقال له أحد الطلبة: والله يا شيخ أنت كذاب. إذاً: عندما يقول له: والله يا شيخ أنت كذاب، وهذا الشيخ يقعد على الكرسي ويعلم هؤلاء الطلبة، هل يصل هذا العلم إلى الطلبة؟ هذا العلم لا يصل إلا بحشمة، الحشمة التي هي الوقار، وهي رصيد الإنسان عند الناس، ولا يصل المرء إلى هذه الحشمة إلا بعد أن تثبت قدمه في الخدمة، لا يمكن أن الناس يسوِّدونك، ولا يضعونك في الأفئدة إلا إذا ثبت أنك خدوم، وأنك إنسان أصيل، وهذا لا يعرف إلا بعد سنين من الخدمة، فالإنسان لابد أن يراعي ويحافظ على مكانته وهيبته، الإنسان المتعلم الذي يريد أن يعلم له عُدة لا بد أن يعتد بها. تجد أحياناً بعض الناس العوام -مثل العمدة في الأرياف- بالرغم أنه غير متعلم، وليس عنده علم شرعي، إلا أنه إذا جلس، فالكل يصدر عن رأيه، والكل يحترمه.. لماذا؟ لأنه إنسان عنده حشمة. فالحشمة: هي الهيبة -هيبة العالم- ولذلك ينبغي على العالم ألا يكثر من الاختلاط بالعوام، لابد أن يكون بنيه وبينهم شيء من الحاجز، لا أقول: يتكبر عليهم -عياذاً بالله- وإنما شيء من الحاجز. كان هناك أحد الدعاة المشهورين، وكان هناك رجل معين يتمنى -وهذا الرجل كنت على علاقة به- أن يمس يد هذا العالم بيده، ومرت الأيام، وكان رجلاً صاحب تجارة، المهم: توصل عن طريق أحد الناس من الوصول إلى هذا العالم في بيته، وأخذ معه بعض المواد الغذائية وذهب إليه، فلما رأى العالم هذا قال له: ما هذا؟ قال: لابد أن تقبل الهدية، لا تكسر خاطري. بعد ذلك أول ما يراه يسلم عليه، ويجلسه معه وغير ذلك ثم تكرر ذلك مرة ومرتين وثلاثاً، حتى صار هذا الرجل نديماً لهذا العالم في مجالسه. وهذا العالم كان رجلاً خفيف الظل، صاحب نكتة، ومجالسه لا تمل منها أبداً. فبدأ هذا الرجل يرى شيئاً آخر ما كان يتخيله، يعني بعض الناس سأل بعض علمائنا الكبار وهو الشيخ الألباني حفظه الله، قال له: أنت تضحك؟ وهل أولادك ممكن يتكلمون معك؟ تدرون لماذا سأل هذا السؤال؟ لأنه لم ير الشيخ إلا وهو يقرر المسائل، ويرد على المبتدعة، ولا يضحك إلا نادراً، لذلك سأل سؤالاً عجيباً. بعض الناس يتخيل أن العالم الذي شغل وقته بالعلم ونشره ليس عنده وقت أن يتبسط، بمعنى أن بعض الجلوس يتصور أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مثلاً، هذا الرجل الذي عقد لواء الحرب على كل المبتدعة، وغزاهم في عقر دارهم، وما خرج أبداً مهزوماً من غزوة، قد يتخيل أن هذا الرجل ليس عنده وقت للضحك، أو للمزاح، أو وقت للفكاهة مع أصحابه، لماذا؟ ألأجل الصرامة التي عهدتها من كتاباته، والمناظرات التي كان يعقدها للرد على المبتدعة وغيرهم؟! المقصود: أن بعض الناس يتخيل أن حياة العالم مختلفة؛ لأن بينه وبين هذا العالم حاجز.. فذلك الرجل استطاع أن يخترق هذا الحاجز، وبدأ يزول الحاجز، الجدار الذي كان ينبغي أن تضع عليه كل يوم لبنة، احذر أن يكون جدارك منخفضاً، أي: كن خدوماً، وانزل في وسط الناس لكن بحكمة. وصل الأمر في آخر المطاف أن هذا الرجل -الذي كان يتمنى أن يلمس يد هذا العالم- قام وعقد لواء الحرب على هذا العالم وفضحه بأشياء، مع أنها أشياء مباحة، وكانت مشكلة كبيرة. المقصود أن العالم ينبغي أن يكون كامل الحشمة، وذلك بأن يترفع عن كثير من المباحات، ولا شك أن ذلك سيكلفه كثيراً. فهذا الإمام البخاري رحمه الله كان لا يبيع ولا يشتري بنفسه، إنما يشتري له آخر، ويبيع له آخر. لماذا؟ لأن البيع والشراء فيه نوع من المساومات والمجادلات، فمثل هذه المساومات والمجادلات قد تضع من حشمة هذا العالم، وحتى يتقي أيضاً المظالم، فلا يظلم صاحب السلعة، وذلك بأن يكون أحسن لساناً منه فيأخذ السلعة بأقل، أو يأخذ من ربح البائع .. إلخ. ا.هـ من التفريغ هنـا استمتع بسماع التنبيه حول ( حشمة طالب العلم ) بأسلوب الشيخ الماتع .. من هنـا .