عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 01-29-2009, 08:34 PM
الوليد المصري الوليد المصري غير متواجد حالياً
مراقب عام
 




افتراضي

أولاً‏:

في كل عبادة عملية جانبان من الامتثال‏:‏

الجانب الأول هو الجانب الاعتقادي، والثاني هو التنفيذ أو الامتثال، ومثال ذلك القتال‏:‏ يجب اعتقاد فرضيته على كل مسلم، ثم يجب تنفيذه إذا تعين على كل فرد معين أو جماعة معينة وذلك بشروط معروفة في كتب الحديث والفقه‏.‏

ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من مات ولم يغز، أو يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من نفاق‏]‏ ‏(‏مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد‏)‏‏.‏

فتحديث النفس هو الجانب الاعتقادي ومعناه التهيئة النفسية اللازمة‏.‏ فيجب على كل مسلم اعتقاد وجوب القتال على مجموع الأمة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القتال وهو كره لكم‏}‏ الآية ‏(‏البقرة‏:‏216‏)‏ والقيام به عند تعيين ذلك‏.‏

وليس هذا في شأن القتال وحده بل في كل أمر واجب فإنه يجب على كل مسلم اعتقاد وجوبه أولاً ثم أداؤه عملياً إذا لم يحل بينه وببينه عذر أو ضرورة شرعية‏.‏

وهذا الجانب الاعتقادي نفيه ‏(‏كفر‏)‏ وهو ما يسميه العلماء ‏(‏الجحود‏)‏ يقولون‏:‏ من جحد وجوب الحج كفر‏.‏ أي من لم يؤمن أن الله فرض عليه الحج عند الاستطاعة فهو كافر‏.‏

ثانياً‏:‏

والجانب الثاني هو التنفيذ وهو أداء العمل ذاته، ويفرق العلماء بين ترك الجانب العملي ‏(‏التنفيذ‏)‏ كسلاً وبخلاً أو بعذر ما غير مقبول شرعاً كمن يترك الصوم تكاسلاً عن تحمل مشقته ويترك الحج بخلاً ويترك القتال في سبيل الله المفروض عليه خوفاً وجبناً، يفرقون بين هذا وبين ترك العمل الواجب جحوداً ونكراناً، فيعدون الأول عاصياً والثاني كافراً‏.‏

ولكن هناك عبادة واحدة فقط اختلف علماء المسلمين في تركها كسلاً، فقال قوم من أهل الحديث وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تاركها كسلاً كافر أيضاً للأحاديث المشهورة المعلومة في كفر تارك الصلاة كقوله ‏[‏العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر‏]‏ ‏(‏رواه الإمام أحمد وأهل السنن‏.‏ وقال الترمذي حديث صحيح إسناده، على شرط مسلم‏)‏ والحديث الآخر ‏[‏بين المرء وبين الكفر ترك الصلاة‏]‏ ‏(‏رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي‏)‏ ‏(‏وللآثار عن السلف‏)‏ كنا لا نعد عملاً من الأعمال تاركها متكاسلاً أو محتجاً بأعذار غير شرعية - وليس في ترك الصلاة كلية عذر شرعي يقولون عنه مسلم عاص، ولا فرق بين ترك الصلاة الواجبة وترك غيرها من الأعمال الواجبة، ويؤولون الأحاديث السالفة بأن المقصود تاركها جحوداً أو أنه كفر أقل من الكفر المخرج من ملة الإسلام فهو كفر معصية فقط‏.‏

والحق الذي لا غبار عليه في هذه المسألة -إن شاء الله- أن تاركها كلية لا يتصور أن يكون من جماعة المؤمنين وسيفهم هذا من يفهم معنى الإيمان السابق بشقيه وأنه عقيدة وعمل،

وقد ذكرت ما أورده العلامة ابن القيم رحمه الله في هذا الصدد، إذ كيف نعتبر مؤمناً بالله وبالجنة وبالنار من يسمع هذه القوارع تقرعه بالكفر والعذاب وهو لا يستجيب لذلك‏.‏ ويعتذر عن الامتثال بمجرد أنه كسلان يستحيل عقلاً أن يكون أمثال هؤلاء من المؤمنين‏.‏

هذا وبقية العلماء والأئمة لا يمانعون في كفر تارك الصلاة تبعاً للنص ولكنهم يأبون أن يسوى بالكفر مطلقاً الجاحد للتوحيد ويرون أيضاً أن كفره يستحق عليه دخول النار ولكنه لا يخلد فيهاً أبداً خلود الكافر‏.‏

وعلى كل حال فإن عامة الناس وجهالهم الذين تركوا الصلاة متكلين على مجرد الاعتقاد بوجوبها إن فحصوا إيمانهم واختبروه ورجعوا إلى أنفسهم علموا أنهم لا يملكون من الإيمان شيئاً، وأنهم مغرورون بأماني كاذبة تشبه أماني اليهود والنصارى في دخول الجنة بمجرد الانتساب إلى الدين، ويجعل عذاب الله -إن لحقهم، وهو فرض ضعيف عندهم- إنما هو لأيام معدودة فوالله ما أشبه هذا بقول الله تعالى عن اليهود، ‏{‏وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون‏} ‏(‏البقرة‏:‏80‏)‏‏.‏

وسيبقى الخلاف محصوراً -بشأن تارك الصلاة- في الخلود في النار أو عدمه، والمسلم الذي يعول على مثل ذلك ساقط ضعيف إذ دخول النار وحده كاف ولو لدقيقة من الزمن بل عذاب الموقف وحده وهو خمسين ألف سنة كأيام الدنيا شيء عظيم وحده يجب أن يفر المؤمن منه‏.

ولعل من أعظم أدلة كفر تارك الصلاة وبقائه في النار زماناً لا يعلمه إلا الله، هو أنه لم يرد له في الموقف عقوبة مطهرة كما جاء لتارك الزكاة مثلاً‏.‏

وخلاصة هذا الأمر أن العمل -بوجه عام- من لوازم الإيمان لأنه نصف معناه، ويجب اعتقاد وجوب العمل الواجب واستحباب المستحب، وتحريم الحرام وهكذا‏.‏‏.‏‏.‏ ثم فعل الواجب وترك الحرام، وقد اتفق العلماء على أنه لا يكفر من ترك عملاً من أعمال الإسلام إلا الصلاة، فقد قال يكفر بتركها كفراً مخرجاً من الملة الإمام أحمد ومن تابعه وطائفة أخرى من العلماء والسلف‏.‏

وبعد هذا البيان بشأن العمل الواجب سيكون الأمر واضحاً بشأن العمل المحرم، فاعتقاد تحريمه واجب ويكفر من اعتقد بحلية الخمر والزنا والسرقة والقتل وهكذا سائر المحرمات المعلومة والمنصوص عليها في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏
فمن أحل شيئاً من ذلك أو استحله لنفسه فهو كافر بإجماع المسلمين وليس لهذا مخالف، ولا شك أن المطالبة بتحليل ما حرم الله كفر مخرج من الملة لأنه في حقيقته محاربة لدين الله وحرب له، وتسفيه لقانون الله ونظامه وشريعته‏.‏

وهذا هو سر كفر مستحل الحرام إذ هو في حقيقته معترض على تشريع الله، والاعتراض لا يصدر إلا عن مستصغر لأمر الله وهذا فيه نسبة النقص إلى الله وهو الكفر‏.‏

ومن فهم هذا الأصل عرف لماذا طرد الله إبليس من رحمته ولعنه بمجرد أن قال لله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏أأسجد لمن خلقت طيناً‏}‏‏؟‏‏.‏‏.‏ ‏(‏الإسراء‏:‏61‏)‏ لأن في هذا القول استصغاراً لأمر الله‏.‏

واعتراضاً على حكمته فكل من قال وماذا في الخمر حتى يحرمها الله‏؟‏‏.‏‏.‏ أو قال‏:‏ إن الزنا عملية طبيعية لا دخل للأخلاق والدين والتقاليد فيها فهو كافر كفر إبليس عليه لعنة الله وغضبه‏.

وهذا الأمر نفسه ينصرف إلى من أمره الله بعمل واجب فقال لا أفعل ولا أذعن لأمر الله فما هذه الصلاة‏؟‏ وما الزكاة‏؟‏‏.‏‏.‏ بل إن مثال إبليس ألصق بها لأن إبليس كان مأموراً بواجب ولم يكن منهياً عن حرام‏.‏

والأمر أن مستويان، فإن حصل جحود الواجب وإنكاره فهو كفر، وإذا حصل فعل الحرام واستحلاله فهو كفر وليس لهذا الأمر مخالف في علماء المسلمين والحمد لله رب العالمين‏.‏

هذا ولم يختلف علماء المسلمين في عدم تخليد فاعل معصية في النار إلا في قتل النفس المؤمنة ولم يطلق أحد من العلماء الكفر على فاعل ذلك وقولهم بالخلود في النار إنما كان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏93‏)‏‏.‏
ولقد قال بعض علماء السلف بذلك والبعض يقول‏:‏ أنه خلود لا تأبيد معه أي مكث طويل يخرج بعده من النار جمعاً للآية والآيات الأخرى والأحاديث التي تبين أنه لا يخلد في النار إلا الكفار فقط، وأن من قال لا إله إلا الله فإنه تنفعه يوماً من عمره‏.‏

فإذا عرفنا أن الجانب الاعتقادي لازم لكل مسلم في مسائل العمل، وأعني بالجانب الاعتقادي ما أوضحته آنفاً وذلك كاعتقاد وجوب الصلاة، والزكاة والحج والقتال، وتحريم القتل إلا بالحق، والزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه ليس مسلماً من خالف هذا الاعتقاد‏.‏ بقي علينا أن نفهم كنه هذا الاعتقاد وأثره في النفس‏.‏

أما هذا الاعتقاد فمعناه بالنسبة للصلاة مثلاً‏:‏ أن يصدق بأن الله فرض عليه خمس صلوات في اليوم والليلة وأن لا يجحد ذلك لا بقلبه ولا بلسانه، فإن لم يصدق أو جحد فقد كفر وهذا أمر لا خلاف فيه بين علماء المسلمين والحمد لله رب العالمين‏.

فلنأت إلى أثر هذا في النفس إذا تصورنا مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويعتقد بوجوب خمس صلوات في اليوم والليلة، ويسمع الوعيد الشديد والتهديد العظيم على من فرط في ذلك‏.‏‏.‏ ألا يورث ذلك فيه سمعاً وطاعة، اللهم نعم‏.‏‏.‏

من قال بغير ذلك فقد أخطأ، هب أنه تكاسل وغلبته أهواؤه يوماً ألا يورث ذلك في قلبه حسرة وألماً، ألا يتحرك قلبه خوفاً أن يكون مشمولاً مع جملة المعذبين الذين توعدهم الله بترك الصلاة‏؟‏ اللهم نعم‏.‏‏.‏ فإن لم يتحرك قلبه حسرة ولا ندم ولا بخوف من عقوبة، فكيف يسمى هذا مؤمناً بالله‏؟‏‏؟‏‏.‏‏.‏ وهنا قد شهدنا له هذه الشهادة الجائرة وهو يصر على ترك الصلاة طيلة حياته حتى يلقى ربه الذي يؤمن به‏.‏‏.‏

فليراجع إيمانه رجل لا يؤدي الصلاة‏.‏ وليتق الله مؤمن يشهد بالإيمان لرجل يحكم رسول الله بكفره‏.‏ ويشهد الله بالعذاب له، ويشهد كل عقل سليم أنه لا يجتمع الإيمان بالله ومعصيته المطلقة في قلب رجل أبداً‏.‏

وهذا الجانب الاعتقادي سيكون واضحاً أيضاً إن شاء الله في شأن المعصية، فأول أمر يجب على المسلم تجاه المعصية أن يعتقد بحرمتها عليه‏.‏ فاعتقاد حرمة الزنا واجب ومن لم يصدق ربه في ذلك وكابره واستحل ما حرم فقد كفر‏.‏ وهذا التصديق يوجب الحذر والخوف من مقاربة الإثم وفعل المعصية، فإن غلبت الشهوة والطبيعة والهوى فسقط المؤمن وعصى، فلا نقول كفر وإنما عصى ولكن استحق العقاب وعرض نفسه لسخط الله فإن كان مؤمناً بذلك تألم وخاف‏.‏ فإن لم يحصل خوف ولا تألم، ولا تذكر بعقوبة الله فقد كفر، ويستحيل عقلاً أن تتصور مؤمناً يشرب الخمر أو يزني أو يفعل معصية ما تحت ظرف من الظروف ثم يمر الظرف، ويعود إلى الصواب والرشد، ولا يرد على قلبه سحابة من خوف الله ولا ألم مما جنت يداه، ولا خوف أن يسأل عن ذلك غداً أمام مالك يوم الدين‏.‏ بل يمر في معصيته غير عابيء بشيء، ولا مهتم لأمر‏.‏‏.‏ حاشا وكلا أن يكون هذا من جملة المؤمنين‏.‏

ولقد وصف الله الإنسان الكافر بهذا الوصف فقال‏:‏ ‏{‏لا أقسم بيوم القيامة *ولا أقسم بالنفس اللوامة *أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه‏؟‏ *بلى قادرين على أن نسوي بنانه *بل يريد الإنسان ليفجر أمامه *يسأل أيان يوم القيامة‏}‏ ‏(‏القيامة‏:‏1-6‏)‏‏.‏

فالإنسان الذي ‏{‏يفجر أمامه‏}‏ أي يلوي في فجوره غير عابيء بشيء هو المكذب بيوم القيامة ‏{‏يسأل أيان يوم القيامة‏}‏‏؟‏ أي يستبعد وقوع ذلك وما حمله على الانطلاق في المعصية إلا الكفر بيوم القيامة، فكيف يكون مؤمناً من ينطلق من معاصيه ولا يهتم يوماً ما بأنه مسؤول عما جنت يداه‏؟‏‏.‏‏.‏
ومع ذلك فلا نحكم بكفر على مرتكب المعصية ولا المداوم عليها، لأن الندم الذي نشترطه له حتى يكون مؤمناً لا يطلع عليه إلا عالم السرائر، ولكننا نقول لفاعل المعصية والمداوم عليها‏:‏ إن لم تندم على فعلتك ولم يتحرك قلبك خوفاً من جريمتك فراجع إيمانك، فإن كنت مؤمناً فلا بد أن تخاف العقوبة وإن كنت غير ذلك فلن تهتم لها ولن تأبه أخالفت أمر ربك أم لم تخالف‏.‏

هذا الذي قدمت هو مضمون الإيمان ولازمه، فالعمل من لوازم الإيمان وهذا قول عامة السلف لهذه الأمة وأما الذين قالوا ‏(‏لا يستلزم الإيمان العمل ولا يضر معه معصية‏)‏، فهم المرجئة الخلفيون الذين جعلوا الإيمان حقيقة مجردة لا واقع لها في الحياة ولا ظل له فيها، ولا أثر له في النفس، وقولهم ظاهر السقوط والبطلان فالفصل بين الإيمان بالله والانصياع لأمره والرضا بحكمه هو في حقيقته فصل بين متلازمين، وما أشبه قولهم بمن يقول‏:‏ ‏(‏الدين علاقة بين الإنسان وربه‏)‏ يريدون بذلك فصل الدين عن واقع الحياة وإصلاح النفوس وهذا القول نفسه هو قول القائل ‏(‏الدين لله والوطن للجميع‏)‏ يريدون بذلك ترك أمر تنظيم المجتمع حسب شريعة الله وعقيدة الإسلام‏.‏

أقول هذه الأقوال جميعها تجتمع عند غاية واحدة، وإن اختلف قائلوها شكلاً وموضوعاً وهي إفلات المجتمع وحياة الناس من عقيدة الإسلام وشريعته وهذا أمر خطير جداً‏.‏ فلينظر الداعون إلى الله أي منهج يسلكون‏؟‏ وأي عقيدة يحملون‏؟‏
ويبقى في هذا الفصل من هذه الرسالة الإجابة على هذا السؤال، وما مقدار العمل الواجب واللازم لإظهار حقيقة الإيمان‏؟‏

التعديل الأخير تم بواسطة الوليد المصري ; 01-29-2009 الساعة 08:38 PM
رد مع اقتباس