المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بيانات ورسائل في احكام اهل الذمة


احمد الانباري
12-02-2008, 12:46 AM
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام
على المبعوث رحمةً للعالمين وبعد
فهذه عدة مواد بخصوص مسألة اهل الذمة
لعدد من العلماء
جمعتها للفائدة اسأل الله العظيم ان يتقبل اعمالنا
خالصةً له
اولاً\ بيان مختصر عن احكام اهل الذمة
للشيخ(حامد بن عبدالله العلي)

السلام عليكم.
ليتك ياشيخنا تتفضل ببيان مختصر عن أهل الذمة، كيف يدخلون في الذمة؟ وما يترتب على ذلك؟ ونواقض الذمة؟ وما ترانا نحتاجه الآن مع أهمية هذا الموضوع.
كما أرجو أن تدلنا على كتاب ثقة نقرأ منه هذا الكلام بالتفصيل.
جزاك الله خيرا.

الجواب:

الحمد لله الذي فرض الجهاد على أمة الرشاد، والصلاة والسلام على المبعوث لحرب أهل الكفر والعناد.

أما بعد:

الكفر ملة واحدة، والكفار أنواع:

حربيون: وهو الأصل فيهم إذ أوجب الله تعالى الجهاد على الأمة حتى لايصير الناس إلا إلى مسلم أو مسالم بجزية بإجماع الفقهاء.

وأهل أمان: وهو للحربي إن دخل بلادنا بأمان لطارىء إذا أراد أن يسمع كلام الله أو كان لنا في دخوله مصلحة بشروط معروفة.

وأهل عهد وصلح: وهم الحربيون الذين اضطررنا لأن نصالحهم أثناء الحرب في مدة ويبطل الصلح بأمور أهمها أن يكون مؤبدا فهو باطل باتفاق العلماء وهي الاتفاقيات التابعة للأمم المتحدة الطاغوتية، وللدساتير الوضعية الطاغوتية، فإنها تقول: الحرب الهجومية محرمة، وهذا تبديل لكلام الله، وحكم بغير ما أنزل الله، مع أنهم يقولون هذا في حال يتخذ الكفار سياسة الحروب الإستباقية ويعلنونها على الملأ غير مبالين بالقوانين الطاغوتية الدولية، وإنما يحرمون على المسلمين الحرب الهجومية، لانهم ينظرون إليهم كالعبيد الذين يدفعون الجزية فلا يحل لهم حمل السلاح، وإن حملوه فلا يستعملونه، وإن استعملوه لايستعملونه إلا لقمع شعوبهم إن تاقت إلى الحرية!!

وأهل ذمة: وهم الذين يعيشون بيننا ويستوطنون بلادنا مقرين بجريان أحكام شريعتنا عليهم فإن كانت الأحكام قوانين وضعية طاغوتية فليس لهذا القسم مدخل أصلا فهؤلاء أهل ذمتنا بمعنى يجب علينا حمايتهم وعدم إكراههم على الدخول في ديننا، وإقرارهم على عقائدتهم وعباداتهم في دور العبادة، مقابل دفع الجزية والإلتزام بشروط عقد الذمة.

وقد ذكر الفقهاء أن أهل الذمة يمنعون من بناء الكنائس والبيع في البلاد التي أحدثها المسلمون، وأما ما دخلت في حكم المسلمين فيقرون على كنائسهم وبيعهم ولايحدثون جديدا، ثم قد اتفق الفقهاء انهم يمنعون من ركوب الخيل وحمل السلاح، حتى قالوا كالإمام النووي في "روضة الطالبين" - مثلا - : (فرع؛ لا يترك لذمي صدر الطريق بل يلجأ إلى أضيقه إذا كان المسلمون يطرقون فإن دخلت الطرق عن الزحمة فلا حرج وليكن الضيق بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه جدار ولا يوقر ولا يصدر في مجلس إذا كان فيه مسلمون ولا يجوز لمسلم أن يوادهم ولا أن يبدأ من لقيه منهم بسلام وإن بدأ الذمي به فلا يجيبه - ذكره البغوي -).

وليت شعري إن كان هذا في أهل ذمتنا المقرين بأحكامنا، الداخلين في نظام شريعتنا، فكيف بالذي يدخل بامان، فإنه باتفاق الفقهاء، لايحل له إظهار سلاح فضلا عن تعبئة أرض الإسلام بالقواعد العسكرية، واستعمالها في حروبه الكافرة ولا إظهار كفره، ولا أخذ متسع الطريق فضلا عن أخذ متسع البلاد وتسخير العباد في حروبه فهذا لايقول بصحة أمانه إلا أجهل من حمار أهله.

وهذه جملة مفيدة مما ذكره ابن القيم تبين فقه العلاقة بين المسلمين وغيرهم في حال عقد الذمة:

قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة: ("ولا نكتم غشأ للمسلمين"؛ هذا أعم من إيواء الجاسوس فمتى علموا أمرا فيه غش للإسلام والمسلمين وكتموه انتقض عهدهم وبذلك أفتينا ولي الأمر بانتقاض عهد النصارى لما سعوا في إحراق الجامع والمنارة وسوق السلاح ففعل بعضهم وعلم بعضهم وكتم ذلك ولم يطلع عليه ولي الأمر، وبهذا مضت سنة رسول الله في ناقضي العهد فإن بني قينقاع وبني النضير وقريظة لما حاربوه ونقضوا عهده عم الجميع).

وقال: (لما كان الصليب من شعائر الكفر الظاهرة كانوا ممنوعين من إظهاره قال أحمد في رواية حنبل ولا يرفعوا صليبا ولا يظهروا خنزيرا ولا يرفعوا نارا ولا يظهروا خمرا وعلى الإمام منعهم من ذلك.
وقال عبدالرزاق؛ حدثنا معمر عن عمرو بن ميمون بن مهران قال: كتب عمر بن عبدالعزيز؛ "أن يمنع النصارى في الشام أن يضربوا ناقوسا ولا يرفعوا صليبهم فوق كنائسهم فإن قدر على من فعل من ذلك شيئا بعد التقدم إليه فإن سلبه لمن وجده").

وقال: (فصل؛ "قولهم ولا نرغب في ديننا ولا ندعو إليه أحدا"؛ هذا من أولى الأشياء أن ينتقض العهد به فإنه حراب الله ورسوله باللسان وقد يكون أعظم من الحراب باليد كما أن الدعوة إلى الله ورسوله جهاد بالقلب وباللسان وقد يكون أفضل من الجهاد باليد).

وقال: ("فصل؛ قالوا ولا نتقلد السيوف"؛ يمنع أهل الذمة من تقلد السيوف لما بين كونهم أهل ذمة وكونهم يتقلدون السيوف من التضاد فإن السيوف عز لأهلها وسلطان وقد قال رسول الله بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم فبالسيف الناصر والكتاب الهادي عز الإسلام وظهر في مشارق الأرض ومغاربها، قال تعالى؛ {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد}، وهو قضيب الأدب وفي صفة رسول الله في الكتب المتقدمة بيده قضيب الأدب فبعث الله رسوله ليقهر به أعداءه ومن خالف أمره فالسيف من أعظم ما يعتمد في الحرب عليه ويرهب به العدو وبه ينصر الدين ويذل الله الكافرين والذمي ليس من أهل حمله والعز به. وكذلك يمنع أهل الذمة من اتخاذ السلاح وحملها على اختلاف أجناسها كالقوس والنشاب والرمح وما يبقى بأسه ولو مكنوا من هذا لأفضى إلى اجتماعهم على قتال المسلمين وحرابهم) اهـ

وليت شعري إذا كان هذا كله في أهل الذمة، فكيف بمن يُزعم أنهم أدخلوا بلاد المسلمين بأمان شرعي! وقد نبذوا الشرع وراء ظهورهم، لما اتخذوا الطواغيت أندادا يتحكامون إليهم من دون الله، ثم لما جلبوا الكفار لبلاد المسلمين، قالوا جاؤوا بشريعة الله، عجبا!! الان تذكرتم شريعة الله!!

وكيف يصح في شريعة الله تعالى النازلة بإظهار التوحيد بسلطان الحجة، وقوة الحديد، أن تأذن هذه الشريعة بتحويل بلاد المسلمين إلى مرتع لخطط الصهيوصليبية، تملؤها جيوشهم، وتعيث فيها فسادا، وتنطلق منها لحرب الإسلام، وتقتل المجاهدين، وتروع الآمنين،وتسفك دماء المؤمنين، وتشهر سلاحا لاقبل للمسلمين به، وتعلن أنها تبتغي إعلاء كلمة الطاغوت، وتنصب عبيدها من عبدة الطاغوت، ليمرروا مخططاتها الكافرة الخبيثة في ديار الإسلام، كيف يصح أن يكون حكم الشريعة جواز ذلك كله، ألا إن من يفتري هذه الفرية، هو الكاذب على الله ورسوله، المفتري على دينه، الملعون بنص القرآن، المفسد لعقد الإيمان، نسأل الله تعالى العافية والثبات اللهم يامقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك آمين.

وخير كتاب في هذا الباب، كتاب ابن القيم؛ "أحكام أهل الذمة".

والله أعلم

[30-06-2004]
ثانياً \هل يجوز تسمية الكنائس بـ "بيوت الله"، وهل تجوز الصلاة فيها؟
للشيخ العلامة(ابن تيمية)
هل الصلاة في البيع والكنائس جائزة مع وجود الصور أم لا؟ وهل يقال إنها "بيوت الله" أم لا؟

* * *
الجواب:

ليست بيوت الله، وإنما بيوت الله المساجد.

بل هي بيوت يكفر فيها بالله، وإن كان قد يُذكر فيها، فالبيوت بمنزلة أهلها، وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفار.

وأما الصلاة فيها:

ففيها ثلاثة أقوال للعلماء في مذهب أحمد وغيره.

المنع مطلقا وهو قول مالك.

والإذن مطلقا وهو قول بعض أصحاب أحمد.

والثالث - وهو الصحيح المأثور عن عمر بن الخطاب وغيره، وهو منصوص عن أحمد وغيره -؛ أنه إن كان فيها صور لم يصل فيها.

لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة حتى محي ما فيها من الصور.

وكذلك قال عمر : (إنا كنا لا ندخل كنائسهم والصور فيها).

وهي بمنزلة المسجد المبني على القبر، ففي الصحيحين أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الحسن والتصاوير، فقال : (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة).

وأما إذا لم يكن فيها صور؛ فقد صلى الصحابة في الكنيسة.

والله أعلم

[الفتاوى الكبرى: ج1/ص110]
ثالثاً\حكم هدم الكنائس
(لابن تيمية)رحمه الله


ما تقول السادة العلماء أئمة الدين؛ في الكنائس التي بالقاهرة وغيرها، التي أغلقت بأمر ولاة الأمور، إذا ادعى أهل الذمة أنها أغلقت ظلما وأنهم يستحقون فتحها، وطلبوا ذلك من ولي الأمر - أيده الله تعالى ونصره - فهل تقبل دعواهم؟ وهل تجب إجابتهم أم لا؟

وإذا قالوا: إن هذه الكنائس كانت قديمة من زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من خلفاء المسلمين، وأنهم يطلبون أنهم يقرون على ما كانوا عليه في زمن عمر وغيره، وأن إغلاقها مخالف لحكم الخلفاء الراشدين، فهل هذا القول مقبول منهم أو مردود؟

وإذا ذهب أهل الذمة إلى من يقدم من بلاد الحرب من رسول أو غيره، فسألوه أن يسأل ولي الأمر في فتحها أو كاتبوا ملوك الحرب ليطلبوا ذلك من ولي أمر المسلمين؛ فهل لأهل الذمة ذلك؟ وهل ينتقض عهدهم بذلك أم لا؟

وإذا قال قائل: أنهم إن لم يجابوا إلى ذلك حصل للمسلمين ضرر - إما بالعدوان على من عندهم من الأسرى والمساجد، وإما بقطع متاجرهم عن ديار الإسلام، وإما بترك معاونتهم لولي أمر المسلمين على ما يعتمده من مصالح المسلمين، ونحو ذلك - فهل هذا القول صواب أو خطأ؟ بينوا ذلك مبسوطا مشروحا.

وإذا كان في فتحها تغير قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وحصول الفتنة والفرقة بينهم، وتغير قلوب أهل الصلاح والدين وعموم الجند والمسلمين على ولاة الأمور، لأجل إظهار شعائر الكفر وظهور عزهم وفرحهم وسرورهم بما يظهرونه وقت فتح الكنائس، من الشموع والجموع والأفراح وغير ذلك، وهذا فيه تغير قلوب المسلمين من الصالحين وغيرهم، حتى إنهم يدعون الله تعالى على من تسبب في ذلك وأعان عليه، فهل لأحد أن يشير على ولي الأمر بذلك؟ ومن أشار عليه بذلك هل يكون ناصحا لولي أمر المسلمين أم غاشا؟ وأي الطرق هو الأفضل لولي الأمر - أيده الله تعالى - إذا سلكه نصره الله تعالى على أعدائه.

بينوا لنا ذلك وأبسطوه بسطا شافيا، مثابين، مأجورين - إن شاء الله تعالى -

وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين
وعلى آله وصحبه أجمعين ورضي الله عن الصحابة المكرمين
وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين

* * *
الجواب:

الحمد لله رب العالمين.

أما دعواهم أن المسلمين ظلموهم في إغلاقها؛

فهذا كذب، مخالف لإجماع المسلمين.

فإن علماء المسلمين من أهل المذاهب الأربعة - مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - وغيرهم من الأئمة، كسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم، ومن قبلهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين؛ متفقون على أن الإمام لو هدم كل كنيسة بأرض العنوة - كأرض مصر والسواد بالعراق وبر الشام ونحو ذلك - مجتهدا في ذلك، ومتبعا في ذلك لمن يرى ذلك، لم يكن ذلك ظلما منه، بل تجب طاعته في ذلك ومساعدته في ذلك ممن يرى ذلك.

وإن امتنعوا عن حكم المسلمين لهم؛ كانوا ناقضين العهد، وحلت بذلك دماؤهم وأموالهم.

وأما قولهم: إن هذه الكنائس قائمة من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأن الخلفاء الراشدين أقروهم عليها؛

فهذا أيضا من الكذب.

فإن من العلم المتواتر؛ أن القاهرة بنيت بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأكثر من ثلاثمائة سنة، بنيت بعد بغداد وبعد البصرة والكوفة وواسط.

وقد اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن؛ لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة، مثل ما فتحه المسلمون صلحا وأبقوا لهم كنائسهم القديمة، بعد أن شرط عليهم فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يحدثوا كنيسة في أرض الصلح، فكيف في مدائن المسلمين.

بل إذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة - كالعراق ومصر ونحو ذلك - فبنى المسلمون مدينة عليها، فإن لهم أخذ تلك الكنيسة، لئلا تترك في مدائن المسلمين كنيسة بغير عهد.

فإن في سنن أبي داود بإسناد جيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تصلح قبلتان بأرض، ولا جزية على مسلم).

والمدينة التي يسكنها المسلمون والقرية التي يسكنها المسلمون وفيها مساجد المسلمين؛ لا يجوز أن يظهر فيها شيء من شعائر الكفر - لا كنائس ولا غيرها - إلا أن يكون لهم عهد فيوفى لهم بعهدهم.

فلو كان بأرض القاهرة ونحوها كنيسة قبل بنائها؛ لكان للمسلمين أخذها، لأن الأرض عنوة، فكيف وهذه الكنائس محدثة، أحدثها النصارى.

فإن القاهرة بقي ولاة أمورها نحو مائتي سنة على غير شريعة الإسلام، وكانوا يظهرون أنهم رافضة، وهم في الباطن إسماعيلية ونصيرية وقرامطة باطنية.

كما قال فيهم الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم: (ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض).

واتفق طوائف المسلمين - علماؤهم وملوكهم وعامتهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم -؛ على أنهم كانوا خارجين عن شريعة الإسلام، وأن قتالهم كان جائزا، بل نصوا على أن نسبهم كان باطلا، وأن جدهم كان عبيد الله بن ميمون القداح لم يكن من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصنف العلماء في ذلك مصنفات، وشهد بذلك مثل الشيخ أبي الحسن القدوري إمام الحنفية، والشيخ أبي حامد الإسفرائيني إمام الشافعية، ومثل القاضي أبي يعلى إمام الحنبلية، ومثل أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية.

وصنف القاضي أبو بكر ابن الطيب فيهم كتابا في كشف أسرارهم، وسماه "كشف الأسرار وهتك الأستار" في مذهب القرامطة الباطنية، والذين يوجدون في بلاد الإسلام من الإسماعيلية والنصيرية والدرزية وأمثالهم من أتباعهم، وهم الذين أعانوا التتار على قتال المسلمين، وكان وزير هولاكو "النصير الطوسي" من أئمتهم، وهؤلاء أعظم الناس عداوة للمسلمين وملوكهم، ثم الرافضة بعدهم.

فالرافضة يوالون من حارب أهل السنة والجماعة ويوالون التتار ويوالون النصارى، وقد كان بالساحل بين الرافضة وبين الفرنج مهادنة، حتى صارت الرافضة تحمل إلى قبرص خيل المسلمين وسلاحهم وغلمان السلطان وغيرهم من الجند والصبيان، وإذا انتصر المسلمون على التتار؛ أقاموا المآتم والحزن، وإذا انتصر التتار على المسلمين؛ أقاموا الفرح والسرور، وهم الذين أشاروا على التتار بقتل الخليفة وقتل أهل بغداد، ووزير بغداد - ابن العلقمي الرافضي - هو الذي خامر على المسلمين وكاتب التتار حتى أدخلهم أرض العراق بالمكر والخديعة، ونهى الناس عن قتالهم، وقد عرف العارفون بالإسلام؛ أن الرافضة تميل مع أعداء الدين.

ولما كانوا ملوك القاهرة؛ كان وزيرهم مرة يهوديا، ومرة نصرانيا أرمينيا، وقويت النصارى بسبب ذلك النصراني الأرميني، وبنوا كنائس كثيرة بأرض مصر في دولة أولئك الرافضة المنافقين، وكانوا ينادون بين القصرين: (من لعن وسب فله دينار وإردب).

وفي أيامهم أخذت النصارى ساحل الشام من المسلمين، حتى فتحه نور الدين وصلاح الدين، وفي أيامهم جاءت الفرنج إلى "بلبيس" وغلبوا من الفرنج، فإنهم منافقون وأعانهم النصارى، والله لا ينصر المنافقين الذين هم يوالون النصارى، فبعثوا إلى نور الدين يطلبون النجدة؛ فأمدهم بأسد الدين وابن أخيه صلاح الدين، فلما جاءت الغزاة المجاهدون إلى ديار مصر قامت الرافضة مع النصارى فطلبوا قتال الغزاة المجاهدين المسلمين، وجرت فصول يعرفها الناس، حتى قتل صلاح الدين مقدمهم شاور.

ومن حينئذ؛ ظهرت بهذه البلاد كلمة الإسلام والسنة والجماعة، وصار يقرأ فيها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - كالبخاري ومسلم ونحو ذلك - ويذكر فيها مذاهب الأئمة ويترضى فيها عن الخلفاء الراشدين، وإلا كانوا قبل ذلك من شر الخلق، فيهم قوم يعبدون الكواكب ويرصدونها، وفيهم قوم زنادقة دهرية لا يؤمنون بالآخرة ولا جنة ولا نار، ولا يعتقدون وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وخير من كان فيهم الرافضة، والرافضة شر الطوائف المنتسبين إلى القبلة.

فبهذا السبب وأمثاله كان إحداث الكنائس في القاهرة وغيرها.

وقد كان في بر مصر كنائس قديمة، لكن تلك الكنائس أقرهم المسلمون عليها حين فتحوا البلاد، لأن الفلاحين كانوا كلهم نصارى ولم يكونوا مسلمين، وإنما كان المسلمون الجند خاصة، وأقروهم.

كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود على خيبر لما فتحها، لأن اليهود كانوا فلاحين وكان المسلمون مشتغلين بالجهاد، ثم إنه بعد ذلك - في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه - لما كثر المسلمون واستغنوا عن اليهود؛ أجلاهم أمير المؤمنين عن خيبر، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، حتى لم يبق في خيبر يهودي.

وهكذا القرية التي يكون أهلها نصارى وليس عندهم مسلمون ولا مسجد للمسلمين، فإذا أقرهم المسلمون على كنائسهم التي فيها؛ جاز ذلك، كما فعله المسلمون، وأما إذا سكنها المسلمون وبنوا بها مساجدهم؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلح قبلتان بأرض)، وفي أثر آخر: (لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب).

والمسلمون قد كثروا بالديار المصرية، وعمرت في هذه الأوقات حتى صار أهلها بقدر ما كانوا في زمن صلاح الدين مرات متعددة.

وصلاح الدين وأهل بيته؛ ما كانوا يوالون النصارى، ولم يكونوا يستعملون منهم أحدا في شيء من أمور المسلمين أصلا، ولهذا كانوا مؤيدين منصورين على الأعداء، مع قلة المال والعدد، وإنما قويت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل - أخي صلاح الدين - حتى إن بعض الملوك أعطاهم بعض مدائن المسلمين، وحدث حوادث بسبب التفريط فيما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}، وقال الله تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}.

فكان ولاة الأمور الذين يهدمون كنائسهم ويقيمون أمر الله فيهم - كعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد ونحوهما -؛ مؤيدين منصورين، وكان الذين هم بخلاف ذلك؛ مغلوبين مقهورين.

وإنما كثرت الفتن بين المسلمين وتفرقوا على ملوكهم من حين دخل النصارى مع ولاة الأمور بالديار المصرية - في دولة المعز ووزارة الفائز وتفرق البحرية وغير ذلك - والله تعالى يقول في كتابه: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون}، وقال تعالى في كتابه: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة).

وكل من عرف سير الناس وملوكهم؛ رأى كل من كان أنصر لدين الإسلام وأعظم جهادا لأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله؛ أعظم نصرة وطاعة وحرمة - من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإلى الآن -

وقد أخذ المسلمون منهم كنائس كثيرة من أرض العنوة بعد أن أقروا عليها في خلافة عمر بن عبد العزيز وغيره من الخلفاء، وليس في المسلمين من أنكر ذلك، فعلم أن هدم كنائس العنوة؛ جائز، إذا لم يكن فيه ضرر على المسلمين.

فإعراض من أعرض عنهم؛ كان لقلة المسلمين ونحو ذلك من الأسباب، كما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن إجلاء اليهود حتى أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وليس لأحد من أهل الذمة أن يكاتبوا أهل دينهم من أهل الحرب، ولا يخبروهم بشيء من أخبار المسلمين، ولا يطلب من رسولهم أن يكلف ولي أمر المسلمين ما فيه ضرر على المسلمين:

ومن فعل ذلك منهم وجبت عقوبته باتفاق المسلمين، وفي أحد القولين؛ يكون قد نقض عهده وحل دمه وماله.

ومن قال؛ إن المسلمين يحصل لهم ضرر، إن لم يجابوا إلى ذلك؛

لم يكن عارفا بحقيقة الحال.

فإن المسلمين قد فتحوا ساحل الشام؛ وكان ذلك أعظم المصائب عليهم، وقد ألزموهم بلبس الغيار؛ وكان ذلك من أعظم المصائب عليهم.

بل التتار في بلادهم خربوا جميع كنائسهم، وكان "نوروز" رحمه الله تعالى قد ألزموهم بلبس الغيار وضرب الجزية والصغار، فكان ذلك من أعظم المصائب عليهم، ومع هذا لم يدخل على المسلمين بذلك إلا كل خير، فإن المسلمين مستغنون عنهم، وهم إلى ما في بلاد المسلمين أحوج من المسلمين إلى ما في بلادهم، بل مصلحة دينهم ودنياهم لا تقوم إلا بما في بلاد المسلمين، والمسلمون - ولله الحمد والمنة - أغنياء عنهم في دينهم ودنياهم.

فأما نصارى الأندلس؛ فهم لا يتركون المسلمين في بلادهم لحاجتهم إليهم، وإنما يتركونهم خوفا من التتار، فإن المسلمين عند التتار أعز من النصارى وأكرم، ولو قدر أنهم قادرون على من عندهم من المسلمين؛ فالمسلمون أقدر على من عندهم من النصارى.

والنصارى الذين في ذمة المسلمين؛ فيهم من البتاركة وغيرهم من علماء النصارى ورهبانهم ممن يحتاج إليهم أولئك النصارى، وليس عند النصارى مسلم يحتاج إليه المسلمون - ولله الحمد -

مع أن فكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات.

وكل مسلم يعلم أنهم لا يتجرون إلى بلاد المسلمين إلا لأغراضهم، لا لنفع المسلمين، ولو منعهم ملوكهم من ذلك لكان حرصهم على المال يمنعهم من الطاعة، فإنهم أرغب الناس في المال، ولهذا يتقامرون في الكنائس، وهم طوائف مختلفون وكل طائفة تضاد الأخرى.

ولا يشير على ولي أمر المسلمين بما فيه إظهار شعائرهم في بلاد الإسلام أو تقوية أمرهم - بوجه من الوجوه - إلا رجل منافق:

يظهر الإسلام، وهو منهم في الباطن، أو رجل له غرض فاسد - مثل أن يكونوا برطلوه ودخلوا عليه برغبة أو رهبة - أو رجل جاهل في غاية الجهل، لا يعرف السياسة الشرعية الإلهية التي تنصر سلطان المسلمين على أعدائه وأعداء الدين.

وإلا فمن كان عارفا ناصحا له؛ أشار عليه بما يوجب نصره وثباته وتأييده واجتماع قلوب المسلمين عليه ومحبتهم له ودعاء الناس له في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا كله إنما يكون بإعزاز دين الله وإظهار كلمة الله وإذلال أعداء الله تعالى.

وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل، كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء، لما قاموا من ذلك بما قاموا به.

وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله تعالى وكبته.

وليس المسلمون محتاجين إليهم - ولله الحمد -

فقد كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به)، فكتب إليه: (لا تستعمله)، فكتب: (إنه لا غنى بنا عنه)، فكتب إليه عمر: (لا تستعمله)، فكتب إليه: (إذا لم نوله ضاع المال)، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: (مات النصراني، والسلام).

وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن مشركا لحقه ليقاتل معه، فقال له: (إني لا أستعين بمشرك).

وكما أن استخدام الجند المجاهدين إنما يصلح إذا كانوا مسلمين مؤمنين، فكذلك الذين يعاونون الجند في أموالهم وأعمالهم؛ إنما تصلح بهم أحوالهم إذا كانوا مسلمين مؤمنين، وفي المسلمين كفاية في جميع مصالحهم - ولله الحمد -

ودخل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعرض عليه حساب العراق، فأعجبه ذلك، وقال: (ادع كاتبك، يقرؤه علي)، فقال: (إنه لا يدخل المسجد)، قال: (ولم؟!)، قال: (لأنه نصراني)، فضربه عمر رضي الله عنه بالدرة، فلو أصابته لأوجعته، ثم قال: (لا تعزوهم بعد أن أذلهم الله، ولا تأمنوهم بعد أن خونهم الله، ولا تصدقوهم بعد أن أكذبهم الله).

والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها؛ قلوبهم واحدة، موالية لله ولرسوله ولعباده المؤمنين، معادية لأعداء الله ورسوله وأعداء عباده المؤمنين، وقلوبهم الصادقة وأدعيتهم الصالحة هي العسكر الذي لا يغلب، والجند الذي لا يخذل، فإنهم هم الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة - كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون * ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}.

وهذه الآيات العزيزة فيها عبرة لأولي الألباب، فإن الله تعالى أنزلها بسبب أنه كان بالمدينة النبوية من أهل الذمة من كان له عز ومنعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أقوام من المسلمين عندهم ضعف يقين وإيمان، وفيهم منافقون يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر - مثل عبد الله بن أبي رأس المنافقين وأمثاله - وكانوا يخافون أن تكون للكفار دولة، فكانوا يوالونهم ويباطنونهم، قال الله تعالى: {فترى الذين في قلوبهم مرض}؛ أي نفاق وضعف إيمان، {يسارعون فيهم}؛ أي في معاونتهم، {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}، فقال الله تعالى: {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا}؛ أي هؤلاء المنافقون الذين يوالون أهل الذمة، {على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين}.

فقد عرف أهل الخبرة؛ أن أهل الذمة من اليهود والنصارى والمنافقين يكاتبون أهل دينهم بأخبار المسلمين وبما يطلعون على ذلك من أسرارهم، حتى أخذ جماعة من المسلمين في بلاد التتار وسبي وغير ذلك؛ بمطالعة أهل الذمة لأهل دينهم.

ومن الأبيات المشهورة قول بعضهم:

كل العداوات قد ترجى مودتها http://www.tawhed.ws/styles/default/images/star.gifإلا عداوة من عاداك في الدين

ولهذا وغيره؛ منعوا أن يكونوا على ولاية المسلمين، أو على مصلحة من يقويهم أو يفضل عليهم في الخبرة والأمانة من المسلمين، بل استعمال من هو دونهم في الكفاية؛ أنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم، والقليل من الحلال يبارك فيه، والحرام الكثير يذهب ويمحقه الله تعالى.

والله أعلم
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
مجموع الفتاوى: ج28/ص344 - 35




رابعاً\حكم تعمير الكنائس القديمة بأرض العنوة
(لابن تيمية)رحمه الله


سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية؛ عن نصراني قسيس، بجانب داره ساحة بها كنيسة خراب لا سقف لها، ولم يعلم أحد من المسلمين وقت خرابها، فاشترى القسيس الساحة وعمرها، وأدخل الكنيسة في العمارة، وأصلح حيطانها وعمرها، وبقي يجمع النصارى فيها، وأظهروا شعارهم.

وطلبه بعض الحكام؛ فتقوى واعتضد ببعض الأعراب، وأظهر الشر.

* * *
الجواب:

ليس له أن يحدث ما ذكره من الكنيسة، وإن كان هناك آثار كنيسة قديمة ببر الشام.

فإن بر الشام؛ فتحه المسلمون عنوة، وملكوا تلك الكنائس، وجاز لهم تخريبها باتفاق العلماء، وإنما تنازعوا؛ في وجوب تخريبها.

وليس لأحد أن يعاونه على إحداث ذلك، ويجب عقوبة من أعانه على ذلك.

وأما المحدث لذلك من أهل الذمة؛ فإنه - في أحد قولي العلماء - ينتقض عهده ويباح دمه وماله، لأنه خالف الشروط التي شرطها عليهم المسلمون، وشرطوا عليهم أن من نقضها فقد حل لهم منها ما يباح من أهل الحرب.

والله أعلم

مجموع الفتاوى: ج28/ ص352

خامساً\هل يجوز هدم الكنائس القديمة لمصلحة المسلمين؟
(لابن تيمية)رحمه الله


سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية؛ عن مسجد، مجاور كنيسة مغلقة، خراب، سقط بعض جدرانها على باب المسجد وعلى رحابه التي يتوصل منها، وزال بعض الجدار الذي انهدم وسقط على جدار المسجد، ويخاف على المسلمين من وقعها ومن يصلي بالمسجد، وإذا آلت كلها للخراب هل تهدم؟

* * *
الجواب:

نعم، إذا خيف تضرر المسجد وإيذاء المصلين فيه؛ وجب إزالة ما يخاف من الضرر على المسجد وأهله.

وإذا لم يزل إلا بالهدم؛ هدمت.

بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا قبلتان بأرض، ولا جزية على مسلم).

وإذا كانت هذه في أرض فتحت عنوة؛ وجب أن تزال، ولا تترك مجاورة.

والله أعلم

مجموع الفتاوى: ج13/ص143

سادساً\الوجيز
في
أحكام أهل الذمة


للكاتب(وسيم محمود فتح الله)

مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديه وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وبعد
فلقد عزمت أن أتناول في هذا البحث جملة من أحكام أهل الذمة، حيث إن هذه الأحكام أصبحت غائبة عن سياق الواقع فوجدت من الضرورة بمكان أن يتعرف المسلم على هذه الأحكام ليستشعر واقع التقصير والعجز في مجتمعاتنا اليوم وليشحذ همته في استعادة ما درس من آثار الإسلام في حياتنا اليوم، هذا بالإضافة إلى أن من الناس اليوم من يقوم بلبس الحق بالباطل وذلك باستعمال مصطلحات وأسماء شرعية وتنزيلها على غير مقصود الشرع منها إيهاماً للناس وتلبيساً عليهم بأن هذا من الشرع والدين، فكان من المهم أن نحرر هذه المسميات الشرعية حتى نعلق الآثار الشرعية لها بمدلولها الصحيح.
ولقد جاء البحث في ثلاثة مباحث تناولت في الأول منها عقد الذمة وتعريفه وأركانه، وتناولت في المبحث الثاني واجبات وحقوق أهل الذمة وأحكام تعامل المسلمين معهم، وفي الثالث تعرضت لذكر نواقض عقد الذمة وذيلت بالخاتمة.
والله أسأل التوفيق والسداد فيما كتبت وأن يوفقنا للعمل بما علمنا كيما نورث علم ما لم نعلم، وأسأله تعالى أن يعفو عما زل به القلم إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.







المبحث الأول
عقد الذمة
إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا بد لنا قبل الخوض في تفصيل أحكام أهل الذمة من أن نعرف المقصود بأهل الذمة ونلم بالغاية من تمييز هذا الصنف من الكفار بأحكام ومعاملات خاصة، وفيما يلي بيان ذلك بعون الله وتوفيقه.
المطلب الأول: تعريف عقد الذمة:
العقد لغةً من عَقَدَ الحبل والبيع والعهد يعقده: شدَّه، والعقد الضمان، واصطلاحاً: ربط أجزاء التصرف بالإيجاب والقبول شرعاً، والذمة لغة بكسر الذال المعجمة العهد والكفالة، وأذمَّ فلاناً أجاره، وهو أهل لكذا أي مستوجب له، وقال الجرجاني: الذمة لغة العهد لأن نقضه يوجب الذم، وأما في الاصطلاح فعقد الذمة: (التزام تقرير الكفار في ديارنا وحمايتهم والدفاع عنهم ببذل الجزية والاستسلام من جهتهم)، أو (إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة)، وأما الجزية فقد عرفها ابن قدامة فقال: (وهي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام)، والأصل في كل ما تقدم قوله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"، وفي الحديث الصحيح جواب المغيرة لعامل كسرى وفيه: " فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية"، وحكى ابن قدامة رحمه الله تعالى الإجماع على جواز أخذ الجزية في الجملة.
وإذا تمحض أن الجزية عقد وجب النظر فيه من جهة أركانه وشروطه وآثاره المترتبة عليه ونحوه، ولسوف أبين القدر اللازم من ذلك كله مما له علاقة ببحثنا حتى يكتمل تصور أهل الذمة فنفرع عليه أحكامهم.
أولاً: من يجوز له عقد الذمة:
لقد تقدمت معنا آية الجزية وفيها ذكر أهل الكتاب، كما تقدم حديث المغيرة وهو يخاطب عامل كسرى وهم من المجوس، قال ابن حجر رحمه الله: "وفيه إخبار المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال المجوس حتى يؤدوا الجزية"، وفي الباب: " ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هَجَر)"، ولقد نقل ابن رشد رحمه الله الإجماع على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب العجم وكذلك المجوس، وقال ابن قدامة رحمه الله: "ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو نصراني أو مجوسي إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه"، وكذا حكى الإمام ابن قيم الجوزية اتفاق الفقهاء على أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس وذكر اختلافهم في أخذها ممن سواهم من الكفار على قولين أحدهما الجواز لظاهر حديث بريدة عن أبيه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه..." وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "... فإن هم أبوا [ أي الإسلام] فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.." قال الإمام النووي: " هذا مما يستدل به مالك والأوزاعي وموافقوهما في جواز أخذ الجزية من كل كافر عربياً كان أو عجمياً، كتابياً أو مجوسياً أو غيرهما"، واستثنى أبوحنيفة عبدة الأوثان من العرب، والثاني من الأقوال هو اختصاص أخذ الجزية بأهل الكتاب والمجوس ومن في حكمهم وهو قول الشافعي رحمه الله وأبو ثور،وحكى هذه الأقوال ابن رشد في بداية المجتهد، قلت: والراجح والله أعلم أن الجزية تقتصر على أهل الكتاب والمجوس والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد توقف في أخذ الجزية من المجوس حتى سمع حديث عبد الرحمن بن عوف فلو كان المفهوم من ظاهر حديث بريدة جواز أخذ الجزية من عموم الكفار لما توقف رضي الله عنه في أخذ الجزية من المجوس لأنهم داخلون في عموم الكفار، فدل توقفه رضي الله عنه في ذلك على أن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا تخصيص آية الجزية لعموم الكفار، وأن ما سوى أهل الكتاب والمجوس يبقون على الأصل من الخيار بين الإسلام والقتال كما شهدت بذلك نصوص القرآن والسنة، والله تعالى أعلم. ثم إن نصوص الشريعة دالة على تخصيص أهل الكتاب بجملة من الأحكام، كما أن لتخصيص أهل الكتاب بالجزية حكمة في إبقاء حجة الله على عباده من جهة شهادة القوم على إرسال الله الرسل حيث قال الله تعالى: " وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، ولقد نبه على ذلك ابن قيم الجوزية وتكلم كلاماً نفيساً ذكر فيه أن (..هذه الحكمة تختص بأهل الكتاب دون عبدة الأوثان فبقاؤهم من أقوى الحجج على منكر النبوات والمعاد والتوحيد)... (وهذه الحكمة منتفية في حق غيرهم فيجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله).
ثانياً: من يحق له إبرام عقد الذمة:
اتفق الفقهاء على أن عقد الذمة لا ينعقد إلا من قبل الإمام أو من ينوب عنه، (لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة، ولأن عقد الذمة عقد مؤبد فلم يجز أن يفتأت به على الإمام) وحكى ابن قدامة عدم علمه بالخلاف في ذلك، وكذا قال الإمام الحجاوي: "ولا يعقدها إلا إمام أو نائبه"، قلت: وفي حديث بريدة عند مسلم وحديث المغيرة عند البخاري وقد تقدم كلاهما ما يشير إلى ذلك حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمراء الجيش بعرض الجزية وعقدها ولم يجعله أمراً عاماً لكل أحد من المسلمين خلافاً للأمان الذي يعطيه أفراد المسلمين لأفراد الكفار، والفرق واضح بين الحالتين كما تقدم من جهة المصلحة العامة والمصلحة الخاصة والله تعالى أعلم.
ثالثاً: صيغة العقد:
وصيغة عقد الذمة (إما لفظ صريح يدل عليه مثل لفظ العهد والعقد على أسس معينة، وإما فعل يدل على قبول الجزية)، والأول ظاهر فيمن عقد له الإمام أو نائبه الذمة بالحرب، ومثال الثاني من يبلغ من صبيان أهل الذمة في دار الإسلام فتضرب عليه الجزية بالفعل.
وعقد الذمة عقد مؤبد، ويشترط لصحته شرطان هما:
التزام أهل الذمة إعطاء الجزية عن من تجب عليه في كل حول (وهو كل ذكر بالغ عاقل حر مستطيع على تفصيل بين أهل العلم)
التزامهم أحكام الإسلام وذلك بقبول ما يحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم.
المطلب الثاني: ما يترتب على عقد الذمة:
عقد الذمة من العقود اللازمة للطرفين بحيث تترتب على كل طرف من أطراف العقد جملة من الالتزامات وهي:
أولاً: التزامات الإمام:
فإنه يلتزم باعطائهم الأمان ما داموا ملتزمين بما عليهم، ودليل ذلك من الكتاب آية الجزية المتقدمة حيث قال تعالى: " حتى يعطوا الجزية " فجعل غاية قتالهم إذعانهم بالجزية، وكذلك من السنة حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من قتل معاهداً لم يرُح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً" قال ابن حجر رحمه الله: وفي لفظ النسائي من طريقه (من قتل قتيلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة) فقال من أهل الذمة ولم يقل معاهداً وهو بالمعنى"، وقال ابن قدامة: " وإذا عقد الذمة [أي الإمام] فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة لأنه التزم بالعهد حفظهم"، وهذا مما اتفق عليه الفقهاء في الجملة.
ثانياً: أهل الذمة:
فيلتزمون بأحكام الإسلام فيهم وبما اتفقوا عليه من شروط جائزة في عقد الذمة، كما جاء في الشروط العمرية: "...ضمنا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا، وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما حل لأهل المعاندة والشقاق"، قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: " هذا اللفظ صريح في أنهم متى خالفوا شيئاً مما عوهدوا عليه انتقض عهدهم كما ذهب إليه جماعة من الفقهاء"، وهذا الالتزام ينفسخ بأحوال منها ظهور بطلان العقد أصلاً (كأن يدعي هؤلاء أنهم أهل كتاب ثم يتبين أنهم ليسوا كذلك)، ومنها إسلام الذمي أو تحوله عن دينه من اليهودية إلى النصرانية أو العكس أو أن ينتقض العهد بسبب من أسباب نقضه التي نتعرض لها في موضع لاحق إن شاء الله بعد استعراض أحكام أهل الذمة لأن في نواقض عهد الذمة إحالة على بعضها.






المبحث الثاني
أحكام أهل الذمة
يمكن تقسيم أحكام أهل الذمة إلى ما يتعلق بحقوهم وما يتعلق بواجباتهم وما يتعلق بمعاملتهم وفيما يلي بيان ذلك.
المطلب الأول: حقوق أهل الذمة:
تقدم معنا أن عقد الذمة يترتب عليه التزام الإمام بأمانهم وأنه تثبت لهم جملة حقوق نبينها فيما يلي:
إذا أعطوا الجزية فإنه يحرم قتالهم وذلك لأن آية الجزية جعلت إعطاء الجزية غاية لقتالهم، فمتى بذلوها لم يجز قتالهم، يقول ابن قدامة رحمه الله في المغني: "إذا بذلوا الجزية لزم قبولها وحرم قتالهم لقول الله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" إلى قوله تعالى "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"، ولقد تقدمت معنا النصوص الدالة على ذلك، وأحب أن أنبه في هذا المقام إلى أن حقن دماء الذميين ليس إقراراً منا لهم على دينهم وإنما هو فرصة لهم ليطلعوا على الإسلام ومجتمع الإسلام حيث يرجى بذلك إسلامهم، ولهذا كان قبول الجزية منهم على وجه فيه نوع إذلال وصغار ليُنبهوا بالصغار في الدنيا على ما ينتظرهم من ذل وصغار وعقوبة في الآخرة إذا ما هم ماتوا على كفرهم وضلالتهم.
جواز بقائهم في بلاد الإسلام وتقريرهم على ذلك باستثناء الأماكن التي لها أحكام خاصة تمنع من بقاء الكفار فيها كالحرم المكي والجزيرة العربية، والدليل على ذلك قوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء والله عليم حكيم"، ولحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً"، وللفقهاء أقوال في حدود الأرض التي يمنعون منها وفي حدود ما يسمح لهم بدخل هذه الأرض لغير الإقامة كتجارة ورسالة ونحوها ليس هذا مقام تفصيلها ولقد فصل القول فيها الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه القيم أحكام أهل الذمة.
وجوب الكف عنهم وحمايتهم: لأنهم يصبحون جزءاً من الدولة الإسلامية ويتكفل المسلمون بأمنهم وحمايتهم، قال ابن قدامة رحمه الله: " وإذا عقد الذمة فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة لأنه التزم بالعهد بحفظهم، ولهذا قال علي رضي الله عنه: إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا، وقال عمر رضي الله عنه في وصيته للخليفة بعده: وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيراً أن يوفي لهم بعهدهم ويحاط من ورائهم"، ولا ينسى التاريخ موقف أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه حين رد الجزية لأهل حمص لأنه خشي ألا يستطيع أن يحميهم وذلك قبل أن يستقر فتح بلاد الشام.
عدم التعرض لكنائسهم ولخمورهم ولخنازيرهم ما لم يُظهروها، ولكن هذا القول ليس على إطلاقه لأن القول في الكنائس فيه تفصيل؛ فبالنسبة للكنائس الموجودة في الأمصار التي مصروها – أي الكتابيين – ثم فتحت عنوة فإن الصحيح عدم التعرض لها وهذا هو فعل الصحابة والخلفاء بدليل بقاء هذا الكنائس إلى يومنا هذا، وقد حكى ابن قدامة الإجماع على ذلك ، وأما إذا فتحت الأرض صلحاً فبحسب الاتفاق في الصلح، وأما الأمصار التي مصَّرها المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد فلا يجوز إحداث الكنائس فيها ولو وجدت وأُحدثت وجب هدمها حتى لو اختار الإمام أن يقر أهل الذمة فيها، فلو أقرهم مع الذمة (على أن يحدثوا فيها بِيعة أو كنيسة أو يظهروا فيها خمراً أو خنزيراً أو ناقوساً لم يجز، وإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان الشرط والعقد فاسداً، وهو اتفاق من الأئمة لا يعلم بينهم فيه نزاع) وهذه هي فتوى ابن عباس حيث روى عنه عكرمة قال: قال ابن عباس: "أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوساً ولا يشربوا فيه خمراً ولا يتخذوا فيه خنزيراً" واحتج بهذا الإمام أحمد، ويستثنى من هذا ما لو كانت هناك كنيسة قديمة في القرى ودخلت هذه القرى في بناء المصر الجديد كما في كنيسة الروم في بغداد فهذه كانت في قرى أهل الذمة فأقروا عليها.
المطلب الثاني: واجبات أهل الذمة:
يترتب على عقد الذمة مجموعة من الواجبات التي يلتزم بها أهل الذمة ولا يجوز لهم مخالفتها، ولقد جاءت هذه الأحكام مستوفاة مفصلة في الشروط العمرية كما نقلها غير واحد من العلماء ونقلها ابن قيم الجوزية في كتابه النفيس أحكام أهل الذمة، ويمكننا تلخيص هذه الواجبات فيما يلي:
دفع الجزية: وهي تجب على كل رجل بالغ عاقل مرة في العام، (ولا جزية على صبي ولا زائل العقل ولا امرأة)، (ولا عبد ولا فقير يعجز عنها)، ويمتهنون عند أخذها لقوله تعالى: "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"، قلت: ولا يعني ذلك الاعتداء عليهم ولا إيذائهم بضرب أو شتيمة، وإنما يراد به أن تكون حالهم وصفتهم عند إعطاء الجزية على وجه يستشعرون به الصغار كأن يجر من يده وأن لا تقبل منهم إذا أرسلوها بل لا بد من أن يأتوا ويقدموها بأنفسهم ويطال وقوفهم مثلاً أو نحو ذلك من الهيئات التي يستشعر بها هذا الهوان، والغاية من هذا تنبيههم بالصغار والهوان الحاصل في الدنيا لكفرهم على الذل والهوان الأعظم الحاصل في الآخرة إذا ما هم ماتوا على هذا الكفر، فهذا الصغار المفروض عليهم في الدنيا هو في حقيقته رحمة بهم. وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في مقدار الجزية وهل هي مقدرة بالنص أم عائدة إلى اجتهاد الإمام، فقد حكى ابن رشد عن مالك أن القدر الواجب هو ما فرضه عمر رضي الله عنه وذلك على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعون درهماً، وقال الشافعي: أقله محدود وهو دينار وأكثره غير محدود بحسب ما يصالحون عليه، وقال غيره كالثوري أنه مصروف إلى اجتهاد الإمام، وقال أبوحنيفة وأصحابه الجزية اثنا عشر درهما وأربعة وعشرون درهما وثمانية وأربعون، فلا ينقص الفقير من اثني عشر درهما ولا يزال الغني على ثمانية وأربعين درهماً، والوسط أربعة وعشرون، وأما أحمد فقال: دينار أو عدله، قلت: فهذه خمسة أقوال في المسألة، وسبب الاختلاف في المسألة –كما قال ابن رشد – اختلاف الآثار في ذلك، وقد حكى الخلاف الإمام ابن قدامة في المغني أيضاً.
ضيافة المسلمين ثلاثة أيام إذا مروا عليهم: وقد جاء هذا منصوصاً عليه في الشروط العمرية حيث جاء: "... وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد"، والشروط العمرية حجة لأنها سنة عمرية من ضمن السنن التي أمرنا أن نتمسك بها.
دفع عُشر ما يتجرون به في غير بلادهم التي يسكنونها: قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "ويؤخذ منهم العشر في جميع أموال التجارة "، ولا يكون التعشير إلا مرة في العام، وللإمام أن يخفف عنهم العشر أو يضعه إذا كان للمسليمن حاجة بتجارتهم ليكثر على المسلمين. وللفقهاء أقوال وتفصيلات في مقدار ما يؤخذ وممن يؤخذ ليس هذا مقام تفصيله.
ألا يبنوا كنيسة ولا بيعة: قال الإمام الحجاوي: "ويمنعون من إحداث كنائس وبيع وبناء ما انهدم منها" ولقد جاء في الشروط العمرية: " أنا شرطنا لك على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديراً ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ما كان منها في خطط المسلمين"، قلت: والمعنى في عدم جواز تجديدها واضح وهو أن الله تعالى قد نهانا عن التعاون على الإثم والعداون، وليس كل ما جاز إقراراه استصحاباً جاز ابتداؤه، فإنه قد يجوز تبعاً ما لا يجوز أصلاً، هذا وقد تقدم الكلام على أحكام الكنائس بحسب الأمصار.
أن لا يظهروا شعائرهم بين المسلمين: أي شعائرهم الدينية كالصليب أو المباحات في دينهم المحرمة في ديننا كالخمر والخنزير، فلقد جاء في الشروط العمرية: "ولا نظهر عليها صليباً ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا في القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، وألا نخرج صليباً ولا كتاباً في أسواق المسلمين وألا نخرج باعثواً – قال والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر – ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين وألا نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور ولا نظهر شركاً"، قلت: وهذا هو مقتضى الصغار الذي وصف الله تعالى به حال أهل الذمة حين تضرب عليهم الجزية.
أن يتميزوا عن المسلمين ولا يتشبهوا بهم: بحيث يعرف أهل الذمة ويسهل تمييزهم عن المسلم وهذا ما جاء في الشروط العمرية حيث قالوا: " وأن نلزم زينا حيثما كنا، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة أو عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكناهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنانير على أوساطنا ولا ننقش خواتمنا بالعربية ولا نركب السروج"، قلت: والأصل في هذا كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم"، وقد ذكره البخاري من قوله: "وجعل رزقي تحت رمحي.." معلقاً بصيغة التمريض، قال ابن قيم الجوزية: " فأهل الذمة أعظم خلافاً لأمره وأعصاه لقوله، فهم أهل أن يُذلوا بالتغيير عن زي المسلمين الذين أعزهم الله بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من الذين عصوا الله ورسوله فأذلهم وصغّرهم وحقّرهم حتى تكون سمة الهوان عليهم فيعرفوا بزيهم" ولقد روى الإمام أحمد في مسنده عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر" وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغار والجزية".
ألا يرتفعوا على المسلمين ببناء ولا بركوب: وهذا قريب في معناه من الواجب السابق، ولكن فيه معنى آخر من جهة عدم رفع بنيانهم على بنيان المسلمين غير منعهم من الاستعلاء المعنوي ألا وهو عدم تمكينهم من كشف عورات بيوت المسلمين لأنهم غير مؤتمين عليها. قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: " فأما حكم أبنيتهم ودورهم فإن كانوا في محلة منفردة عن المسلمين لا يجاورهم فيها مسلم تركوا وما يبنونه كيف أرادوا، وإن جاوروا المسلمين لم يمكنوا من مطاولتهم في البناء سواء كان الجار ملاصقاً أو غير ملاصق بحي يطلق عليه اسم الجار قرُب أو بعُد." ثم قال: " وهذا المنع لحق الإسلام لا لحق الجار"
ألا يؤذوا المسلمين ولا يضروهم في شيء: ومن ذلك غشهم وإيواء الجواسيس والإعانة عليهم، فقد جاء في الشروط العمرية: " وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل أو النهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً وألا نكتم غشاً للمسلمين.."، ويدخل في الأذى والضرر الممنوع شتيمة المسلمين، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن يهودي قال: هؤلاء المسلمون الكلاب أبناء الكلاب يتعصبون علينا وكان قد خاصمه بعض المسلمين، فأجاب رحمه الله تعالى: " إذا كان أراد بشتمه طائفة معينة من المسلمين فإنه يعاقب على ذلك عقوبة تزجره وأمثاله عن مثل ذلك، وأما إن ظهر منه قصد العموم فإنه ينتقض عهده بذلك ويجب قتله"، وعلى هذا كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في بني قينقاع حيث أجلاهم لما اعتدوا على المرأة المسلمة بكشف عورتها في سوقهم، وفي بني النضير لما تآمروا لقتله صلوات الله وسلامه عليه وفي بني قريظة لما ظاهروا الكفار على المسلمين يوم الأحزاب.
ألا يسبوا الله تعالى ولا أحداً من أنبيائه ولا يطعنوا في القرآن ولا في معتقد المسلمين ولا يتعرضوا للقرآن ولا للرسول صلى الله عليه وسلم بسوء: بل إن هذا مما ينتقض به عهده ويستباح به دمه كما نص على ذلك العلماء، والأصل في ذلك قوله تعالى: " وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون. ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين"، قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "فجعل همهم بإخراج الرسول موجباً لقتالهم لما فيه من الأذى له، ومعلوم قطعاً أن من سبه أعظم أذى له من مجرد إخراجه من بلده ولهذا عفا صلى الله عليه وسلم عام الفتح عن الذين هموا بإخراجه ولم يعف عمن سبه، فالذمي إذا أظهر سبه صلى الله عليه وسلم فقد نقض عهده وفعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول وبدأ بالأذى فيجب قتاله."
ألا يمنعوا أحداً من من أقربائهم من الدخول في الإسلام: وقد جاء هذا منصوصاً عليه في الشروط العمرية حيث قالوا: " وألا نمنع أحداً من أقربائنا أرادوا الدخول في الإسلام"، قلت: بل إن هذه هي الغاية من عقد الذمة أصلاً أعني أن يطلعوا على الإسلام فيدخلوا فيه فينجوا، فإذا أبحنا لبعضهم منع بعضهم الآخر من ذلك كان نقيض المقصود من العقد وهذا يكون كمن باع غيره ثم لم يمكنه من السلعة أو أجَّر غيره ثم لم يمكنه من الانتفاع فإن ذلك في غاية البطلان، فتأمل.
إجراء أحكام الإسلام عليهم في المعاملات والعقوبات الجنائية كتحريم الزنا: ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهودي واليهودية في الزنا، وفي الزاد: " ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله"، فمثال الأول الزنا ومثال الثاني شرب الخمر،وذلك ما لم يترافعوا إلينا فإن ترافعوا إلى القاضي المسلم حكم بحكم الإسلام بغض النظر عن حل الفعل أو حرمته في دينهم.
هذه جملة موجزة حول أهم الواجبات التي على أهل الذمة الالتزام بها، وأود أن أنبه على أن لهذه الواجبات أصولاً في نصوص الشرع وأن منها ما هو اجتهاد وسنة عمرية أقره عليه الصحابة الكرام حتى صار إجماعاً، فضلاً عن أننا مأمورون باتباع هذه السنة كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ"، فلا يؤبه لقول المغرضين الذين يطعنون في حجية الشروط العمرية، قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: " وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها".
المطلب الثالث: أحكام التعامل مع أهل الذمة:
وهذا باب مهم لما فيه من أحكام تتعلق بالتعامل اليومي مع هؤلاء، ويمكن تقسيم هذه الأحكام باعتبار ما يتعلق بالعقيدة وما يتعلق بالمعاملات كما يلي:
أولاً: معاملة أهل الذمة فيما يتعلق بالعقيدة:
إن أهل الذمة كفار ويجب ألا يغفل مسلم أو يحتار في أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى كفار، والدليل على ذلك قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم"،وقوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة"، وقوله تعالى: " وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدنَّ كثيراً منهم ما أُنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً"،وإن ما ورد في بعض آيات القرآن الكريم مما فيه مدح بعض أهل الكتاب كقوله تعالى: "لتجدنَّ أشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى.." هو في من آمن وأسلم منهم كعبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلا يجوز أن يُقتطع مثل هذا النص من سياقه الكامل الذي يدل على أن الممدوح منهم من استجاب للحق وآمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم كما تدل عليه بقية الآية والآية التي تليها حيث قال تعالى: "..ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين". وإن ما تقدم من دخول أهل الذمة من أهل الكتاب في عموم الكفار لا يمنع أن يخصهم الله تعالى ببعض التشريعات ولذلك فإن أهل الذمة صنف خاص من الكفار باعتبار ما يختصون به من معاملات وأحكام فقهية لا أنهم ليسوا كفاراً. والدليل على ذلك ما تقدم من آيات صريحة في كفرهم وقوله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" فدل على أنهم مع ما لهم من أحكام فقهية خاصة لا يزالون مخاطبين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأن من مات منهم على عقيدته من يهودية أو نصرانية فإنه في النار، قال الإمام النووي رحمه الله: " وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهاً على من سواهما وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاباً فغيرهم ممن لا كتاب له أولى" وبناء على ذلك تتفرع الأحكام العقدية التالية:
وجوب البراء من أهل الذمة: إن عقيدة التوحيد عند كل مسلم تستلزم منه أن يتبرأ إلى الله تعالى من كفر اليهود والنصارى وأن يبغض ما هم عليه من كفر ويبغضهم لكفرهم بغضاً شرعياً لا بغضاً شخصياً لمجرد دواعي الهوى، أي أنك تبغضه لمجرد كفره لا لأنه حرمك أو ظلمك في مصالحك الشخصية، والدليل على وجوب ذلك قوله تعالى: " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء "، وقد بينت الآية الأخرى أن استثناء إبراهيم لأبيه كان لشبهة فلما زالت عاد إلى أصل البراءة من الكفار، قال تعالى: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إياه فلما تبين أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم"، فالبغض والعداء في الدين من أركان التوحيد، فلا يجتمع حب الله وحب عدو الله قال تعالى: " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم "، وهذا في حب الطاعة والتولي والإعجاب ولا يدخل فيه الحب الطبعي الجِبلّي – كحب الأم لأنها أم أو الابن لأنه ابن - فهذا مغتفر إن شاء الله لأنه غير مقدور للمرء تغييره ولأنه يدخل في باب التعامل بالمعروف دون المداهنة في الدين، كما قال تعالى في الأبوين المشركين: " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً".
وجوب تبليغ دعوة الإسلام إليهم: إن البغض والعداء الديني ليس مبرراً للعدوان والإجحاف بحقوق الناس، وأول حق لأهل الكتاب علينا هو تبليغ رسالة الإسلام، وإن الضابط والمعيار الصحيح لكون بغضهم في الله هو أن نحب لهم الهداية والخير كما نحبه لأنفسنا، وأن نحرص على أن ندلهم على الخير كما نحرص عليه لأحب الناس إلينا، قال تعالى: "قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون"، وقال تعالى: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"، ولقد جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد"، قال الإمام النووي رحمه الله: " ويضع الجزية فالصواب في معناه أنه لا يقبلها ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام ومن بذل منهم الجزية لم يكف عنه بها بل لا يقبل إلا الإسلام أو القتل"، قلت: فهذا صريح في أن ضرب الجزية وعقد الذمة ليس تقريراً لهم على الكفر وإنما قهرهم على النزول على حكم الله في الدنيا وتمكينهم من الدخول تحت مظلة حكم الإسلام فيطالعوا من أحوال المسلمين من يدفعهم للإيمان والنجاة من النار.
حرمة موالاتهم: إن لازم البغض والعداء في الله تحريم تولي أعداء الله، قال تعالى: " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين"، فمن تولى اليهودي فهو يهودي ومن تولى النصراني فهو نصراني، ومعنى التولي الحب والمودة والإعجاب والنصرة والمظاهرة – أي المساعدة – على المسلمين وحب الاقتداء بهم وحب رياستهم وفعل ذلك كله مما هو مبسوط في مقالات أهل العلم ومجمع عليه بينهم.
إن تهود النصراني أو العكس لم يقر: والنكتة في ذلك أننا أعطيناه الذمة لبقاء الشبهة في قلبه على كون دينه صحيحاً فلما بدل دينه فكأنما (انتقل إلى دين باطل قد أقر ببطلانه أشبه المرتد)، وعليه فإنه لا يقبل منه حينئذً إلا الإسلام أو دينه
فخلاصة أحكام هؤلاء في مجال العقيدة إذاً هو اعتقاد كفرهم وبغضهم لذلك، واعتقاد توجه الدعوة إليهم وحب ذلك لهم، وتحريم توليهم ومداهنتهم في الدين، ووجوب التبرؤ منهم ومن كفرهم من أجل سلامة التوحيد في قلوبنا. ولقد استطردت قليلاً في بيان هذه المسألة لما نعاينه اليوم من تشويشها عند كثير من المسلمين الذين التبست عليهم نصوص الوفاء بعقد الذمة فظنوها إقراراً علىالكفر وقبولاً به بل إني سمعت بأذني من ينازع في كون أهل الكتاب وأهل الذمة كفاراً ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثانياً: معاملة أهل الذمة في مجال المعاملات:
سوف أوجز في هذا المقام إن شاء الله جملة من أحكام التعامل مع أهل الذمة لا سيما فيما تدعو الحاجة إليه مما يخص التعامل مع الأفراد وما يواجهونه في حياتهم اليومية. والأصل في منهج التعامل معهم قوله تعالى: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"، وفيما يلي بيان هذه الأحكام:
التحية والسلام: الأصل في جواز التحية والسلام عموماً قوله تعالى: "وإذا حُييتم بتحية فحيُّوا بأحسن منها أو ردوها "، ولكن هذا بالنسبة لأهل الذمة ينضبط بأمور منها ألا يكون المسلم مبادراً بالتحية والسلام لا سيما على وجه التكريم والاحتفاء لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه " فالمقصود بالاضطرار إلى أضيق الطريق النهي عن التوسعة على وجه التكريم وليس المقصود أن تدفعه دفعاً وهذا يفسر لنا المقصود من عدم الابتداء بالسلام، فالنهي عنه أشد ما يكون إذا قُصد منه تكريمهم والحفاوة بهم. فإذا سلم الكتابي فيرُدّ عليه بالمثل فقط ولا يزيد، وإذا استخدم لفظ "السلام عليكم" أو " السلام عليكم ورحمة الله" فلا يخلو أن يكون قاصداً التحية فيرد عليه بالمثل أيضاً فتقول: وعليك السلام، أو أن يكون مستهزئاً أو شاتماً فترد عليه بقولك: "وعليكم" فقط (أي ما ذكرتم من الاستهزاء أو الشتيمة) بدليل قوله تعالى في طائفة من اليهود: " وإذا جاؤوك حيَّوك بما لم يحيِّك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير"، وبدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول: السام عليكم. فقولوا: وعليكم"
النداء والألقاب: لا يصح نداء وخطاب أهل الذمة بأي لفظ أو لقب يوحي بتعظيمهم، كقولك: يا سيدي أو يا سيدتي، أو نحو ذلك، بدليل قوله تعالى واصفاً المؤمنين الذين يحبون الله ويحبهم الله: " فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين"، ولا يجوز إظهار أي نوع من الخضوع أو الانكسار في مخاطبتهم وندائهم لنفس الدليل، ويجوز إسناد ما لهم من ألقاب بين قومهم أو ألقاب علمية على سبيل حكاية الواقع لا على سبيل الإقرار لهم بعز ولا مكانة، بدليل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم: "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم" فذكر عظمته نسبةً إلى قومه ولم يقل صلوات الله وسلامه عليه: إلى هرقل العظيم! وهذا أصل عام في منع كل ما يدل على تعظيمهم والخضوع لهم كما قال تعالى: " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً". قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: " وأما أن يخاطَب بسيدنا ومولانا فحرام قطعاً"
الأعياد: تحرم تهنئة أهل الذمة بأعيادهم والحرمة أشد في الأعياد الدينية مثل الكريسماس، وعيد الفصح وعيد بعض القديسين وعيد الشكر وغير ذلك ويحرم حضور الاحتفال بهذه الأعياد أو المشاركة فيها بالمال أو التحضير أو الزينة أو العون أو مجرد الحضور، والدليل قوله تعالى واصفاً عباد الرحمن: "والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً"، ولحديث ثابت بن الضحاك قال: " نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟" قالوا: لا. قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟" قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم ". أما التهنئة بغير الأعياد والمناسبات الدينية أو المحرمة فلا بأس إن شاء الله بالتهنئة بالمناسبات الاجتماعية والإنسانية كولادة مولود أو ترقي في وظيفة أو قدوم من سفر إذا خلا من محذور وكان سبيلاً إلى تألفهم والتمهيد لدعوتهم إلى الحق، (ولكن ليحذر الوقوع مما يقع فيه الجهال من الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه).
عيادة مريضهم: ويسلك في هذا المجال مسلك التفصيل؛ فتجوز عيادة مريضهم – أي زيارته – إذا كانت تألفاً لقلوبهم وإظهاراً لأخلاق الإسلام وسماحته دون مداهنة في الدين أو إقرار لهم على باطل، ولا شك أن الهدي الأكمل في ذلك يتمثل في دعوتهم إلى الإسلام صراحةً لا سيما في مرض الموت كما كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم فعن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار "، فهذه الزيارة لمرضى أهل الذمة مشروعة بلا ريب، أما إذا كانت عيادتهم وزيارتهم من باب التزلف والتودد والحب لهم دون دعوة إلى الإسلام أو عزم على ذلك أو تألُّف قلوبهم تمهيداً لذلك فلا. وإذا أراد أن المرء أن يعرف تحقق ما تقدم في نفسه فلينظر إلى من يعزم عيادته من مرضى أهل الكتاب؛ فإن كان يهوى عيادة المرضى مِن علية القوم ورؤساء العمل وذوي الجاهة والمنصب ويعزف عن المساكين والبسطاء منهم فليعلم أن هذا ما هو إلا لحظ النفس ولا خير فيه البتة، وأما إذا كان منصب وجاه المريض عنده سيان وكان يعوده دون نظر إلى مصلحة دنيوية مع خلو القلب من الإعجاب بهم والركون إلى كفرهم فلا بأس إن شاء الله على أن يقتصر على القدر الكافي لتحقيق ما تقدم. ثم ليُعلم أنه إن كان يزور ويعود مرضى أهل الكتاب وليس لمرضى المسلمين من عيادته نصيب أنه ليس على شيء، لأنه لو كان متبعاً للشرع في عيادة أهل الكتاب لكان لعيادة المسلمين أشد حباً والتزاماً، والله تعالى أعلم.
تعزيتهم وحضور جنائزهم: قال الله تعالى: " ولا تُصلِّ على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون"، فتحرم المشاركة في الصلاة على الميت الكافر أو المشاركة في أي من طقوسهم وشعائرهم الدينية في الجنائز والدفن، وللمسلم أن يواري قريبه الكافر ما لم يتضمن ذلك محظوراً كشهود أي من المحرمات أو ممارسة طقوس وشعائر غير شرعية، أما مجرد تعزية الكافر من أهل الكتاب بوفاة أحدٍ له فيراعى فيه ما تقدم من ضوابط عيادة مرضاهم، فقد نقل ابن قيم الجوزية قول الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله كيف يعزى النصراني؟ قال: لا أدري، ولم يعزه. وقال حرب: حدثنا إسحق حدثنا مسلم بن قتيبة حدثنا كثير بن أبان عن غالب قال: قال الحسن: إذا عزيت الذمي فقل: لا يصيبك إلا خير" قلت: كأنه يدعو له بالهداية إلى الإسلام، والله تعالى أعلم.
أكل طعامهم: يحل للمسلم أكل طعام وذبائح أهل الكتاب مما هو جائز لنا مثله – كالبقر والدجاج ونحوه – ويحرم كل ما هو حرام في ديننا – كالخنزير والخمر – والدليل قوله تعالى: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌ لكم وطعامكم حِلٌ لهم"، ويُشترط أن تذبح وتذكى ذكاةً صحيحة ولا حاجة للسؤال عن ذلك إذا كان غالب وظاهر حالهم أنهم يذبحون ذبحاً صحيحاً، ويُشترط أيضاً ألا يكون ذُبح لمناسبة دينية أو لعيد أو في كنائسهم وبِيَعهم على أنصابهم، لقوله تعالى: " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلَّ به لغير الله "، ويستوي في تحريم هذا النوع ما كان ذبيحة وغيره كطعام أُعد لمناسبة دينية كالذي يسمونه عيد الفصح أو الكريسماس فيحرم الأكل منه.
مناكحتهم: يحرم على المسلمة أن تتزوج من كتابي يهودي أو نصراني ولا يحل لها أن تنكح غير المسلم، بدليل قوله تعالى: " ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا "وهذا عموم غير مُخصَّص، أما المسلم فيجوز له الزواج من كتابية يهودية أو نصرانية بشرط العفة والإحصان على الصحيح إن شاء الله بدليل قوله تعالى: " والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان"، وهذا مما تختلف فيه الكتابية عن الكافرة غير الكتابية التي يحرم على المسلم الزواج منها.
البيع والشراء: الأصل في المعاملات الحل، فلا بأس في البيع والشراء من الكتابي ما لم يكن شيئاً محرماً – كلحم خنزير أو خمر أو إنجيل محرف – أو يُفضي إلى محرم كبيعهم السلاح في وقت الفتنة بحيث قد يستعملونه ضد المسلمين، والدليل على ذلك عموم قوله تعالى: "وأحل الله البيع "، فلا يستثنى إلا ما دل الشرع على استثنائه أو تحريمه كما بينا فلا يجوز بيعهم الخمر أو الخنزير أو شراؤه منهم ولا يجوز بيع الصلبان والتماثيل لهم ولا بطاقات أعيادهم ولا يجوز بيع أو شراء منهم إذا أدى إلى حرام.
مداهنتهم وارتكاب المحرمات إرضاءً لهم: وهو حرام إذ أن ارتكاب المحرمات في حد ذاته مصيبة لما فيه من مخالفة أمر الله تعالى وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أن يرتكب المحرم إرضاءً وتزلفاً وتودداً لأهل الكتاب ورغبة في الظهور بمظهر المتحرر والمتحضر وأنه غير متعصب ولا متذمت وأنه متفتح على الحضارة وما إلى ذلك من سفه ومروق فإنه الطامة الكبرى، بل إنه مورد الشرك – شرك الطاعة – والعياذ بالله، بدليل قوله تعالى: " ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون"
لا يُعان الذمي على أي قول أو فعل منكر سواء أكان من جهة العقيدة أو العبادات أو المحرمات، وذلك بدليل النهي العام عن ذلك حيث قال تعالى: " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، ومن أمثلة ذلك معاونتهم على إقامة شعائرهم الدينية وتوصيلهم بالسيارة لذلك وإبداء المشورة في ذلك والسماح لهم بإظهار معالم كفرهم – كالصلبان وغيرها – بين المسلمين، وتوزيع كتبهم ومنشوراتهم وأشرطتهم أو دعوتهم لإلقاء محاضرات عن دينهم وإرشادهم إلى أماكن المجون والفجور والخمور، أو تمكينهم من أي وضع يفتنون به عامة المسلمين في دينهم وغير ذلك مما يصعب حصره.
لا يستخدم الذمي في شيء من ولايات المسلمين ولا يؤخذ بأقوال أهل الكتاب في الأمور الدينية: فقد نهى عمر رضي الله عنه عن استخدام أهل الذمة في ولايات وأمور المسلمين العامة، وهذا متفرع على عدم توليهم من جهة وعلى عدم تمكينهم من غش المسلمين لأنهم غير مؤتمنين على الدين، فعلى سبيل المثال لا يترخص المريض مثلاً في شيء من الرخص الدينية – كالإفطار أو التيمم أو عدم القيام في الصلاة – لمجرد رأي طبيب من أهل الكتاب إذا وُجد الطبيب المسلم الحاذق في مهنته، لأن أهل الكتاب لا يؤتمنون على الدين، وهم ليسوا بعدول، وقد اشترط الله تعالى العدالة في الشهود وفيمن يؤخذ برأيهم وأقوالهم في أمور الدين بدليل قوله تعالى: " يحكم به ذوا عدلٍ منكم"، أما إذا عدم الطبيب المسلم الحاذق وخشي المريض على نفسه الضرر فيعمل برأي الأمثل (أي أقرب أهل المهنة إلى الصدق والعدل لتعذر غيره) وعليه أن يحتاط لدينه قدر الإمكان ويستشير أهل العلم والله تعالى أعلم.
وبعد، فهذه طائفة من أحكام التعامل مع الذميين ولم أستوفها في الحقيقة إذ لا يزال هناك كلام في التوارث وحقوق الزوجين ومسائل آثرت الاكتفاء بما تقدم منها خشية الإطالة، وأنبه على أن إن المسلم قد يستثقل بعض ما ذكرت، ولكن لو تذكر معنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه عز وجل قال: قال الله: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفئاً أحد" ثم لو سأل أحدنا نفسه: لو أن أحداً شتمك أو شتم والديك فهل كنت تتحفظ في شيء من هذه الضوابط لحظةً واحدة؟ فلا يكن حظ الله تعالى منك ومن نفسك أقل من حظ نفسك وأمك وأبيك، والإسلام لا يدعونا لظلم أحد ولا الجور على أحد، وإنما هي المعاملة بالمثل وتقديم حق الله على حظ النفس والهوى، فتأمل.





المبحث الثالث
نواقض عقد الذمة
تقدم معنا أن الذمة عقد فيه طرفان وصيغة، وتقدم معنا أنه تترتب على هذا العقد جملة من الالتزامات على الطرفين، وأرى أنه من المهم في خاتمة هذا البحث أن نعرج ولو بالتعداد على نواقض هذا العقد، وفيما يلي ذكرها موجزة:
امتناع الذمي عن بذل الجزية
امتناع الذمي عن التزام أحكام الإسلام وعن جريان أحكامنا عليه إذا حكم بها حاكم.
الاجتماع على قتال المسلمين.
التعدي على مسلمة بالزنا ولو باسم النكاح
فتنة المسلم عن دينه والترويج لدين الذمي.
قطع الطريق على المسلمين
إيواء الذمي للجاسوس المشرك
معاونة المشركين على المسلمين بكشف عوراتهم ومواطن ضعفهم وغيره.
ذكر الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو كتابه أو دينه بطن أو سوء أو شتم أو انتقاص، وقد تقدم بيانه.
ولا يلزم من انتقاض عهد ذمي لواحد أو أكثر مما سبق أن ينتقض عهد أهله لأن النقض وجد منه فلا يتحمل تبعته غيره، ويحل قتاله ودمه وماله إذا ما انتقض عهده، وهي نواقض لا يعني نقضها إلا شيئاً واحداً إلا وهو العداء للإسلام.




الخاتمة
هذا ما تيسر لي بفضل الله تعالى من عرض لأهم أحكام أهل الذمة، ويمكنني تلخيص ثمرات البحث فيما يلي:

إن أهل الذمة الكتابيين ومن ألحق بهم كفار قولاً واحداً وأنهم إذا ماتوا على ما هم عليه من الكفر فإن مأواهم جهنم خالدين فيها أبداً.
إن الشريعة قد خصت هذا النوع من الكفار بأحكام في الدنيا وأن غاية هذه الأحكام ترغيبهم وتقريبهم من الإسلام.
إن مصطلح أهل الذمة مصطلح شرعي له مدلوله الشرعي ولا يجوز أن يتلاعب بهذا اللفظ لتنزيل أحكام الشريعة في غير محلها.
إن عقد الذمة عقد وميثاق غليظ قد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن نقضه بدون مسوغ أو عذر شرعي.
إن على الإمام المسلم وعلى أهل الذمة حقوقاً وواجبات يجب احترامها حتى تثمر هذه المنظومة ثمارها الخيرة إن شاء الله.
إن واجب المسلم أن يلتزم بالضوابط الشرعية في التعامل مع أهل الذمة ولا يسترسل معهم.
إن سب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم جريمة بشعة لا يقدم عليها إلا عدو نفسه ولا شك أن أمن الدين والأمة يستلزم التعامل الحاسم مع هذه الفئران لحسم مادتها.
وختاماً أسأل الله تعالى القبول والسداد فيما قدمت وأن يقيني من الزلل وسوء الفهم وأن يوفقنا للعودة بالدين وحراسته إلى حيث يرضى الله تعالى ويوفقنا لتوريثه لمن يخلفنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وسيم محمود فتح الله



المراجع المساعدة:
أحكام أهل الذمة – الحافظ ابن قيم الجوزية – تحقيق طه عبد الرؤوف سعد – دار الكتب العلمية – بيروت- الطبعة الأولى – 1995
بداية المجتهد ونهاية المقتصد – الإمام ابن رشد الأندلسي – المكتبة العصرية

التعريفات – الجرجاني – دار الكتاب العربي – بيروت – 2002
الفقه الإسلامي وأدلته - الدكتور وهبة الزحيلي – دار الفكر – دمشق – الطبعة الرابعة - 1997
الروض المربع بشرح زاد المستقنع – العلامة الشيخ منصور البهوتي – تحقيق محمد عبد الرحمن عوض – دار الكتاب العربي – بيروت – الطبعة الثالثة – 2001
المغني – الإمام ابن قدامة المقدسي – دار الحديث – القاهرة – الطبعة الأولى - 1996
صحيح مسلم بشرح النووي – المكتبة العصرية – بيروت – الطبعة الأولى – 2001
فتح الباري شرح صحيح البخاري – الحافظ ابن حجر العسقلاني – مراجعة الشيخ عبد العزيز بن باز – دار الفكر – بيروت – الطبعة الأولى - 1994
مجموعة الفتاوى – شيخ الإسلام ابن تيمية – دار الجيل – الطبعة الأولى – 1997
موسوعة الحديث الشريف – برنامج حاسوبي

أم هارون السلفية
12-04-2008, 07:03 AM
جزاكم الله خيرا ..

احمد الانباري
12-06-2008, 01:36 AM
وجزاكِ الله خيراً
ونفع الله بكي

أم عبد الرحمن السلفية
12-06-2008, 08:48 AM
جزاكم الله خيراً ونفع بكم .

احمد الانباري
12-06-2008, 03:31 PM
وجزاكِ الله خيراً ونفع الله
بكي