المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : «إيقاظ الضمير العام والأوضاع الأخلاقية»«1-3»


الشافعى الصغير
09-05-2008, 06:26 AM
http://www.siuh.edu/psychiatry/psychiatry.jpg
الدكتور أحمد عكاشة يكتب: «إيقاظ الضمير العام والأوضاع الأخلاقية»
«١ -٣» المصري المهاجر في أرضه.. المقيم في بلد ليس بلده



طلب مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار من الدكتور أحمد عكاشة، الخبير النفسي العالمي، إعداد دراسة عن الشخصية المصرية وما طرأ عليها خلال العقود الأخيرة.
وجاءت الدراسة بمثابة تشريح دقيق لهذه الشخصية وتصرفاتها وطريقة تفكيرها، وعلاقة ما يصدر منها من سلوكيات، بالسلطة وقراراتها والجو العام المحيط بحياة المصريين.. وهنا نعرض نص الدراسة:
كلنا نشكو، ولنا جميعاً الحق في شكوانا. وإذا كنا نحس أسفاً علي ما آلت إليه أوضاعنا الأخلاقية وما آلت إليه قيمنا مما يمس الضمير العام، إلا أننا جميعاً خلال التعبير عن هذا الأسف،
ننسي أن ما نشكو منه هو في واقع الأمر نتاج لما حدث علي مر السنين، بمعني أن ما يشكو منه البعض ـ وهو طرف فيه أو شاهد عليه ـ قد يتجاهل أصحابه تماماً أن لهم بالمثل ممارسات يمكن أن تكون مثار شكوي آخرين،
ومن هنا يصبح علي المجتمع كله أن يتفق علي أن الإصلاح وتدارك الأخطاء وإيقاظ الضمير العام مسؤولية جماعية تضامنية، ودون ذلك لا أظن أن الضمير العام سيسلم من اتساع الثقوب، التي كلما حاولنا رتقها أخفقنا بل فوجئنا بالمزيد من الثقوب.
إن الأخلاق والضمير والقيم تتأثر بما يحدث في المجتمع، وضمير المجتمع ينشأ ويتطور وينهار حسب المعطيات المتواجدة في هذا المجتمع، وإذا نظرنا إلي ما حدث في الضمير المصري خلال نصف القرن الأخير لوجدنا تحولاً واختلافاً وانهياراً في القيم والضمير العام، والأسباب متعددة لهذا التدهور من عدم الإحساس بالمواطنة،
انخفاض درجة التضحية في سبيل الغير، التمركز حول الذات، الفقر، التفكك الأسري للهجرة والبحث عن الرزق، البطالة، الازدحام، حال التعليم، عدم توافر العلاج للأغلبية، الفهم الخاطئ للدين، عدم الشفافية، عدم المساءلة، عدم وجود العدل أو الفرصة بالتساوي، السماح بالرشوة العلنية، والغش وعدم احترام القانون كذلك تدهور هيبة الدولة،
انتشار الفساد، عدم تطبيق القانون والدستور الذي يتأرجح بين الاشتراكية والرأسمالية، و٥٠% عمال وفلاحين وتحول الدولة إلي قوة بوليسية، وعلي رأس ذلك عدم وجود القدوة سواء في الأسرة أو الحزب الحاكم أو المدرسة أو المجتمع، وسنحاول هنا أن نجد الحلول للنهضة في ضمير المجتمع، لأنها عملية تبدأ من القمة إلي القاع.
http://img413.imageshack.us/img413/6933/bnrjs5.jpg
* كيف ينشأ الضمير العام؟
يولد الطفل بريئاً، تلقائي التصرف، سليم الطوية. وفي سنوات التنشئة الأولي يتكون لهذا الطفل ضمير هو في الواقع رافد من ضمير والديه، فمن خلالهما يعرف قاعدة الثواب والعقاب، إذا أحسن ـ من وجهة نظر والديه ـ يثاب، وإذا أساء ـ من وجهة نظر والديه أيضاً ـ كان العقاب.
والطفل في جميع الأحوال يعجز عن استيعاب مفاهيم الوطن أو الخير والشر أو العقيدة الدينية، إلي غير ذلك مما ينطوي عليه ضمير الراشد، وهكذا يكون ضمير الطفل مرآة لوالديه، حتي إذا بدأت مراحل النمو في التقدم بالعمر،
والتعليم والمخالطة الاجتماعية بدأ الضمير في التكون، ليتسق ضمير الفرد مع قيم المجتمع وتقاليده وأعرافه الاجتماعية، وقبل ذلك المعتقدات الدينية. وهناك من الأفراد من يتوحد مع هذا كله، وهناك من يمكنهم تكوين ضمير خاص بهم لا ينفصل عن الضمير الكلي للمجتمع، ويكون صاحب هذا الضمير الخاص قادراً علي أن يتناول ما يسود مجتمعه بنظرة نقدية،
إضافة وتعديلاً أو رفضاً أو توكيداً، وهذه الفئة من أفراد المجتمع يتوهج ذكاؤهم وتنفسح ثقافتهم، بحيث يتجاوزون المتاح للآخرين من معارف، هكذا الأنبياء والفلاسفة والعلماء والمفكرون علي حين تبقي الأغلبية الشعبية متوحدة مع الضمير الاجتماعي العام ذلك العنصر المؤثر في ضمائر الأفراد.
ولست أجد معني للضمير ـ عاماً كان أو خاصاً ـ إلا هذا التعبير القرآني العظيم (النفس اللوامة)، الرقيب الخاص داخل كل إنسان أو «الأنا الأعلي» التي تحاسب الإنسان في داخله حساباً عسيراً عما بدر منه من ممارسات وسلوكيات يأباها الضمير العام أو الخاص،
ويشكل الضمير العام في المجتمع هذا الحاجز الصلب المتين، أمام ألوان الانحلال والفساد والآثام والجرائم، كما يختلف التزام الأفراد بهذا الضمير العام في المجتمع عن التزامهم أمام الخالق ـ سبحانه ـ مخافة غضب الله والعقاب في الآخرة، فهل ثمة ما يمكن أن ندعوه قياسات الضمير الاجتماعي العام؟
* محاولة للإجابة
يتعرض الضمير الاجتماعي العام إلي هزات وقلاقل، وعلي قدر عنفها أو بساطتها يتبدي لنا حجم الأسف علي ما اعتري هذا الضمير العام من عطب، أو ما لحق به من ثقوب أصبح ينفذ من خلالها، ما لا يجوز أن يغض الضمير الاجتماعي العام الطرف عنه، بينما كان في الماضي لا يقبله ويأباه مستنكراً. فنحن جميعاً نذكر ـ خاصة أصحاب الأعمار المتقدمة ـ أن الدهشة كانت تعترينا إذا سمعنا من يحكي في استنكار أنه توجه لمرفق حكومي لقضاء مصلحة هي من حقه،
فإذا الموظف ـ صغيراً كان أو كبيراً ـ يفاجئه بطلب رشوة ـ مادية أو عينية ـ حتي يقضي له مصلحته، كذلك كان من النادر أن يستجيب صاحب الحاجة لمثل هذا الابتزاز، فضلاً عن إصراره علي قضاء مصلحته دون أي مقابل، وقد يحذر هذا الموظف علناً من مغبة هذا المسلك المشين.
والآن يأتي السياق مخالفاً تماماً لما كان عليه في الماضي، فصاحب الحاجة ـ أي حاجة ـ يحكي بدهشة عن أنه ذهب لقضاء مصلحة ما، وأنه قد أجيب إلي ما أراد دون أن يطلب الموظف مقابلاً عينياً أو مادياً، وقد يواصل صاحب الحكاية حكايته فيصرح بأنه كان علي استعداد لدفع أي شيء يطلب منه، فهو حين قصد هذه المصلحة الحكومية قد وقر في نفسه أن «الدفع» أمر معتاد، وكأنه قد أصبح القاعدة، والقاعدة قد أصبحت الاستثناء.
دهشة المستمعين إلي صاحب الرواية الأولي كانت معبرة عن صلابة هذا الجدار الفولاذي، أو الضمير الاجتماعي العام الذي يأبي ما يحدث، ودهشتهم في الرواية الثانية للرواية تكشف عن أن هذا الجدار، أعني الضمير الاجتماعي العام، قد تم اختراقه واعتورته الثقوب، إلي الدرجة التي سمحت بأن تكون الرشوة هي القاعدة، فلا شيء دون مقابل.
http://concierge.typepad.com/cntraveler__80days/images/2008/05/09/psychiatry.jpg
* حتي إذا اتسع الخرق
وثمة ما هو أدهي وأمر، وهو الانتقاص من حقوق الآخرين، فيأخذ من لا حق له ما هو من نصيب غيره، أليس هذا ناقوس خطر ينذر بأن الثقوب في الضمير الاجتماعي العام قد اتسعت، طالما نسمع مثل هذه الروايات دون أن تظهر علينا أمارات الاستغراب والدهشة؟
بل قد نعتبر ما نسمعه من الأمور المعتادة هذه الأيام، كما قد تصل مأساة الضمير الاجتماعي العام إلي حد النطق ببعض العبارات التي تنطوي علي شيء من الإعجاب «بشطارة» فرسان هذه الحكايات وفهلوتهم.
والمعني العام الذي أريد تأكيده أن ما يصيب جدار الضمير الاجتماعي من ثقوب ـ ضيقة أو متسعة ـ هو أمر جدير بالمراقبة والمتابعة، علي أن تكون هذه المراقبة جماعية كي نسد هذه الثقوب، بل علينا ـ وهذا أضعف الإيمان ـ أن نضيقها كلما أمكننا ذلك.
وهذا لن يتأتي إلا إذا عمل كل منا علي إيقاظ هذا الضمير الاجتماعي العام، بالحرص علي أن يطمئن الضمير الفردي أولاً ـ رافد الضمير الاجتماعي العام ـ إلي أن الثقوب الضيقة أو المتسعة لم تخترقه.
http://img355.imageshack.us/img355/3265/bnrib4.jpg
* أعذار لغياب الضمير العام
ولا شيء يحدث اعتباطاً، كما أن النظرة المتأملة المحللة لن تقدم الوسيلة إلي التعرف علي الأسباب التي تؤدي إلي ثقوب الضمير الاجتماعي العام واتساعها. ولا شك أن حياتنا قد تعقدت ولم تعد هي تلك الحياة البسيطة التي كنا نحياها في الماضي،
والتي كانت تحكمها أعراف تنطوي علي قيم جليلة كالتواد والتراحم والحرص علي احترام إنسانية الآخرين، حين كان المجتمع يطرح الفردية والأنانية الذاتية، وحين لم يكن شعار «أنا ومن بعدي الطوفان» قد ارتفع بعد، وحين لم نكن نعرف هذا التسيب العارم الذي اجتاح حياتنا المعاصرة.
أما الآن فقد تعقدت الحياة، وبات العالم كله يضج بتطور مفاجئ لاهث تنعكس آثاره علي كل مجتمعات الدنيا، بعد أن لحق الخلل والعطب الصفات الأخلاقية العامة، ومجتمعنا بالتأكيد هو مجتمع ينتمي إلي الأسرة الإنسانية في الماضي والحاضر والمستقبل، ويتأثر هو الآخر بما عند الآخرين بعد أن قربت المسافات وأصبح العالم كله قرية صغيرة كما يقولون، وهذا التأثر الخارجي يضاف بدوره إلي التطورات التي يشهدها مجتمعنا علي مختلف الأصعدة.
http://img262.imageshack.us/img262/3373/bnrmu5.jpg
* القدوة
ولابد أن نعترف أن مجتمعنا الآن باتت تعوزه القدوة، فالأفراد يعرفون ويسمعون الكثير عن انحرافات تؤرق ضمائرهم، بل هم يرونها تقع في أوساط ومستويات كان الأولي أن تتسم بالنزاهة، كما يشهدون أن العقاب قد يلحق بالبعض دون البعض الآخر، علي حين يناشد الموسرون العامة شد الأحزمة علي البطون! من ليس عنده يؤخذ منه،
ومن عنده يعطي ويضاعف له العطاء! البعض يأمر دوماً بالمعروف وينسي نفسه! الخطب في الشعائر الدينية لا تقدم للناس تفسيراً مقنعاً لما أصاب المجتمع من عطب!
والحلول إما شعارات غوغائية أو غير واقعية، أو هي لا حلول علي الإطلاق، أو هي جديرة ببثها في مجتمع من الملائكة، ثم إذا الناس يداهمون بما يجرح مشاعرهم لما تحمله بعض الوقائع من مفاجآت بعد أن أحسنوا الظن، فإذن حسن الظن هذا لون من الغفلة أو الغيبوبة، والإعلام ـ ولاسيما المرئي منه ـ أصبح يعني «بالشطارة» أكثر مما يعني بقيمة العمل... فهل من قدوة نقتفي أثرها؟؟
http://www.shbabmisr.com/_img/30920071.jpg
* الانتماء الذي يتحدثون عنه
كلنا نستشعر الآن أن المواطن المصري قد أصبح جزيرة منعزلة مستقلة عن الوطن، يشعر بوحدة غريبة وانكفاء علي الذات دون أن يجد حلاً أو مهرباً خاصاً لمشاكله، الأقرباء والجيران والأصدقاء والمعارف لم يعودوا عزوة المواطن، بل باتوا إما غرباء عنه أو انقلبوا خصوماً له في بعض الأحيان... وترتفع بين الحين والحين شعارات من قبيل «إعادة بناء المواطن المصري» و«الانتماء.. كيف يتحقق» إلي غير ذلك من الشعارات..
والذين يتحدثون عن انتماء المواطن المصري لا يهتمون كثيراً بالبحث عن دور هذا المواطن في وطنه، ولا ينادون بتدارك وتلافي الأسباب التي حدت بهذا المواطن إلي أن يصبح جزيرة منعزلة، نحن أمام مواطن ليس له بالفعل أي دور في مجريات أمور وطنه.
ومازال أصحاب نظرية أن الشعب قاصر، والحكام هم الأوصياء عليه متمسكين بنظريتهم، نشيطين في تطبيقها بكل الوسائل وفي كل ما يمس حياة المواطن، يريدون من المواطن أن يحتشد كلما دعت حاجتهم هم إلي الاحتشاد، ويلزمونه بأن يتفرق عن غيره،
وينصرف إلي نفسه إذا انتفت الحاجة ـ حاجتهم هم أيضاً ـ إلي احتشاده! يقررون أبسط أمور حياته اليومية والعامة وأعقدها، ويؤكدون له أن سائر الشؤون ليست شؤونه! إذا كانت للدولة مشكلة مع المواطن كانت هي المشكلة الأولي صاحبة الأولوية المطلقة، أما إذا كان للمواطن مشكلة مع الدولة فهي آخر قوائم اهتماماتهم،
هذا إذا عنيت بها أصلاً، وعلي المواطن أن يدفع للدولة ما تقرره حقاً لها فيما يملك؟ وإذا ثبت أن له حقاً فلا يسترده ـ ولو حدث بطريق الخطأ أن حصل عليه فدونه عناء وعنت يشق علي نفسه وروحه المنهكة أصلاً! وهل قرأ أحدنا بعناية عقداً وقعه المواطن مع الدولة نظير انتفاعه بخدمة من خدماتها ودفع المقرر عليه كعقد التليفون أوالكهرباء مثلاً؟
هل قرأ أحدنا بإمعان وتأمل جيداً كيف هو عقد إذعان غريب؟! لقد دفع المواطن من ماله مقابل انتفاعه بالخدمة التليفونية، ومن حقه أن تكون هذه الخدمة مكفولة له سليمة مادام قد دفع! لكن المرفق الحكومي الذي أبرم المواطن معه هذا العقد، يري أن يذعن المواطن بالدفع دوماً وعدم التوقف عن ذلك مهما كانت الأسباب، حتي ولو كانت هذه الأسباب تعطل خطه التليفوني وتوقف الخدمة! مصالحه لا تعني أحداً في هذا المرفق الحكومي إذا تعطلت!
والمال الذي يدفعه بلا مقابل من خدمة هو حلال علي هذا المرفق الحكومي الذي يحرص علي احتكار تقديم هذه الخدمة التليفونية منفرداً في الوطن بلا منافس!
وليس العيب هنا مبدأ احتكار الدولة لخدمة من الخدمات أو سلعة من السلع، لكن العيب أن يكون هذا الاحتكار مقروناً بهذا الاستبداد الشديد، وفي دول كثيرة من العالم ـ بل كل دول العالم ـ تري حكوماتها احتكار خدمات وسلع بعينها، لكنها تحرص أولاً علي الوفاء بواجباتها أمام المواطن الذي يدفع مقابل الخدمة والسلعة المحتكرة!
وهكذا تتنوع الخبرات المرة لهذا المواطن المصري، إلي الحد الذي يجعله غير عابئ بشيء في الوطن بدءاً بحقه الانتخابي وانتهاء بحرصه علي عدم الإسراف في استهلاك المياه، هذا إذا توافرت في صنابير منزله أصلاً.
فإذا حدث أحد هذا المواطن عن أمر من الأمور العامة بادر محدثه علي الفور «يا عم.. يعملوا اللي يعملوه.. البلد بلدهم» يقولها هذا المواطن دون أن يفسر لك بلد مَنْ الذين جعل البلد «بلدهم»!
وقد نجد مواطناً آخر وقد اتسم بالعدوانية الشديدة علي كل ما يمت للملكية العامة بصلة، يحطم أو يمزق هنا وهناك إذا لاحت له الفرصة، يتهرب من ضريبة واجبة أو يغافل محصل سيارة النقل العام، وإذا استطاع اقتلع شجرة نابتة في الشارع، أو يدهس النجيل الأخضر عمداً أو عن غير عمد!
http://www.compass-psycare.co.uk/images/people1.jpg
* وأين الهدف العام؟
كثيراً ما تصادف الذين يترحمون علي الماضي الذي يعني بالنسبة لهم كثيراً من المعاني الجميلة التي يأتي الانتماء علي رأسها، وربما لا ينتبه هؤلاء إلي أن الأفراد في الوطن كانت تربطهم خلال هذا الماضي جميعاً أهداف واحدة، وأن هناك هدفاً بعينه كان نصب عيون المصريين جميعاً، وهو هدف تحقيق جلاء الإنجليز عن مصر، وحل القضية الوطنية بالاستقلال.
كانت هذه القضية هي الوطن، والوطن هذه القضية، فذاب المصريون جميعاً، وانصهروا في بوتقة واحدة عندها، ولم يكن هناك ما يدعو إلي مناقشة فكرة الانتماء علي الإطلاق، من الفلاح الأمي في قرانا، إلي دارس الدكتوراه داخل مصر وخارجها.
ولم يكن هذا الانتماء الصلب للوطن من صنع أحد، أو وقفاً علي طائفة دون أخري، إذ كان الهدف واضحاً معلناً، وكانت الصفوة تؤدي أمام الأغلبية دور القدوة.
لم تعد بنا حاجة إلي الحديث عن انتماء المصري لوطنه، لشعورنا جميعاً بأنه ليس لنا هدف يجمعنا، وأن ما يعلن علي الناس من أهداف هي غير واضحة، أو أن الذين يروجون لهذه الأهداف بيننا لا يعملون بإخلاص من أجلها! أو هي أهداف منفصلة عن المواطن انفصالاً شديداً بحيث يستوي تحقيقها أو عدم تحقيقها.
وما الذي جعل الفلاح المصري المنتمي إلي الأرض تاريخياًـ حتي إنها لم تكن تعد أرضه فحسب بل عرضه ـ يهجرها إلي البعيد القريب داخل الوطن في العاصمة والحواضر، أو البعيد البعيد خارج هذا الوطن؟! كان هذا الفلاح منتمياً إلي أرضه، منكفئاً عليها راعياً لها مدافعًا عنها، عندما كانت هذه الأرض توفر له قوته وقوت عياله وتفي بمتطلبات حياته.
وقد أرهقناه لسنوات طويلة بمختلف الطرق والتجارب والنظريات والبدع، حتي انتهي إلي الإحساس الحاد بأن البقاء علي هذه الأرض لن يقيم حياته ولن يوفر له القوت.. فكان أن هجرها إلي حيث يستطيع أن يجدها هذا القوت، ولو فارق بلدته وعزوته وامرأته وولده، بكل ما ينجم عن ذلك من آثار مدمرة علينا وعليه!
وما يفعله هذا الفلاح المصري الآن: هو ما يفعله كذلك المتعلم ابن المدينة بالهجرة من الداخل، مغترباً عن المجتمع، هارباً إلي التطرف أو العنف أواللهو الإجرامي، أو مهاجراً إلي الخارج بحثاً عن حياة كريمة عزت عليه في وطنه، ليبقي الانتماء الذي يتحدثون عنه دون مضمون حقيقي، أو هو مما تلوكه الألسن فحسب!

* هدف عام لكنه خاص
لقد أصبحنا نسعي إلي الهدف العام جميعاً كل بطريقته. أما الهدف العام فهو الحصول علي ما يكفل لكل واحد منا مواجهة التزامات الحياة التي تتزايد أعباؤها ساعة بعد ساعة، ويوماً بعد يوم! بينما هو في واقع الأمر الهدف الخاص جداً، فقد أصبح علي كل مواطن أن يتدبر أمره، وينظر حوله منقباً عن مصادر دخل تتيح له الاستمرار في هذا السباق اللاهث.
البعض يعمل فوق طاقته حتي اختفت من حياته جوانب كثيرة ضرورية لنموه ونمو أسرته نفسياً وروحياً، فهمومه هي أن يوفر المال، والبعض الآخر يري أن تنويع مصادر دخله لا يجوز أن يخضع لمجرد التفكير في مشروعية هذه المصادر من عدمها، بل ويبرر ما يفعل، بدعوي أن الكل يقرع الدف نفسه، وأن المهم أن يكون معك، لا ما يحفظ عليك حياة كريمة فقط، بل ما يكون فائضاً زائداً علي الحاجة..
المرتشي بالقليل الضئيل هو ذات المرتشي بالألوف والملايين، لا يدرك أن الرشوة في واقعها هي احتقار للذات وعدوان عليها، ولعله لا يدرك ذلك لأنه ينال احتراماً اجتماعياً يتناسب مع ما يملك أو يتفق، لاسيما أن ثقوب الضمير الاجتماعي العام قد أصبحت تسيغ له الكثير من المبررات..
وإذا حدثت أحداً عن قيمة أخلاقية يجب الحرص عليها والتمسك بها، فهذا في نظره ضرب من ضروب استحضار الماضي، فقلة الإمكانيات وعظم المسؤوليات هي المبرر الوحيد المشروع لأن يفعل كل ما يفعل.

* العيب
ولعلنا نلاحظ أننا لا نعرف حتي الآن حدود «العيب» التي نتوقف عندها، فالرشوة رغم أنها سقطة فادحة إلا أن الضمير الاجتماعي العام أصبح لا يتوقف أمامها.
وقد استحدث لدينا منذ سنوات قانون اسمه «قانون العيب»! ولكنني لا أعلم حتي الآن ما هي هذه العيوب التي يحيط بها القانون حتي لا يتورط الإنسان في العيب، وإن كان في ظني أن القوانين العادية دوماً - وما أكثرها لدينا - كفيلة بأي انحراف لو طبقت. وما أكثر ما لدينا من قوانين معطلة مما أهدر نظرية الردع.
وليست القوانين وحدها هي السبيل للقضاء علي الانحراف، بل هناك دور الضمير الاجتماعي العام الذي يمكن له أن يتصدي، إذا تم رتق ثقوبه والحيلولة دون اتساعها. والعيب نسبي في المجتمع الواحد وبين المجتمعات المختلفة، وما نعتبره عيباً عندنا قد يكون شيئاً عادياً في مجتمع آخر، لكن الانحراف هو الانحراف في كل مكان، والمجتمعات لا تستقيم أمورها بالقوانين فقط، بل بضميرها العام الذي يشكل أساساً درعاً ضد الفساد.
انتظرونا فى .. الجزء الثاني من الدراسة

أم عمر
09-05-2008, 06:51 AM
جزاكم الله خيراً
دراسة جيدة جداً اسأل الله أن تصل إلى قلوب وعقول مسؤلينا
أما بالنسبة ل«قانون العيب»! هذا القانون يوجد عندنا فى مجال الصحافة فقط ولا يطبق على أى أحد إنما يطبق على الشرفاء ومن يقولون كلمة الحق أما غيرهم هذا القانون تنعدم قيمته ويتوقف تطبيقه أمامهم وإنا لله وإنا لله وإنا إليه راجعون.