المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فقه النصر والتمكين في القران الكريم


الفاررة الي الله
08-12-2008, 03:08 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اعرض لكم من كتاب الدكتور محمد علي الصلابي (فقه النصر والتمكين في القران الكريم ) وهو كتاب رائع علي كل مسلم وداعية قراته وتعلم هذا الفقه فالنصر باذن الله للمسلمين ادعو الله ان ينفع به واقول لكل المسلمين (ولاتهنوا ولاتحزنوا وانتم الاعلون ان كنتم مؤمنين )

فرفع راسك ايها المسلم بفجر واعتزاز واحمل راية النصر ليمكن لك الله في الارض


.................................................. ..............................
هذا تمهيد مختصر يعطى نبذة موجزة عن المصطلحات المتعلقة بعنوان البحث:

أولاً: الفقه: له معنيان، معنى لغوي، ومعنى اصطلاحي.

أ- والمعنى اللغوي فيه ثلاثة أقوال:

1- الفقه: مطلق الفهم سواء كان غرضًا للمتكلم أم لغيره، وهذا الذي عليه أئمة اللغة، واستدلوا له بما ورد في القرآن الكريم مثل قوله تعالى في شأن الكفار: *فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا" [النساء: 78]، ومثل قوله تعالى على لسان قوم شعيب عليه السلام: *مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ" [هود: 91] فيستفاد ويفهم من الآية الأولى أن فهم أي حديث ولو كان واضحًا سمي فقهًا، ويفهم من الآية الثانية أن قوم شعيب عليه السلام كانوا يفهمون بعض كلامه. ([1])

ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: *وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ" [الإسراء: 44]، وقوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ` يَفْقَهُوا قَوْلِي" [طه: 27، 28].

وقوله e: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».([2])

2- الفقه: هو فهم غرض المتكلم من كلامه سواء كان الغرض واضحًا أم غير واضح، فلا يسمى فهم ما ليس غرضًا للمتكلم فقهًا كفهم لغة الطير مثلاً.

3- الفقه: هو فهم الأشياء الدقيقة، فلا يقال فقهت أن السماء فوقنا والأرض تحتنا([3])، وهذا مردود بما قاله أئمة اللغة: إن الفقه هو مطلق الفهم، وامتناع قولهم فقهت السماء والأرض إنما هو من ناحية أن الفقه يتعلق بالمعاني لا بالمحسوسات، والسماء والأرض من قبيل المحسوسات.

والراجح من هذه المعاني هو المعنى الأول للفقه، الذي هو مطلق الفهم، ويقال فقه بكسر القاف: أي فهم، وفَقُهَ بالضم: صار الفقه له سجية وملكة، وفَقَه بالفتح: سبق غيره إلى الفهم. ([4])

ب- المعنى الاصطلاحي للفقه:

يراد بالفقه في اصطلاح الفقهاء والأصوليين: العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. ([5]) أو هو: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية. ([6])

ج- التطور التاريخي لكلمة (فقه):

أذن النبي e لبعض الصحابة في الاجتهاد بعد أن توافرت فيه شروطه وبسبب ابتعادهم عن النبي eوتعذر مراجعتهم له حين حدوث الواقعة كمعاذ بن جبل رضي الله عنه ([7]) حين بعثه إلى اليمن معلمًا وقاضيًا, وكان الصحابة الذين يجتهدون في بعض الوقائع الخاصة يعرضون اجتهادهم على النبي e بنية إقرارهم أو توجيههم إلى الصواب، ومع ذلك لم يشع إطلاق اسم الفقهاء عليهم، وإنما كانت هذه الكلمة ترد في توجيهات الرسول eوعلى ألسنة الصحابة والتابعين، وكان معناها عندهم يقصد به أصحاب الفطنة والبصيرة النافذة في أحكام الدين ومعاني النصوص من الكتاب والسُنَّة، ففي الحديث يقول e:«نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه ليس بفقيه»([8])، فذل الحديث على تفاوت الناس في فهم معاني النصوص وما ترمى إليه عند استخلاص الأحكام منها. ([9])

ومن هنا يتضح أن إطلاق كلمة (الفقه) كانت تعنى العلم بأحكام الدين على وجه العموم والشمول سواء كان فقه العقيدة، أو فقه التفسير أو فقه الحديث أو فقه الفتيا في أمور العبادات، والمعاملات، فيكون المقصود (بالفقهاء) هم العلماء في أمور الدين الإسلامي جملة، أما في أوساط عهد التابعين، فقد أخذت كلمة (الفقه) مدلولاً أخص من مدلولها الأول، فلا تطلق إلا على علم الأحكام الشرعية العملية التي يتوصل العلماء إلى استنباطها من الأدلة التفصيلية، واشتهر من اشتغل بهذا الجانب (بالفقهاء) فقيل: فقه الإمام أحمد([10]), وفقه الإمام الشافعي([11]), وفقه الإمام مالك, وفقه الإمام أبى حنيفة([12]) وهكذا([13]).ثانيًا: التمكين في اللغة والاصطلاح:

أ- التمكين في اللغة:

مصدر الفعل (مَكَّن) الذي يتكون من الحروف (م، ك، ن) ومنه (أمْكَنَه) منه بمعنى استمكن الرجل من الشيء، وتمكّن فلان من الشيء، وفلان لا (يُمْكِنه) النهوض أي لا يقدر عليه. ([14])

ومن التمكين المَكِنَة تقول العرب: إن بنى فلان لذو مَكِنة من السلطان أي تمكَّن ([15]). وتسمى العرب موضع الطير مكنة لتمكن الطير فيه ([16]), والمكانة عند العرب هي المنزلة عند الملك، والجمع مكانات، لا يجمع جمع تكسير، وقد مَكُن مَكانةً فهو مَكين، والجمع مُكنَاء, ونُمكّن - تمكُّن.

والمتمكن من الأسماء: ما قبـِـلَ الرفع والنصب والجر لفظًا. ([17])

فالتمكين في اللغة: سلطان وملك.

وقد أشار المولى عَزَّ وَجَلَّ في قوله تعالى عن ذي القرنين: *إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" [الكهف: 84].

والمعنى: أن الله مكن لهذا العبد الصالح في الأرض، فأعطاه سلطانًا قويًا، ويسر له كل الأسباب التي تدعم هذا السلطان، وأعطاه من كل شيء مما يحكم السلطان ويقويه، وكذلك الشأن في حديث القرآن الكريم، عن نبي الله يوسف بن يعقوب، عليهما السلام، فقد مكن الله ليوسف في الأرض * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ` وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ" [يوسف: 56، 57].

ب- التمكين في الاصطلاح:

دراسة أنواع التمكين وشروطه وأسبابه ومراحله وأهدافه ومعوقاته ومقوماته من أجل رجوع الأمة إلى ما كانت عليه من السلطة والنفوذ والمكانة في دنيا الناس.

وقد عرفه الشيخ الدكتور على عبد الحليم، بقوله: (هو الهدف الأكبر لكل مفردات العمل من أجل الإسلام، فالدعوة بكل مراحلها وأهدافها ووسائلها، والحركة وكل ما يتصل بها من جهود وأعمال، والتنظيم، وما يستهدفه في الدعوة والحركة، والتربية بكل أبعادها وأنواعها وأهدافها ووسائلها بحيث لا يختلف على ذلك الهدف الأكبر أحد العاملين من أجل الإسلام، كل العاملين مهما اختلفت برامجهم - بشرط أن تكون هذه البرامج من العاملين نابعة من القرآن الكريم والسنَّة المطهرة، وليس فيها شيء مما يغضب الله - لا يستطيعون أن يختلفوا في أن التمكين لدين الله في الأرض هو الهدف الأكبر في كل عمل إسلامي ([18]), حتى يكون سلطان الدين الإسلامي على كل دين, ونظام الحكم بهذا الدين على البشرية كلها وهذا التمكين يسبقه الاستخلاف والملك والسلطان، ويعقبه أمن بعد خوف) ([19]).

وعرفه الأستاذ محمد السيد محمد يوسف بقوله: (دراسة الأسباب التي أدت إلى زوال التمكين عن الأمة الإسلامية، والمقومات التي ترجع الأمة إلى التمكين، والعوائق التي تعترض العمل للتمكين، دراسة طبيعة الطريق إلى التمكين، وكذلك المبشرات على هذا الطريق، وذلك كله في ضوء القرآن الكريم مع الاستعانة بأحاديث النبي العظيم صلى الله عليه وسلم).([20])

وعرفه الأستاذ فتحي يكن بقوله: (بلوغ حال من النصر، وامتلاك قدر من القوة، وحيازة شيء من السلطة والسلطان، وتأييد الجماهير والأنصار والأتباع، وهو لون من ألوان الترسيخ في الأرض، وعلو الشأن) ([21]).


:astagfor:
ثالثًا: القرآن الكريم في اللغة والاصطلاح:

أ- معنى القرآن في اللغة:

القرآن من مادة قرأت, ومنه قرأت الشيء فهو قرآن: أي جمعته، وضممت بعضه إلى بعض، فمعناه: الجمع والضم، ومنه قولهم: ما قرأت هذه الناقة جنينًا، أي لم تضم رحمها على ولد ([22]).

قال أبو عبيدة ([23])- رحمه الله -: (...وإنما سمي قرآنًا لأنه يجمع السور فيضمها, وتفسير ذلك في آية القرآن، قال الله تعالى: *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ" [القيامة: 17]، أي: تأليف بعضه إلى بعض...) ثم قال: وفي آية أخرى: *فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ" [النحل: 98]، أي: إذا تلوت بعضهم في إثر بعض، حتى يجتمع، وينضم بعضه إلى بعض، ومعناه: يصير إلى معنى التأليف والجمع، ثم استشهد على هذا المعنى بقول عمرو بن كلثوم: ([24])

ذراعــي حـــرة أدمــاء بــكر هيـــجان اللــون لــم تقــــرأ جنينــا ([25])

أي لم تضم في رحمها ولدًا قط([26]), فيسمى القرآن قرآنًا، لأنه جمع القصص، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات والسور: بعضها إلى بعض([27]).

يذكر أبو بكر الباقلاني([28]): أن القرآن يكون مصدرًا واسمًا: مصدرًا كما في قوله تعالى: *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ" [القيامة: 17] واسمًا كما في قوله تعالى: *وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا" [الإسراء: 45] ويروى عن الشافعي - رحمه الله - أن القرآن اسم علم لكتاب الله، غير مشتق: كالتوراة والإنجيل. ([29])

قال القرطبي ([30])- رحمه الله-: (والصحيح الاشتقاق في الجميع) ([31]) أي في القرآن والتوراة والإنجيل.

:anotherone:
ب- معنى القرآن في الاصطلاح:

القرآن الكريم: هو اسم لكلام الله تعالى، المنزل على عبده ورسوله محمدصلى الله عليه وسلم، وهو اسم لكتاب الله خاصة، ولا يسمى به شيء غيره من سائر الكتب ([32])، وإضافة الكلام إلى الله تعالى إضافة حقيقية، من باب إضافة الكلام إلى قائله.

ولما ظهر الخوض في صفات الله تعالى، وفي كلام الله خاصة، من قبل الزنادقة، وفرق المبتدعة، احتاج أهل السُّنَّة إلى تعريف القرآن تعريفًا يظهرون فيه معتقدهم في صفات الله تعالى عامة، وفي صفة الكلام خاصة، ومنه القرآن, مخالفين بذلك أهل البدع من الجهمية([33]) والمعتزلة ([34]) وغيرهم.

قال أبو جعفر الطحاوى ([35])-رحمه الله -: (وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًا, وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه، فزعم أنه كلام البشر فقد كفر)([36]).

:ozkorallah:
--------------------------------------------------------------------------------

([1]) انظر: لسان العرب لأبي الفضل جمال الدين بن منظور (ج 11كتاب الهاء فصل الفاء/ 522).

([2]) البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين (1/30) رقم 71.

([3]) شرح الأسنوي (ج1/15)، أصول الفقه لأبي النور زهير(1/6).

([4]) انظر: أصول الفقه الإسلامي، د. حسن الأهدل ص10.

([5]) انظر: المفردات للراغب الأصبهاني ص384.

([6]) انظر: شرح الكوكب المنير للفتوحي ص11.

([7]) هومعاذ بن جبل الخزرجى الأنصاري البدرى من أعلم الصحابة بالحلال والحرام, توفى في طاعون عمواس سنة 18هـ وعمره ست وثلاثون سنة، سير أعلام النبلاء (1/443-460).

([8]) أبو داود، كتاب العلم، باب فضل نشر العلم (3/322) رقم 3660.

([9]) انظر: المدخل إلى الفقه الإسلامي، د. عبد الله الدرعان ص31.

([10]) هو أبو عبد الله أحمد بن محمد الشيباني ولد عام 164هـ وتوفى عام 241هـ, انظر: تقريب التهذيب ص84.

([11]) هو محمد بن إدريس بن هاشم المطلبى ولد عام 150هـ ، وتوفى عام 254هـ, تقريب التهذيب ص 467.

([12]) هو النعمان بن ثابت الكوفي فقيه مشهور مات عام 150هـ, تقريب التهذيب ص 563.

([13]) انظر: المدخل إلى الفقه الإسلامي، د. عبد الله الدرعان، ص 31.

([14]) انظر: مختار الصحاح لأبي محمد الرازي، ص 635.

([15]) انظر: لسان العرب (ج13، فصل النون، باب مكن ص414).

([16]) نفس المصدر، (ج13، فصل النون، باب مكن ص414).

([17]) نفس المصدر السابق، ص415.

([18]) انظر: فقه المسئولية، ص358.

([19]) انظر: فقه الدعوة إلى الله (2/713، 714).

([20]) التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم، ص13.

([21]) انظر: مجلة المجتمع العدد 1249- 6محرم 1418هـ 13/5/1997م.

([22]) انظر: الصحاح للجوهري، مادة قرأ (1/65).

([23]) هو معمر بن المثنى التميمي مولاهم البصري، النحوي، صاحب التصانيف، ولد سنة 11هـ ومات سنة 209هـ . انظر: سير أعلام النبلاء (9/445).

([24]) هو عمرو بن كلثوم التغلبي : من أصحاب المعلقات السبع ومن كبار شعراء الجاهلية. انظر: شرح المعلقات السبع ص180.

([25]) انظر: شرح القصائد السبع الطوال، لأبي بكر محمد بن القاسم الأنبارى، ص380.

([26]) مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر التميمي (1/1-3).

([27]) انظر: لسان العرب، كتاب (أ-ب) فصل الهمزة، باب أقرأ (1/128).

([28]) هو إمام المتكلمين ورأس الأشاعرة أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد القاضي المعروف بابن الباقلاني البصري المالكي صاحب المصنفات, وكان له حظ في العبادة توفى سنة 403هـ، انظر: شذرات الذهب (3/167).

([29]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (ج2/ 298).

([30]) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي، تفقه على مذهب الإمام مالك، واعتنى بتفسير القرآن الكريم, توفى رحمه الله سنة 671هـ انظر: المذهب لابن فرحون (318،317).

([31]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/298).

([32])المصدر السابق نفسه.

([33]) هم أتباع جهم بن صفوان الخراساني توفى عام 128هـ انظر: سير أعلام النبلاء (6/26).

([34]) أتباع واصل بن عطاء وهم يقولون بخلق القرآن وغير ذلك من البدع، والملل والنحل (1/43).

([35]) هو أحمد بن سلامة الأزدي المصري من صعيد مصر توفى عام 321هـ. انظر: البداية والنهاية (11/174).

([36]) شرح الطحاوية (ص 121، 122).




يتبعععععععععععععع ان شاء الله


سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

الفاررة الي الله
08-12-2008, 03:13 AM
أنواع التمكين في القرآن الكريم

تمهيد

قال تعالى:*إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ"[غافر: 51].

وقال سبحانه: *وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" [الروم: 47]. وقال تعالى: *إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ" [محمد:7]. وقال تعالى: *وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ` إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ` وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" [الصافات: 171- 173].

إن هذه الآيات وأمثالها تشير إلى نصر الله وإعزاز أهل الإيمان ممن يحرصون على الدعوة ويتحملون المشاق في سبيلها سواء كان الداعية رسولاً كريمًا أو أحد المؤمنين، وهذا الإعزاز والانتصار والتمكين يكون في الحياة الدنيا قبل الآخرة.

ونجد في القرآن الكريم والسنُّة النبوية المطهرة، أن من الأنبياء من قتله أهل الكفر والشرك، كيحيي وزكريا عليهما السلام وغيرهما، ومنهم من حاول قومه قتله إلا أن الله نجاه منهم كنبينا محمد × وعيسى ابن مريم عليه السلام، وكإبراهيم الذي ترك قومه وعشيرته مهاجرًا إلى الشام, ونجد من أهل الإيمان على مر العصور ومر الدهور من يسام سوء العذاب وفيهم من يلقى في خدود الأرض المليئة بالنيران المحرقة، ومنهم من يقتل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر، ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر والظفر والتمكين؟ وقد طُردوا أو قتلوا أو عذبوا؟ ([1])

يقول سيد قطب - رحمه الله -: (ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل:

إن الناس يقيسون بظواهر الأمور، ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.

إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان وحيز محدود من المكان وهي مقاييس بشرية صغيرة، فأما المقياس الشامل، فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر، ولا بين مكان ومكان، ولو نظرنا إلى قضية الإيمان والاعتقاد لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الإيمان هو انتصار أصحابها، فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها، وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها.

والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتى، وقد يلتبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة.. إبراهيم عليه السلام وهو يلقي في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها..أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك -في منطق العقيدة - أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار, كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار، هذه صورة وتلك صورة وهما في الظاهر بعيد من بعيد.. فأما في الحقيقة قريب من قريب). ([2])

(وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزًا محركًا للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزًا محركًا لخطى التاريخ كله مدى أجيال). ([3])

(إن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة: ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة، لقد انتصر محمد × في حياته، لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض، فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعًا، من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة، فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعية تاريخية محدودة مشهودة، ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية وفق تقدير الله وترتيبه) ([4]).

إن النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدة، وصور متنوعة من أهمها؛ تبليغ الرسالة، وهزيمة الأعداء، وإقامة الدولة.





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) انظر: حقيقة الانتصار، ص (13، 14).

([2]) انظر: الظلال (5/3086).

([3]) المصدر نفسه، (5/3086).

([4]) المصدر نفسه، (5/3086)..
:anotherone:



.................................................. ..



تبليغ الرسالة وأداء الأمانة

إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم، تمكين الله تعالى للدعاة، بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، واستجابة الخلق لهم، وقد أشار القرآن إلى عدة نماذج من ذلك:

أصحاب القرية

قال تعالى: *وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ` إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ ` قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ` قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ` وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ` قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ" [يس: 13- 18].

إن أهل هذه القرية لم يستجيبوا لدعوة المرسلين، ومضوا في كفرهم وعنادهم غير مبالين، وهددوا المرسلين بالرجم والعذاب الأليم، والمتأمل في الآيات القرآنية تظهر له بعض معاني النصر والتمكين، التي حققها المرسلون، وبذلك يكونون قد نصروا نصرًا مؤزرًا، وأن أصحاب القرية هم الخاسرون، إن معاني النصر ظهرت في الحقائق التالية:

1- تمكين الله تعالى للمرسلين بحيث استطاعوا تبليغ رسالته، ولم يستسلموا لشبهة أهل القرية أولاً، وتهديدهم ثانيًا، وهذه هي مهمتهم: *وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ" [يس: 17] ومن أدى ما عليه فقد انتصر وفاز ونجح.

2- إن استجابة رجل من أهل القرية لهم، وتأييده لدعوة التوحيد علانية يعد نصرًا وانتصارًا له ولهم، ولذلك كان رد أهل القرية عنيفًا تجاهه، لأنهم شعروا بخذلانه لهم، وخذلانهم نصر لأولئك الرسل.

3- إن استشهاد الرجل الذي جاء من أقصى المدينة نصر له ولدعوة التوحيد حيث استطاع أن يودع في قلوب الناس من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي كتبها بدمه، فأصبحت حافزًا محركًا لأهل الإيمان على مر الدهور ومر العصور منذ نزول القرآن الكريم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إن قتله في سبيل دعوة التوحيد كان سببًا في فوزه الأبدي بدخول الجنة *قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ" [يس: 26].

لقد تمكن التوحيد في قلبه فجعله حريصًا على هداية قومه، فلم يحمل حقدًا ولا ضغينة مع تعذيب قومه له وقتله، وهذا انتصار عظيم على النفس البشرية: *قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ` بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ" [يس: 26، 27].

إن وصول دعوة التوحيد إلى أقصى المدينة دليل على المجهود العظيم الذي بذله المرسلون وتدل على المعاني العظيمة من الصدق والإخلاص التي تمكنت في نفوسهم من أجل دعوة التوحيد.

4- إن انتصارات هؤلاء الرسل وهذا الداعية الذي جاء من أقصى المدينة توجت بهلاك القوم الذين كذبوا بدعوة المرسلين *وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُنْدٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ` إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ" [يس: 28، 29].

إن الدعاة إلى الله في أمسِّ الحاجة إلى أن يقفوا مع قصة أصحاب القرية، ويتأملوا ويتفكروا في أبعادها ونهاياتها. إنني أريد أن أقف مع الرجل المؤمن الذي تمكن الإيمان في قلبه, ماذا فعل في نفسه ذلك الإيمان العظيم، لقد وفق سيد قطب رحمه الله في تحليل نفسية هذا النموذج الطيب والرجل المؤمن المستجيب لدعوة الرسل، وحلل نفسيته الخيرة، فقال: إنها استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيها الصدق والبساطة، والحرارة، واستقامة الإدراك، وتلبية الإيقاع القوي للحق المبين.

فهذا الرجل سمع الدعوة واستجاب لها بعد ما رأى فيها دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه وحينما استشعر حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتًا، ولم يقبع في داره بعقيدته، وهو يرى الضلال من حوله والجحود والفجور، ولكنّه سعى بالحق الذي استقر في ضميره, وتحرك في شعوره، سعى به إلى قومه، وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويتهدّدون.

وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفّهم عن البغي وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبّوه على المرسلين.

وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولم يكن في عزة من قومه أو منعة من عشيرته، ولكنّها العقيدة الحيّة في ضميره، تدفعه وتجئ به من أقصى المدينة إلى أقصاها.([1])ولقد أجاد الإمام الفخر الرازي([2]) في الإشارة إلى بعض المعاني العظيمة التي تشير إلى تمكن دعوة التوحيد في قلب الرجل المؤمن الصادق المخلص.. وأنقل إليك بعض هذه المعاني:

1- إن ارتباط الرجل المؤمن مع ما سبق من آيات القصّة له وجهان:

أحدهما: أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين، حيث آمن بهم الرجل الساعي، وعلى هذا ففي قوله: *مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ" بلاغة باهرة، فهو يدل على أن إنذار الرسل قد بلغ إلى أقصى المدينة.

الثاني: أن ذكر قصة الرجل المؤمن بالمرسلين تسلية لقلوب أصحاب الرسول eوتثبيتهم على الدعوة، كما كان ذكر الرسل الثلاثة تسلية لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم.

2- في تنكير *رَجُلٌ" فائدتان وحكمتان:

الأولى: أن يكون تعظيمًا لشأنه، أي رجل كامل في الرجوليّة.

الثانية: أن يكون مفيدًا لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال إنَّهم تواطأوا.

3- في قوله: *يَسْعَى" تبصير للمؤمنين وهداية لهم، ليكونوا في النصح باذلين جهدهم، ساعين فيه، مقتدين بالرجل الذي جاء يسعى.

4- في قوله: *يَا قَوْمِ" معنى لطيف, حيث يشير إلى إشفاقه عليهم، وإضافتهم إليه دليل على أنه لا يريد بهم إلا خيرًا.

5- في قوله: *اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" دعوة منه لهم إلى اتباع المرسلين، ولم يقل: اتبعوني كما دعا مؤمن آل فرعون في سورة غافر، وذلك لأنه جاء من أقصى المدينة، ولم يكن معهم ولا بينهم، فدعا إلى اتباع المرسلين الذين أظهروا لهم الدليل، وأوضحوا لهم السبيل.

6- جمع في قوله: *اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" بين إظهار النصيحة في قوله: *اتَّبِعُوا" وإظهار الإيمان في قوله: *الْمُرْسَلِينَ" وقدّم النصيحة على الإيمان لكونه أبلغ في النصح.

7- في قوله: *اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ" معنى حسن لطيف، واستخدام لأحسن الأساليب في النقاش والجدال والإقناع، حيث نزل فيه درجة لإقناعهم، وكأنه يقول لهم: افترضوا أنهم ليسوا مرسلين ولا هداة، ولكنهم مهتدون عالمون بالطريقة المستقيمة التي توصلهم إلى الحق، ثم هم لا يسألونكم أجرًا ولا مالاً، وهذا الأمر يدعوكم إلى اتباعهم والاستجابة لهم.

8- في قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" استفهام استنكاري، وفيه إشارة إلى أن الأمر من جهة عبادة الله وحده لا خفاء فيه، وعلى الذي لا يعبده أن يقدّم السبب الذي يمنعه من عبادته، أما أنا فلا أجد مانعًا يمنعني من عبادته.

9- وفي قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" لطيفة أخرى، حيث عدل عن مخاطبة القوم إلى الحديث عن نفسه، والحكمة في ذلك، وهو أنه لا يخفى عليه حال نفسه، ولذلك فهو لا يطلب العلة والدليل من أحد آخر، لأنه أعلم بحال نفسه.

10- جمع في قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" بين أمرين يتعلقان بإيمانه بالله.

الأول: هو عدم المانع الذي يمنعه من الإيمان في قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي".

والثاني: هو قيام المقتضى الذي يدعوه إلى الإيمان، وهو في قوله: *الَّذِي فَطَرَنِي"، فالله الخالق مالك ومنعم, وعلى العبيد عبادته وشكره.

11- قدم عدم المانع من الإيمان على المقتضى الذي يدعوه للإيمان في قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" ولم يقل: (فطركم) لأنه هو الأهم من المقصود من السياق.

12- قال: *فَطَرَنِي" ولم يقل: (فطركم) لأنه يتحدث عن نفسه وليس عنهم، ولتناسقه مع قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ"، حيث أسند العبادة إلى نفسه فناسب أن يسند الخلق إلى نفسه.

13- يتضمن قوله: *وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" الخوف والرجاء في عبادة الله، فمن يكون إليه المرجع والمآب، يخاف منه ويرجى.

14- هناك حكمة لطيفة من الالتفات إليهم في قوله: * وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" ليبين الفرق بينه وبينهم من الرجوع إلى الله، فرجوعه هو إلى الله ليس كرجوعهم هم.

رجوعه هو إلى الله رجوع العابد المؤمن بالله، ولهذا رجوعه للإكرام والإنعام، أما رجوعهم هم، فهو رجوع الكافر العاصي، ليحاسب ويعاقب ويعذّب, فرجوعهم للعذاب والإهانة وشتان بين رجوعين.

15- في قوله: *أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة إلى كمال التوحيد، فقوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" إشارة إلى وجود الله، وفي قوله:*أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة إلى نفي الشرك به وعدم عبادة غيره.

16- في قوله: *مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة لطيفة، فالدونية هنا مقصودة فبما أنه ثبت أن الله وحده هو الخالق المعبود، فكل غير الله هم **دُونِهِ"" وهؤلاء جميعًا مشتركون في كونهم مخلوقين ضعفاء، محتاجين إلى الله، مفتقرين إليه؛ ولذلك يجب أن يكونوا جميعًا عابدين له، وبما أنهم كلهم (من دونه شركاء في الدونية) فكيف يكون من بينهم آلهة؟!

17- في قوله: *إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ" يخاطب الجميع، سواء كانوا من المرسلين أو من أهل القرية، لكنه أول ما يتوجه إلى أهل القرية، حيث يثبت لهم أن الله وحده ربُّهم.

18- في قوله: *فَاسْمَعُونِ" ما يدل على أنه كان مترويًا مفكرًا، فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين، فإنه يتفكر فيه، كما أنه يقصد أن يُسمعهم ليقيم الحجة عليهم، وكأنه يقول لهم: إني أخبرتكم بما فعلت، حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك، ولو أظهرت أمرك لاتبعناك.

19- المراد بالسماع في قوله: *فَاسْمَعُونِ" ليس مجرد سماع الصوت، بل قبول الدعوة، والاستجابة لصوت الحق والدخول في الإيمان. ([3])

إن هذه المنهجية الفريدة مع صدق الدعوة وإخلاص التوجه، والحرص على الهداية، وظهور الشجاعة، وترتيب الأفكار، وقوة المنطق ترجع إلى تمكن الإيمان الحقيقي في قلب ذلك الرجل الرباني، كما أن المرسلين الذين استطاعوا أن يضموا إلى موكب الإيمان وقافلة الدعوة مثل هذا الرجل المخلص لَدلَيل على نصر الله لهم وتمكين دعوتهم وظهور حجتهم. إن دعوة الله يستجيب لها من اتصف بصفة الرجولة, وهناك فرق بين الرجولة والذكورة، فإن الذكورة تقابل الأنوثة، فالزوجان هما الذكر والأنثى.

والذكورة صفة جسدية بدنية ليس إلا؛ لكنّ الرجولة تشير إلى الشدة والقوة والتحمُّل والشجاعة والثبات، فهي تشير إلى صفات نفسية، ومزايا معنوية، وفضائل أخلاقية.

ولعله لأجل هذا وردت صفة الرجولة في مقام مدح وثناء وإشارة، قال تعالى: *وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ..." [القصص: 20].وقال تعالى: *وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" [يس:20].

وقال تعالى:*وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ" [غافر:28].

وقال تعالى:*مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" [الأحزاب: 23].

وقال تعالى:*فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ `رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ" [النور: 36، 37].

وقال تعالى:*فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ" [التوبة: 108].

إن خطوة ذلك الرجل المؤمن تعتبر موقفًا إيمانيًا عظيمًا، وتدل على أن الحياة فعلاً مواقف، وأن الرجال بمواقفهم لا بأعمارهم، لقد آمن في وقت المحنة والشدة والابتلاء، واتَّبع المرسلين وهم مستضعفون، وتحدى بذلك القوة المادية الغاشمة، وأعلن عن إيمانه وطلب أن يسمعوه، مع أنه يرى الخطر أمامه، ويتوقع أن يناله الأذى والمكروه، وقد يؤدي موقفه إلى إزهاق روحه، ومع ذلك آمن وأعلن إيمانه، واستعد لتحمل نتيجة موقفه. ([4])

إن الذين يسعون لتمكين شرع الله في دنيا الناس عليهم أن يتصفوا بصفات الرجولة ويحرصوا على ضم من تظهر فيهم هذه الصفات الجميلة إلى صفوفهم.

إن ذلك الرجل الرباني أصبح نبراسًا ومعلمًا بارزًا على طريق الدعوة، يقتدي به الدعاة في انحيازهم إلى جانب الحق والتزامه والدعوة إليه، ولسان حال أحدهم يقول للآخرين: *إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ".

إن انتصار منهج الله والتمكين له وتعرف الناس عليه، يحتاج إلى رجال يرفعون أصواتهم حتى يسمع الآخرون، إن جمال الحياة ورونقها البهي وحلاوتها النضرة تكون بنصرة الحق ودك الباطل في حصونه.

وإن المواقف الإيمانية ابتغاء مرضاة الله رفعة للداعية في الدنيا والآخرة.

إن أصحاب المواقف الإيمانية هم دائمًا الرابحون، فعندما يدفع الإنسان المؤمن حياته وعمره ودنياه، وهو هبة ومنحة وعطية وفضل من الله مقابل الجنة والنعيم الدائم والخلود الأبدي يكون ربح ربحًا وفيرًا وفاز فوزًا عظيمًا.

إن أهل الإيمان يكظمون غيظهم، ويحلمون على الجهلة والصبر على دعوة الأشرار وأهل البغي والسعي في تخليصهم, ويبتعدون عن الشماتة بالأعداء, ألا ترى كيف تمنى الرجل الرباني الخير لقتلته، والباغين له الغوائل، وهم كفرة عبده أصنام. ([5])

إن دخول الجنة مع الشهادة في سبيل الله نوع من التمكين، واستئصال أهل الشرك الذين عاندوا الدعاة نوع من النصر لأولياء الله.





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) الظلال: (5/2962- 2963).

([2]) هو العالم الأصولي المفسر فخر الدين بن عمر بن الحُسين الرازي, اشتهر بعلم الأصول والنحو والشعر والوعظ, وكان يوعظ باللسانين العربي والعجمي وكان كثير البكاء, توفى عام 606هـ انظر: الوفيات (4/ 248).

([3]) انظر: تفسير الرازي (26/54-60) مع التصرف.

([4]) انظر: مع قصص السابقين للخالدى (7/256).

([5]) المصدر السابق، (7/260).

أم الزبير محمد الحسين
08-12-2008, 03:18 AM
بارك الله في مجهودك يا حبيبة
وجزاك الله خيرا

الفاررة الي الله
08-12-2008, 03:18 AM
أنواع التمكين في القرآن الكريم

تمهيد

قال تعالى:*إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ"[غافر: 51].

وقال سبحانه: *وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" [الروم: 47]. وقال تعالى: *إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ" [محمد:7]. وقال تعالى: *وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ` إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ` وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" [الصافات: 171- 173].

إن هذه الآيات وأمثالها تشير إلى نصر الله وإعزاز أهل الإيمان ممن يحرصون على الدعوة ويتحملون المشاق في سبيلها سواء كان الداعية رسولاً كريمًا أو أحد المؤمنين، وهذا الإعزاز والانتصار والتمكين يكون في الحياة الدنيا قبل الآخرة.

ونجد في القرآن الكريم والسنُّة النبوية المطهرة، أن من الأنبياء من قتله أهل الكفر والشرك، كيحيي وزكريا عليهما السلام وغيرهما، ومنهم من حاول قومه قتله إلا أن الله نجاه منهم كنبينا محمد × وعيسى ابن مريم عليه السلام، وكإبراهيم الذي ترك قومه وعشيرته مهاجرًا إلى الشام, ونجد من أهل الإيمان على مر العصور ومر الدهور من يسام سوء العذاب وفيهم من يلقى في خدود الأرض المليئة بالنيران المحرقة، ومنهم من يقتل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر، ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر والظفر والتمكين؟ وقد طُردوا أو قتلوا أو عذبوا؟ ([1])

يقول سيد قطب - رحمه الله -: (ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل:

إن الناس يقيسون بظواهر الأمور، ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.

إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان وحيز محدود من المكان وهي مقاييس بشرية صغيرة، فأما المقياس الشامل، فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر، ولا بين مكان ومكان، ولو نظرنا إلى قضية الإيمان والاعتقاد لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الإيمان هو انتصار أصحابها، فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها، وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها.

والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتى، وقد يلتبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة.. إبراهيم عليه السلام وهو يلقي في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها..أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك -في منطق العقيدة - أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار, كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار، هذه صورة وتلك صورة وهما في الظاهر بعيد من بعيد.. فأما في الحقيقة قريب من قريب). ([2])

(وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزًا محركًا للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزًا محركًا لخطى التاريخ كله مدى أجيال). ([3])

(إن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة: ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة، لقد انتصر محمد × في حياته، لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض، فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعًا، من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة، فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعية تاريخية محدودة مشهودة، ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية وفق تقدير الله وترتيبه) ([4]).

إن النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدة، وصور متنوعة من أهمها؛ تبليغ الرسالة، وهزيمة الأعداء، وإقامة الدولة.





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) انظر: حقيقة الانتصار، ص (13، 14).

([2]) انظر: الظلال (5/3086).

([3]) المصدر نفسه، (5/3086).

([4]) المصدر نفسه، (5/3086)..
:anotherone:



.................................................. ..



تبليغ الرسالة وأداء الأمانة

إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم، تمكين الله تعالى للدعاة، بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، واستجابة الخلق لهم، وقد أشار القرآن إلى عدة نماذج من ذلك:

أصحاب القرية

قال تعالى: *وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ` إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ ` قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ` قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ` وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ` قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ" [يس: 13- 18].

إن أهل هذه القرية لم يستجيبوا لدعوة المرسلين، ومضوا في كفرهم وعنادهم غير مبالين، وهددوا المرسلين بالرجم والعذاب الأليم، والمتأمل في الآيات القرآنية تظهر له بعض معاني النصر والتمكين، التي حققها المرسلون، وبذلك يكونون قد نصروا نصرًا مؤزرًا، وأن أصحاب القرية هم الخاسرون، إن معاني النصر ظهرت في الحقائق التالية:

1- تمكين الله تعالى للمرسلين بحيث استطاعوا تبليغ رسالته، ولم يستسلموا لشبهة أهل القرية أولاً، وتهديدهم ثانيًا، وهذه هي مهمتهم: *وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ" [يس: 17] ومن أدى ما عليه فقد انتصر وفاز ونجح.

2- إن استجابة رجل من أهل القرية لهم، وتأييده لدعوة التوحيد علانية يعد نصرًا وانتصارًا له ولهم، ولذلك كان رد أهل القرية عنيفًا تجاهه، لأنهم شعروا بخذلانه لهم، وخذلانهم نصر لأولئك الرسل.

3- إن استشهاد الرجل الذي جاء من أقصى المدينة نصر له ولدعوة التوحيد حيث استطاع أن يودع في قلوب الناس من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي كتبها بدمه، فأصبحت حافزًا محركًا لأهل الإيمان على مر الدهور ومر العصور منذ نزول القرآن الكريم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إن قتله في سبيل دعوة التوحيد كان سببًا في فوزه الأبدي بدخول الجنة *قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ" [يس: 26].

لقد تمكن التوحيد في قلبه فجعله حريصًا على هداية قومه، فلم يحمل حقدًا ولا ضغينة مع تعذيب قومه له وقتله، وهذا انتصار عظيم على النفس البشرية: *قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ` بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ" [يس: 26، 27].

إن وصول دعوة التوحيد إلى أقصى المدينة دليل على المجهود العظيم الذي بذله المرسلون وتدل على المعاني العظيمة من الصدق والإخلاص التي تمكنت في نفوسهم من أجل دعوة التوحيد.

4- إن انتصارات هؤلاء الرسل وهذا الداعية الذي جاء من أقصى المدينة توجت بهلاك القوم الذين كذبوا بدعوة المرسلين *وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُنْدٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ` إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ" [يس: 28، 29].

إن الدعاة إلى الله في أمسِّ الحاجة إلى أن يقفوا مع قصة أصحاب القرية، ويتأملوا ويتفكروا في أبعادها ونهاياتها. إنني أريد أن أقف مع الرجل المؤمن الذي تمكن الإيمان في قلبه, ماذا فعل في نفسه ذلك الإيمان العظيم، لقد وفق سيد قطب رحمه الله في تحليل نفسية هذا النموذج الطيب والرجل المؤمن المستجيب لدعوة الرسل، وحلل نفسيته الخيرة، فقال: إنها استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيها الصدق والبساطة، والحرارة، واستقامة الإدراك، وتلبية الإيقاع القوي للحق المبين.

فهذا الرجل سمع الدعوة واستجاب لها بعد ما رأى فيها دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه وحينما استشعر حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتًا، ولم يقبع في داره بعقيدته، وهو يرى الضلال من حوله والجحود والفجور، ولكنّه سعى بالحق الذي استقر في ضميره, وتحرك في شعوره، سعى به إلى قومه، وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويتهدّدون.

وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفّهم عن البغي وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبّوه على المرسلين.

وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولم يكن في عزة من قومه أو منعة من عشيرته، ولكنّها العقيدة الحيّة في ضميره، تدفعه وتجئ به من أقصى المدينة إلى أقصاها.([1])ولقد أجاد الإمام الفخر الرازي([2]) في الإشارة إلى بعض المعاني العظيمة التي تشير إلى تمكن دعوة التوحيد في قلب الرجل المؤمن الصادق المخلص.. وأنقل إليك بعض هذه المعاني:

1- إن ارتباط الرجل المؤمن مع ما سبق من آيات القصّة له وجهان:

أحدهما: أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين، حيث آمن بهم الرجل الساعي، وعلى هذا ففي قوله: *مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ" بلاغة باهرة، فهو يدل على أن إنذار الرسل قد بلغ إلى أقصى المدينة.

الثاني: أن ذكر قصة الرجل المؤمن بالمرسلين تسلية لقلوب أصحاب الرسول eوتثبيتهم على الدعوة، كما كان ذكر الرسل الثلاثة تسلية لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم.

2- في تنكير *رَجُلٌ" فائدتان وحكمتان:

الأولى: أن يكون تعظيمًا لشأنه، أي رجل كامل في الرجوليّة.

الثانية: أن يكون مفيدًا لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال إنَّهم تواطأوا.

3- في قوله: *يَسْعَى" تبصير للمؤمنين وهداية لهم، ليكونوا في النصح باذلين جهدهم، ساعين فيه، مقتدين بالرجل الذي جاء يسعى.

4- في قوله: *يَا قَوْمِ" معنى لطيف, حيث يشير إلى إشفاقه عليهم، وإضافتهم إليه دليل على أنه لا يريد بهم إلا خيرًا.

5- في قوله: *اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" دعوة منه لهم إلى اتباع المرسلين، ولم يقل: اتبعوني كما دعا مؤمن آل فرعون في سورة غافر، وذلك لأنه جاء من أقصى المدينة، ولم يكن معهم ولا بينهم، فدعا إلى اتباع المرسلين الذين أظهروا لهم الدليل، وأوضحوا لهم السبيل.

6- جمع في قوله: *اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" بين إظهار النصيحة في قوله: *اتَّبِعُوا" وإظهار الإيمان في قوله: *الْمُرْسَلِينَ" وقدّم النصيحة على الإيمان لكونه أبلغ في النصح.

7- في قوله: *اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ" معنى حسن لطيف، واستخدام لأحسن الأساليب في النقاش والجدال والإقناع، حيث نزل فيه درجة لإقناعهم، وكأنه يقول لهم: افترضوا أنهم ليسوا مرسلين ولا هداة، ولكنهم مهتدون عالمون بالطريقة المستقيمة التي توصلهم إلى الحق، ثم هم لا يسألونكم أجرًا ولا مالاً، وهذا الأمر يدعوكم إلى اتباعهم والاستجابة لهم.

8- في قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" استفهام استنكاري، وفيه إشارة إلى أن الأمر من جهة عبادة الله وحده لا خفاء فيه، وعلى الذي لا يعبده أن يقدّم السبب الذي يمنعه من عبادته، أما أنا فلا أجد مانعًا يمنعني من عبادته.

9- وفي قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" لطيفة أخرى، حيث عدل عن مخاطبة القوم إلى الحديث عن نفسه، والحكمة في ذلك، وهو أنه لا يخفى عليه حال نفسه، ولذلك فهو لا يطلب العلة والدليل من أحد آخر، لأنه أعلم بحال نفسه.

10- جمع في قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" بين أمرين يتعلقان بإيمانه بالله.

الأول: هو عدم المانع الذي يمنعه من الإيمان في قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي".

والثاني: هو قيام المقتضى الذي يدعوه إلى الإيمان، وهو في قوله: *الَّذِي فَطَرَنِي"، فالله الخالق مالك ومنعم, وعلى العبيد عبادته وشكره.

11- قدم عدم المانع من الإيمان على المقتضى الذي يدعوه للإيمان في قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" ولم يقل: (فطركم) لأنه هو الأهم من المقصود من السياق.

12- قال: *فَطَرَنِي" ولم يقل: (فطركم) لأنه يتحدث عن نفسه وليس عنهم، ولتناسقه مع قوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ"، حيث أسند العبادة إلى نفسه فناسب أن يسند الخلق إلى نفسه.

13- يتضمن قوله: *وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" الخوف والرجاء في عبادة الله، فمن يكون إليه المرجع والمآب، يخاف منه ويرجى.

14- هناك حكمة لطيفة من الالتفات إليهم في قوله: * وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" ليبين الفرق بينه وبينهم من الرجوع إلى الله، فرجوعه هو إلى الله ليس كرجوعهم هم.

رجوعه هو إلى الله رجوع العابد المؤمن بالله، ولهذا رجوعه للإكرام والإنعام، أما رجوعهم هم، فهو رجوع الكافر العاصي، ليحاسب ويعاقب ويعذّب, فرجوعهم للعذاب والإهانة وشتان بين رجوعين.

15- في قوله: *أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة إلى كمال التوحيد، فقوله: *وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" إشارة إلى وجود الله، وفي قوله:*أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة إلى نفي الشرك به وعدم عبادة غيره.

16- في قوله: *مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة لطيفة، فالدونية هنا مقصودة فبما أنه ثبت أن الله وحده هو الخالق المعبود، فكل غير الله هم **دُونِهِ"" وهؤلاء جميعًا مشتركون في كونهم مخلوقين ضعفاء، محتاجين إلى الله، مفتقرين إليه؛ ولذلك يجب أن يكونوا جميعًا عابدين له، وبما أنهم كلهم (من دونه شركاء في الدونية) فكيف يكون من بينهم آلهة؟!

17- في قوله: *إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ" يخاطب الجميع، سواء كانوا من المرسلين أو من أهل القرية، لكنه أول ما يتوجه إلى أهل القرية، حيث يثبت لهم أن الله وحده ربُّهم.

18- في قوله: *فَاسْمَعُونِ" ما يدل على أنه كان مترويًا مفكرًا، فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين، فإنه يتفكر فيه، كما أنه يقصد أن يُسمعهم ليقيم الحجة عليهم، وكأنه يقول لهم: إني أخبرتكم بما فعلت، حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك، ولو أظهرت أمرك لاتبعناك.

19- المراد بالسماع في قوله: *فَاسْمَعُونِ" ليس مجرد سماع الصوت، بل قبول الدعوة، والاستجابة لصوت الحق والدخول في الإيمان. ([3])

إن هذه المنهجية الفريدة مع صدق الدعوة وإخلاص التوجه، والحرص على الهداية، وظهور الشجاعة، وترتيب الأفكار، وقوة المنطق ترجع إلى تمكن الإيمان الحقيقي في قلب ذلك الرجل الرباني، كما أن المرسلين الذين استطاعوا أن يضموا إلى موكب الإيمان وقافلة الدعوة مثل هذا الرجل المخلص لَدلَيل على نصر الله لهم وتمكين دعوتهم وظهور حجتهم. إن دعوة الله يستجيب لها من اتصف بصفة الرجولة, وهناك فرق بين الرجولة والذكورة، فإن الذكورة تقابل الأنوثة، فالزوجان هما الذكر والأنثى.

والذكورة صفة جسدية بدنية ليس إلا؛ لكنّ الرجولة تشير إلى الشدة والقوة والتحمُّل والشجاعة والثبات، فهي تشير إلى صفات نفسية، ومزايا معنوية، وفضائل أخلاقية.

ولعله لأجل هذا وردت صفة الرجولة في مقام مدح وثناء وإشارة، قال تعالى: *وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ..." [القصص: 20].وقال تعالى: *وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" [يس:20].

وقال تعالى:*وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ" [غافر:28].

وقال تعالى:*مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" [الأحزاب: 23].

وقال تعالى:*فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ `رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ" [النور: 36، 37].

وقال تعالى:*فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ" [التوبة: 108].

إن خطوة ذلك الرجل المؤمن تعتبر موقفًا إيمانيًا عظيمًا، وتدل على أن الحياة فعلاً مواقف، وأن الرجال بمواقفهم لا بأعمارهم، لقد آمن في وقت المحنة والشدة والابتلاء، واتَّبع المرسلين وهم مستضعفون، وتحدى بذلك القوة المادية الغاشمة، وأعلن عن إيمانه وطلب أن يسمعوه، مع أنه يرى الخطر أمامه، ويتوقع أن يناله الأذى والمكروه، وقد يؤدي موقفه إلى إزهاق روحه، ومع ذلك آمن وأعلن إيمانه، واستعد لتحمل نتيجة موقفه. ([4])

إن الذين يسعون لتمكين شرع الله في دنيا الناس عليهم أن يتصفوا بصفات الرجولة ويحرصوا على ضم من تظهر فيهم هذه الصفات الجميلة إلى صفوفهم.

إن ذلك الرجل الرباني أصبح نبراسًا ومعلمًا بارزًا على طريق الدعوة، يقتدي به الدعاة في انحيازهم إلى جانب الحق والتزامه والدعوة إليه، ولسان حال أحدهم يقول للآخرين: *إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ".

إن انتصار منهج الله والتمكين له وتعرف الناس عليه، يحتاج إلى رجال يرفعون أصواتهم حتى يسمع الآخرون، إن جمال الحياة ورونقها البهي وحلاوتها النضرة تكون بنصرة الحق ودك الباطل في حصونه.

وإن المواقف الإيمانية ابتغاء مرضاة الله رفعة للداعية في الدنيا والآخرة.

إن أصحاب المواقف الإيمانية هم دائمًا الرابحون، فعندما يدفع الإنسان المؤمن حياته وعمره ودنياه، وهو هبة ومنحة وعطية وفضل من الله مقابل الجنة والنعيم الدائم والخلود الأبدي يكون ربح ربحًا وفيرًا وفاز فوزًا عظيمًا.

إن أهل الإيمان يكظمون غيظهم، ويحلمون على الجهلة والصبر على دعوة الأشرار وأهل البغي والسعي في تخليصهم, ويبتعدون عن الشماتة بالأعداء, ألا ترى كيف تمنى الرجل الرباني الخير لقتلته، والباغين له الغوائل، وهم كفرة عبده أصنام. ([5])

إن دخول الجنة مع الشهادة في سبيل الله نوع من التمكين، واستئصال أهل الشرك الذين عاندوا الدعاة نوع من النصر لأولياء الله.





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) الظلال: (5/2962- 2963).

([2]) هو العالم الأصولي المفسر فخر الدين بن عمر بن الحُسين الرازي, اشتهر بعلم الأصول والنحو والشعر والوعظ, وكان يوعظ باللسانين العربي والعجمي وكان كثير البكاء, توفى عام 606هـ انظر: الوفيات (4/ 248).

([3]) انظر: تفسير الرازي (26/54-60) مع التصرف.

([4]) انظر: مع قصص السابقين للخالدى (7/256).

([5]) المصدر السابق، (7/260).

أم الزبير محمد الحسين
08-12-2008, 03:23 AM
ينقل إلى "ساحة الفقه الإسلامي"

أبو عمر الأزهري
08-12-2008, 03:38 AM
ماشاء الله
كتاب ماتع وجميل ، أهدانيه أخٌ حبيبٌ منذ يومين _جزاه الله عني خيرا_ وأسأل الله أن ييسر لي قراءته حيث أحسست فيه من الفوائد الكثير
جزاكم الله عنا خيرا الأخت الفاضلة وبارك لكم وبكم .

الفاررة الي الله
08-13-2008, 03:16 AM
أصحـــــاب الأخــــــــــدود

إن قصة الغلام مع الملك الكافر من أوضح القصص في تمكين الله تعالى للدعاة في تبليغ رسالتهم وأداء أمانتهم.

قال رسول الله e: «كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني، وحضر أجلي، فادفع إلىَّ غلامًا لأعلمه السحر، فدفع إليه غلامًا كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، قال: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بنى أنت أفضل مني, ستبتلي، فإن ابتليت فلا تدل علىَّ؛ فكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم بإذن الله, وكان للملك جليس فعمى، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني، فقال: ما أنا أشفى أحدًا، إنما يشفى الله عَزَّ وَجَلَّ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان، من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربي، فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: أو لك رب غيري؟ قال: نعم، ربي الله وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بنى، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفى أحدًا، إنما يشفى الله عَزَّ وَجَلَّ، قال: أنا؟ قال: لا. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه أيضًا بالعذاب لم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى الراهب، فقال: ارجع عن دينك، فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبي، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، فقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوا، فذهبوا به، فلما علوا به الجبل، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهو، أجمعون، وجاء الغلام يلتمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك، فقال: كفانيهم الله - تعالى -, فبعث به مع نفر في قرقور في البحر، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرّقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال: الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهمًا من كنانتي، ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل, وضع السهم في كبد قوسه، ثم رماه، وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام.

فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدَّد فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنما تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبرى يا أمّاه فإنك على الحق».([1])

لقد انتصر الغلام بعقيدته على الملك الكافر، وتمكن منهجه الرباني في نفوس رعايا الملك المشرك الغادر, وثبتوا على عقيدتهم وضحوا بأنفسهم من أجل إيمانهم وعلموا البشرية معنى من معاني الانتصار.

قال سيد قطب رحمه الله: (في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان, وأن هذا الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية في نفوس الفئة الخيرية الكريمة الثابتة المستعلية، لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان.

في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة.

ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئًا آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.

إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام, ومن متاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورًا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.

إن الناس جميعًا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس لا ينتصرون - جميعًا - هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده، تشارك الناس في الموت، وتنفرد دون كثير من الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس - أيضًا - إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم يخسرون أنفسهم، وكم كانت البشرية كلها تخسر، كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرّية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح، بعد سيطرتهم على الأجساد.*وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" [البروج: 8]. حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله، في كل أرض، وفي كل جيل.

إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئًا آخر على الإطلاق, وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة. ([2])

إن المتأمل في قصة الغلام يجد أن الغلام انتصر بعقيدته ومنهجه, وكذلك الراهب الذي ثبت من أجل أن تبقي عقيدته في مقابل أن تزهق روحه، أما الأعمى فقد انتصر مرتين، انتصر عندما تخلى عن مكانته عند الملك مع ما في ذلك من جاه ومكانة، وانتصر عندما تخلى عن حياته في مقابل عقيدته.

إن الراهب والأعمى قد خلّدا لنا معاني عظيمة من معاني الانتصار الحقيقي، بعيدًا عن التأويل والتبرير الذي يغطي فيه كثير من الناس ضعفهم وخورهم بستار يوهمون فيه الآخرين أنهم فعلوا ذلك من أجل الدين.

لقد كان الغلام ذكيًا ألمعيًا, وحين سنحت له فرصة عظيمة في تبليغ رسالة ربه، اغتنمها وحقق معاني عظيمة في مفهوم النصر والتمكين.

لقد انتصر الغلام بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته، وإخراج أمته من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان, وانتصر عندما وفق لاتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، متخطيًا جميع العقبات، ومستعليًا على الشهوات وحظوظ النفس ومتاع الحياة الدنيا، وانتصر على هذا الملك المتجبر المتغطرس، الذي أعمى الله قلبه، فأخرب ملكه بيده، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

إن الغلام كان عبقريًا عندما خطط لإهلاك الملك الكافر وعندما رسم طريقه لنيل الشهادة في سبيل الله.

لقد كان الانتصار العظيم في المعركة بين الكفر والإيمان لصالح موكب التوحيد، لقد استشهد فرد وحيت بسببه أمة فآمنت برب الغلام.

إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ، وسلامة التقدير، نجاح باهر، وفوز ظاهر.

لقد انتصر الغلام عندما جعله الله قدوة لمن بعده، وأبقى له ذكرًا حسنًا على لسان المؤمنين، حيث جعل الله له لسان صدق في الآخرين، لقد كانت انتصارات متلاحقة ووصلت إلى ذروتها عندما آمن الناس برب الغلام, آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت، وهنالك جن جنون الملك، فقد صوابه، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف، في محاولة يائسة، للإبقاء على هيبته وسلطانه وتعبيد الناس له.

ثم يحفر أخاديده، ويوقد نيرانه، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين في النار، وتأتي المفاجأة المذهلة، بدل أن يضعف من يضعف، ويهرب من يهرب, إذا نجد الإقدام والشجاعة، وذلك بالتدافع إلى النار ولا غريب، لأن الإيمان بث في نفوسهم الشجاعة، والثبات, وها هم يجدّون في اللحاق بالغلام، وكأنهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداءً لعقيدتهم ودينهم.

إن الإيمان الحقيقي يصنع بالأمم الغرائب, ويبدد الظلام الطويل الذي عاشوه، والسنوات المديدة التي استعبدهم فيها الطغاة، ومع قصر المدة التي قد يأتي فيها الإيمان إلى النفوس إلا أنه كفيل بتعريف الناس بحقيقة المنهج الرباني كما نرى في هذه الأمة السعيدة التي آمنت برب الغلام، وكأنهم عرفوا المنهج وعاشوا فيه كما عاش الراهب طوال عمره، أو تربوا عليه كما تربي الغلام في صباه.

إن حقيقة الإيمان عندما تخالط بشاشة القلوب، وتلامس الأرواح تفعل العجب.

لقد كان انتصار الناس الذين آمنوا برب الغلام انتصارًا جماعيًا مباركًا يدل على صفاء العقيدة، ووضوح المنهج، وسلامة الطريق، وفهم لحقيقة الانتصار.

إننا لا نجد في القرآن ولا في السُّنَّة أي ذكر لهؤلاء الظلمة، وماذا كان مصيرهم في الدنيا, ولله في ذلك حكمة قد تخفى علينا ([3]).. نعم وردت آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير: *إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ" [البروج: 10].

قال الحسن البصري ([4]): «انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة». ([5])أن هذه النهاية تحقق معنى من معاني الانتصار، مَنْ المنتصر؟ الذي نصر عقيدته ودين ربه، وحُرّق بضع دقائق، ثم انتقل إلى جنات النعيم، أو ذلك الذي تمتع بأيام في الحياة الدنيا ثم مآله - إن لم يتب - إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق؟

هل هناك مقارنة بين الحريق الأول، والحريق الثاني.. حريق الدنيا وحريق الآخرة؟ إنها نقلة بعيدة، وبون شاسع، أما المؤمنون الذين حُرّقوا في الدنيا، فـ *لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ" [البروج: 11]، وتعلن النتيجة التي لا مراء فيها ولا جدال: *ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" أليس هذا هو الانتصار؟ ([6]) هذا في الآخرة, وفي الدنيا تمكن المنهج من قلوب الناس وتم ظهوره.





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب أصحاب الأخدود (3/2299) رقم 3005.

([2]) انظر: معالم في الطريق: فصل: هذا هو الطريق، ص173.

([3]) انظر: حقيقة الانتصار ص (13، 14)

([4]) هو سيد التابعين الحسن بن أبي الحسن يسار البصري الأنصاري مولاهم زاهد فاضل ثقة, كان من أفصح الناس وأجملهم, توفى 110هـ وهو ابن 88 (تهذيب التهذيب 2/263- 270).

([5]) تفسير ابن كثير (4/496).

([6]) انظر: حقيقة الانتصار ص(55).

الفاررة الي الله
08-14-2008, 02:58 AM
تمكين الله تعالى لرسول الله لتبليغ الرسالة في مكة

بعد الإعداد الرفيع الذي قام به النبي eلتربية أصحابه, وبناء القاعدة الصلبة على أسس عقدية وخلقية وأمنية وتنظيمية، وبعد أن قطع المرحلة السرية بكل نجاح وتفوق، نزل قول الله تعالى: *وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ" [الشعراء: 214] فخرج رسول الله eحتى صعد الصفا فهتف: «يا صباحاه»، فاجتمعت إليه قريش، فقال: «يا بنى فلان، يا بنى عبد مناف، يا بنى عبد المطلب، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ؟» قالوا: ما جربنّا عليك كذبًا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبًا لك، أما جمعتنا إلا لهذا, ثم قام فنزلت هذه السورة *تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ" [المسد:1].

من الطبيعي أن يبدأ الرسول eدعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ إن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لا بد أن يكون له وقع كبير على بقية القبائل، على أن هذا لا يعنى أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش، لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية. ([1])

ولقد كانت النتيجة المباشرة لهذا الصدع هي الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب، والكيد المدبر المدروس، ولقد اشتد الصراع بين النبي eوأصحابه، وبين شيوخ الوثنية وزعمائها، وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان، وهذا في حد ذاته مكسب عظيم للدعوة، ساهم في أشد وألد أعدائها، ممن كانوا يشيعون في القبائل قالة السوء عنها، فليس كل الناس يُسَلِّمون بدعاوى القرشيين، بل كان يوجد من مختلف القبائل من يتابع الأخبار، ويتحرى الصواب فيظفر به.

وكانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة, وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول e، وأصبح هذا الحدث العظيم حدث الناس في كل مكان، وبدأ رسول الله eيشق طريقه لكسر الحصار المفروض على الدعوة، والانتقال بها إلى مواقع جديدة، وسنرى ذلك في عرضه للدعوة على القبائل، والخروج للطائف، وهجرة الحبشة.

لقد كان أولى الناس بتوجيه الدعوة إليهم: قريش وأهل مكة وبالأخص عشيرة النبي eالأقربين فوجه إليهم الدعوة من خلال هذا المنبر العلني، وأنذرهم عذاب الله وبأسه إن لم يؤمنوا ([2]).

:astagfor:

ولكن قريشًا رفضت الاستجابة والانقياد للحق المبين, وكان موقفهم كموقف الأقوام السابقة من رسلهم، فحاربوا الدعوة الجديدة التي عرت واقعهم الجاهلي وعابت آلهتهم وسفهت أحلامهم، أي آراءهم وأفكارهم وتصوراتهم عن الحياة والإنسان والكون، فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة وإسكات صوتها أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها.لقد فكر النبي eبالخروج بالدعوة من مكة لتحقيق أمور من أهمها:

1- البحث عن موطن يأمن فيه المسلمون على دينهم، ويسلمون من أذى قريش وفتنتها، حيث لا تطالهم يدها، ولا يمتد إليهم بطشها.

2- البحث عن بيئة تقبل الدعوة، وتستجيب لها، في مقابل عنت القرشيين وكنودهم، ومن هذه البيئة تنطلق إلى آفاق الأرض، تحقيقًا لأمر الله بالتبليغ للعالمين ([3]).

فكانت هجرة المسلمين إلى الحبشة، فكانت الأولى في شهر رجب سنة خمس من المبعث، وهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة خرجوا مشاةً إلى البحر فاستأجروا سفينة.

وقد صورت أم سلمه زوج النبي e- وهي ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى - الظروف التي أحاطت بهذه الهجرة فقالت: (لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله eوفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله eفي منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه, فقال لهم رسول الله e: «إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه» فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار, أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلمًا) ([4]).

لقد كانت هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة ذات أبعاد سياسية وإعلامية ودعوية, وكان اختيار النبي eللحبشة في غاية الدقة وبعد النظر؛ لأنه (التفت e إلى ما يحيط به من الداخل والخارج، وما ينتظر دعوته من أخطار، فوجد أن جذورها قد امتدت في أعماق الجزيرة العربية، بين مؤمن قوى الإيمان، وبين كافر معاند شديد الحرص على زعامتها، عظيم الحقد على الدعوة وصاحبها).

وأما خارج الجزيرة، فتوجد إمبراطورية فارس وقد أعماها دخان النار، وإمبراطورية الروم وقد عبدوا الملوك ودنياهم، أما الحبشة فما يزال بها بعض وميض من صدق رسالة عيسى عليه السلام، وأن بها ملكًا لا يُظلم أحد بأرضه ([5]).

وهذا يدل على اهتمام رسول الله eبما يدور حوله ومعرفة الدول وطبائعها.

ولقد كانت الهجرة وسيلة من أهم وسائل الإعلام في الإسلام؛ لأن مجرد خروج المسلمين من بلد كانوا فيه منذ النشأة، يخلق تساؤلاً كبيرًا في المجتمع المليء
بالكذب والأراجيف والمتخصص في تشويه أخبار الدين الجديد، وخرجوا وقد تركوا تساؤلاً في أذهان الناس: ما الذي حملهم على ترك أوطانهم وأموالهم وأهليهم؟ إنه
لأمر عظيم.

لقد خرج الوفد الإعلامي الإسلامي الأول للحبشة بخطة محكمة وتدبير مقصود لنشر الدعوة الإسلامية وإعلانها في كل مكان, حيث إن الرسول eأرسل كتابًا للنجاشي يشير فيه إلى البر بالمسلمين ويدعوه فيه إلى الإسلام ([6]).

وهكذا ترى أن اختيار الزمن والمكان لم يكن لمجرد الصدفة والهروب من شدة العذاب فقط، بل كان بعضهم في حماية قبيلة يستطيع البقاء في مكة دون إيذاء مهلك ([7]).

وكان الوفد الإعلامي الأول أشبه بسفارة في أيامنا الحاضرة لكنها تحمل شعار لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتعمل جاهدة على نشره، لقد كان الهدف الأول من هجرة المسلمين إلى الحبشة حماية المستضعفين من أذى قريش، ودفع غربتهم المعنوية، وتأمينهم على دينهم، وفتح آفاق جديدة للدعوة إلى الله يشرف عليها المهاجرون، والحط من مكانة قريش عند سائر العرب، وإدانة موقفهم من الدعوة وحَمَلتها، يجعل الأحباش يسبقون قريشًا ويؤوون من طردتهم وأساءت إليهم من أشراف الناس، ومن ضعفائهم وغربائهم وهذه كلها آثار إيجابية، لا يضير أن يوجد إلى جوارها آثار سلبية قليلة، منها: أن إيواء الحبشة للمسلمين وطيب مقامهم بها أذكى نار الحقد لدى قريش، فضاعفت من حربها ومكرها، وعداوتها([8]).

وعندما تسامع المهاجرون بأن قريشًا قد أسلمت، وكفت عن إيذاء النبي eرجعوا، فوجدوا الأمر أشد مما كان، فأذن النبي eبالهجرة الثانية، فهاجر قرابة المائة ما بين رجل وامرأة واستقروا هناك([9]).

لقد ذكر ابن إسحاق ([10]) دوافع الهجرة الثانية، فقال: (فلما اشتد البلاء وعظمت الفتنة تواثبوا على أصحاب رسول الله e، وكانت الفتنة الآخرة التي أخرجت من كان هاجر من المسلمين بعد الذين كانوا خرجوا قبلهم إلى أرض الحبشة) ([11]).

لقد أرسلت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة يحملان الهدايا إلى النجاشي وبطارقته، فقابلا النجاشي طالبين إليه إعادة من هاجر من المسلمين، فأرسل النجاشي إلى المسلمين فسألهم عن دينهم فقال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: (أيها الملك كنا قومًا على الشرك، نعبد الأوثان ونأكل الميتة، ونسئ الجوار، ونستحل المحارم، بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئًا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبيًا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلى ونصوم، ولا نعبد غيره).

فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله، فقال جعفر: نعم.

قال: هَلُمَّ فاتلُ علىَّ ما جاء به.

فقرأ عليهم صدرًا من كهيعص ([12])، فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها عيسى.. انطلقوا راشدين.

ولما أخفقت محاولة وفد قريش في استعادتهم، أثار عمرو بن العاص في اليوم التالي موقف المسلمين من عيسى عليه السلام، فقال للنجاشي: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيمًا, فأرسل النجاشي إليهم فسألهم فقال له جعفر: نقول هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

فقال النجاشي: ماعدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود, وأعطى النجاشي الأمان للمسلمين، فأقاموا مع خير جار في خير دار كما تقول أم سلمة رضي الله عنها ([13]).

إن مسارعة قريش لإرسال وفد لاستعادة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة تدل على إدراكها لخطورة الموقف إذا ما حصل المسلمون على مأوى لهم يأمنون فيه، والحبشة نصرانية، وملكها عرف بالعدل، وهي قريبة من مكة، وكل ذلك يشكل خطرًا على قريش في المستقبل.

لقد فتحت جبهة جديدة لقريش انهزمت فيها معنويًا وسياسيًا وإعلاميًا أمام
ضربات المسلمين الموفقة، وخطواتهم المتزنة، وأساليبهم الرصينة من أجل تبليغ دعوة الله وإبلاغ رسالته.

لقد قاد المعركة السياسية والدعوية والعقدية جعفر بن أبي طالب، وكان صادق اللهجة، فصيح اللسان، قوي البيان، فتأثر النجاشي من قوله وخابت آمال قريش، وظهرت ملامح الإيمان في وجه النجاشي.

إن جعفر رضي الله عنه قاوم حملة قريش الإعلامية المضللة بكل دقة وموضوعية وصدق ونقل الأخبار والحقائق من مصادرها، فأعلن رضي الله عنه ما سمعه من
النبي eردًا على سؤال النجاشي في أمر عيسى عليه السلام دون مداهنة أو مواربة أو نفاق، لقد تلألأ وجه النجاشي بالإيمان الصادق دون بطارقته وقال للمهاجرين: (اذهبوا فأنتم شيوم أرضى آمنون، من سبكم غرم -كررها ثلاثًا-، ما أحب أن لي دبرًا ([14]) من ذهب، وأني آذيت رجلاً منكم. ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها, فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين ردّ علىّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه).

وقد امتلأت القلوب حقدًا وغيظًا على الإسلام والمهاجرين الذين اطمأنوا في عبادتهم ونشر دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد آمن النجاشي ملك الأحباش وكسبت الدعوة أنصارًا جددًا, وتوسعت دائرة المسلمين وكسبوا معارك سياسية وإعلامية، ودعوية بتوفيق الله تعالى لهم ([15]).

لقد بقى المسلمون في الحبشة إلى أن استقر الإسلام في المدينة فهاجر بعضهم إليها وبقى جعفر ومن معه ([16]) إلى فتح خيبر سنة 7هـ.

وحاول رسول الله e أن يوسع مجال دعوته؛ فخرج إلى الطائف وعرض الإسلام على زعمائها إلا أنهم رفضوا ذلك وبالغوا في السفه وسوء الأدب معه، فقام رسول الله e من عندهم، وقصد مكة ليواصل تبليغ الرسالة وأداء الأمانة ونصح الأمة, ولم يدخل مكة بدون تخطيط أو دراسة مستوعبة لكل الملابسات والظروف المحيطة به، بل درس الأمر وخطط للمرحلة القادمة، ورأى بثاقب بصره وبعد نظره أن يتصل بمطعم بن عدى سيد قبيلة بنى نوفل بن عبد مناف وطلب جواره, فاستجاب لطلب النبي e ودخل رسول الله e ومعه زيد بن حارثة في حراسة بنى نوفل الذين تحلقوا حوله بالسلاح وهو يصلي في البيت الحرام وذهبوا في حراسته حتى دخل بيته.لقد كان بنوا نوفل مؤسسة قوية في المجتمع القرشي الذي له أعرافه وتقاليده المقدسة، فاستفاد الرسول e من تلك القوانين الموجودة ووظفها بكل دقة وحنكة وسياسة لمصلحة الدعوة ([17]).

هكذا e دخل إلى مكة بعد رجوعه من الطائف, وبدأ يعرض نفسه على القبائل في المواسم: يشرح لهم الإسلام، ويطلب منهم الإيواء والنصرة، حتى يبلغ كلام الله عزَّ وَجَلَّ وكان رسول الله e يتحرك في المواسم التجارية ومواسم الحج التي تجتمع فيها القبائل وفق خطة دعوية واضحة المعالم ومحددة الأهداف, وكان e يعرض نفسه على القبائل على أنه حامل دعوة من الله من أجل حمايته لكي يتمكن من تبليغ دعوة الله إلى الناس، ومن أجل نصرته فيما يسعى إليه من إقامة سلطان لتلك الدعوة، ويوفر لها ولأتباعها الحماية والأمن، ومن ثم يمكنها من الانطلاق في الأرض داعية كل جنس ولون إلى الاستجابة لأمر الله.

ومن توفيق الله لدعوته أن المدينة المنورة كانت تعيش ظروفًا خاصة ترشحها لاحتضان دعوة الإسلام، وتجتمع فيها عناصر عديدة لا تجتمع في غيرها:

1- منها التشاحن والتطاحن الموجود بين قبيلتي المدينة: الأوس والخزرج، وقد قامت بينهما الحروب الطاحنة كيوم بعاث وغيره، وقد أفنت هذه الحرب كبار زعمائهم، ممن كان نظراؤهم في مكة والطائف وغيرهما حجر عثرة في سبيل الدعوة، ولم يبق إلا القيادات الشابة الجديدة المستعدة لقبول الحق، إضافة إلى عدم وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها، وكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه، وليلتئم شملهم تحت ظله, فكان يوم بعاث أمرًا قدّمه الله تعالى لنبيه e، فقدم وقد قتل معظم سرواتهم وجُرحوا، فقدمه الله لرسوله e في دخولهم الإسلام ([18]).

2- ومنها مجاورتهم لليهود مما جعلهم على علم - ولو يسيرًا - بأمر الرسالات السماوية، وخبر المرسلين السابقين، وهم - في مجتمعهم - يعايشون هذه القضية في حياتهم اليومية، وليسوا مثل قريش التي لا يساكنها أهل كتاب، وإنما غاية أمرها أن تسمع أخبارًا متفرقة عن الرسالات والوحي الإلهي، دون أن تلح عليها هذه المسألة، أو تشغل تفكيرها باستمرار، فلما أراد الله إتمام أمره بنصر دينه، قيض ستة نفر من أهل المدينة للنبي  فالتقي بهم عند العقبة - عقبة منى - فعرض عليهم الإسلام، فاستبشروا وأسلموا، وعرفوا أنه النبي الذي توعدهم به اليهود، ورجعوا إلى المدينة، فأفشوا ذكر النبي e في بيوتها ([19])، وكان هذا هو «بدء إسلام الأنصار» كما يسميه أهل السير ([20]).

لقد كانت المدينة المنورة تربة صالحة لانتشار الإسلام، فاليهود يهددون بنبي أظل زمانه يتبعونه ويقتلون الأوس والخزرج قتل عاد وإرم, والعرب أهل فراسة ونخوة أضاءت بعض شموع الحق بينهم، وكأنها إرهاصات للنصرة والنجدة وقام الوفد بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة.

ولما جاء وقت العام التالي وافي الموسم ضِعف العدد الأول - اثنا عشر رجلاً من المؤمنين- فبايعهم النبي e على ألا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم, ولا يعصوه في معروف, وتعرف هذه البيعة ببيعة العقبة الأولى.

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (إني لمن النقباء الذين بايعوا رسول الله e، وقال: بايعناه على ألا نشرك بالله شيئًا ولا نزني، ولا نسرق، ولا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا ننهب، ولا نعصى، فالجنة إن فعلنا ذلك، فإن غشينا ([21]) من ذلك شيئًا كان قضاء ذلك إلى الله) ([22]).

ولقد بعث الرسول e مع المبايعين مصعب بن عمير يعلمهم الدين ويقرؤهم القرآن، فكان يسمى في المدينة المقرئ وكان يؤمهم في الصلاة ([23]).

:anotherone:

ولقد اختاره الرسول e عن علم بشخصيته من جهة، وعلم بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى، حيث كان رضي الله عنه بجانب حفظه لما نزل من القرآن، يملك من اللباقة والهدوء وحسن الخلق والحكمة قدرًا كبيرًا, فضلاً عن قوة إيمانه وشدة حماسه للدين، ولذلك تمكن خلال أشهر أن ينشر الإسلام في سائر بيوتات المدينة وأن يكسب للإسلام أنصارًا من كبار زعمائها، كسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم([24]).

لقد كانت دعوة مصعب رضي الله عنه في المدينة موفقة وحققت أهدافها, وشرع يشرح للناس تعاليم الدين الجديد وتعاليم القرآن الكريم وتفسيره، وتقوية الروابط الأخوية بين أفراد القبائل المؤمنة من ناحية، وبين النبي e وصحبه بمكة المكرمة، لإيجاد القاعدة الأمنية لانطلاق الدعوة. لقد كان الدور الإعلامي والتعليمي والتوجيهي الذي قام به مصعب في المدينة له أثر كبير لتهيئة الظروف للمرحلة التي بعدها، لقد فتحت المدينة بالقرآن وبالدعوة إلى الله, وأصبح ولاء كثير من الأوس والخزرج لعقيدة الإسلام وشريعة الرحمن وتشكل وفد من الأنصار لعقد البيعة الثانية مع النبي ، لتنتقل الدعوة إلى طور جديد ومرحلة أخرى.

لقد اهتم e ببناء الفرد المسلم الذي يحمل تكاليف الدعوة ويضحى من أجلها, ولذلك نجد جعفرًا يقوم بدور عظيم في تبليغ الدعوة وأداء الأمانة في أرض الحبشة, ونجد مصعبًا يفتح الله على يديه المدينة ويدخل كثير من أهلها في دعوة الإسلام.

إن النبي e في طور المرحلة المكية قام بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة على خير قيام وكانت عناية الله وحفظه له وتأييده ظاهرة للعيان.

ولقد سار على نهج رسول الله e في تبليغ الرسالة وأداء الأمانة كثير من الدعاة على مر العصور وكر الدهور, ومكن الله لهم بين الناس حتى أدوا واجبهم في الدعوة إلى الله ومن أمثال ذلك: الإمام أحمد بن حنبل، وابن تيمية، والعز بن عبد السلام, ومحمد بن عبد الوهاب في الجزيرة، ومحمد بن على السنوسى في ليبيا، وسعيد النورسى في العصر الحديث في تركيا، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، وحسن البنا في مصر، وغيرهم كثير، ومنهم من استشهد في سبيل دعوته إلا أنها انتشرت بعد مماته انتشار الضياء في الظلام، ولقد لاحظت في سيرة هؤلاء الأعلام في القديم والحديث حماية الله لهم ورعايته وحفظه وتثبيته لهم في المحن والشدائد, وتهيئة الله قلوب الناس لاستماع دعوتهم ونصحهم، وكانوا رحمهم الله رجالاً للعقيدة عاشوا من أجل هذا الدين وماتوا في سبيله.



--------------------------------------------------------------------------------

([1]) دراسة في السيرة النبوية، د. عماد الدين خليل ص124، 125.

([2]) انظر: الغرباء الأولون ص 167، سلمان العودة.

([3]) المصدر السابق، ص168.

([4]) ابن هشام (1/334).

([5]) انظر: الوفود الإعلامية في العصر المكي لعلى الأسطل، ص(111).

([6]) انظر: الوفود الإعلامية في العصر المكي لعلى الأسطل، (114).

([7]) المصدر نفسه، ص (115).

([8]) انظر: الغرباء الأولون ص (171).

([9]) المصدر نفسه, ص (169).

([10]) هو محمد بن إسحاق بن يسار من كتاب السيرة (انظر: سير أعلام النبلاء 7/34).

([11]) السير والمغازي لابن إسحاق، ص 213، تحقيق: سهيل زكار.

([12]) سورة مريم.

([13]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام.

([14]) انظر: ابن هشام (1/338).

([15]) انظر: الوفود في العهد المكي ص (123).

([16]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم ضياء العمري (1/176).

([17]) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن الكريم, د. التجانى، ص (172- 180).

([18]) البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب الأنصار (4/267) رقم 7777.

([19]) انظر: ابن هشام (1/430).

([20]) المصدر نفسه (1/428).

([21]) ارتكبنا ذنبًا.

([22]) مسلم، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها (3/1333) رقم (1079).

([23]) انظر: سيرة ابن هشام (1/431).

([24]) المصدر

الفاررة الي الله
08-16-2008, 03:30 AM
هلاك الكفار ونجاة المؤمنين أو نصرهم في المعارك

إن قصة نوح وموسى عليهما السلام نموذج رفيع للتدليل على أن من أنواع التمكين هلاك الكفار ونجاة المؤمنين، وقصة نوح مع قومه منهج عظيم للدعاة إلى الله, وقصته مليئة بالدروس والعبر، ومما يكسبها أهمية خاصة ما تميزت به، ومن ذلك:

1- أن نوحًا عليه السلام أول رسول إلى البشر، وكل أول له خصوصيته وميزته.

2- امتداد الزمن الذي قضاه في دعوة قومه (950 سنة).

3- كونه من أولى العزم الذين ذكروا في القرآن.

4- ورد اسمه كثيرًا في القرآن الكريم حيث بلغ (43) مرة في (29) سورة من سور القرآن، أي في ربع سور القرآن تقريبًا، مع ورود سورة باسمه في القرآن.

وأما قصة موسى عليه السلام مع فرعون، فتبين ضراوة الصراع بين الحق والباطل, والهدى والضلال، والإيمان والكفر، والنور والظلام, وتسلط الأضواء على استكبار فرعون وتجبره واستعباده عباد الله واستضعافهم واتخاذهم خدمًا وحشمًا وعبيدًا، وكيف أراد الله لبنى إسرائيل أن يرد إليهم حريتهم المسلوبة وكرامتهم المغصوبة, ومجدهم الضائع وعزهم المفقود، إن من يقف أمام إرادة الله فهو عاجز ضعيف، وهو فاشل مهزوم, وإن أعداء الله أينما كانوا هم إلى هزيمة وخسارة وهوان، وتبين لنا كيف انتقم الله من فرعون ونصر وليه موسى عليه السلام وقومه.

وأما قصة طالوت، فتوضح مرحلة مرت بها أمة بنى إسرائيل، فبعد أن وقعوا في المعاصي، وانحرفوا عن منهج الله وسلط الله عليهم الأعداء وأصاب بني إسرائيل ذل وخيم، ومرارة أليمة، وهزيمة عظيمة, وأرادوا أن يغيروا واقعهم المهين، وأن يبدلوا ذلهم عزة وهزيمتهم نصرًا، وعلموا أن السبيل لذلك هو الجهاد والقتال، فطلبوا من نبيهم أن يختار لهم ملكًا يتولى أمورهم، ويقودهم إلى العزة والنصر، ويقاتل لهم أعداءهم، في سبيل الله، فوقع خيار الله على طالوت ليكون ملكًا عليهم، ومن ثم يقودهم إلى النصر والعزة والتحرير، فاعترض الملأ على نبيهم قائلين: *أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ"، فبين لهم نبيهم أن الله اصطفاه عليهم، والله حكيم خبير، وإن الله زاده بسطة في العلم والجسم، وتسلم طالوت قيادة بنى إسرائيل وكانت قصة طالوت مع بنى إسرائيل من أروع القصص القرآني في بيان سنن الله في النهوض بالأمم المستضعفة، وما هي السمات والصفات المطلوبة للقيادة التي تتصدى لمثل هذه الأعمال العظيمة لتقوية الشعوب والنهوض بها نحو المعالي، وفق منهج رباني ووسائل عملية وتربوية عميقة على معاني الطاعة والثبات والتضحية والفداء من أجل العقيدة الصحيحة.

وفي سيرة النبي e نجد هذا النوع من التمكين -ألا وهو النصر على الأعداء- واضحًا، فبعد أن هاجر e إلى المدينة قدّر ظرفه وزمانه ومكانه وجهز قوات جهادية حققت أهدافها القريبة والبعيدة، معتمدًا على الله في ذلك، شارعًا في الأخذ بالأسباب التي أمره الله بها، فترك لنا معالم نيرّة في مغازيه الميمونة, ودروسًا عظيمة في كيفية تحقيق النصر على الأعداء والتمكين لدين الله تعالى، بدأ بالسرايا، فحققت أهدافها، ومضى يحاصر قوى البغي والكفر والضلال حتى فتحت مكة، ومن ثم وحدت جزيرة العرب, وأثناء ذلك كان يوجه الضربات المحكمة إلى الوثنية في كل مكان وإلى اليهود الذين نقضوا العهود, وإلى ملوك الأرض يدعوهم للإسلام، فترك البناء متينًا. وقام الخلفاء الراشدون من بعده ليتوسعوا بالإسلام شرقًا وغربًا، وهكذا توالت الأجيال لحمل الرسالة ولأداء الأمانة، وكان تاريخ أمتنا مليئًا بهذا النوع من التمكين، ففي عهد صلاح الدين كانت موقعة حطين على يديه وكان فتح القدس، وفي عهد يوسف بن تاشفين كانت معركة الزلاّقة، وفي عهد محمد الفاتح كان فتح القسطنطينية، وأما في العصر الحديث، فالملحمة الجهادية بين الروس والأفغان انتهت بهزيمة الإلحاد، والمعارك بين الإسلام والنصرانية في جنوب السودان فتحت للمسلمين أبواب الشهادة والعزة والنصر والتمكين، والصراع بين اليهود والمسلمين في فلسطين بين الكر والفر، وهكذا نجد دائمًا عون الله لأهل التوحيد والإيمان على مر العصور وكر الدهور وتوالى الأزمان.

الفاررة الي الله
08-16-2008, 03:32 AM
قصة موسى u مع فرعون

قال تعالى:*وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ` وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرونَ" [القصص: 5، 6].

لقد تطاول فرعون وعلا وأسرف في الأرض وأذل بنى إسرائيل، فقتل الأولاد واستحيا النساء ظلمًا وعلوًا واستكبارًا في الأرض، وأراد الله بحكمته ومشيئته وقدرته أن يمن على بنى إسرائيل ويجعلهم ملوكًا وولاة ويجعلهم يرثون الأرض من بعد فرعون, ويمكن لهم بعد الذل والصغار, وينتقم من فرعون وهامان وجنودهما ويريهم ما كانوا يخافون من زوال ملكهم على رجل من بنى إسرائيل ([1]).

وقال الإمام ابن كثير ([2]) في تفسيره: (لقد سلط على بنى إسرائيل هذا الملك الجبار العتيد (فرعون) يستعملهم في أخس الأعمال، ويكدهم ليلاً ونهارًا في أشغال رعيته ويقتل مع هذا أبناءهم ويستحيى نساءهم إهانة لهم واحتقارًا لهم, وخوفًا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه، وكانت القبط قد تلقوا هذا من بنى إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام حين ورد الديار المصرية وجرى له مع جبارها ما جرى حين أخذ سارة ليتخدها جارية فصانها الله منه ومنعه منها بقدرته وسلطانه، فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته من يكون هلاك مصر على يديه، فكانت القبط تحدث بهذا عند فرعون فاحترز فرعون من ذلك وأمر بقتل ذكور بنى إسرائيل، ولن ينفع حذر من قدر، لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ولكل أجل كتاب.

أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى فما نفعه من ذلك مع قدرة الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري ولا يغلب، بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه, بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده وقتلت بسببه ألوفًا من الولدان إنما منشؤه ومرباه فراشك وفي دارك, وغذاؤه من طعامك وأنت تربيه وتدللـه, وحتفك وهلاكك وهلاك جنودك على يديه، لتعلم أن رب السموات العلا هو القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم
يشأ لم يكن) ([3]).

وقال البيقاعى ([4]) رحمه الله: (ونمكن أي نوقع التمكين لهم في الأرض أي كلها لا سيما أرض مصر والشام، بإهلاك أعدائهم وتأييدهم بكليم الله، ثم الأنبياء من بعده عليهم الصلاة والسلام بحيث سلطهم بسببهم على من سواهم بما يؤيدهم به من الملائكة وتظهر لهم من الخوارق، ولما ذكر التمكين، ذكر أنه مع مغالبة الجبابرة إعلامًا بأنه أضخم تمكين) ([5]).

وقال الشيخ محمد الأمين ([6]) في تفسيره لهذه الآية، قوله تعالى: *وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا" [القصص: 5]، هو الكلمة في قوله تعالى:*وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ" [الأعراف: 137]، ولم يبين هنا السبب الذي جعلهم به أئمة جمع إمام، أي قادة في الخير دعاة إليه على أظهر القولين، ولم يبين هنا أيضًا الشيء الذي جعلهم وارثيه، ولكنه بين جميع ذلك في غير هذا الموضع، فبين السبب الذي جعلهم به أئمة في قوله تعالى: *وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" [السجدة: 24]، فالصبر واليقين، هما السبب في ذلك، وبين الشيء الذي جعلهم له وارثين: *فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ` وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ` كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ"[الشعراء: 57- 59]([7]).

قال محمد الطاهر بن عاشور ([8]) رحمه الله: (إن الله وصف فرعون وصفًا دلّ على شدة تمكين الإفساد من خلقه*إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" [القصص: 4] فحصل تأكيد لمعنى تمكن الإفساد من فرعون، لأن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة:

المفسدة الأولى:

التكبر والتجبر فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد جمّة من احتقار الناس والاستخفاف بحقوقهم وسوء معاشرتهم وبث عداوته فيهم, وخصوصًا إذا كان حاكمًا أو وليًا فيعامل الناس بالغلظة, وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته، فهذه الصفة هي أم المفاسد وجماعها.

المفسدة الثانية:

جعل شعبه شيعًا قرب بعضهم وأبعد بعضهم, وتولدت بينهم مفاسد عظيمة من الحقد والحسد والوشاية والنميمة.

المفسدة الثالثة:

جعل طائفة من أهل مملكته في ذل وصغار واحتقار، عذبهم ونكل بهم ومنعهم من حقوقهم وجعلهم عبيدًا للطائفة المقربة لديه.

المفسدة الرابعة:

اجتهد في قتل أطفال الطائفة المعذبة من الذكور حتى لا يكون لبنى إسرائيل قوة من رجال قبيلتهم وحتى يكون النفوذ في الأرض لقومه خاصة.

المفسدة الخامسة:

كان يستحيي النساء أي يستبقى على حياة الإناث من الأطفال حتى يصبحن بغايا إذ ليس لهن أزواج. (وكان قوم فرعون يحتقرونهن ويأنفون أن يتزوجوا بهن ولم يبق لهن حظ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة، فانقلب استحياء البنات إلى مفسدة عظيمة تصل إلى منزلة تذبيح الأبناء) ([9]).

وعندما كان فرعون يستعلى ويتكبر ويتعجرف على بنى إسرائيل كانت إرادة الله في تلك الأحداث تريد أن تجعل من بنى إسرائيل أمة عظيمة, وينتقم من فرعون وملئه, قال تعالى:*وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ` وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرونَ" [القصص:5، 6].

*وَنُرِيدُ" جئ بصيغة المضارع في حكاية إرادة مضت لاستحضار ذلك الوقت كأنه في الحال؛ لأن المعنى أن فرعون يطغى عليهم والله يريد من ذلك الوقت إبطال عمله وجعلهم أمة عظيمة.

قوله: *اسْتُضْعِفُوا" فيه تعليل، بأن الله رحيم بعباده، وينصر المستضعفين, وخَصَّ بالذكر من المن أربعة أشياء عطفت على فعل *نَّمُنَّ" عطف الخاص على العام، وهي: جعلهم أئمة، وجعلهم الوارثين، والتمكين لهم في الأرض، وأن يكون زوال ملك فرعون على أيديهم في نعم أخرى جمة ([10]).

إن الله تعالى من سننه الجارية في الأمم والشعوب والمجتمعات والدول إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابه, وأتى به شيئًا فشيئًا بالتدرج لا دفعة واحدة، فعندما وصل الظلم إلى أقصى منتهاه، ووصل الاستضعاف إلى أسفل نقطة ممكنة، كانت تلك النقطة بداية التمكين لبنى إسرائيل، وبدأت قصة التمكين وإنفاذ مشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ بالاهتمام بالرضيع في قوله تعالى: *وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ"[القصص: 7].

ويظهر من خلال الآيات الكريمة: أن الله عزَّ وَجَلَّ أوحى إلى أم موسى بأن ترضعه فإذا خافت عليه، فعليها أن ترميه في اليم، فالله عَزَّ وَجَلَّ لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وعلى أهل الحق أن يبذلوا جهدهم، وهو إن كان قليلاً فإن الله عَزَّ وَجَلَّ سوف يبارك فيه، وسوف يهيئ من الأسباب التي يمكن بها لدينه وأهله.

إن سنن الله الكونية نافذة وعلى أهل الإيمان ألا يتأخروا في الأخذ بالأسباب المتاحة، فهذا مبلغ جهد أم موسى في حماية موسى الرضيع، والذي تولى حمايته ونصره في الحقيقة هو الله عَزَّ وَجَلَّ ذو الجلال والإكرام، وكان يمكن أن تحصل الحماية والرعاية دون أسباب؛ ولكن الله من سنته إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابه، فألقى الله في قلب امرأة فرعون محبة موسى وكان سببًا في نجاته من الذبح، لقد مكن الله تعالى حب موسى عليه السلام من قلب زوجة فرعون وأعطاها من القدرة على الجدل والنقاش بحيث أقنعت فرعون بتركه لها.

ونرى في الآيات الكريمة لطف الله بأم موسى بذلك الإلهام الذي به سلم ابنها، ثم بتلك البشارة من الله لها برده إليها، التي لولاها لقضى عليها الحزن بسبب ولدها، وبذلك وغيره نعلم أن ألطاف الله على أوليائه لا تتصورها العقول، ولا تعبر عنها العبارات، وتأمل موقع هذه البشارة وإنه أتاها ابنها ترضعه جهرًا، وتسمى أمه شرعًا وقدرًا وبذلك اطمأن قلبها وازداد إيمانها ([11]).

إن الله مكن حب موسى عليه السلام من قلب امرأة فرعون، فكان سببًا في تمكين موسى عليه السلام من ثدي أمه وحضنها الحنون.

ونرى في الآيات الكريمة إرشادًا مهمًا ألا وهو: أن العبد وإن عرف أن القضاء والقدر حق، وأن وعد الله نافذ لا بد منه، فإنه لا يهمل فعل الأسباب التي تنفع، فإن الأسباب والسعي فيها من قدر الله، فإن الله قد واعد أم موسى أن يرده عليها ومع ذلك لما التقطه آل فرعون سعت بالأسباب وأرسلت أخته لتقصه وتعمل الأسباب المناسبة لتلك الحال ([12]).

وهذه إشارة قرآنية في قوله:*قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ" [القصص: 11]، إلى الأخذ بالأسباب والحذر والاهتمام بالتربية الأمنية العالية خصوصًا للأمة التي تسعي للتخلص من الظلم والجبروت وكبرياء المتسلطين، بل إن من أسباب نجاح الحركات التي تعمل لتحرير شعوبها من أغلال الحكام الظالمين نجاحها في الجوانب الأمنية، ونرى من خلال الآيات الكريمة: أن الأمة المستضعفة، ولو بلغت من الضعف ما بلغت، لا ينبغي أن يستولى عليها الكسل عن السعي في حقوقها, ولا اليأس من الارتقاء إلى أعلى الأمور، خصوصًا إذا كانوا مظلومين، كما استنقذ الله أمة بنى إسرائيل على ضعفها واستعبادها لفرعون وملئهم منهم، ومكنهم في الأرض وملكهم بلادهم ([13]).

وكان من إعداد الله تعالى لموسى عليه السلام أن تربي في قصر فرعون بين مظاهر الترف ومباهج الملك والسلطان، نشأ كما ينشأ أبناء الملوك، وهكذا زالت من قلب موسى مهابة الملوك والأغنياء، ولم يخف على موسى أنه دخيل على أهل فرعون وأنه يرجع في أصله الحقيقي إلى يعقوب عليه السلام، فعندما بلغ أشده واستوى أكرمه الله بالحكمة والعلم، لكونه من المحسنين، وذات يوم عند الظهيرة وجد رجلين يقتتلان أحدهما من قومه والآخر من قوم فرعون، فطلب الإسرائيلي من موسى نصرته فتدخل موسى فوكز المصري فقضى عليه، وهذا يدل على قوة موسى عليه السلام وشدة غضبه, ويعبّر أيضًا عما كان في نفسه من شعور بالضيق والظلم من فرعون وقومه؛ ولكن موسى عليه السلام لم يقصد قتل القبطي ولذلك ندم واسترجع وعزاها إلى الشيطان وغوايته.

*قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ" [القصص: 15]، ثم توجه إلى ربه طالبًا مغفرته وعفوه: *قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي" واستجاب الله إلى ضراعته واستغفاره *فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [القصص: 17].

لقد أصبح موسى عليه السلام خائفًا يترقب في المدينة وإذا بالمعركة الثانية بين الإسرائيلي والفرعوني، وتدخل موسى عليه السلام لفض النزاع ووجه لومه إلى الذي من بنى قومه، وقال له: *إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ" [القصص: 18]، إلا أن الإسرائيلي ظن أن موسى يريد أن يبطش به، فوجه له تهمة وموسى برئ منها:*إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ" [القصص: 19].

إن موسى عليه السلام كان يرى أن المعارك الجانبية لا تفيد قومه, ولذلك وصف الذي من شيعته بأنه غوى: أي بعراكه هذا الذي لا ينتهي, واشتباكه الذي لا يثمر إلا إثارة الثائرة على بنى إسرائيل وهم عن الثورة الكاملة عاجزون، وعن الحركة المثمرة ضعفاء، فلا قيمة لمثل هذه الاشتباكات التي تضر ولا تنفع ولا تفيد ([14]) .

وهذا درس عميق يفيد العاملين الذين يسعون لتمكين دين الله؛ عليهم أن يبتعدوا عن المعارك الجانبية وأن يوحدوا صفهم ويجمعوا قوتهم لساعة الصفر التي يعلو فيها نجم الإيمان وتنطمس فيها رايات الكفر والطغيان.

:astagfor:

لقد تسرب خبر قتل موسى عليه السلام للقبطي واجتمع الفراعنة للبت في أمر موسى الذي ظهر لهم أنه رمز لثورة تحارب الظلم وتسعي لعز بنى إسرائيل وقرروا إلقاء القبض عليه.

وهنا جاء دور رجل تعاطف مع الحق والعدل الذي يحمله موسى عليه السلام، فأسرع لإنذاره ونصحه، وهنا إشارة قرآنية نحو الاهتمام بالتواجد الأمني داخل المؤسسات الفرعونية والاستفادة من المعلومات التي تنير طريق الدعاة في حركتهم المباركة.

*وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ" [القصص: 20].

لقد أكرم الله موسى عليه السلام بهذه المعلومات النافعة وقرر أن يهاجر من بلاد الفراعنة.

وهذا إرشاد قرآني لمن خاف التلف بالقتل بغير حق في موضع، فلا يلقي بيده إلى التهلكة ويستسلم للهلاك، بل يفرّ من ذلك الموضع مع القدرة كما فعل موسى عليه السلام، كما أن فيه توجيهًا نحو ارتكاب إحدى المفسدتين يتعين ارتكاب الأخف منهما، دفعا لما هو أعظم وأخطر، فإن موسى لما دار الأمر بين بقائه في مصر ولكنه يقتل، أو ذهابه إلى بعض البلدان البعيدة التي لا يعرف الطريق إليها، وليس معه دليل يدله غير هداية ربه، ومعلوم أنها أرجى للسلامة، لا جرم آثرها موسى ([15]) .

*فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ` وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ" [القصص: 21، 22]، ونلمح شخصية موسى عليه السلام فريدًا وحيدًا مطاردًا في الطرق الصحراوية في اتجاه مدين جنوبي الشام وشمالي الحجاز, مسافات شاسعة، وأبعاد مترامية، لا زاد ولا استعداد، فقد خرج من المدينة خائفًا يترقب، وخرج منزعجًا بنذارة الرجل الناصح، ونلمح إلى جانب هذا نفسه متوجهة إلى ربه مستسلمة له، مطلعة إلى هداه ([16]):*عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ".

كانت رحلة طويلة من الرعاية والتوجيه، ومن التلقي والتجريب، قبل وحي الله له بالنبوة: (تجربة الرعاية والحب والتدليل, وتجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس, وتجربة الندم والتحرج والاستغفار, وتجربة الخوف والمطاردة والفزع, وتجربة الغربة والوحدة والرجوع، وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة، والمشاعر المتباينة، والخوالج والخواطر، والإدراك والمعرفة إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة، إن الرسالة تكليف ضخم شاق متُعدد الجوانب والتبعات، يحتاج إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي، إلى جانب هبة الله اللدنية، ووحيه وتوجيه للقلب والضمير) ([17]).

إن الله تعالى أراد أن يربي موسى عليه السلام بالأحداث قبل الرسالة, ولهذا دخل بقدرة الله إلى مجتمع الرعاة، مستشعرًا النعمة في أن يكون راعي غنم يجد القوت والمأوى بعد الخوف والجوع والمطاردة والمشقة.

وعاش مع البسطاء في أخلاقهم وعاداتهم وخشونتهم وفقرهم وهذا كله تمرين له على تكاليف الدعوة التي سيتحملها.

إن التجارب الميدانية أقوى وأفيد في تربية النفوس البشرية من قراءة الكتب والمجلدات والجرائد, ومن الندوات والحلقات الهادئة البعيدة عن المحن والشدائد والصعاب.

إن الشعوب التي تربت على الذل والخنوع والمهانة والقسوة في العادة تفقد القدرة على التفكير والتدبير وتنتظر من يقودها نحو حريتها وكرامتها وعزتها.

وإن هذا القرآن الكريم ليمد الطلائع المتحفزة نحو التغيير بخبرات الأنبياء والمرسلين والذين سعوا لتحرير شعبهم من الظلم والجبروت والطغيان ويضع أيديهم على مفاصل التغيير في الأمم والشعوب وكيفية السعي بها من الضعف ومن دياجير الظلام وأغلال العبودية للعبيد إلى القوة ونور الحريات، وعبادة الواحد الديان.

إن تجربة موسى عليه السلام في تغيير الشعوب من أضخم التجارب، فقد واجه بدعوته المباركة أعتي ملوك الأرض في زمانه، وأقدمهم عرشًا، وأثبتهم ملكًا، وأعرقهم حضارة، وأشدهم تعبدًا للخلق واستعلاء في الأرض.

لقد حان وقت خلاص بنى إسرائيل من الظلم والاضطهاد والعسف والجور, وأكمل موسى عليه السلام مدته في أهل مدين، وعزم على التكليف الرباني بالرسالة والنهوض بالشعب المستضعف من قبل رب العالمين لموسى الكليم، وأمده المولى عَزَّ وَجَلَّ بالمعجزات الواضحة والبراهين الدامغة والأدلة الساطعة.

:anotherone:

وأمره بالذهاب إلى القوم الفاسقين لإقامة الحجة على الفراعين وتخليص بنى إسرائيل من ظلم العبودية وظلم العباد وقسوة الفراعنة حتى يعبدوا الله أحرارًا، ولم يتردد موسى عليه السلام في طلب العون من مولاه وربه ومبتغاه, قال سيد قطب رحمه الله: لقد استجاب ربه رجاءه وشد عضده بأخيه، وزاده على ما رجاه البشارة والتطمين *وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا" [القصص: 35]، فهما لن يذهبا مجردين إلى فرعون الجبار، إنما يذهبان إليه مزودين بسلطان لا يقف له في الأرض سلطان، ولا تنالهما معه كف طاغية ولا جبار *فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا" [القصص: 35]، وحولكما من سلطان الله سياج ولكما منه حصن وملاذ، ولا تقف البشارة إلى هذا الحد ولكنها الغلبة للحق، والغلبة لآيات الله يجابهان بها الطغاة، فإذا هي وحدها السلاح القوي وأداة النصر والغلبة *بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ" [القصص: 35] ([18]).

إن موسى عليه السلام باشر في تنفيذ أمر ربه سبحانه وتعالى, وأيده بالمعجزات وصدع بكلمة الحق أمام فرعون الطاغية الجبار، وأقام عليه الحجة والبراهين، والأدلة على صدق رسالته وتعرّض فرعون وقومه بالأخذ بالسنين والنقص في الثمرات وابتلاهم الله بالقمل والضفادع والدم وغير ذلك.

ولم يؤمن الجبار العنيد؛ بل اتهم موسى الكليم بالسحر وقرّر أن يجمع كل السحرة للوقوف أمام دعوة الحق التي يقودها رسول الله موسى عليه السلام.

واجتمع الفريقان لميقات يوم معلوم، وبدأ السجال, وألقى السحرة إفكهم وخداعهم ثمّ عرج موسى عليه السلام على باطلهم بالحق المبين، بإلقائه العصا التي انقلبت إلى حية تسعى، فإذا هي تلقف ما يأفكون وكانت الجولة والصولة.

قال تعالى:*وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ` فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ` فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ" [الأعراف: 117- 119].

قال صاحب الظلال:

(إنه الباطل ينتفش ويسحر العيون ويسترهب القلوب ويخيل إلى الكثيرين أنه غالب، وأنه جارف وأنه محق، وما هو إلا أن يواجه الحق الهادئ الواثق حتى ينفشئ كالفقاعة، وينكمش كالقنفذ، وينطفئ كشعلة الهشيم، وإذا الحق راجح الوزن ثابت القواعد عميق الجذور، والتعبير القرآني هنا يلقى هذه الظلال وهو يصور الحق واقعًا ذا ثقل*فَوَقَعَ الْحَقُّ" وثبت واستقر وذهب ما عداه فلم يعدله وجود *وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" وغلب الباطل والمبطلون وذلوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر العيون *فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ" ولكن المفاجأة لم تختم بعد والمشهد ما يزال يحمل مفاجأة كبرى:*وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ` قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ` رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ" [الأعراف: 120- 122].

إنها صولة الحق في الضمائر، ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقى الحق والنور واليقين) ([19]).

:ozkorallah:

لقد احتج فرعون على إيمان السحرة وأرغى وأزبد، لأنهم آمنوا بدون إذنه:*آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ" [الأعراف: 122]، كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق، وهم أنفسهم لا سلطان لهم عليها، أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئًا، ولكنه الطاغوت جاهل غير مطموس، وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور.

ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز، والمسألة واضحة المعالم إنها دعوة موسى إلى رب العالمين هي التي تزعج وتخيف، إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين، وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته وإقامة أنفسهم أربابًا من دون الله؛ يشرعون للناس ما يشاءون ويعبدون الناس لما يشرعون، إنهما منهجان لا يجتمعان، أو هما دينان لا يجتمعان, أو هما ربان لا يجتمعان. وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع: *فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ` لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ" [الأعراف: 124،123].

إنه التعذيب والتشويه والتنكيل وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان، وعدة الباطل في وجه الحق الصريح.

ولكن النفس البشرية حين تستعلي فيها حقيقة الإيمان تستعلي على قوة الأرض وتستهين ببأس الطغاة، وتنتصر فيها العقيدة على الحياة، وتختصر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم، إنها لا تقف لتسأل ماذا ستأخذ وماذا ستدع، ماذا ستقبض وماذا ستدفع، ماذا ستخسر وماذا ستكسب، وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؛ لأن الأفق المشرق الوضئ أمامها هناك، لا تنظر إلى شيء في الطريق [20]).

*قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ` وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ" [الأعراف: 125، 126]، لقد أقام موسى عليه السلام الحجج الدامغة والبراهين الساطعة، على فرعون الطاغية المتكبر وطلب منه أن يرسل معه بنى إسرائيل، فامتنع وشرع للكيد لموسى وقومه، وكانت النتيجة أن تمكن الإيمان من قلب السحرة وأعلنوها صيحة مدوية في آفاق الأرض:*فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ` إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى" [طه: 72].

لقد انتقم فرعون من السحرة الذين آمنوا وصلبوا في جذوع النخل وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وتشاور الملأ من القوم مع زعميهم الطاغية وقرر الأخير مضاعفة العذاب والانتقام من الشعب المستضعف الذي بدأ يزحف نحو النور والحرية والكرامة والتوحيد الصحيح.

لقد حاور موسى عليه السلام فرعون الطاغية وساجل سحرته، وكانت محاولته لمعالجة الوضع من فوق، لتحقيق تغيير أشمل، ولكن سرعان ما تبين أن الجدار الفرعوني لا يخترق ولا يستمال ولا يحيَّد ولا يكسب، حتى بعد أن كسب المعركة عقديًا وفكريًا وسياسيًا حين لقفت عصاه عصي السحرة فكان لا بد من الخروج ببني إسرائيل خلسة وباستخدام أسلوب التمويه حتى يكسب بعض الوقت قبل اكتشاف أثرهم واللحاق بهم، فالمواجهة كانت تعنى الهلاك، بل فشل الفرار كان يعنى الهلاك كذلك.

وكان لابد من التوجه نحو الصحراء حتى يمنع اللحاق بهم ويصلوا أرض الميعاد، بل كل هذا المجهود الفذ الذي قام به موسى عليه السلام لتخليص قومه من الذل والخنوع والاستعباد ما كان لينجح لولا توفيق الله عَزَّ وَجَلَّ ومعجزة شق البحر، وإغراق فرعون وجنوده وهم يكادون يمسكون بالهاربين ([21]).

:astagfor:

لقد كان للأثر السياسي والاجتماعي ومظاهر البيئة الخارجية والداخلية تأثير في اتخاذ أسلوب الهجرة السرية لموسى وقومه، وعلى الشعوب المستضعفة: أن تعمل ما في جهدها وطاقتها ووسعها وتوقن أن نصر الله قادم ما دامت تريد أن تعبد الخلاق العليم على نهجه وشرعه ودينه القويم, لقد حان وقت هلاك فرعون اللعين ونجاة موسى الكليم ومن معهم من المؤمنين:

قال تعالى: *وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبعُونَ ` فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ` إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ` وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ` وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ` فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ` وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ` كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ` فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ` فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ` قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ` فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ` وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ ` وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ` ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ ` إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ` وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" [الشعراء: 52- 68].

إن الآيات الكريمة توضح لنا سنة من سنن الله الماضية والجارية في المجتمعات والشعوب والأمم ألا وهي سنة إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، المعترفين برسالة رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، وتتضح سنة أخرى ألا وهي سنة الاستدراج وكيف أن المولى عَزَّ وَجَلَّ قرب فرعون وجنوده وأدناهم بل وسلب عقولهم بحيث إنهم تابعوا موسى وقومه, ونقف مع الرسول الكريم في قوله تعالى: *كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" هنا دلالة مهمة ألا وهي: أن الرسل هم أوثق الناس بنصر الله عز وجل ووعده، فلو ضاقت الأمور وشك الناس في وعد الله بالنصر والفرج فإن الرسل هم أوثق الناس بنصر الله.

إن فرعون الطاغية حاول أن يرفض الاستسلام لآيات الله ومشيئته وتكبر وتجبر وتغطرس وهذه هي النهاية: استدرج بعيدًا عن عرشه وقصره وسلطانه وأصبح من المغرقين، وأصبح وقومه أثرًا بعد عين, وبدأ نجم المستضعفين في الصعود إلا أن سنوات القمع والظلم وضعف العقيدة لا زال أثرها في نفوس بنى إسرائيل إلا أن هذا الانتصار العظيم لموسى الكليم على الطاغية اللئيم نوع من أنواع التمكين الذي ذكرت في القرآن الكريم وكان خطوة نحو التمكين الأكمل والنصر الأعظم الذي تم في عصر داود وسليمان عليهما السلام.

:anotherone:



--------------------------------------------------------------------------------

([1]) انظر: تفسير الطبري (11/28، 29).

([2]) هو الحافظ المؤرخ الفقيه المفسر إسماعيل بن عمر بن كثير بن درع القرشي الدمشقي أبو الفداء، ولد سنة 701هـ, طلب العلم من صغره ورحل من أجله، توفى في دمشق سنة 774هـ. انظر: شذرات الذهب (6/231).

([3]) انظر: تفسير ابن كثير (3/392).

([4]) هو برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البيقاعى صاحب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، توفى عام 885هـ . انظر: مقدمة تفسيره.

([5]) تفسير البيقاعي (5/464، 465).

([6]) هو الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطى اشتهر بعلم الأصول والتفسير، درس في جامعة المدينة والمسجد النبوي، توفى عام 1393هـ. انظر: أضواء البيان (1/3- 99).

([7]) انظر: أضواء البيان (6/451).

([8]) هو محمد الطاهر بن عاشور ولد بتونس 1879هـ وكان من كبار علماء الزيتونة له مؤلفات كثيرة من أشهرها التحرير والتنوير في التفسير.

([9]) التحرير والتنوير (20/68-70).

([10]) المصدر نفسه (20/70، 71).

([11]) انظر: تفسير السعدي (8/366).

([12]) المصدر نفسه (8/367، 368).

([13]) انظر: تفسير السعدي (8/367، 368).

([14]) انظر: قصص الرحمن في ظلال القرآن، لأحمد فائز (3/64).

([15]) انظر: تفسير السعدي (8/638).

([16]) انظر: قصص الرحمن في ظلال القرآن (3/54، 55).

([17]) المصدر نفسه (3/64).

([18]) في ظلال القرآن (5/2693).

([19]) في ظلال القرآن (3/1350).

([20]) المصدر السابق (3/1351، 1352).

([21]) انظر: في نظريات التغيير، منير شفيق، ص (1).

الفاررة الي الله
08-17-2008, 04:27 AM
قصة نجاة نوح عليه السلام وهلاك قومه

قال تعالى:*لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" [الأعراف: 59].

إن ثوابت دعوة نوح عليه السلام، الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده، والتحذير من عدم الاستجابة إلى توحيده.

فلم يستجب قومه إلى ما دعاهم إليه، بل استكبروا وعتوا وتجبروا، قال سبحانه:*وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ" [يونس: 71].

وجاءت سورة هود لتبين لنا الحوار الطويل بينه وبين قومه، الذين حاججهم وجادلهم وأقام عليهم الحجة وبين لهم طريق الهداية، حتى أجاب قومه بقولهم:*يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" [هود: 32].

:astagfor:
ثم بين الله له النهاية في هؤلاء:*وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُّؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ` وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ" [هود:37،36].

لقد كان نوح عليه السلام صابرًا وثابتًا في دعوة قومه إلى عبادة الله تعالى، فاتخذ معهم جميع الأساليب الدعوية المتنوعة في محاولة صادقة لهدايتهم وتعبيدهم لله تعالى، قال تعالى:*قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا ` فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا ` وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ` ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا" [نوح: 5- 8].

ومع هذا الجهد العظيم والصبر الجميل والثبات المنقطع النظير، والحرص المستمر إلا أن قومه رفضوا وامتنعوا من الإجابة *قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ" [الشعراء: 111]. ثم قالوا: *لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ" [الشعراء: 116]، ولم يؤمن مع نوح إلا فئة قليلة من قومه حتى زوجته وأحد أبنائه غرقوا في مستنقع الكفر الخبيث, قال تعالى:*ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ" [التحريم: 10]، وقال تعالى:*وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ" [هود: 45]، وقال تعالى: *قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ" [هود: 40]. وفي نهاية المطاف وفي آخر مراحل الدعوة وبعد أن علم استحالة استجابة قومه لدعوة التوحيد، قال كما حكى عنه القرآن الكريم في قوله تعالى:*قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ` فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" [الشعراء: 117، 118]، وقوله تعالى:*فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ" [القمر: 10]، وقال تعالى:*وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ` إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا" [نوح: 26، 27].

لقد استجاب الله لدعوة نوح عليه السلام, ولقد أحسن نوح عليه السلام استعمال هذا السلاح العظيم الذي يغفل عنه الكثير من الدعاة العاملين.
:anotherone:


قال تعالى:*فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ` فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ` وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ` وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ` تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَنْ كَانَ كُفِرَ ` وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" [القمر: 10- 15]، لقد لبث قرابة عشرة قرون، وكانت النتيجة:

1- لم يؤمن من قومه إلا قليل.

2- لم تؤمن زوجته ولا أحد أبنائه وهم أقرب الناس إليه, ومع ذلك فإنه يعد منتصرًا، بل إنه حقق أعظم الانتصارات وتمثل ذلك في:

1- صبره وثباته طوال هذه القرون، وعدم ميله إلى محاولات قومه - وحاشاه من ذلك - أو تأثره باستهزائهم وسخريتهم.

قال تعالى:*وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ" [هود: 38].

2- حماية الله له من كيدهم ومؤامراتهم:*قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ" [الشعراء: 116]، ولم ينته نوح عن دعوة التوحيد وتحقيق معاني العبادة لله ومع ذلك ما استطاعوا إليه سبيلاً.

3- إهلاك قومه الذين كذبوا بالغرق:*وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ" [الأعراف: 64].

4- نجاة نوح ومن آمن معه*فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ" [الأعراف: 64].*وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ` تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَنْ كَانَ كُفِرَ " [القمر: 13، 14].

5- إن قصة انتصار نوح وإهلاك قومه أصبحت آية يعتبر بها، وجعل الله لنوح لسان صدق في الآخرين:*وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" [القمر: 15]. *ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا" [الإسراء: 3]. *سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ" [الصافات: 79].*إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ" [آل عمران: 33].


:ozkorallah:
وهكذا تتضح حقيقة النصر من خلال قصة نوح عليه السلام.. إن قوم نوح لم يكن في زمانهم على وجه البسيطة إلا هم، وقد كفروا بالله، وتمردوا على رسوله، سوى فئة قليلة هي التي آمنت به، فإن الله - سبحانه - أهلك جميع من في الأرض، يومئذ سوى نوح ومن آمن معه، حماية للمنهج الذي ذكر نوح أنه معرض للزوال إن بقى هؤلاء.

قال تعالى:*إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا" [نوح: 27].

فأهلك هؤلاء على كثرتهم من أجل عدد من البشر يحملون الحق ويدافعون عنه، لقد أهلك الله تعالى أهل الكفر والطغيان، ومكن لأهل التوحيد والإيمان, وأصبحوا على وجه البسيطة موحدين محققين لمعاني العبادة في الحياة ([1]).

قال تعالى:*ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ" [الإسراء: 13]، قال الإمام الطبري ([2]) رحمه الله: (وذلك أن كل من على الأرض من بنى آدم فهم من ذرية من حمله الله مع نوح في السفينة، قال قتادة ([3]): والناس كلهم ذرية من أنجى الله من تلك السفينة، قال مجاهد ([4]): بنوه ونساؤهم ونوح) ([5]).

قال سبحانه:*أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ" [مريم: 58].

إن التمكين الفعلي والانتصار العظيم والإعزاز الكريم عندما يتمكن منهج رب العالمين من نفوس أهل الإيمان، وإن كانوا قلة، فالعبرة ليست بكثرة المؤمنين والمستجيبين للحق، وإنما في صفاء المنهج الرباني الذي يعتقده أولئك الأفراد سواء أقلوا أم كثروا، ولذلك فإن بضعة نفر أو يزيدون، ولا يتجاوزون ثلاثة عشر فردًا يحملون معنى التوحيد، ويحققون معنى العبودية، يهلك أهل الأرض جميعًا حماية لهؤلاء وللمنهج الذي يمثلونه ويحملونه، ما دام هناك خطر يهدد بزوالهم، ومن ثم زوال المنهج الذي يحملونه:*إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا" [نوح: 27].

إن هلك الكافرين ونجاة المؤمنين، وسلامة المنهج الرباني القائمين عليه وما بذلوه من الصبر والثبات على ذلك نوع من أنواع التمكين التي يكرم الله بها من يشاء من عباده.

إن الله مكن لنوح عليه السلام ومن آمن به على وجه الأرض، فأمر السماء أن تقلع والماء أن يغيض في الأرض, والسفينة أن تستوي على جبل الجودي تمكينًا لسفينة الإيمان وأهلها ([6]).



:astagfor:

--------------------------------------------------------------------------------

([1]) انظر: حقيقة الانتصار للدكتور ناصر العمر ص (38، 39).

([2]) هو الإمام المجتهد أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملى الطبري البغدادي، ولد سنة 224هـ, حفظ القرآن ورحل في طلب العلم وعمره 12 سنة, ولم يزل طالبًا للعلم مولعًا به إلى أن مات. واشتهر بالتفسير والفقه والتاريخ ت 310هـ انظر: سير أعلام البنلاء (14/267).

([3]) هو قتادة بن دعامة بن عزيز أبو الخطاب السدوسى الأعمى الحافظ المفسر، عالم أهل البصرة, مات بواسط سنة 117هـ ، انظر: تذكرة الحفاظ (1/122).

([4]) هو مجاهد بن جبر المكي أبو الحجاج المخزومي المقرئ المفسر الحافظ مولى السائب بن أبي السائب، كان فقيهًا ورعًا عابدًا، قال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت وكيف كانت، توفى سنة 103هـ. انظر: طبقات الحفاظ للسيوطي ، ص42.

([5]) انظر: تفسير الطبري (8/ 215).

([6]) انظر: حقيقة الانتظار، ص (40).

الفاررة الي الله
08-22-2008, 01:02 AM
قصة طالوت عليه السلام مع بنى إسرائيل

قال تعالى: *أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ` وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ` وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ` فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ` وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ` فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ` تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ" [البقرة: 246- 252].

إن قصة طالوت عليه السلام توضح نوعًا من أنواع التمكين ألا وهو نصر الله للمؤمنين على الكافرين في المعارك.

وهذه القصة وقعت أحداثها بعد دخولهم الأرض المقدسة في فترة من فترات حياتهم, بعد أن انحرفوا عن منهج الله سلط الله عليهم من يضطهدهم ويهزمهم بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وقد سلب الله منهم التابوت الذي فيه سكينة من الله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون.

وقد شعر القوم بالذل ومرارة الهزيمة والهوان، وكان هذا الشعور عند الجميع، العامة والملأ المالكين فيهم، فأرادوا أن يغيروا واقعهم الذليل، وأن يبدلوا ذلهم عزة وهزيمتهم نصرًا، وعلموا أن السبيل الوحيد لذلك هو الجهاد والقتال، لذلك لجأ الملأ الحاكمون فيهم إلى نبيهم، وفزعوا إليه، وطلبوا منه أن يختار لهم ملكًا يتولى أمورهم، ويقودهم إلى العزة والنصرة، ويقاتل لهم أعداءهم في سبيل الله. ويبدو أن ذلك النبي كان يعلم طبيعتهم المائعة وهمتهم الرخوة، وأنهم عندما يؤمرون بالقتال، فسوف ينكصون عنه ويقعدون عن خوضه، فقال لهم: أخشى عليكم الامتناع عن أمر الله عندما يأمركم بالجهاد، فردوا بحماسة بأنهم عازمون, وبينوا الأسباب التي تدعو إلى قتال أعدائهم, فبعد ذلك سأل نبيهم ربه، فأوحى إليهم أن طالوت ملكهم، فاحتجوا بحجج واهية نسفها لهم نبيهم وعندما جاء وقت الجد والكفاح والقتال والجهاد بدأوا في التساقط ولم يصبر مع طالوت إلا فئة قليلة سمعت وأطاعت واعتمدت على خالقها، فنصرهم الله على أعدائهم.

ولقد وقف العلماء على هذه القصة العظيمة يدرسونها ويغترفون من بحرها العميق دروسًا مفيدة في تكوين الأفراد وقيادة الجماعات وإحياء الشعوب والسعي بها نحو التمكين ومن أهم هذه الدروس والعبر: ([1])

أولاً: مبهمات هذه القصة:

نلاحظ في هذه القصة مبهمات كثيرة لم يتعرض لها القرآن، لأنه لا فائدة في ذكرها، وإنما ذكر المولى عَزَّ وَجَلَّ ما يفيد المسلمين وأهل النظر والاعتبار.


:astagfor:

إن في قصة طالوت نرى مبهمات كثيرة منها:

1- الزمان الذي وقعت فيه قصة طالوت، فكل ما يؤخذ من الآيات أنها وقعت لبنى إسرائيل من بعد موسى، يعنى بعد إقامتهم في فلسطين، أما تحديد السنة أو الفترة أو الحالة التي عليها بنو إسرائيل، فهذا لا يمكن تحديده.

2- اسم النبي الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكًا، فقد يكون شمعون أو صمويل وقد يكون غيرهما، فلا نجعل أحدًا من الأنبياء إلا بنص صريح، لاحتمال أن لا يكون نبيًا، وبذلك نؤمن بنبوة غير النبي! وهذا لا يجوز.

3- السبب الذي دفعهم ليطلبوا من نبيهم ذلك الطلب.

4- نسب طالوت، وبداية أمره، وتفصيلاته قبل تملكه عليهم.

5- تفصيلات ببسطة طالوت في العلم والجسم.

6- تفصيلات بملك طالوت عليهم.

7- التابوت وقصته وتاريخه عندهم ومقاساته، وتفصيلات السكينة والبقية التي فيه، التي تركها آل موسى وآل هارون وغير ذلك من المبهمات.

والعجيب أن بعض المفسرين والمؤرخين والكتّاب والمحدثين لم يقفوا عند هذا البيان القرآني والنبوي، فذهبوا إلى الإسرائيليات، وطلبوا منها حل تلك المبهمات، وتفصيل تلك الأحداث، فلم يقدموا لنا علمًا ولا فائدة ولا عبرة.

وبذلك تضيع جهود وأوقات في غر محلها، ويتركون عرض القرآن وما احتواه من دروس ودلالات وعبر، فالقصة هذه مثلاً:

فيها دروس للدعاة في التعامل مع الآخرين، ودروس للمصلحين الذين يريدون تغيير الواقع السيء الذي تعيشه الأمة، ودروس للمجاهدين الذين يعملون على تبديل الذل إلى عزة والهزيمة إلى نصر، ودروس للذين يعتمدون على الجماهير، ويصدّقون اندفاعهم وحماستهم، ويضعون على أساسها خططهم وبرامجهم، فتتخلى عنهم الجماهير وقت الحاجة، ودروس في التربية الفردية والجماعية، ودروس في الضبط والحزم والامتحان، ودروس في الجهاد والقتال وخوض المعركة، والتوجه إلى الله والاستنصار به، وعدم الرعب والهلع من قوة الأعداء، وفيها دروس في أسس اختيار الحكام والمسئولين وما هي مواصفات الحكام المطلوبة، إن هذه القصة مليئة بالدروس والعبر في مجال الدعوة والداعية، والحاكم والمحكوم، والجندي والقائد، وفي مجال الإيمان والعقيدة، والدعوة والجهاد، والإصلاح والتغيير, والتوجيه والتربية، والسياسة والولاية، والحكم والسيادة.

إن كثيرًا من المفسرين ملأوا كتبهم بتيه الإسرائيليات والخرافات والأساطير، وتجاوزوا كثيرًا من الدروس والدلالات ([2]).

:anotherone:

إن هذا العصر يتطلب من العلماء أن يبتعدوا عن الترف الفكري والعلمي، لأننا مطالبون بالإصلاح والدعوة والتغيير، كما أن علينا مسئوليات عظيمة لتغيير واقع الأمة من الحضيض التي فيه إلى قمة العزة والتمكين التي يريدها الله لها.

ثانيًا: أهم سنن حياة الأمم والشعوب التي يمكن استخلاصها في هذه القصة:

حاول الشيخ محمد رشيد ([3]) رحمه الله أن يتأمل في هذه القصة ويستنبط منها أهم السنن الاجتماعية في حياة الأمم والمجتمعات والشعوب وذكر منها:

السُّنة الأولى: أن الأمم إذا اعتدى على استقلالها، وأوقع الأعداء بها فهضموا حقوقها، تتنبه مشاعرها لدفع الضيم، فتسعى للوحدة التي يمثلها الزعيم العادل، فتتوجه إلى طلبه، كما وقع من بنى إسرائيل، بعد تنكيل أهل فلسطين بهم.

السُّنة الثانية: أن شعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها وصيانة استقلالها، يكون موجودًا عند خاصتها وأهل الفكر والرأي فيها، فالملأ من بنى إسرائيل، هم الذين طلبوا الملك.

السُّنة الثالثة: متى عظم الشعور بوجوب حفظ حقوق الأمة ومحاربة أعدائها عند خواص الأمة، فإنه لا يلبث أن يسرى إلى عامتها، حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور، انكشف عجز الأدعياء، ولم ينفع إلا صدق الصادقين.

السُّنة الرابعة: من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس، والاختلاف مدعاة للتفرق، فلا بد من مرجِّح ترضى به الأمة، كما طالبت بنو إسرائيل من نبيهم اختيار ملك لهم، فكان هو المرجح، والمرجح عند المسلمين هم أهل الحل والعقد منهم.

السُّنة الخامسة: أن الناس لا يتفقون على التقليد أو الأتباع فيما يرونه مخالفًا لمصلحتهم الاجتماعية، ولذلك اختلف بنو إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت ملكًا عليهم، واحتجوا على ذلك بما لا ينهض حجة إلا في ظن المنكرين, ومن عجيب
أمر الناس أن كلاً منهم يحسب أنه على صواب في السياسة ونظام الاجتماع في
الأمم والدول.

السُّنة السادسة: أن الأمم في طور الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة، كما في قول المنكرين على طالوت: أني يكون له الملك
علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال؟ فهذا الاعتقاد من السنن العامة في الأمم الجاهلية.

السُّنة السابعة: أن الشروط التي ينبغي اعتبارها في الاختيار لملك هي:*إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" [البقرة: 247] فيما يأتي:

1- الاستعداد الفطري للشخص *إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ".

2- السعة في العلم الذي يكون به التدبير *وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ".

3- بسطة الجسم المعبَّر بها عن صحته، وكمال قواه المستلزم ذلك صحة
الفكر *الْجِسْمِ".

4- توفيق الله تعالى لا سبب له، وهو المعبّر عنه بقوله: *وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ".

السُّنة الثامنة: هي ما أفاده قوله تعالى:*وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ".

فمشيئة الله سبحانه، إنما تنفذ بمقتضى سنته العامة في تغيير أحوال الأمم، بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين، وإيراث الأرض للصالحين، وتأويل هذه الآيات وأمثالها مشاهد في كل زمان، وأين المبصرون؟

السُّنة التاسعة: أن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر وقوانين الجندية في هذا الزمان حتى عند الغربيين مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول.

السُّنة العاشرة: أن الفئة القليلة قد تغلب بالصبر والثبات وطاعة القواد، الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والاتحاد مع طاعة القواد، لأن النصر مع الصابرين، أي جرت سنته بأن يكون النصر أثرًا للثبات والصبر، وأن أهل الجزع والجبن هم أعوان لعدوهم على أنفسهم وهذا مشاهد في كل زمان.

السُّنة الحادية عشرة: أن الإيمان بالله، والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجلاء والقتال.

السُّنة الثانية عشرة: أن التوجه إلى الله بالدعاء مفيد في القتال كما يدل عليه قوله: *فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ" إذ عطفها بالفاء على آية الدعاء، وذلك معقول المعنى، فإن الدعاء هو آية الإيمان بالله والتصديق بلقائه.

السُّنة الثالثة عشرة: دفع الله للناس بعضهم ببعض من السنن العامة، وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون إن الحرب طبيعة في البشر؛ لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة، وأنت ترى في قوله تعالى: *وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ" ليس نصًا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو لكل نوع من أنواع التنازع بين الناس، الذي يقتضى المدافعة والمغالبة ([4]).

:astagfor:

إن السنن الربانية ثابتة في الكون، وتقع على الإنسان في كل زمان ومكان, وسنة التدافع من السنن التي تتعلق بالتمكين تعلقًا وثيقًا.. ولقد شاء الله رب العالمين أن يُجرى أمر هذا الدين - بل أمر هذا الكون - على السنن الجارية، لا على السنن الخارقة وذلك حتى لا يأتي جيل من أجيال المسلمين فيتقاعس، ويقول: لقد نصر الأولون بالخوارق، ولم تعد الخوارق تنزل بعد ختم الرسالة، وانقطاع النبوات ([5]).

وعلى المسلمين أن يدركوا سنن ربهم المبرزة لهم في كتاب الله تعالى وفي سنة
رسوله  حتى يصلوا إلى ما يرجون من عزة وتمكين «فإن التمكين لا يأتي عفوًا، ولا ينزل اعتباطًا ولا يخبط خبط عشواء؛ بل إن له قوانينه التي سجلها الله تعالى في كتابه الكريم ليعرفها عباده المؤمنون، ويتعاملوا معها على بصيرة» ([6]).

إن الوقوف على معرفة سنن الله ودراستها أمر لا بد منه للأمة الإسلامية وذلك حتى يستفيدوا منها، ولا يصطدموا بها.

يقول حسن البنا: «لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها، واستخدموها، وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض» ([7]).

إن سنة التدافع متعلقة بالتمكين تعلقًا وطيدًا «فالله تعالى يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفًا، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو - مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة - فإذا مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان, ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة... فمن هنا يقع التدافع بين الحق وأهله، والباطل وحزبه، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً» ([8]).

«وهي سنة فطرية جارية بين الناس حفظًا لاستقامة حال العيش، واعتدالاً
لميزان الحياة» ([9]).

لقد ورد تقرير هذه السنة الربانية هي القرآن الكريم بصفة عامة ولكن جاء التنصيص عليها في آيتين كريمتين منه: ([10])

الآية الأولى: قوله تعالى في سورة البقرة: *وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" [البقرة: 251].

الآية الثانية: قوله تعالى في سورة الحج: *وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحج: 40].

والملاحظ أن آية البقرة تأتى بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل المتمثل هنا في طالوت وجنوده المؤمنين، وجالوت وأتباعه، ويذيل الله - تعالى - الآية بقوله تعالى:*وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" [البقرة: 251]، (مما يفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلَّهم) ([11]).

وتأتى آية الحج بعد إعلان الله تعالى أن يدافع عن أوليائه المؤمنين، وبعد إذنه لهم - سبحانه - بقتال عدوهم، ويختتم الآية بتقرير الله تعالى لقاعدة أساسية: *وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحج: 40].

إن من الضروري للأمة الإسلامية أن تعي سنة الله - تعالى - في دفع الناس بعضهم ببعض: «لتدرك أن سنة الله - تعالى - في تدمير الباطل أن يقوم في الأرض حق يتمثل في أمة، ثم يقذف الله - تعالى - بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق» ([12]).

:ozkorallah:

إن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضى به، وقلوب تحنو عليه، وأعصاب ترتبط به.. إنه يحتاج إلى الطاقة البشرية, الطاقة القادرة القوية، والطاقة الواعية العاملة..إنه يحتاج إلى جهد بشري، لأن هذه سنة الله تعالى في الحياة الدنيا سنة ماضية ([13]): *فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً" [فاطر: 43].

وهكذا يتضح أن سنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه، وهي كذلك من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية, وما على الأمة إلا أن تعى هذه السنة، لتستفيد منها وهي تعمل لعودة التمكين الذي وعدت به من الله رب العالمين ([14]).

ولذلك يهتم القرآن الكريم بتعليم المسلمين ما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم, ويبين بكل جلاء ووضوح سنن الله تعالى في الآفاق والمجتمعات والأمم، ويبين كيفية وقوع هذه السنن وما هي الأسباب التي تتخذ، فعندما أراد الله لبنى إسرائيل أن ينصرهم على عدوهم ويمكن لهم في الأرض سبق ذلك التمكين وذلك النصر أمور ذكرها الله في قصة طالوت عليه السلام.. وقد أجاد سيد قطب - رحمه الله - في بيان هذه الحقائق فقال: (والعبرة الكلية تبرز من القصة كلها، هي أن هذه الانتفاضة- انتفاضة العقيدة - على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف، ومن تخلى القوم عنها فوجًا بعد فوج في مراحل الطريق على الرغم من هذا كله، فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبنى إسرائيل نتائج ضخمة جدًا، فقد كان فيها العز والنصر والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل، والذل تحت أقدام المتسلطين، ومن خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية، كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين من ذلك:

1- أن الحماسة الجماعية، قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها فيجب أن يضعوها على محك التجربة، قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة.

2- أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الثائر في نفوس الجماعات، ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول.

أ- فإن كثرة بنى إسرائيل هؤلاء قد تولَّوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم، ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيهم، وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت.

ب- ومع هذا فقد سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى وضعفوا أمام الامتحان الأول، وشربوا من النهر، ولم يجاوز معه إلا عدد قليل.

ج- وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية، فأمام الهول الحي، أمام كثرة الأعداء وقوتهم، تهاونت العزائم، وزلزلت القلوب.

د- وأمام هذا التخاذل ثبتت القلة القليلة المختارة، واعتصمت بالله، ووثقت بوعده، وهي التي رجحت الكفة وتلقت النصر، واستحقت العز والتمكين.

لقد تمت تصفية بنى إسرائيل ثلاث مرات، وخلاصة الخلاصة، هم الذين صدقوا الله في الجهاد فصدقهم الله وعده، وأنزل عليهم نصره.

3- في ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة، وكلها واضحة في قيادة طالوت - تبرز فيها:

أ- خبرته بالنفوس.

ب- عدم اغتراره بالحماسة الظاهرة.

ج- عدم اكتفائه بالتجربة الأولى.

د- محاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة.

هـ - فصله للذين ضعفوا، وتركهم وراءه.

و- ثم - وهذا هو الأهم - عدم تخاذله، وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة، ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة فخاض بها المعركة.

4- والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة.. أن القلب الذي يتصل بالله، تتغير موازينه وتصوراته، لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود, فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها، ما يراه الآخرون الذين قالوا: *لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ" ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف إنما حكمت حكمًا آخر، فقالت: *كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" ثم اتجهت لربها تدعوه: *رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين، إنما هو في يد الله وحده، فطلبت منه النصر، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه.

وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقًا، وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح، وهكذا يثبت أن التعامل مع الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون!.
:anotherone:

ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة، فالنصوص القرآنية - كما علمتنا التجربة- تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن، وبقدر حاجته الظاهرة فيه.

ويبقى لها رصيدها المذخور، تتفتح به على القلوب، في شتى المواقف، على قدر مقسوم ([15]).

إن القرآن الكريم يحتاج منا إلى تأمل وتفكر عميق، وسنجد خبرات لا تعد ولا تحصى في كل شئون الحياة الدنيوية والأخروية، وتمد العاملين من أجل الإسلام بالصبر والثبات.

إن دعاء القلة المؤمنة *رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" ليس خاصًا بها، بل يصلح لكل فئة مجاهدة صابرة، تقف أمام أعدائها، وهناك لفتة في ترتيب فقرات الدعاء الثلاثة: الصبر وتثبيت الأقدام والنصر، فكل فقرة مبنية على ما قبلها وترتيبها ترتيبًا مرحليًا، فعند مواجهة الأعداء يحتاج المجاهد أولاً إلى الصبر- بمفهومه الشامل وميادينه المتعددة - فإذا صبر حاز المرحلة الثانية وهي ثباته وتثبيت قدميه، ولن تثبت الأقدام إلا عند الصابرين وإذا ثبتت الأقدام واستبسل المجاهد في القتال نصره الله على الأعداء, ونلاحظ في الدعاء الالتفات إلى أهمية الحالة النفسية والناحية المعنوية، وتقديمها على الحالة الخارجية المادية، ولذلك قدم الصبر على المعركة، وعلى تثبيت الأقدام فيها، كما نلاحظ تناسقًا وتنسيقًا بين موقفي اغترافهم من النهر اغترافًا، بينما يطلبون إفراغ الصبر عليهم إفراغًا، وصبّه عليهم صبًا، ولعل في هذا إشارة أخرى: فمن استعلى على الدنيا وحاجاتها، لم تتعبده ملذاتها، من حرم نفسه من بعض متاعها ومباحاتها، ابتغاء وجه الله، عوّضه الله عن ذلك، وأمده الله بمدد من عنده، فها هي القلة المؤمنة امتنعت من الشرب من النهر، واستعلت بذلك على متاع الدنيا ومباحاتها، فعوّضها الله عن ذلك الصبر حيث أفرغه عليهم إفراغًا، ونلاحظ: أن داود عليه السلام خرج من وسط الجيش المجاهد، فمن ميدان المعركة بدأ أمره، وترقى في طريق القيادة والملك والحكمة والمسئولية، وفي هذا إشارة إلى أن العمل هو الذي يخرج القادة، والميدان هو الذي يكشف عن المواهب، فالقائدان طالوت وداود ظهرا من وسط الناس، وقدمهما للناس الميدان والعمل والواقع، فهذه هي طريقة القادة الذين يقودون الأمة إلى طريق النصر والتمكين ([16]).

ومن حكمة الله تعالى في قتل داود لجالوت، أن داود كان فتى صغيرًا من بنى إسرائيل، وجالوت كان ملكًا قويًا وقائدًا مخوفًا... ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجرى بظواهرها، إنما تجرى بحقائقها, وحقائقها يعلمها هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا بواجباتهم، ويفوا الله بعهدهم ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده.

وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم.

إن انتصار بنى إسرائيل على جيش طالوت نوع من أنواع التمكين التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم, وإن النظرة المتأملة للقرآن الكريم تكسب الذين يسعون لتحكيم شرع رب العالمين تجارب بشرية ضخمة, وتمدهم بتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله، وتورّث أجيال الأمة ميراث الأنبياء والمرسلين في نظرتهم للواحد الديان، والحياة، والكون، وحقيقة الإنسان ومناهج التغيير التي خاضوها في هذه الحياة.





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) انظر: مع قصص السابقين في القرآن (1/295، 296).

([2]) مع قصص السابقين في القرآن (1/304، 305).

([3]) هو محمد رشيد رضا القلموني البغدادي الأصل، الحسيني النسب، صاحب مجلة المنار، وداعية التجديد والإصلاح وله تفسير اسمه: تفسير القرآن الحكيم، ومشهور باسم تفسير المنار، وهو غير كامل انتهى مؤلفه إلى الآية (101) من سورة يوسف توفى سنة 1353هـ. انظر: الأعلام للزر كلى (6/126) تفسير المنار (7/305، 306).

([4]) تفسير المنار (2/495- 498).

([5]) واقعنا المعاصر، ص414.

([6]) جيل النصر المنشود، د. يوسف القرضاوي، ص15.

([7]) الرسائل لحسن البنا، ص161.

([8]) في ظلال القرآن (2/742).

([9]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية لمحمد السيد محمد، ص218.

([10]) المصدر نفسه، ص219.

([11]) الفخر الرازي: مفاتيح الغيب (3/514).

([12]) في ظلال القرآن (2/1091)

([13]) انظر: لقاء المؤمنين لعدنان النحوي (2/117).

([14]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية ص 225.

([15]) في ظلال القرآن (1/260- 263).

([16]) انظر: مع قصص السابقين في القرآن (1/332).

الفاررة الي الله
08-23-2008, 04:11 AM
الرسول صلوات الله وسلامه عليه مع قومه

إن انتصار أهل الإيمان على أهل الكفر في المعارك القتالية، يظهر جليًا في سيرة النبي e وفي عهد الخلفاء الراشدين وفي تاريخ الأمة المجيدة.

إن النبي e بعد استقراره في المدينة شرع يخطط للأعمال الجهادية، ويحث أصحابه على فنون القتال ويرسل السرايا والبعوث، ليضيق على حركة قريش التجارية، ويؤدب القبائل المشركة ويؤمن دولة الإسلام من أعدائها، ويخوّف المتربصين بالمسلمين، ويهيئ أصحابه للمهمات التي تنتظرهم بعد أن أذن الله لهم بالقتال، فبعث e مجموعة من البعوث والسرايا حققت بعض الأهداف الاستراتيجية من أهمها:

1- الاستطلاع: حتى يتعرف المسلمون على الطرق المحيطة بالمدينة والمؤدية إلى مكة، خاصة الطرق الحيوية التجارية لقريش في الجزيرة واهتموا بالتعرف على قبائل المنطقة وموادعة بعضها.

2- الحصار الاقتصادي: على قريش ومنعها من مواصلة تجارتها مع الشام ما أمكن إلى ذلك سبيلاً ومنع الحصار الاقتصادي المتوقع على المدينة من قبل القبائل المحيطة بها، وذلك بعقد أحلاف مع بعضها وقتال البعض الآخر, ومفاجأة كل تجمع يخشى منه ضرر على الدولة المسلمة، فكان e يقظًا سريع الحركة ما يكاد يسمع بتجمع للمشركين يهدده إلا فاجأهم وشتت شملهم وألقى الرعب في قلوبهم، فالهجوم عنده أقوى وسائل الدفاع.

3- لقد أثبتت حركة السرايا والبعوث أن المسلمين أصبحوا قوة يحسب لها حسابها من قبل المشركين من قريش والقبائل المجاورة, واضطرت بعض القبائل إلى مهادنة وموادعة المسلمين، هذه بعض الأهداف التي حققتها تلك السرايا والبعوث.

إن معارك النبي e ضد المشركين وانتصاره عليهم نوع من أنواع التمكين, ومن أهم هذا المعارك: بدر، والخندق، ففي معركة بدر بيَّن تعالى أن حقيقة النصر من الله تعالى, قال تعالى:*وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [آل عمران:123].

إن الله تعالى بين أن النصر لا يكون إلا من عند الله عَزَّ وَجَلَّ, والمعنى ليس النصر إلا من عند الله دون غيره، و(العزيز) أي ذو العزة التي لا ترام ([1]), و(الحكيم) أي الحكيم فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى ([2]).

ويستفاد من هاتين الآيتين: تعليم المؤمنين الاعتماد على الله وحده، وتفويض أمورهم إليه من التأكيد على أن النصر إنما هو من عند الله وحده وليس من الملائكة أو غيرهم، فالأسباب يجب أن يأخذ بها المسلمون لكن يجب أن لا يغتروا بها, وأن يكون اعتمادهم على خالق الأسباب والوسائل حتى يمدهم الله بنصره وتوفيقه، ثم بين سبحانه مظاهر فضله على المؤمنين وأن النصر الذي كان في بدر وقتلهم المشركين، ورمي
النبي eالمشركين بالتراب يوم بدر إنما كان في الحقيقة بتوفيق الله أولاً وبفضله ومعونته، وبهذه الآية الكريمة يربي القرآن المسلمين ويعلمهم الاعتماد عليه, فقال تعالى:

*فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الأنفال:17].

ولما بين سبحانه وتعالى أن النصر كان من عنده وضح بعض الحكم من ذلك النصر:

فقال تعالى:*لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ ` لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ" [آل عمران: 127، 128].

وأمر سبحانه المؤمنين أن يتذكروا دائمًا تلك النعمة العظيمة نعمة النصر في بدر، ولا ينسوا من أذهانهم كيف كانت حالتهم قبل النصر.

قال تعالى: *وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [الأنفال: 26].

لقد كانت نتائج غزوة بدر على المسلمين عظيمة، ومن أهم تلك النتائج:

1- ضعف موقف المشركين واهتزاز هيبتهم أمام قبائل الجزيرة العربية.

2- ظهور قوة جديدة في الجزيرة أصبح الجميع يحسب لها حسابها.

3- بدأ النفاق في المدينة يظهر جليًا بعد بدر، واستمر المنافقون في أذاهم للمسلمين.

4- شرع اليهود في إظهار عداوتهم للمسلمين بعد بدر حسدًا وبغيًا وأول من أظهر بغيه يهود بنى قينقاع.

5- أصبحت الحرب معلنة بين المسلمين وقريش لم تنته إلا بفتح مكة.

6- تشجع كثير من الناس لدخول الإسلام ودخلت المدينة في طور جديد من الجهاد المسلح.

7- خص الله أهل بدر من الصحابة الكرام بالمغفرة وشرّف من حضرها من الملائكة وأصبحت غزوة بدر شرفًا ومنقبة لمن حضرها من المسلمين والملائكة.

أما غزوة الخندق فقد تحدث القرآن عنها وبين أمورًا من أهمها:

1- تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم كما قال تعالى:*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا" [الأحزاب: 9].

2- التصوير البديع لما أصاب المسلمين من هم بسبب إحاطة الأحزاب بالمدينة *إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا" [الأحزاب: 10].

3- الكشف عن نوايا المنافقين السيئة، وأخلاقهم الذميمة، وجبنهم الخالع, ومعاذيرهم الباطلة ونقضهم للعهود, قال تعالى:*وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا" [الأحزاب: 12].

4- حض المؤمنين في كل زمان ومكان على التأسي برسول الله e في أقواله وأفعاله وجهاده وكل أحواله استجابة لقوله تعالى:*لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا" [الأحزاب: 21].

5- مدح المؤمنين على مواقفهم النبيلة وهم يواجهون جيوش الأحزاب بإيمان صادق، وفاء بعهد الله تعالى، قال تعالى:*مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" [الأحزاب: 23].

6- بيان سنة من سنن الله التي لا تتخلف, وهي جعل العاقبة للمؤمنين والهزيمة لأعدائهم، قال تعالى: *وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا" [الأحزاب: 25].

7- امتنانه سبحانه على عباده المؤمنين حيث نصرهم على بنى قريظة وهم في حصونهم المنيعة بدون قتال يذكر, حيث ألقى سبحانه الرعب في قلوبهم فنزلوا على حكم الله ورسوله ([3])، قال الله تعالى: *وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ` وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا" [الأحزاب: 26، 27].

لقد كانت غزوة الأحزاب من الغزوات الهامة التي خاضها المسلمون ضد أعدائهم وحققوا فيها نتائج مهمة:

1- انتصار المسلمين وانهزام أعدائهم وتفرقهم ورجوعهم مدحورين بغيظهم قد خابت أمانيهم وآمالهم.

2- تغير الموقف لصالح المسلمين فانتقلوا من موقف الدفاع إلى الهجوم, وقد أشار إلى ذلك النبي e حيث قال: «الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم» ([4]).

3- كشفت هذه الغزوة خبث يهود بنى قريظة وحقدهم على المسلمين وتربص الدوائر بهم، فقد نقضوا عهدهم مع النبي e في أحلك الظروف وأصعبها.

4- كشفت غزوة الأحزاب حقيقة صدق إيمان المسلمين وحقيقة المنافقين وحقيقة يهود بنى قريظة، فكان الابتلاء بغزوة الأحزاب تمحيصًا للمسلمين وإظهار حقيقة المنافقين واليهود.

5- كانت غزوة بنى قريظة نتيجة من نتائج الأحزاب حيث تمّ فيها محاسبة يهود بنى قريظة الذين نقضوا العهد مع النبي e في أحلك الظروف وأقساها.





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) انظر: تفسير ابن كثير (1/411).

([2]) المصدر نفسه (2/303).

([3]) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول × (1/490، 491).

([4]) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق (5/58) رقم 4109.

الفاررة الي الله
09-04-2008, 05:00 AM
حروب الردة
عندما توفى رسول الله e ارتدت أحياء كثيرة من العرب، وظهر النفاق، وقد كان أهل الردة على قسمين:
القسم الأول: ارتدوا عن الدين ونابذوا الملّة، وهذه الفرقة طائفتان:
1- الطائفة الأولى: فمنهم التارك للدين بالمرّة، وهم بنو طيئ، وأسد, ومن تبعهم من غطفان وعبس وذبيان وفزارة اتبعوا طليحة بن خويلد الأسدي مدعى النبوة في بنى أسد، وبنو حنيفة الذين اتبعوا مسيلمة الكذاب، وأهل اليمن الذين اتبعوا الأسود العنسى، وكثير غيرهم، وهؤلاء ارتدوا عن الدين، ونابذوا الملّة، واتبعوا مُدّعى النبوة في الجزيرة، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وعاد إلى ما كان عليه من الجاهلية.
2- الطائفة الثانية: هم الدين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها, وهم بعض بنى تميم، الذين يرأسهم مالك بن نويرة، وبنو هوازن وغيرهم.
وهذا القسم هو الذي وقع فيه الخلاف، فثبت أبو بكر رضي الله عنه ثم وافقه جميع الصحابة على قتال جميع المرتدين ومانعي الزكاة ([1] (ada99:14 حروب الردة.htm#_ftn1)).
وخاض الصديق معارك طاحنة في الجزيرة العربية، وهزم جيوش المرتدين ونتج عن تلك المعارك نتائج مهمة من أهمها:
1- ظهرت أهمية القاعدة الصلبة في المجتمع الإسلامي، وأثبتت حروب الردة أن هناك معادن أصيلة قوية، تشكلت منها القاعدة الصلبة في المدينة والتي لم تكن رخوة أو هشة، أو ساذجة، بل كانت قوية واعية تدرك حقيقة نفسها وحقيقة عودها، وتستوعب أبعاد المخاطر من حولها، وتخطط بانتباه ويقظة كاملة في مواجهة كل الصعاب، ولهذا أزاحت كل العراقيل والصعاب التي وضعت أمامها، لقد التفت هذه القاعدة حول الصديق رضي الله عنه، فقادهم لحفظ الدولة، وتقوية دعائمها بعد رسول الله e, وكان لهذه القاعدة أثر في الحشد الذي تم لمواجهة أحداث الردة، وكان لهذه القاعدة دور في لَمَّ شمل الناس من حولهم...وعلى عاتقهم تم حفظ كيان الأمة وحرصوا على بقائها وتنميتها, وضحوا بالمهج والأموال، ولعل موقفهم في حروب الردة وخصوصًا في حرب ردة اليمامة وهي أعظمها بيَّن أهميتها في بقاء الدولة واستمرارها حيث تميز المهاجرون والأنصار بإيمانهم وثباتهم وصبرهم, وكان القتل في المهاجرين والأنصار قد استحرّ, وأكرمهم الله بالنصر على عدوهم بسبب صدقهم وإخلاصهم وثباتهم.
2- لقد تكسرت وتحطمت قوى الشر من يهود ونصارى ووثنيين الذين تستروا تحت شعارات عدة أمام صلابة التوحيد وحقيقة التصور السليم، والقيادة الحكيمة، وتركت لنا تلك الأحداث الجسيمة ثروة ضخمة في معاملة المرتدين وأحكامهم، ومعاملة الخارجين عن دولة الإسلام العظيمة.
3- استطاعت القيادة الإسلامية بزعامة الصديق رضي الله عنه أن تجعل من الجزيرة العربية قاعدة للانطلاق لفتح العالم أجمع, وأصبحت الجزيرة هي النبع الذي يتدفق منه الإسلام ليصل إلى صقاع الأرض بواسطة رجال عرّكتهم الحياة، وأصبحوا من أهل الخبرات المتعددة في مجالات التربية والتعليم والجهاد وإقامة شرع الله الشامل لإسعاد بنى الإنسان حيثما كان.
4- أصبحت الجزيرة العربية تحت نظام واحد وقيادة واحدة بعد تاريخ طويل من التمزق والفرقة والشتات بسبب الصراع القبلي والأطماع الفردية، والنزعات العشائرية وتحقق مفهوم الأمة على أسس عقدية وفكرية ومنهجية ربانية, وانصهرت القبائل في كيان الأمة ذات الفكرة الواحدة، والقيادة الواحدة، وأصبحت جزءًا من كيانها المتماسك.
5- كانت حروب الردة إعدادًا ربانيًا للفتوحات الإسلامية حيث تميزت الرايات وظهرت القدرات، وتفجرت الطاقات، واكتشفت قيادات ميدانية, وتفنن القادة في الأساليب والخطط الحربية، وبرزت مؤهلات الجندية الصادقة المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل، وتقدم كل شيء وهي تعلم من أجل ماذا تضحي وتبذل، ولذا كان الأداء فائقًا والتفاني عظيمًا ([2] (ada99:14 حروب الردة.htm#_ftn2)).
6- وضع الصَّديق التقسيم الإداري بعد انتصاره في حروب الردة لدولة الإسلام على نظام الولايات وهي: مكة وكان أميرها عتاب بن أسيد، والطائف أميرها عثمان بن أبي العاص، وصنعاء أميرها المهاجر بن أبي أمية، وحضر موت ووليها زياد بن لبيد، وخولان ووليها يعلى بن أمية، وزبيد ورقع ووليهما أبو موسى الأشعري، أما جند اليمن، فأميرها معاذ بن جبل، ونجران ووليها جرير بن عبد الله، وجرش ووليها عبد الله بن نور، والبحرين ووليها العلاء بن الحضرمي, وعمان ووليها حذيفة القلعانى، واليمامة ووليها سليط بن قيس ([3] (ada99:14 حروب الردة.htm#_ftn3)).



[/URL]([1]) انظر: الحكمة في الدعوة إلى الله ص (220).

(ada99:14 حروب الردة.htm#_ftnref1)([2]) انظر: تاريخ صدر الإسلام للشجاع، ص141-145.

[URL="ada99:14 حروب الردة.htm#_ftnref3"]([3]) إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء للشيخ محمد الخضري ، ص59، 60.

أم عبد الرحمن السلفية
09-04-2008, 05:42 AM
جزاكِ ربي خير الجزاء ونفع الله بكِ

الفاررة الي الله
09-04-2008, 07:50 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .




http://www.islam2all.com/upload/pictures/fqhda3ya3kob.jpg

سلسلة أصول الفقة الدعوي (http://www.islam2all.com/video/videos.php?sharet=121)
نصائح غاليه وتوجيهات الى الدعاه يقدمها فضيلة الشيخ






::الدرس الأول:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1412)


::الدرس الثاني:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1413)

::فصل في ترتيب سياق هدي النبي مع الكفار من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1414)
::الأصل الثاني , الإخلاص_1:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1415)

::الإخلاص_2:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1416)
::هل أنت مخلص ؟:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1417)
::كيف تحقق الإخلاص ؟:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1418)

::استواء المدح والذم:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1419)
::علاج المدح:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1420)


::منهجية الدعوة:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1421)
::الرؤية المنهجية:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1422)
::فهم الواقع:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1423)
::انضجوا يا شباب:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1424)


::عبد و رب:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1425)
::رسُوخ الإيمان:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1426)
::العزيمة المتينة:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1427)


::العمل الدائب المستمر:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1428)
::زاد الداعية:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1429)
::الصــبر و الثبـات:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1430)
::مـن الـذي نـريـد ؟:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1431)


::صفات الشخصية الربانية:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1432)
::الشخصية الربانية:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1433)
::أريد رجلا واقعيا:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1434)


::أهمية التربية ـــ نضج الشباب:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1435)
::الحُلم:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1436)
::أين أنت من هذا الحلم ؟:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1437)

::يا ابن الإسلام .. أنت يوسف هذه الأحلام:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1438)
::قاعدة أساسية في فهم الإسلام:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1439)
::ثمرات فهم الإسلام:: (http://www.islam2all.com/video/videos.php?mqta=1440)

أم عبد الرحمن السلفية
09-04-2008, 03:43 PM
ما شاء الله ,, تبارك الله

مجموعة قيمة من الدروس .. جعلها ربي في ميزان حسناتك

جعلكِ الله من عتقاء الشهر الكريم

الفاررة الي الله
09-04-2008, 06:35 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

آمييييييييييين اختي الحبيبة :a7bak:





http://www.dubaieyes.net/gallery/data/media/69/no%20%2810%29.gif

أم عبد الرحمن السلفية
09-05-2008, 01:20 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

آمييييييييييين اختي الحبيبة :a7bak:





http://www.dubaieyes.net/gallery/data/media/69/no%20%2810%29.gif

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

جزانا وإياكِ يا غاليه وفيكِ بارك الله

وأحبكِ الله الذي أحببتني فيه .. وأشهد ربي أني أحبكِ في الله

يسر الله لكِ خيرىّ الدين والدنيا من حيث لا تحتسبي

استودعكِ الله

الفاررة الي الله
09-07-2008, 05:28 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الفتوحات الإسلامية
تحركت جيوش المسلمين بقيادة الصديق بعد حروب الردة لنشر الإسلام في الآفاق، فكانت حروب العراق بقيادة خالد بن الوليد، والمثنى بن حارثة, وكانت معارك الروم بقيادة أبي عبيدة بن الجراح. وبعد وفاة الصديق تولى الخلافة عمر رضي الله عنه والذي تحقق في زمن خلافته انتصار المسلمين الساحق على الروم في اليرموك وانتصارهم على الفرس في المدائن, وبذلك فتحت إمبراطورية الروم في بلاد الشام، وإمبراطورية الأكاسرة في بلاد الفرس أمام دعاة الإسلام يقدمون للأمم دين الله الذي ارتضاه لعباده.
وسار المسلمون على هدى أسلافهم في خوض المعارك الضارية ضد أعداء الإسلام، فسجل لنا التاريخ انتصار المسلمين على النصارى في معركة الزلاقة عام 479هـ بقيادة يوسف بن تاشفين قائد دولة المرابطين، وانتصارهم على النصارى في معركة حطين عام 583هـ وفتحت بعدها القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي.. وكان انتصار المسلمين على أعدائهم يحدث عندما يأخذ المسلمون بأسباب التمكين وشروطه وسننه التي لا تحابي ولا ترحم ولا تجامل، إن هذا النوع من التمكين يتجدد كلما حققت الأمة صفات جيل التمكين سواء على أفراد الأمة أم قادتها.

الفتوحات الإسلامية
تحركت جيوش المسلمين بقيادة الصديق بعد حروب الردة لنشر الإسلام في الآفاق، فكانت حروب العراق بقيادة خالد بن الوليد، والمثنى بن حارثة, وكانت معارك الروم بقيادة أبي عبيدة بن الجراح. وبعد وفاة الصديق تولى الخلافة عمر رضي الله عنه والذي تحقق في زمن خلافته انتصار المسلمين الساحق على الروم في اليرموك وانتصارهم على الفرس في المدائن, وبذلك فتحت إمبراطورية الروم في بلاد الشام، وإمبراطورية الأكاسرة في بلاد الفرس أمام دعاة الإسلام يقدمون للأمم دين الله الذي ارتضاه لعباده.
وسار المسلمون على هدى أسلافهم في خوض المعارك الضارية ضد أعداء الإسلام، فسجل لنا التاريخ انتصار المسلمين على النصارى في معركة الزلاقة عام 479هـ بقيادة يوسف بن تاشفين قائد دولة المرابطين، وانتصارهم على النصارى في معركة حطين عام 583هـ وفتحت بعدها القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي.. وكان انتصار المسلمين على أعدائهم يحدث عندما يأخذ المسلمون بأسباب التمكين وشروطه وسننه التي لا تحابي ولا ترحم ولا تجامل، إن هذا النوع من التمكين يتجدد كلما حققت الأمة صفات جيل التمكين سواء على أفراد الأمة أم قادتها.

الفاررة الي الله
09-11-2008, 03:55 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

المشـــــــاركة في الحكــــم
تمهيد:
إن تولى أهل التوحيد والإيمان أعباء الحكم لدولة غير مؤمنة نوع من أنواع التمكين، وقد أشار القرآن الكريم لهذا النوع من التمكين في قصة يوسف عليه السلام, قال تعالى:*اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" [يوسف: 55].
لقد تقدم يوسف عليه السلام بهذا الطلب إلى ملك مصر المشرك من أجل عقيدته ودعوته وتقديم الخير للناس، ولقد تحرك يوسف عليه السلام وفق الإمكانات والظروف التي مرّ بها واستفاد من الفرصة التي سنحت له.
وهذا المسلك الذي اتخذه يوسف عليه السلام يدلنا على أن طرائق نشر الإسلام، ودعوة المجتمعات إلى الإيمان له أكثر من سبيل، كما أن هذا المسلك لا يوجد فيه تناقض بين المبدأ الذي يحمل رايته، وهو أن الحكم لله والعبودية المطلقة للواحد الديان وبين توليه الوزارة، ليجعل المجتمع أقرب إلى دعوة الله، وهذا أمر لا شك فيه، لأن يوسف عليه السلام نشر دعوة التوحيد في السجن فكيف به وهو في سُدّة الحكم.
إن دخول يوسف عليه السلام في الوزارة كان سندًا للحركات الإسلامية المعاصرة التي ترى جواز المشاركة في الحكومات الجاهلية إذا كان للمشاركة مصلحة كبرى أو دفع شر مستطير، ولم يكن بإمكان المشارك أن يغير في الأوضاع تغييرًا جذريًا, وذهب إلى هذا الاجتهاد كثير من العلماء وأهل الحل والعقد في الحركات الإسلامية المعاصرة إلا أن هذه المسألة لم تخل من معارضة بعض الباحثين الذين استدلوا بأدلة تدل على عدم جواز المشاركة في الوزارة التي تحكم بشريعة غير شريعة الله, واعتبر مسألة المشاركة في الحكم من مسائل العقائد، والذي يبحث في هذه المسألة من الناحية الشرعية والممارسات التاريخية يصل إلى نتيجة أن المسألة تدخل تحت السياسة الشرعية للجماعة المسلمة الرشيدة التي تسعى لتحكيم شرع الله والتمكين لدينه؛ ولذلك سنحاول أن نناقش الموضوع مناقشة علمية هادئة بعيدة عن التوتر والتشنج، وإنما مقصدنا الوصول إلى ما يحبه الله ويرضاه.

الفاررة الي الله
09-11-2008, 03:56 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين


أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة في الحكم

أولاً: أدلة المانعين المشاركة في الحكم:
يرى أصحاب الرأي الذي يمنع دخول الإسلاميين من المشاركة في الحكم أدلة من أهمها:
1- النصوص الحاكمة على من لم يحكم بغير ما أنزل الله بالكفر والظلم والفسق:
قال تعالى: *وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" [المائدة: 44].
وقال تعالى: *وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [المائدة: 45].
وقال تعالى: *وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [المائدة: 47].
2- إن الحاكمية يجب أن تكون لله وحده:*إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ
إِيَّاهُ" [يوسف: 40].
3- نهى رب العالمين المؤمنين أن يحتكموا إلى شريعة غير شريعة الله، وجعل ذلك منافيًا للإيمان, قال تعالى:*فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء: 65].
4- في المشاركة في الحكم غير الإسلامي مفاسد عظيمة، فالذين لا يحكمون شرع الله يحادون الله في أمره، وينازعونه في حكمه *إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ" [يوسف: 40]، *وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" [الكهف: 110]، فكيف يشارك المسلم في هذا النوع من الحكم؟
5- مشاركة المسلم في هذا النوع من الحكم توقعه في تناقض كبير، فالمسلم مطالب بأن يجاهد، لإقامة حكم الله، وينكر أشد الإنكار على من حكم بغير ما أنزل الله، فكيف يكون مقيمًا للحكم بغير ما أنزل الله.
6- إن طاعة الحكام فيما يشرعونه مخالفين أمر الله تعنى اتخاذ المطيع لهم أربابًا من دون الله، كما قال تعالى: *اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا" [التوبة: 31].
7- من المفاسد التي تترتب على المشاركة أن بعض الحكام قد يتخذون من يستوزرونهم من المسلمين الصالحين زينة يحلون بها حكمهم، ويدلسون بذلك على السذج والعوام، فيقولون: لو كنا على الباطل لما قبل فلان مشاركتنا في الحكم، ويزداد الطين بلة عندما يمررون من خلال الوزير المسلم القوانين الجائرة الظالمة وبعد أن يحققوا من ورائه أهدافهم ينبذونه نبذة النواة.
8- وفي المشاركة في الحكم ركون إلى الذين ظلموا، وقد حذرنا الحق من الركون إليهم: *وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ" [هود: 113].
9- وقد يكون في المشاركة في الحكم إطالة لعمر هذا النمط من الحكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله في بعض الأحيان ([1] (ada99:17 أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة في الحكم.htm#_ftn1)).
ثانيًا: أدلة القائلين بالجواز:
قالوا: إن الأصل عدم جواز المشاركة ولكن هناك حالات استثنائية أباحت الشريعة فيها المشاركة، واستدلوا بأدلة من أهمها دخول يوسف عليه السلام في الوزارة:
1- إن يوسف عليه السلام تولى المنصب الذي تولاه بإذن الملك وإرادته، يدلنا
على ذلك طلب يوسف عليه السلام من الملك أن يوليه: *قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ" [يوسف: 55].
فالنص صريح في الدلالة على أن الملك هو الذي يملك التولية, والنص صريح أيضًا في أن يوسف عليه السلام قد طلب منصبًا في دولة الملك، ولم يطلب أن يعزل الملك نفسه ولم يكن ذلك الطلب لنفسه.
قال سيد قطب - رحمه الله-: (لم يكن يوسف يطلب لشخصه، وهو يرى إقبال الملك عليه، فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض، إنما كان حصيفًا في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعية الضخمة في أشدّ أوقات الأزمة، وليكون مسئولاً عن إطعام شعب كامل) ([2] (ada99:17 أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة في الحكم.htm#_ftn2)).
ويرى ابن تيمية - رحمه الله -: (أن هذا المجتمع الكافر لا بدّ أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكنه فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن أن يناله بدون ذلك - وهذا كله داخل في قوله تعالى: *فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: 16]) ([3] (ada99:17 أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة في الحكم.htm#_ftn3)).
لقد اعترض المانعون على المجيزين في استدلالهم بقبول يوسف عليه السلام للوزارة وقالوا: إن شرعنا لا يجيز تولى الوزارة في ظل حاكم غير مسلم، وأما تولى يوسف للوزارة فهو شرع لمن قبلنا، وشرع من قبلنا ليس بشرع لنا إذا جاء في شرعنا ما ينقضه.
ورد المجيزون على هذا الاعتراض بوجوه:
الوجه الأول: أن شرعنا وشرع يوسف عليه السلام بل شرائع الأنبياء جميعًا متفقة في تقرير حاكمية الله تبارك وتعالى.
فيوسف عليه السلام يقرر في مخاطبته للفتيين اللذين دخلا معه السجن أن الحكم لله وحده *إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ" [يوسف: 40].
ويشرح الأستاذ سيد -رحمه الله- كلمة يوسف هذه بقوله: إن الحكم لا يكون إلا لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته، إذ الحاكمية من خصائص الألوهية, من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص الألوهية ([4] (ada99:17 أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة في الحكم.htm#_ftn4)).
ويوسف عليه السلام الذي يعلم هذا الحكم المقرر في جميع الأديان هو الذي يتولى منصب عزيز مصر، ويقول للملك:*اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ" [يوسف:55].
فيتولى هذا المنصب وهو يعلم أن للملك نظامًا وشريعة لا يستطيع أن يزيحها بين عشية وضحاها: *مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ" [يوسف: 76].
يقول سيد قطب في الظلال: (إن هذا النصر يحدد مدلول كلمة الدين في هذا الموضوع تحديدًا دقيقًا، إنه يعنى نظام الملك وشرعه، فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته) ([5] (ada99:17 أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة في الحكم.htm#_ftn5)).
فإذا كان فقه يوسف للحاكمية هو نفس الفقه المقرر في شريعتنا ومع ذلك تولى الوزارة فإنا نجزم في هذا المقام بأمرين:
1- أن توليه للوزارة لم يناقض عقيدته في كون الحاكمية لله وحده.
2- وأنه لم يكن مخطئًا عندما تسلم الوزارة، لأنه نبي معصوم.
الوجه الثاني: ومما يدل على نفى هذه الشبهة وإبطالها إخبار الحق تبارك وتعالى أن استلام يوسف الوزارة كان رحمة ونعمة ولم يكن عذابًا ونقمة، *قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ` وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [يوسف: 56،55].
فالله يقرر أن تسلم يوسف للوزارة هو من باب التمكين له في الأرض، وأنه رحمة أصابه بها وأنه أجر دنيوى عاجل، وما ينتظره من الثواب الآجل أعظم وأكبر *وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ" [يوسف:57].
ويوسف عليه السلام يصرح بأن تسلمه للحكم كان من نعمة الله عليه، ولم يكن نقمة:*رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" [يوسف: 101].
الوجه الثالث: والنصوص التي ذكرت تدل على أن هذا الحكم ليس خاصًا بنبي الله يوسف، دون سواه، وذلك أن النص صيغ صياغة عامة: *نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [يوسف: 56].
ثم من ادعى أن هذا الحكم خاص بيوسف دون سواه عليه أن يأتي بالدليل، لأن الأصل في سير الأنبياء والمرسلين يراد به التأسي والاقتداء، فكيف إذا جاءت النصوص القرآنية نافية الخصوصية مشيرة إلى العموم ([6] (ada99:17 أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة في الحكم.htm#_ftn6)).
لقد تحدث المفسرون في هذه القضية:
1- نقل القرطبي - رحمه الله - عن بعض أهل العلم: (إباحة طلب الرجل الفاضل أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء، وأمّا إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك، ونقل القرطبي عن قوم أن هذا كان ليوسف خاصة دون غيره، ولكنه رجح القول الأول) ([7] (ada99:17 أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة في الحكم.htm#_ftn7)).
2- واستدل الألوسي- رحمه الله - بطلب يوسف الولاية على جواز ذلك لغيره إذا كان الطالب قادرًا على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة, وإن كان من يد الجائر أو الكافر، بل ذهب الألوسي إلى أنه قد يجب الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلاً، وكان متعينًا لذلك ([8] (ada99:17 أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة في الحكم.htm#_ftn8)).
3- وقال الشوكاني: «وقد استُدل بهذه الآية على أنه يجوز تولى الأعمال جهة السلطان الجائر بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق» ([9] (ada99:17 أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة في الحكم.htm#_ftn9)).
وهذا من أقوى الأدلة في جواز المشاركة في الانتخابات.



([1]) انظر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية ص (29، 32).

([2]) في ظلال القرآن (12/2005).

([3]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/56، 57).

([4]) في ظلال القرآن (12/1990).

([5])في ظلال القرآن (13/2020).

([6]) انظر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، د. عمر الأشقر ص29، 32.

([7]) تفسير القرطبي (7/215).

([8]) تفسير الألوسي (13/5).

([9]) فتح القدير (3/35).

الفاررة الي الله
09-11-2008, 03:57 AM
[quote=الفاررة الي الله;117388]السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


الفتوحات الإسلامية

تحركت جيوش المسلمين بقيادة الصديق بعد حروب الردة لنشر الإسلام في الآفاق، فكانت حروب العراق بقيادة خالد بن الوليد، والمثنى بن حارثة, وكانت معارك الروم بقيادة أبي عبيدة بن الجراح. وبعد وفاة الصديق تولى الخلافة عمر رضي الله عنه والذي تحقق في زمن خلافته انتصار المسلمين الساحق على الروم في اليرموك وانتصارهم على الفرس في المدائن, وبذلك فتحت إمبراطورية الروم في بلاد الشام، وإمبراطورية الأكاسرة في بلاد الفرس أمام دعاة الإسلام يقدمون للأمم دين الله الذي ارتضاه لعباده.
وسار المسلمون على هدى أسلافهم في خوض المعارك الضارية ضد أعداء الإسلام، فسجل لنا التاريخ انتصار المسلمين على النصارى في معركة الزلاقة عام 479هـ بقيادة يوسف بن تاشفين قائد دولة المرابطين، وانتصارهم على النصارى في معركة حطين عام 583هـ وفتحت بعدها القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي.. وكان انتصار المسلمين على أعدائهم يحدث عندما يأخذ المسلمون بأسباب التمكين وشروطه وسننه التي لا تحابي ولا ترحم ولا تجامل، إن هذا النوع من التمكين يتجدد كلما حققت الأمة صفات جيل التمكين سواء على أفراد الأمة أم قادتها.

الفاررة الي الله
09-16-2008, 03:37 PM
شواهد من التاريخ الحديث في المشاركة
استطاع الإسلاميون في بعض بلدان العالم الإسلامي أن يدخلوا بعض الوزارات عن طريق الانتخابات والمصالحات والأحلاف التي عقدوها مع بعض الأنظمة والأحزاب، وأثارت هذه الخطوات الجريئة مناقشات واعتراضات في داخل الحركات الإسلامية وخارجها، ولذلك نحاول أن نسلط الأضواء على بعض هذه التجارب والتي من أهمها: تجربة الأردن، واليمن، وتركيا، ولقد راعت هذه الحركة القواعد الشرعية في مبادئ المصالح والمفاسد، وحاولت جاهدة أن تلتزم بقواعد الضرورة، ومصلحة العمل الإسلامي، ومصالح المسلمين في هذه الأقطار، فإذا كانت هناك مصلحة حقيقية أو كان في اشتراكها في الحكومات سيعود بالنفع العميم على المسلمين, أو سيمنع فسادًا كبيرًا وضررًا مصيريًا يحيق بهم أو يهدد وجودهم فالاشتراك في هذه الحالة يدخل في حكم الواجب بالنسبة لها.
لقد دخلت هذه الحركات المباركة في تجارب الحكم، ضمن شروط واضحة ومصالح بينة، وضرورة تفرضها الظروف واستراتيجية مدروسة والتزام بالقواعد الشرعية عند الممارسة، فلم يكن الحكم واستلام السلطة هدفًا بذاته تتمسك به هذه الحركات على حساب المبادئ أو على حساب الشعب، أو على حساب الحركات، أو على حساب أقوات الناس، أو على حساب استقلال البلاد واسترجاع الأوطان، ولقد شاركت هذه الحركات في الحكم بالطرق الشرعية عن طريق تفويض الشعب لهم خلال الانتخابات، ولقد قامت هذه الحركات بدراسات سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية.. إلخ، قبل الدخول في الحكم حتى تأكدوا أن وجودهم في مقاعد السلطة أفضل للإسلام والمسلمين من مقاعد المعارضة.

الفاررة الي الله
09-16-2008, 03:39 PM
الحركة الإسلامية في الأردن
لا يزال وضع الحركة الإسلامية في الأردن يختلف عن كثير من بلاد العالم الإسلامي، إذ كانت الأردن تتميز عن غيرها بالحريات وإعطاء العمل السياسي فرصة أكبر، ولذلك وجدت الحركة الإسلامية متنفسًا ومناخًا طبيعيًا لأعمالها السياسية والدعوية والاجتماعية والتربوية والتعليمية.
ويعتبر تاريخ تأسيس الحركة الإسلامية في الأردن عام 1946م وهي السنة التي حصل فيها الأردن على استقلاله وسعت منذ تأسيسها إلى إحياء مظاهر الحياة الإسلامية في المجتمع الأردني، وركزت جهودها على قطاع التربية والتعليم في سبيل بناء جيل إسلامي جديد، فأنشأت وأدارت مؤسسات متخصصة في التعليم والرعاية الاجتماعية والعناية الصحية في شتى أنحاء البلاد، ووقفت بجانب المؤسسات الحكومية القائمة على هذا المجالات وساهمت بشكل فعال بدعمها. وتميزت ظروف الحركة في الأردن بظهور حالة من التعايش بين الحركة والنظام، مما أتاح لها حرية نسبية من النشاط والعمل الإسلامي، وحرصت الحركة من طرفها، كما سعي النظام من جهته أيضًا، إلى الحفاظ على عناصر هذا التعايش ([1] (ada99:19 أولاً الحركة الإسلامية في الأردن.htm#_ftn1)).
أ- عناصر التعايش بين الحركة والنظام:
1- إدراك الحركة لوضع الدولة وضعف إمكاناتها واعتمادها على الدعم الاقتصادي الخارجي، ولذلك تجنبت إحراج النظام فيما لا طاقة له به، فالأردن كيان صغير نشأ في ظل تجزئة الوطن العربي ضمن مخطط أعداء الأمة الهادفة إلى إضعاف كيانها ومنعها من نهوضها من جديد.
2- إدراك الحركة أن الأردن لا تملك عناصر ومقومات الدولة الإسلامية ولذلك اطمأن النظام إلى أن أهداف الحركة لا تقوم على السعي إلى استبداله بنظام دولة إسلامية في الأردن.
3- تعتبر الحركة عنصر أمان للنظام ضد أية محاولات انقلابية عليه بسبب ما لها من قوة اجتماعية وانتشار عميق في مختلف قطاعات المجتمع الأردني، ولقد وقفت الحركة موقفًا بطوليًا في منتصف الخمسينيات ضد مظاهرات القوى اليسارية التي كانت تسعى لإسقاط النظام، واستبداله بنظام ماركسي كان يمكن أن تشاهد الأردن تلك المآسي التي شهدتها الدول التي حكمتها الأحزاب الشيوعية والتي قمعت وبطشت بمظاهر الحياة الإسلامية في بلدانها.
4- تنظر الحركة إلى النظام القائم بأنه خير للأردن من كل الأنظمة اليسارية والأحزاب التي حكمت المنطقة وبطشت بالحركات الإسلامية فيها.
5- ترفض الحركة العنف، وتشجب الإرهاب، ولا تؤمن بالتغيير القائم على الثورة؛ بل تؤمن بالتغيير الهادئ القائم على الإقناع والتدريج في الإصلاح، وهذا يعتبر موضع قبول لدى النظام.
6- المرونة في الأزمات بين الحركة والنظام، سواء كانت الحركة هي المبادرة بتصعيد المواقف أو النظام، ففي كلتا الحالتين يعكس النظام والحركة مرونة تجاه بعضهما البعض بامتصاص التوتر والانحناء قليلاً للعاصفة.
7- التوازن في منهج الحركة بين ثوابتها ومتطلباتها وبين محدودات الواقع الأردني.
8- مطالب الحركة الإسلامية هي مطالب إصلاحية تشمل كل مجالات الحياة، وتعتمد على أسس إسلامية، وهذه المطالب في أقصى حالاتها لا ترقى إلى تهديد النظام ولا تشكل طرحًا بديلاً له، ولذا فإن النظام لا يرى فيها خطورة على استمراره أو استقراره ([2] (ada99:19 أولاً الحركة الإسلامية في الأردن.htm#_ftn2)). هذه هي أهم عناصر التعايش بين الحركة الإسلامية في الأردن ونظامها، وبالتالي يكون من الطبيعى أن تكون للحركة تجربة متميزة في المشاركة في الحكم.
ب- المشاركة في الحكم:
ظهرت الحركة الإسلامية كقوة سياسية كبيرة على الساحة السياسية الأردنية في عام 1989م وذلك عندما قررت الاشتراك في الانتخابات النيابية، إثر قرار الملك حسين - ملك الأردن - استئناف الحياة الديمقراطية في الأردن، وإجراء الانتخابات في أجواء ديمقراطية حرة، متعهدًا بكفالة نزاهتها، وبالحيلولة دون تدخل الدوائر الرسمية فيها.
ولقد نجحت الحركة الإسلامية في إدارة حملتها الانتخابية، وتميزت بأسلوبها المنظم الذي لم يشهد له الأردن مثيلاً، وذلك بسبب قدراتها التنظيمية، ولكونها مثلت تطلعات المسلمين في الأردن المتعطشين إلى استئناف حياة إسلامية، وكانت الحركات الإسلامية في الأردن هي التكتل الوحيد الذي أعلن عن ترشيح قائمة تحتوي على أسماء سبعة وعشرين مرشحًا، طلبت من الأمة التصويت لهم جميعًا، وقد ضمنت برنامجها الانتخابي في كتيب وزعته في جميع أنحاء البلاد، اشتمل بالإضافة إلى البرنامج الانتخابي على أسماء المرشحين وصورهم.
فازت الحركة باثنين وعشرين مقعدًا من مقاعد مجلس النواب الأردني الثمانين، كما تمخضت النتيجة عن نجاح ما لا يقل عن عشرة مرشحين آخرين من الإسلاميين المستقلين، ونظرًا لأن مرشحي الحركة كانوا يشكلون أكبر كتلة داخل البرلمان الأردني، فقد اتصل رئيس الوزراء المكلف من قبل الملك بتشكيل الحكومة، وبعد مفاوضات جرت بين رئيس الوزراء والكتلة البرلمانية للحركة، اعتذرت الحركة عن الاشتراك في الحكومة، لأن رئيس الوزراء لم يستجب لمطالبها بتخصيص سبع حقائب وزارية للحركة تشتمل على حقيبة وزارة التعليم.
وفي تحرك سياسي آخر، دخلت الحركة في مفاوضات مع رئيس الوزراء حول منح الثقة لحكومته، حيث اشترطت الحركة أربعة عشر شرطًا مقابل منح الثقة، وكان من ضمن هذه الشروط أن تتعهد الحكومة - بكل إخلاص - بالتوجه نحو تطبيق الشريعة الإسلامية في ميادين التعليم والاقتصاد والإعلام، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تتخذ فيها الحركة الإسلامية مثل هذه المبادرة في الحلبة السياسية، وبدأ الناس الذين كان يظن الكثير منهم قبل هذه التجربة ببعد احتمال أن يشترك الإسلاميون فيما يسمى بالحكومة غير الإسلامية، بالتعامل مع هذه القوة السياسية الناشئة، وفتح أمام الإسلاميين مجال عملي جديد، لم يكن من قبل متاحًا لهم، للتمرس في العمل السياسي.
وفي تطور تال، اتخذت الحركة الإسلامية بادرة سياسية أخرى، بالموافقة على الاشتراك في اللجنة الملكية لوضع الميثاق الوطني التي أعلن عنها ملك البلاد وعين أعضاءها بنفسه, والميثاق الوطني أشبه ما يكون بعقد اجتماعي تجمع عليه الأحزاب والجماعات المختلفة في الأردن، ويغطي كل الأوجه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وقد اتخذت الحركة الإسلامية قرارًا بالمشاركة في هذا المشروع، نظرًا لما رأته من ضرورة اللقاء والتحاور والتفاوض مع المجموعات السياسية الأخرى في البلاد، وتبادل الآراء معها حول القضايا المهمة التي يتناولها الميثاق ([3] (ada99:19 أولاً الحركة الإسلامية في الأردن.htm#_ftn3)).
لقد ظهر من قيادات الحركة مقدرة فائقة في إدارة الحوار وممارسة فن المفاوضات وشهد لهم دهاقنة السياسة بمقدرتهم السياسية الرفيعة، ولقد ناور زعماء الحركة وحققوا ما استطاعوا من أهداف لصالح التيار الإسلامي في الأردن، واستطاعت أن تمنع نفسها من الدخول في الوزارة عندما كانت مصلحة المبادئ التي يحملونها في الامتناع، وتقدمت بكل شجاعة لتسلم الحقائب الوزارية عندما رأت أن المصلحة في ذلك، وتسلمت خمس حقائب وزارية، هي وزارة التربية والتنمية الاجتماعية والعدل والصحة والشئون الإسلامية.
وبعد ستة أشهر من المشاركة، انتهت حرب الخليج، وبدأت حقبة جديدة من التطورات السياسية التي تمخضت عما يسمى بمؤتمر السلام، وكانت الحركة الإسلامية قد حذرت رئيس الوزراء من أنه إذا ما أقدمت حكومته على فتح أية قنوات للتفاوض مع إسرائيل، فإن وزراء الحركة الإسلامية سيستقيلون على الفور.
إلا أن الحكومة ما لبثت أن استقالت بكاملها، لتمهد الأرضية لاستعدادات الحقبة الجديدة، حقبة مؤتمر السلام في مدريد، وحرصت الحكومة الجديدة، التي تشكلت للقيام بهذه المهمة، على السعي منذ تشكيلها لنيل الثقة، ومع أن أعضاء الكتلة الإسلامية البرلمانية ومعهم عدد من النواب الآخرين في مجلس النواب حجبوا الثقة عنها، موضحين أنهم ما كانوا ليمنحوا الثقة لأية حكومة تضع التفاوض مع إسرائيل على جدول أعمالها، إلا أن الحكومة حصلت على الثقة، ولكن بأغلبية هشة، إذ صوت لصالحها سبعة وأربعون نائبًا فقط من أصل ثمانين، وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الجديد كان ينفى طوال ذلك الوقت التزامه أو وزارته بمحادثات السلام مع اليهود، إلا أن الحكومة ما لبثت، وبعد مرور شهرين فقط على تشكيل الوزراء، أن أعلنت عن تشكيل وفدها لعملية السلام، فبادرت الكتلة الإسلامية البرلمانية بالالتقاء مع عدد من التكتلات الصغيرة في مجلس النواب، ووقَّعوا جميعًا عريضة حملت 48 توقيعًا رفعوها إلى الحكومة حجبوا بموجبها الثقة عنها، بعد أن كان بعضهم قد منحها إياها في وقت سابق، وعندما حل موعد استئناف الدورة الاعتيادية الجديدة للمجلس النيابي لم يكن أمام الحكومة خيار سوى الاستقالة، فتشكلت حكومة أخرى لم تمنحها كتلة الحركة الإسلامية ثقتها، لأن مهمتها كانت الإشراف على المشاركة الأردنية في عملية السلام ([4] (ada99:19 أولاً الحركة الإسلامية في الأردن.htm#_ftn4)).
ج- إنجازات المشاركة:
لقد اكتسبت الحركة الإسلامية في الأردن من خلال المشاركة السياسية تجارب عديدة، وخبرات متعددة، وأصبحت أكثر واقعية، واستطاعت من خلال هذه التجربة أن تطور قدرتها وتحسن أداءها، ولقد أعطت صورًا مختلفة عن تلك التي ترسخت في عقول خصومها الذين أخذوا فكرة عن الحركة الإسلامية كما لو كانت مجموعة من المتطرفين أو المتعصبين أو المتشددين، ومن أهم الإنجازات والمكاسب التي حققتها هي:
1- تشكيل تصور سليم عن الحركة، وإزالة الشكوك والمخاوف التي كانت تثيرها بعض الجهات، فقد أعرب كثير من الوطنيين والقوميين في مناسبات كثيرة عن قناعتهم بأن الحركة تتسم بالاعتدال والتحرك المسئول الواعي، وتحترم الرأي الآخر، إذ أظهرت مرونة وقدرة على التنسيق والحوار مع الأحزاب والحكومات والشخصيات السياسية، وبذلك أزيل الحاجز النفسي الذي كان يفصل بين الحركة والآخرين.
2- كان لنواب الحركة حضور قوي وفعال في اللجان المتخصصة، مثل لجنة الحريات، واللجنة المالية، واللجنة القانونية، ولجنة التحقيقات النيابية، وقد كان أداؤهم في هذه المجالات وفي غيرها يعبر عن جهد كبير دءوب، وعن موضوعية وإنصاف، وعن إحاطة بالقضايا الفنية والتخصصية، وكان هذا الأداء باستمرار موضع تقدير المؤسسات الرسمية والإعلامية.
3- المشاركة في إنجاز مجموعة من القوانين والتشريعات المهمة، وفي تعديلها، بما يلائم المصلحة العامة وحقوق المواطنين ويتفق مع الشريعة الإسلامية، ومن ذلك قانون الأحزاب، وقانون الدفاع، وقانون رد الاعتبار، والقانون الخاص بمحكمة العدل العليا، وقانون محكمة أمن الدولة، وقانون النقابات، وقانون الكسب غير المشروع، وقانون الاستيراد والتصدير، وقانون إلغاء الأحكام العرفية، وقانون الشباب وقانون الخمر.
4- طرح الرأي والموقف الإسلامي في المواقف والأحداث، ودفع الحكومة إلى الالتزام به أو احترامه وتقديره، أو سماعه على أقل تقدير.
5- التنسيق والتعاون مع الفعاليات السياسية المختلفة، حكومية وحزبية ونقابية، بما يخدم الأمة والوطن، وبما يضمن تنفيذ برامج الحركة الإسلامية وتحقيق أهدافها، ومن القضايا التي تم التنسيق بشأنها موضوع التسوية السلمية، والموقف من أزمة الخليج، وقضايا محاكمة الفساد، والدفاع عن الحريات، وقانون الأحزاب وقانون أمن الدولة
6- إحراز رئاسة المجلس ورئاسة كثير من اللجان النيابية وهو إنجاز يعبر عن تأثير نواب الحركة وقدرتهم على التنسيق والحشد.
7- الإسهام في تأسيس حزب جبهة العمل الإسلامي، المشروع الذي تأمل الحركة أن يستوعب جماهيرها ومؤيديها من مختلف الفئات، ويوسع آقاق العمل الإسلامي.
8- المساهمة في رد الحقوق إلى أصحابها، وشمل ذلك إعادة المفصولين، والإفراج عن المعتقلين، وضمان حرية السفر والتنقل وحرية الرأي والتعبير، والحد من تدخل الأجهزة الأمنية في التوظيف وفي شئون النوادي والجمعيات، هذه ولئن كانت إنجازات دون المستوى المطلوب، إلا أنها بالمقارنة بما كانت عليه الأوضاع قبل استئناف الحياة البرلمانية، بل وبما عليه الحال في كثير من الدول العربية الأخرى، تعتبر نقلة نوعية جديدة، وإنجازًا كبيرًا.
9- تخفيف حالة الاحتقان والعداء مع الحكومة، وحماية الحركة من محاولات جرها إلى صدام مع النظام لا يعود بالفائدة إلا على أعداء الحركة وأعداء الوطن.
10- تنمية العلاقات مع المسئولين المحليين في المحافظات والألوية، من حكام إداريين ومديري دوائر، والتعاون معهم في العمل والخدمة وحل المشكلات.
11- دعم القضية الفلسطينية والسعي قدر الإمكان إلى دفع الحكومة للالتزام بما لا يضيع حقوق الفلسطينيين في أرضهم، وعلى المستوى المحلي ساعدت جهود نواب الحركة في التوصل إلى قرار في مجلس النواب يحد من معاناة أهالي غزة وحملة البطاقات المقيمين في الأردن، ومن ذلك متابعة قضية العائدين من دول الخليج لمساعدتهم وتحصيل حقوقهم.
12- دعم القضايا الإسلامية الأخرى، مثل قضايا أفغانستان، والبوسنة والهرسك، وغيرها.
13- التفاعل مع الأحداث على الساحة العربية والإسلامية من خلال إرسال البرقيات وحضور اللقاءات والمشاركة في النشاطات والاجتماعات، وقد أصدر مكتب نواب الحركة الإسلامية عشرات البيانات والبرقيات في المناسبات المختلفة، وشارك نواب الحركة باستمرار في نشاط الوفود البرلمانية إلى الأقطار العربية والإسلامية وغيرها.
14- مواجهة الفساد الإداري والمالي، ومحاسبة الوزراء والحكومة وكبار المسئولين، والرقابة على أداء الأجهزة بما يحقق المصالح والمنافع ويحمي البلد ومؤسساته من الإهمال والعبث والفساد.
15- نشر الفكر والدعوة وخدمة القضايا الإسلامية، وتسهيل هذه المهمات للقائمين عليها وحمايتهم، وتفعيل المؤسسات الإسلامية حتى أصبح الرأي الإسلامي المعبر عن الموقف الإسلامي الصحيح يطرق كل منافذ النشر والتبليغ.
16- ساهم نواب الحركة في تحقيق كثير من المشاريع والخدمات العامة ومن ذلك:
كلية الشريعة في جامعة اليرموك، بالإضافة إلى المطالبة بإنشاء المدارس والطرق والمراكز الصحية وتمديد الخدمات الكهربائية والمائية والهاتفية في مختلف المناطق والمحافظات.
17- استقبال المراجعين والمواطنين والسعي في حاجاتهم والوقوف مع المواطنين في كثير من القضايا والمشكلات التي تعسر عليهم حلها مع الدوائر الحكومية ومطالبة الحكومة بالمذكرات وبالاتصال الشخصي بمساعدة المواطنين وتنفيذ المشروعات، والحد من الغلاء وتخفيف الضرائب ([5] (ada99:19 أولاً الحركة الإسلامية في الأردن.htm#_ftn5)).
هذه بعض إنجازات الحركة.
د- مطالب الحركة من العمل السياسي:
إن الحركة الإسلامية في الأردن تدرك جيدًا الظروف التي تمر بها المنطقة العربية والعالم الإسلامي، وتدرك محدودية إمكانات الأردن في ظل هذه الأوضاع والمعادلة الدولية الحالية؛ ولذلك نهجت أسلوب العمل الإصلاحي المتدرج، يقينًا منها بأن التحسن الجذري للأوضاع مرتهن بتبدل ظروف الأمر الواقع المفروض على المنطقة ككل، وليس على الأردن فقط، ووفاءً بواجب الدعوة إلى الله والإصلاح في حدود المستطاع فإن الحركة تسعى جاهدة إلى تحقيق بعض الأهداف المهمة في هذه المرحلة منها:
1- تحقيق العدل والحرية والمساواة بين المواطنين.
2- ترسيخ الممارسة الديمقراطية وضمان احترام خيار الشعب.
3- تشكيل حكومة نظيفة، ومسئولة، ومخلصة وعادلة، ومؤهلة لقيادة شئون المجتمع الأردني، وتلتزم بمقاومة الفساد والانحلال الخلقي بكل أشكاله، وبوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، والاحتكام إلى مبادئ الجدارة والاستحقاق في التوظيف والتعيين.
4- محاربة الطائفية والإقليمية، والتركيز على الوحدة الوطنية، وتعزيز الجبهة الداخلية.
5- مناصرة ودعم حقوق الإنسان، ورفض القمع والظلم.
6- شجب العدوان،وتأييد حركات التحرر ضد الهيمنة الاستعمارية على الشعوب.
7- السعي إلى إقامة صيغ الوحدة بين أقطار العالم العربي والإسلامي، وإنشاء مؤسسات التضامن العربي والإسلامي في المجالات الاقتصادية، والسياسية والثقافية، وصولاً إلى صيغ التكامل بين أجزاء الأمة العربية والإسلامية.


[/URL]([1]) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، عزام التميمي، ص102.

(ada99:19 أولاً الحركة الإسلامية في الأردن.htm#_ftnref1)([2]) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص (103، 104).

([3]) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص 105، 106.

(ada99:19 أولاً الحركة الإسلامية في الأردن.htm#_ftnref3)([4]) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص106، 107.

[URL="ada99:19 أولاً الحركة الإسلامية في الأردن.htm#_ftnref5"]([5]) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص107إلى 111، اختصرت ما قاله الأستاذ عبد الله العكايلة عن تجربة الحركة الإسلامية في الأردن.

الفاررة الي الله
09-16-2008, 03:40 PM
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"انكم تعرضون علي باسمائكم وسيماكم فاحسنوا الصلاة عل-
..............................
واخرج الامام احمد بن عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث عن ابيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول :
"من صلى علي صلاة ،لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي ،فليقل عبد من ذلك او ليكثر".
......................................
عن الحسين بن علي عن ابيه رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي".

أم عبد الرحمن السلفية
09-17-2008, 06:51 AM
جزاكِ ربي خير الجزاء ونفع الله بكِ أخيتي

الفاررة الي الله
09-17-2008, 08:15 AM
جزاكِ ربي خير الجزاء ونفع الله بكِ أخيتي



الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين




http://www9.0zz0.com/2008/09/06/22/835784807.gif

الفاررة الي الله
09-20-2008, 04:45 AM
ثانيًا الحركة الإسلامية في اليمن
قد يظن البعض أن مشاركة الحركة الإسلامية اليمنية في السلطة لم تبدأ إلا بعد الانتخابات النيابية التي جرت في 27أبريل 1993م، يبد أن الحقيقة هي أن الحركة بدأت تجربتها في المشاركة منذ وقت مبكر وعلى أصعدة متعددة وبأساليب متنوعة حسبما تتطلبه الظروف والمراحل
وإن كانت السنوات الأخيرة من عمر التجربة السياسية للحركة اليمنية تظهر مع قرار الحركة في المشاركة في انتخابات أبريل 1993م، ثم المشاركة في الحكومة حيث أظهرت ملامح الحركة السياسية قدرتها على خوض الصراع السياسي بمهارة فائقة وقدرة نادرة وتخطيط صحيح وإدارة رشيدة وتنظيم قوي.
لم يكن برنامج العمل السياسي للتجمع اليمنى للإصلاح إلا وليد مجهودات سبقت, وسنين من العمل والجهاد المتواصل، ظهرت رؤيته العقدية وصبغته الشرعية ومنظومته الفكرية والثقافية منذ اليوم الأول لاندلاع ثورة سبتمبر 1962م التي أطاحت بنظام الإمامية وجاءت بالنظام الجمهوري وأخذت هذه المنظومة تتطور مع الزمن حتى برزت في هيكلها الأخير للتجمع والإصلاح، ولقد ساعدت عوامل عدة في نمو الحركة السياسي والتنظيمي مع الامتداد الشعبي المتوازن, ومن أهم هذه العوامل:
1- بقاء اليمن الشمالي حرًا بعيدًا عن الاستعمار الأجنبي.
2- تأكيد النظام الجمهوري بعد قيامه على سيادة الشريعة الإسلامية وجعلها مصدر القوانين جميعًا.
3- وجود مجال رحب للعمل السياسي استفادت منه الحركة في تنمية قدراتها وتفجير طاقاتها وتوجيهها نحو تحقيق أهدافها.
4- امتلاك الشعب للسلاح وبذلك حافظ على حريته؛ ولم تستطع الحكومات العلمانية أن تذله وتكبل حريته وتصادر حقوقه؛ ولذلك لم تتعرض الحركة الإسلامية بشكل جماعي ومنظم طوال فترة ما بعد الثورة إلى اليوم لأية محنة كبيرة أو إجراءات قمعية شديدة كالسجن أو النفي أو المطاردة أو غير ذلك ([1] (ada99:20 ثانيًا الحركة الإسلامية في اليمن.htm#_ftn1)).
5- ظهور المد الشيوعي في جنوب اليمن ووصول الحزب الماركسي إلى مقاليد الحكم في اليمن الجنوبي، مما جعل مصالح مشتركة بين الحكومات الشمالية والحركة الإسلامية مع ظهور قيادات فذة في الحركة استطاعت أن تستفيد من هذه المعادلة لمصلحة الإسلام في اليمن إلى غير ذلك من العوامل.
وكانت لجهود الجهاد التي قادها الشهيد محمد محمود الزبيري رصيد حي للحركة الإسلامية في اليمن, وتعتبر شخصيته من أبرز الشخصيات الوطنية التاريخية المعاصرة، وقد أجمعت كل القوى السياسية بعد استشهاده على إطلاق لقب «أبو الأحرار» عليه.
كان للحركة الإسلامية مشاركة سياسية قبل الوحدة، وشاركت بعدد من أعضائها في مجلس الشورى لعام 1971م وحرصت على أن تؤدي دورًا متميزًا، رغم قلة أعضائها، في مجال وضع التشريعات القانونية التي انبثقت جميعها من الشريعة الإسلامية ([2] (ada99:20 ثانيًا الحركة الإسلامية في اليمن.htm#_ftn2)).
واهتمت الحركة في اليمن بالجانب التعليمي والتربوي وأعطته اهتمامًا خاصًا، فساهمت في إعداد المناهج الدراسية لمختلف المراحل التعليمية، وكان حظ مناهج التربية الإسلامية وافرًا، حيث حشدت الحركة العشرات من العلماء البارزين - من المذهبين الزيدي والشافعي- لوضع هذه المناهج برؤية توحيدية جامعة تتجاوز التعصب المذهبي، إذ تم الاتفاق على أن تكون مناهج الفقه والحديث نابعة من الدليل الأصوب، دون التحيز والتعصب لأحد المذهبين المذكورين, وكان من فضل الله على أهل اليمن ثم بهذا الجهد المبارك أن نشأت الأجيال منذ ذلك الحين حتى اليوم برؤية فقهية موحدة تجاوزت فيها الحساسيات والصراعات الموروثة على مدار التاريخ وتجنبت البلاد مرارة الصراع المذهبي بهذا الفعل الرشيد.
- وبنفس الرؤية التوحيدية الجامعة ساهمت الحركة الإسلامية في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، وتميز في الفترة التي ترأس فيها القاضي عبد الكريم العرشي مجلس الشعب التأسيسي من 1978م إلى 1988م بالنشاط الدءوب والعمل الجاد حتى أطلق على هذه الفترة بالعصر الذهبي في هذا المجال، وأصبح القضاء في جميع اليمن ملتزمًا برؤية شرعية موحدة. وكان لهذا المسلك على المستويين التعليمي والتشريعي أثره الفعال والكبير في ترسيخ دعائم الوحدة الوطنية في اليمن.
- اهتمت الحركة بالجانب الثقافي والتوجيه للمجتمع اليمنى, واتجهت نحو العمل المؤسسي، وكان أبرز ثماره مكتب التوجيه والإرشاد، الذي صدر وفق قانون في عهد الرئيس الراحل إبراهيم الحمدى، وترأسه على التوالي كل من الشيخ عبد المجيد الزنداني والقاضي يحيي الفسيل، ونص القانون على أن يكون رئيس المكتب بدرجة وزير، ونائبه بدرجة نائب وزير، ووكيله بدرجة وكيل وزارة، وكان نشاط المكتب عظيمًا وأثره في الجانب الشعبي كبيرًا، حيث استطاع من خلال قوافل التوجيه والدعوة أن يتغلغل في وسط القبائل والقرى والمدن وطعم جهوده الجبارة بدعوة عدد من كبار مفكري العالم الإسلامي مثل الدكتور يوسف القرضاوى، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور الترابي، والأستاذ يوسف العظم، والشيخ حسن أيوب، والدكتور الصواف، والدكتور أحمد العسال وعشرات غيرهم، نجح المكتب من خلال ذلك في أن يحدث وعيًا شعبيًا بقضايا الأمة الإسلامية، سواء كانت قضايا فكرية أو سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك.
- واهتمت الحركة بتأسيس المعاهد العلمية، التي يدرس طلابها نفس مناهج التربية والتعليم مع زيادات مقدرة في المجال الشرعي واللغة العربية، بهدف تزويد الطلاب بقدر أكبر من تلك العلوم والمعارف، وقد بدأت المعاهد العلمية منذ قيام الثورة في عام 1962م كمعاهد أهلية، ثم أصبحت منذ أوائل السبعينيات تابعة لإدارة خاصة بها ضمن وزارة التربية والتعليم، ثم تطورت لتصبح تابعة لهيئة أعلى، لكن موازناتها ظلت ضمن موازنة وزارة التربية والتعليم، وفي عام 1980م صدر قانون من مجلس الشعب التأسيسي وموقع من قبل الرئيس على عبد الله صالح بتوحيدها ضمن جهاز واحد يسمى الهيئة العامة للمعاهد العلمية، بموازنة مستقلة وبجهاز فني مستقل، على أن يرأسها مسئول بدرجة وزير، ومنذ ذلك الوقت تناوب على رئاستها ثلاث من الشخصيات الإسلامية البارزة بدءًا بالقاضي يحيى الفسيل (1980- 1985) ثم الأستاذ أحمد عبد الله الحجري (1985- 1988م) ثم المهندس أحمد الآنسي (1988- 1990), ومنذ قيام الوحدة لم يعين لها رئيس حتى الآن؛ بل تتم إدارتها من قبل وكيل الهيئة والجهاز الفني، وذلك بسبب الخلاف السياسي على وجودها واستمرارها، إذ كان يصر الحزب الاشتراكي اليمنى على دمجها ضمن وزارة التربية والتعليم بينما يرفض التجمع اليمنى للإصلاح ذلك، ويقف المؤتمر الشعبي العام موقف الحياد بين الطرفين، وقد أعطت المعاهد العلمية في الجانب التربوي والتعليمي عطاًء كبيرًا، وتركت آثارًا طيبة على جمهور المواطنين، وتوسعت المعاهد العلمية لتجاوز خمسمائة معهد على مستوى الجمهورية يرتادها ما لايقل عن ثلاثمائة ألف طالب وطالبة.
واشتملت هيئة المعاهد على إدارة عامة لمدارس تحفيظ القرآن الكريم تتبعها أكثر من مائة مدرسة ويرتادها أكثر من ثمانين ألف طالب وطالبة، ورغم موقف الحزب الاشتراكي المهزوم من المعاهد العلمية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم عندما كان في الحكم إلا أنه لم يستطع منع إقبال الناس عليها من المحافظات الجنوبية والشرقية التي كان يحكمها الحزب، ووجد الحزب نفسه مرغمًا على قبول فتح معاهد علمية ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم في مختلف أرجاء تلك المحافظات الست.
- وفي المجال السياسي دخلت الحركة الإسلامية في لجنة الحوار الوطني التي شكلها على عبد الله صالح في عام 1980م والتي تكونت من خمسين شخصية يمنية، مثلت فيها معظم القوى السياسية بما في ذلك الحركة الإسلامية، واستمرت اللجنة لمدة عامين تقريبًا تدير حوارًا وطنيًا وشعبيًا موسعًا لوضع صيغة لمشروع ميثاق وطني يتم إقرارها من خلال مؤتمر شعبي عام بحيث يكون هذا الميثاق هو الدليل النظري والفكري للشعب اليمنى وقيادته، وخلال عامين من المداولة والتباحث، توصلت لجنة الحوار الوطني إلى صيغة لمشروع ميثاق غلب الطابع الإسلامي عليه، ثم عرضت هذه الصيغة شعبيًا من خلال استبيان أبدى فيه مئات الآلاف الذين شاركوا فيه رأيهم في الصيغة المقترحة، وطالبوا ببعض التعديلات التي صبت معظمها في الاتجاه الذي دفعت صوبه الحركة الإسلامية، فأعيدت الصياغة بموجب نتائج الاستبيان الشعبي، ثم قدمت إلى المؤتمر الشعبي العام الذي انعقد في 24أغسطس (آب) 1982م وأقر الصيغة النهائية للميثاق الوطني, وأقر المؤتمر كذلك استمرار المؤتمر الشعبي العام كصيغة للعمل السياسي وإطار يجمع القوى الوطنية ويشرف على تطبيق الميثاق الوطني عمليًا، وانتخب المؤتمر الرئيس على عبد الله صالح أمينًا عامًا له، كما انتخب لجنة دائمة (مركزية) من خمسين عضوًا، كان نصفهم تقريبًا من الإسلاميين، وقد انتخبت اللجنة الدائمة د.أحمد الأصبحى (إسلامي)
أمينًا لسرها وعبد السلام العنسي (إسلامي) وعبد الحميد الحدي (قومي) مساعدين لأمين السر.
وساهم الإسلاميون فيما بعد على المستويين التنظيمي والفكري في ترسيخ قواعد المؤتمر الشعبي العام، الذي كان أول صيغة سياسية تعترف بالقوى السياسية عمليًا دون الإعلان عن وجودها بشكل رسمي ([3] (ada99:20 ثانيًا الحركة الإسلامية في اليمن.htm#_ftn3)).
هذه بعض الملامح الرئيسية في مشاركة الحركة الإسلامية في العمل السياسي على مستوى الدولة قبل تجربة الوحدة.
ب- تجربة ما بعد الوحدة:
إن تجربة الحركة الإسلامية فيما بعد الوحدة تختلف اختلافًا كبيرًا عن تجربة ما قبل الوحدة، وهو اختلاف يكمن سره في الانتقال من العمل السري إلى العمل العلني، وفي تحول النظام الحاكم في اليمن نحو الديمقراطية والتعددية.
لقد كان إنشاء التجمع اليمنى للإصلاح نقلة نوعية كبيرة لم يقتصر أثرها على الحركة الإسلامية وحدها؛ بل امتد ليشمل الساحة اليمنية بأسرها، فبروز حزب جديد يمتلك قاعدة شعبية عريضة مؤثرة وفاعلة جعل الخريطة السياسية اليمنية تنتقل إلى مرحلة من التوازن, ووجد الكثيرون ممن لا يرغبون في الانضمام إلى الحزبين الكبيرين (المؤتمر والاشتراكي) مجالاً لممارسة العمل السياسي ضمن الحزب الجديد، وكان الإصلاح هو حزب المعارضة الرئيس والمؤثر خلال سنوات الفترة الانتقالية من 22مايو 1990إلى 27أبريل 1993م.
وبرز دور الإصلاح وتأثيره في المعارضة أثناء فترة الاستفتاء على مشروع دستور دولة الوحدة التي استمرت ثلاثة أشهر، من فبراير إلى مايو 1991م، حيث كان الإصلاح يرى وجوب إجراء بعض التعديلات على الدستور قبل الاستفتاء عليه بسبب كثرة التناقضات التي اشتمل عليها، ناهيك عن الغموض الذي اكتنف الكثير من مواده، حيث كان هذا الدستور قد وضع من قبل لجنة مشتركة من شطري اليمن في الفترة ما بين مارس 1979م إلى ديسمبر 1981م، أي حينما كان المعسكر الشيوعي في أوج قوته، مما أدى إلى أن يتجه النظامان حينها إلى صيغ توفيقية وتلفيقية لتجاوز خلافاتهما، وهكذا أصبحت هوية النظام السياسي غامضة، فلا يوجد مثلاً نص صريح على التعددية، وكذلك الأمر بالنسبة لهوية الاقتصاد فلا هو إسلامي ولا هو اشتراكي ولا هو رأسمالي، ولم ينص الدستور على الفصل بين السلطات، ولا على التداول السلمي للسلطة.
انتقد الإسلاميون الدستور بسبب الثغرات الكثيرة ولم يرضوا اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع؛ بل طالبوا بأن يكون المصدر الوحيد للتشريع، لذلك قرر الإصلاح أن يقود معارضة شعبية واسعة للدستور، وقد اصطف وراءه ما يزيد على عشرين حزبًا من مختلف الاتجاهات الإسلامية والقومية والليبرالية. وبدأت حملة المعارضة بالمحاضرات والندوات والملصقات والمهرجانات الجماهيرية، فيما اتفق أكثر من أربعمائة من كبار علماء الشريعة في اليمن على توقيع وثيقة تطالب السلطة بتعديل الدستور قبل الاستفتاء عليه، وفي ذات الوقت بدأ الإصلاح بجمع توقيعات المواطنين المطالبين بتعديل الدستور، حتى تجاوزت هذه التوقيعات مليونا ونصف المليون توقيع من مختلف مناطق البلاد.
بلغت الحملة ذروتها بالمسيرة المليونية التي قادها الإصلاح داخل العاصمة، وشارك فيها مواطنون من مختلف أنحاء البلاد اتجهوا إلى مقر رئاسة الجمهورية مطالبين بالتعديل، فأصدر مجلس الرئاسة الحاكم بيانًا سياسيًا ضمنه أهم مطالب الإصلاح، ومنها:
1- الالتزام بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع وبطلان أي قانون يخالفها.
2-إعادة الحقوق والأملاك التي أممها النظام الشيوعي في عدن إلى أصحابها.
3- الالتزام بالنظام الديمقراطي القائم على أساس التعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة.
4- الالتزام بتعديل الدستور إثر أول انعقاد لمجلس النواب المنتخب بعد نهاية الفترة الانتقالية، فرحب الإصلاح وأحزاب المعارضة المتحالفة معه بالبيان، وطالبوا بجعله جزءًا من الدستور والاستفتاء عليه حتى يكتسب قوة دستورية وقانونية، ولما لم تستجب السلطة لهذا المطلب أصدر علماء الشريعة فتوى بوجوب مقاطعة الاستفتاء على الدستور، وهذا ما تم فعلاً فبدا الاستفتاء هزيلاً بضعف الإقبال الشعبي عليه يومي 16، 17مايو 1991م.
ومن خلال موقعه في المعارضة ساهم الإصلاح بفاعلية في صياغة أهم القوانين التي صدرت في الفترة الانتقالية، مثل قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية، وقانون الصحافة، وقانون تنظيم حمل السلاح، وقانون الإدارة المحلية، والقوانين الاقتصادية، وقانون الانتخابات ([4] (ada99:20 ثانيًا الحركة الإسلامية في اليمن.htm#_ftn4)).
رأي التجمع اليمنى للإصلاح أن استمرار الأوضاع كما هي عليه، حيث يحتكر الحزبان الحاكمان (المؤتمر والاشتراكي) حق إدارة شئون البلاد والعباد، سيدفع البلاد نحو الانهيار الشامل، ولذلك فإن دخول الإصلاح كشريك في السلطة من شأنه أن يحقق نوعًا من التوازن السياسي في البلاد، كما أن مشاركة الإصلاح تعطي تجربة فريدة في العالم العربي والإسلامي تتمثل في تشكيل ائتلاف حكومي يضم اليمين المحافظ المتمثل في المؤتمر الشعبي العام، واليسار المعتدل المتمثل في الحزب الاشتراكي، والوسط الإسلامي المتمثل في التجمع اليمنى للإصلاح، كما أن مشاركة الإصلاح في السلطة ستخفف من حدة النزعات المتطرفة التي بدأت في الظهور، وخاصة في المحافظات الجنوبية والشرقية التي كان يحكمها الاشتراكيون قبل الوحدة كرد فعل على تطرفهم.
ومن الفوائد المرجوة من مشاركة الإصلاح في الحكم، إتاحة الفرصة أمام العديد من كوادر الإصلاح للتأهل والتدريب على ممارسة الحكم، وصناعة القرار، والإحاطة بآليات إدارة السلطة وأسرارها وخفاياها.
وكذلك إتاحة الفرصة أمام الإصلاح ليقدم نموذجًا جيدًا يتسم بدقة الإنجاز وطهارة اليد وسلامة الضمير وعلمية التخطيط ومحاربة الفساد الشامل في كل مرافق الدولة.
وبعد خوض الانتخابات استطاع الإصلاح أن يحتل المرتبة الثانية بعد أن تحصل على 63مقعدًا, والاشتراكي 56مقعدًا, والمؤتمر 127مقعدًا، والمستقلون 47مقعدًا، والبعثيون 7مقاعد، والوحدوي الناصري مقعد واحد، والناصري الديمقراطي مقعد واحد، والتصحيح الناصري مقعد واحد، وحزب الحق مقعدين، وبحصول الإصلاح على المرتبة الثانية تأكدت مشاركته في السلطة، حيث دعا الرئيس على عبد الله صالح ونائبه على سالم البيض إلى اجتماع مشترك مع الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، زعيم الإصلاح، اتفق فيه الزعماء الثلاثة على تشكيل ائتلاف حاكم بحيث تتوزع الرئاسات الثلاث على الأحزاب الثلاثة، فتكون رئاسة الدولة للمؤتمر، ورئاسة البرلمان للإصلاح، ورئاسة الحكومة للاشتراكي.
بدأت المفاوضات حول تشكيل الحكومة الجديدة، ووزعت الحقائب بحيث حصل المؤتمر على أربع عشرة حقيبة تنازل عن واحدة منها للمستقلين، وحصل الاشتراكي على تسع حقائب منها حقيبة رئيس الوزراء وحقيبة نائب رئيس الوزراء وسبع حقائب وزارية, بينما حصل الإصلاح على ست حقائب من بينها حقيبة لنائب رئيس الوزراء تولاها الأمين العام للتجمع الأستاذ عبد الوهاب الآنسى، وخمس حقائب وزارية هي الإدارية المحلية وتولاها الأستاذ محمد حسن دماج، والتموين والتجارة وتولاها د. عبد الرحمن بافضل، والصحة العامة وتولاها الدكتور نجيب غانم، والأوقاف والإرشاد وتولاها الدكتور غالب القرشي، والشئون القانونية وشئون مجلس النواب وتولاها الأستاذ عبد السلام خالد.
ولم تمضى شهور قليلة على تجربة الإصلاح في المشاركة حتى دخلت البلاد في أزمة سياسية انتهت بالحرب بين القوات النظامية والقوات الموالية للحزب اليمنى الاشتراكي الذي أعلن من طرف واحد انفصال الجنوب عن الشمال، وبعد شهرين من المعارك الدامية (قتل فيها حوالي سبعة آلاف شخص) تمكنت القوات النظامية من دخول آخر معاقل الانفصاليين بعد سقوط مدينتي المكلا وعدن وفرار زعماء الاشتراكي إلى خارج البلاد.
لقد كان دور الإصلاح في المحافظة على وحدة اليمن عظيمًا، والتف الشعب اليمنى المناصر للوحدة والمنابذ للفرقة حول الحكومة الشرعية والحزبين الكبيرين الإصلاح والمجتمع, واستطاعوا بفضل الله ثم جهودهم أن يمحوا الحزب الشيوعي الاشتراكي من الوجود بعد أن عاث في الأرض فسادًا.
واستمر الحزبان المتحالفان في الحكم، وتركت مشاركة الإصلاح في السلطة أثرًا إيجابيًا على المستوى الشعبي، وأوجدت أملاً لدى المواطنين في إمكانية التغيير إلى الأفضل، فسمعة الإصلاح ظلت نقية طوال الفترة الماضية قبل الوحدة وبعدها، فالناس أدركوا من خلال تجارب فترة ما قبل الوحدة أن أكثر الوزراء والحكام الإداريين (المحافظين) نجاحًا وإخلاصًا في عملهم هم أولئك الذين ينتمون إلى الحركة الإسلامية تنظيمًا أو فكرًا أو سلوكًا، ولم ينس اليمنيون إنجازات الإسلاميين على صعيد التعليم والحركة التعاونية وفي مجالات التشريع والثقافة والإرشاد, وبعد انتخابات عام 1997م أصبح الإصلاح في المعارضة وضرب أروع الأمثلة في المعارضة السلمية النزيهة البعيدة عن المزايدة والكذب والتزوير والخداع ([5] (ada99:20 ثانيًا الحركة الإسلامية في اليمن.htm#_ftn5)).
إن تجربة الإصلاح في العمل السياسي تعتبر من أنضج التجارب المعاصرة في
العالم الإسلامي.



[/URL]([1]) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص 152.

(ada99:20 ثانيًا الحركة الإسلامية في اليمن.htm#_ftnref1)([2]) المصدر نفسه، ص 155.

([3]) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص 158، 159.

(ada99:20 ثانيًا الحركة الإسلامية في اليمن.htm#_ftnref3)([4]) انظر: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ص 161، 162.

[URL="ada99:20 ثانيًا الحركة الإسلامية في اليمن.htm#_ftnref5"]([5]) انظر: البحث الذي أعده نصر طه مصطفى في مشاركة الإسلاميين في السلطة ص (141- 170).

الفاررة الي الله
09-23-2008, 07:53 AM
ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا
تأتي قوة الحركة الإسلامية في تركيا، في كون الأحزاب السياسية في تركيا تعتمد اعتمادًا كبيرًا في الانتخابات على الجماعات الإسلامية إلى درجة نرى أن أحزابًا كبيرة، برامجها كانت علمانية، ولكن مواقفها اختلفت عن هذه البرامج.
من هذه الأحزاب على سبيل المثال حزب الشعب الجمهوري، الحزب الذي أسسه مصطفى كمال في عام 1922م حيث أرسى هذا الحزب معالم العلمانية في تركيا حتى وفاة مؤسس الحزب في عام 1938م، وقد قام هذا الحزب بسلسلة من الإجراءات القانونية فرضت بالقوة على المسلمين في تركيا, كان الغرض منها جعل الدستور علمانيًا، وفُرضت المبادئ الستة التي نادى بها مصطفى كمال على الشعب التركي, وجعلت من مبادئ الدستور التركي. وهذه المبادئ الستة منها أن تركيا دولة جمهورية وعلمانية، وشعبية، ودولية، وإصلاحية.
إلا أن حزب الشعب الجمهوري، بدأ يغير في اتجاهاته العلمانية منذ الانتقال إلى ظاهرة التعدد الحزبي، ريثما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حيث وافق الحزب على إنشاء كليات الإلهيات، ومعهد العلوم الإسلامية في أنقرة.
واعتمد الحزب الديمقراطي على الجماعات الإسلامية في انتخابات 14أيار 1950م، وكان سببًا رئيسًا في فوزه على حزب الشعب الجمهوري، وفضلاً عن ذلك، اعتمدت أحزاب أخرى على الجماعات السالفة الذكر، مثل حزب العدالة في المدة الواقعة بين 1961- 1980م.
وأما حزب الطريق المستقيم، والذي يعد امتدادًا لحزب العدالة، فإنه استمد قوته في الثمانينيات من الرأي العام الإسلامي.
وركب حزب العمل القومي بزعامة ألب أرسلان توركش الموجة الإسلامية وغير مفهومه عن العلمانية، وبدأ بالتقرب من الرأي العام الإسلامي, وكان شعار هذا الحزب في انتخابات عام 1987م: «دليلنا القرآن، وهدفنا الطوران» ([1] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn1)).
إلا أن العمل الإسلامي المنظم بدأ يظهر جليًا مع ظهور حزب السلامة الوطني.
كانت الحركة الإسلامية في تركيا قبل ظهور حزب السلامة الوطني تتكون من:
- المتصوفة المناوئة للحركة الكمالية، وهؤلاء حافظوا على التراث الإسلامي بمفهومهم الخاص بهم، وواصلوا تحفيظ القرآن سرًا، وكان هدف هذه الحركة هو الحفاظ على العبادات الإسلامية في نفوس الرأي العام التركي، وفي هذا المجال قاموا بتكوين جمعيات للإنفاق على طلاب مدارس الأئمة والخطباء للإكثار منهم، وتعويض النقص الذي نتج عن اختفاء الدعاة الإسلاميين عندما اصطدم بهم الحزب الكمالي.
حركة الإمام المصلح الكبير سعيد النورسى والتي تعرف بحركة النور, والتي تركزت جهودها على الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ومحاربة المادية الملحدة والاهتمام بتربية الأجيال وابتعد الكثير من أتباعها عن السياسة ([2] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn2)).
عندما تحصلت تركيا على نوع من الحريات تقدم الإسلاميون المؤمنون بضرورة خوض المعترك السياسي بتأسيس حزب النظام الوطني في كانون الثاني عام 1970م، حيث قام على تأسيسه يونس عارف، وقد جاء دعم هذا الحزب بصورة رئيسة من التجار الصغار والحرفيين والرجال المتدينين في الأناضول. توسع الحزب في مدة قصيرة جدًا, وبدأ يشكل تهديدًا خطيرًا للأحزاب العلمانية، وقد جاء في بيان التأسيس ما يلي: (أما اليوم: فإن أمتنا العظيمة التي هي امتداد لأولئك الفاتحين الذين قهروا الجيوش الصليبية قبل آلف سنة، والذين فتحوا إستانبول قبل 500سنة- أولئك الذين قرعوا أبواب فينا قبل 400سنة، وخاضوا حرب الاستقلال قبل خمسين سنة، هذه الأمة العريقة
تحاول اليوم أن تنهض من كبوتها وتجدد عهدها وقوتها مع حزبها الأصيل «حزب
النظام الوطني».
إن حزب النظام الوطني سيعيد لأمتنا مجدها التليد، الأمة التي تملك رصيدًا هائلاً من الأخلاق والفضائل يضاف إلى رصيدها التاريخي، وإلى رصيدها الذي يمثل الحاضر المتمثل في الشباب الواعي المؤمن بقضيته وقضية وطنه) ([3] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn3)).
وقدم حزب النظام برنامج عمله في منظومة من الأفكار يمكن إيجازها في الآتي:
1- جميع المؤسسات الهامة في تركيا في أيد غريبة غير وطنية، والأمر الطبيعي والواجب القومي يقضي بأن تعود هذه المؤسسات إلى أصحابها.
2- عاش الناس أربعين سنة والقوى الخارجية المؤثرة تحاول إبعادهم عن محورهم الحقيقي إلى محور غريب، فوقع الناس في ضيق وعنت شديدين، ولا بد من إرجاع الناس إلى طبيعتهم ومحورهم الأصيل (فطرة الله) حتى يستقيم أمرهم ويتخلصوا من عقدهم.
3- إن التسميات المعاصرة مثل اليمين واليسار والوسط هي من اختراع الماسونية والصهيونية، وكلها مؤسسات تابعة لغرض واحد وهو أن تنحرف تركيا عن خطها الحضاري الذي عمره ألف سنة، وأنه لا بد من التخلص من هذه الأسماء الغريبة والعودة إلى الخط الأصيل الذي يصل الماضي التليد بالغد المشرق.
4- إن حزب النظام الوطني لا يشبه الأحزاب الأخرى، فجميع الأحزاب تقوم على أساس التسلط وشهوة الحكم، ونحن نقوم على أساس جديد يبتغي مرضاة الله والعمل في سبيل الوطن.
5- إن نظام التعليم في تركيا فاسد وضعته شرذمة من الحاقدين من الصليبيين واليهود بشكل لا يناسب الأمة، فهو يسقط من حسابه كل قيمة معنوية أو أخلاقية أو دينية غايته فصل تركيا عن ماضيها الإسلامي وسلخها عن دينها وقيمتها، وبهذه الطريقة فقط يستطيعون أن يقتلوا الجيل ويدمروا البلاد، لقد مرت خمسون سنة ونحن نسمع أن تركيا جزء من أوروبا، وأن النهضة لا بد أن تقوم على أنقاض الدين كما حصل في الغرب، متناسين أن الإسلام يختلف عن الكنيسة ودولة القسس.
6- في الوقت الذي تمنع الدولة فيه توزيع الكتب على المعاهد الإسلامية العالية وتحاول إغلاق معاهد الأئمة والخطابة ومدارس تعليم القرآن، تنفق الملايين على المسارح والممثلين وثمنًا للمشروبات التي توزع في السفارات، وفي الوقت الذي تعترض الدولة على الطالبات اللواتي يلبسن الحجاب على رءوسهن، تدرس كتب اللاهوت في
كل مكان دونما رقابة أو ضجة, وهذا يعنى أن حزب النظام الوطني أكد العودة إلى الإسلام الحقيقي ([4] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn4)).
إن اليهود والعلمانيين في تركيا لم يتحملوا هذا الصوت الفتى الذي يتدفق بالحيوية والنشاط, ويحركه في قضاياه الإيمان العميق بالإسلام وبضرورة رجوع الشعب التركي إليه، لذلك تحرك الجيش التركي في آذار 1971م بسبب نشاط حزب العمال وأحال قضية حزب النظام الوطني إلى المحكمة الدستورية التي أصدرت قرارًا جائرًا بحل الحزب في 21مارس 1971م ([5] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn5)).
وقد جاء في قرار محكمة أمن الدولة العليا ما يلي:
1- إن المبادئ التي قام عليها الحزب وتصرفاته تخالف الدستور التركي.
2- العمل على إلغاء العلمانية في البلاد، وإقامة حكومة إسلامية.
3- قلب جميع الأسس الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية التي تقوم عليها البلاد.
4- العمل ضد مبادئ أتاتورك.
5- القيام ببعض التظاهرات الدينية.
وجاء في حكم المحكمة أيضًا أنه لا يحق لأي من شخصيات الحزب أن تعمل من خلال أي حزب سياسي آخر، ولا أن يؤسسوا أي حزب جديد، ولا أن يرشحوا أنفسهم لأي انتخابات قادمة ولو بشكل مستقلين لمدة خمس سنوات. وهذا يعنى أن المدة بين نشوء الحزب وإغلاقه كانت ستة عشر شهرًا فقط ([6] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn6)).
وفي تلك الأحداث الساخنة والمشادة العنيفة بين الإسلام والعلمانية في تركيا ظهر المجاهد الكبير نجم الدين أربكان يخوض المعارك الكلامية مع العلمانيين؛ ففي 2آب 1972م وقبل تأسيس حزب السلامة الوطني تحدث أربكان في المجلس الوطني فقال: «في رأينا أن التوضيح المهم الأكثر ملاءمة لجعل الدستور دستورًا ديمقراطيًا، لا بد أن تكون هناك مواد دستورية مناسبة قبل تحديد الحركات وحقوق الفكر والمعتقد، وهكذا من الممكن إيجاد مناخ للتطبيقات الحالية والتي تتعارض مع المبادئ الأساسية للدستور، وفي مثل هذه الحالة، على المرء أن يتكلم عن وجود فكر الحرية والمعتقد، وأن دولتنا لتسعى وتنمو، ومن ثم لتأخذ مكانتها بين الأقطار الحضارية في العالم» ([7] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn7)).
كان أربكان يرى أن النظام الديمقراطي لا يعد ديمقراطيًا بدون الحقوق وحرية الفكر والمعتقد، وكان يقصد من وراء ذلك الحرية التامة لاستخدام نشر الأفكار الإسلامية، وقد فسرت كل من صحيفتي «جمهوريت» و «ملليت» العلمانيتين تصريحات وأقوال أربكان بأنها ذريعة لاستخدام الدين لأغراض سياسية ([8] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn8)).
لقد هاجم أربكان العلمانية واستفاد من الثغرات الموجودة في الدستور التركي, ورد على الحملة الإعلامية العلمانية الموجهة ضد أطروحاته فقال: (إن مصطلحات القومية والديمقراطية والعلمانية والاجتماعية، والتي تقوم عليها شخصية الدولة، واستنادًا إلى المادة الثانية من الدستور، إن هذا من الممكن توضيحه بأن هذه المادة لا تسمح باستخدام وتفسير المعارضة في الممارسة، وفي هذا المجال وبصورة خاصة مصطلح القومية بحاجة إلى توضيح، وهذا يعنى أنها بحاجة إلى تحديدها بطريقة تقوم على احترام جميع القيم الروحية لقوميتنا من حيث التاريخ والتقاليد) ([9] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn9)).
وأضاف أربكان قائلاً: «الدين هو معتقد أساسي ونظام فكري للأفراد، وهذا يعنى الاعتراف بحق الحرية والوجود والاعتراف بحقوق المعتقد للفرد، إن تحريم الشخص من هذه الأسس هو ضد الروح والمبادئ الأساسية للدستور وخاصة الفقرة (1) من المادة 19والمادة 20من الدستور» ([10] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn10)).
2- حزب السلامة الوطني:
بعد هدوء جو العنف والقلق السياسي في السياسة الداخلية التركية من جراء الأحكام العرفية قام أربكان بلم شعث حزب النظام الوطني وأسس حزبًا جديدًا أطلق عليه حزب السلامة الوطني، استطاع حزب السلامة الوطني خلال مدة قصيرة لا تتجاوز ثمانية أشهر من تنظيم قواعد في 67محافظة، وأعلن أربكان بأن نجاح حزبه خلال هذه المادة يعود إلى تعاطف الرأي العام المحلي مع الحزب الذي ينادى بأهمية الأخلاق الدينية والمواقف المعنوية، وعلى هذا الأساس فقد أكد حزب السلامة في برنامجه على ما يأتي: (قيام تجمع يعتمد الفضيلة والأخلاق ويعطى القيمة المعنوية للإنسان مثلما نصت عليه المادتان العاشرة والرابعة عشرة من الدستور والتي تؤكدان على القيمة المعنوية للإنسان على أساس من الأخلاق والفضيلة) ([11] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn11)).
أهم أعمال حزب السلامة:
عندما شعر حزب السلامة بقوته، وصار جزءًا من الحياة السياسية في تركيا شرع منظرو الحزب بشن حملة إعلامية منظمة على أسس العلمانية في تركيا, وبينوا للناس أن الإطار السياسي لتركيا الجديدة يناقض المبادئ السياسية للإسلام، ويقضي الإسلام بتوحيد السلطات السياسية والدينية تحت سيطرة الدين، وفي هذا المعنى، فإن العلمانية، والنظام العلماني ضد الإسلام، الشريعة والدين, وخاصة تطبيقاتها في تركيا فإنها صممت لضمان الزندقة ([12] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn12)), ويردف قائلاً: «إن الخونة والكذابين هم وحدهم الذين يقولون بأن الدين والسياسة شيئان منفصلان، لأن المسلمين لا يفصلون شئون الدنيا عن شئون السماء، لقد أصبح واضحًا بأن التشريع ليس من حق الإنسان، أما إذا وضع القوانين أو ادعى بأنه يفعل ذلك، فإن علمه هذا يعد خطيئة. إن خالق القوانين الإسلامية هو نفسه خالق الإنسان، لقد خلق الله الإنسان وفق هذه القوانين، إن القوانين الإنسانية لا تتناسب وطبيعة الإنسان، إن الإسلام نظام يصلح لكل الأزمان, إنه يمثل كلاً من الدين والدولة، إن القرآن لم ينزل ليقرأ في القبور أو يغلق عليه في أماكن العبادة، لقد أنزل
القرآن (ليحكم) ([13] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn13)).
إن المجاهد الكبير أربكان شق طريقه بصعوبة في محاربته للعلمانية بالحجة والبرهان، ولقد عبر عن آرائه بصراحة خلال مباحثاته مع ضياء الحق، مؤكدًا أن دخول الإسلام في كل جوانب الحياة هو الشرط الوحيد لقيام دولة إسلامية، وفي هذا المجال قال أربكان: «قبل كل شيء يجب أن تكون الدولة إسلامية، إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن الدين الإسلامي في خطر»([14] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn14)).
إن حزب السلامة الوطني لم يحاول أن يتخذ موقف الهجوم المباشر على الديمقراطية في انتخابات عام 1973، إلا أنهم عبروا عن مشاعرهم الحقيقية عن ذلك في عام 1980م، حيث بدأوا ينتقدون الديمقراطية مؤكدين أنها تتعارض مع مبادئ الإسلام ([15] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn15)).
وفي هذا المجال أكد حزب السلامة أن «الديمقراطية مؤامرة غربية لقيادة الجهلة بموجب الأساليب الغربية والمسيحية، إنه انتصار للمسيحية ضد الإسلام، لذلك يجب تطبيق القوانين الإلهية إذ لا يمكن للإنسان تشريع قوانين يمكن تطبيقها» ([16] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn16)) .
وبالإمكان تلخيص وجهة نظر حزب السلامة الوطني عن الرأسمالية والاشتراكية، في مقالة لنجيب فاضل جاء فيها:
«نحن نقسم طريق الخلاص إلى مجموعتين: الأولى هي طريقة الإسلام في الخلاص، والثانية يمكن تصنيفها كنظم وراثية والتي لا توصل إلى الخلاص، إن المجموعة الثانية لا تعتمد على التعاليم الإلهية وتناقض نفسها باعتمادها على قوانين من صنع الإنسان مثل الشيوعية والرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية، لقد تم التأكيد أيضًا على أن الله قد أمرنا أن نحكم طبقًا لتعليم القرآن الكريم، وليس حسب آرائنا الخاصة، إذا حكَّم الناس حسب نظام التصويت، فإنهم لن يكونوا بحاجة إلى كلام الله, في المجتمعات التي تحل فيها كل القضايا وفقًا لنظام التصويت، لا ينتشر الإسلام» ([17] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn17)) .
أما فيما يتعلق بموقف الحزب من الولايات المتحدة، فقد عارض الحزب الوجود الأمريكي في الأراضي التركية، كما عارض استخدام الولايات المتحدة الأراضي التركية، في استخدامها ضد دول منطقة الشرق الأوسط، ونتيجة لهذا فقد انتقد الحزب حكومة ديمريل في أواخر عام 1979م بسبب زيادة النشاط العسكري الأمريكي في تركيا، حيث قدم استجوابًا إلى مجلس النواب التركي مطالبًا فيه محاسبة حكومة ديمريل بسبب هذا النشاط الأمريكي، وقد دلل هذا على قيام طائرتين بالهبوط في مطار مالقا وهما تحملان 180عسكريًا أمريكيًا مع أحدث المعدات الحربية، مؤكدًا أن هذا يشكل تهديدًا لأمن المنطقة.
وفي الحقيقة استطاع الحزب أن يشكل رأيًا عامًا مناهضًا للغرب والولايات المتحدة، عن طريق المشكلة القبرصية والتي قام فيها أربكان بدور رئيس في إقناع القيادات العسكرية بإنزال قواتها في الجزيرة، فقد تولى القيادة مدة غياب أجويد في زيارة لدول أوروبا الشمالية.
ولقد عمل الحزب بقيادة أربكان على إفشال جميع الخطط والمشاريع اليونانية في بحر إيجة، وفي هذا المجال يقول أربكان: (سنتحرك وفق أسس العدل والحق لأوفق الأسس التي تحددها الأقطار الأوروبية الكبيرة) ([18] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn18)).
وفيما يتعلق بالسوق الأوروبية يقول أربكان: «إن تركيا يجب أن لا تكون في السوق الأوروبية المشتركة للدول الغربية، وإنما في السوق المشتركة للدول الشرقية، إن تركيا متخلفة بالنسبة للغربيين، ولكنها متقدمة بالنسبة للشرقيين، إذا دخلت تركيا السوق المشتركة في الأوضاع السائدة اليوم، فإنها مستعمرة» ([19] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn19)).
لقد كان لحزب السلامة تأثير كبير في الشارع التركي وعمل إعادة الهوية الإسلامية ونازل بحجج الإسلام وبراهينه الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية, وكان زعيمه نجم الدين أربكان يتحدث بعزة الإسلام ويوضح للشعب التركي خطورة الانحراف عن منهج الله ويوجه صواريخه إلى أعداء الإسلام، وفي هذا المجال، يقوَّم لنا نجم الدين أربكان النظامين الاشتراكي والرأسمالي, وفيما يتعلق بالأول يقول أربكان: « إنه فكر يهدد الحريات، ويضر بالكيان القومي، ويركز على مصادر أجنبية» ([20] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn20))، أما فيما يتعلق بالثاني، يقول أربكان: «الفكر الرأسمالي هو فكر يقوم على الربا، ومصدره أجنبي أيضًا، أما حزب السلامة فيمضى في طريقة رافعًا راية الأخلاق والأصالة، إن النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي لا يقتصران على ميدان الاقتصاد، وإنما يمتد تأثيرهما إلى الميدانين الاجتماعي والمعنوي، ورغم اختلاف النظامين في الظاهر، فكلاهما مادي، وكلاهما يعمل على النهوض بالجانب المادي في مقابل انحطاط الأخلاق والمعنويات، وكلاهما يزداد ارتفاعًا ماديًا مع هبوط الثقافة والأخلاق» ([21] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn21)).
إن غاية حزب السلامة هو الوصول إلى فهم «تركيا الكبرى» وحرص على التمسك بالماضي العثماني المجيد وبيَّن للناس أهمية الالتزام بالإسلام واتبع سياسة تؤدي في مداها البعيد إلى القضاء على مبادئ أتاتورك العلماني، وهو في نفس الوقت يدعو إلى عدم التعاون مع العناصر غير الإسلامية في تركيا، وهو في نفس الوقت يعارض الشيوعية بعنف، ويؤكد على أن أفضل طريق لانتشار المبادئ الإسلامية هو توفير الحياة الحرة للمواطن التركي.
ودعا أربكان إلى ضرورة تطوير علاقات تركيا مع العالم الإسلامي في المجالات كافة، حيث قال: (وأن لا تظل هذه العلاقات صورية، وإنما يجب أن تكون علاقات فعلية متطورة، حيث إن في العالم ما يقرب من خمسين دولة إسلامية يبلغ سكانها مليارًا، وهذه الدول الإسلامية سوق طبيعية قوية لإنتاجنا) ([22] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn22)).
وعلى هذا الأساس، فقد انتقد أربكان كلاً من الصهيونية والماسونية ([23] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn23)) حيث قال في هذا المجال: «إن الصهيونية والماسونية حاولا عزل تركيا عن العالم الإسلامي، ومؤامراتهم مستمرة، ذلك أن المعركة بين الإسلام في تركيا والصهيونية قد اتخذت أشكالاً عدة وهي حرب طويلة المدى، ومستمرة منذ خمسة قرون، منذ فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية وعمل على فتح رومية، ولكن هذا الصراع في المائة سنة الأخيرة، أخذ شكل مخطط أعد له سلفًا، فاستطاعت بعض القوى عام 1839م أن تؤثر في جسم الدولة الفكري، وتدخل القوانين الوضعية البعيدة عن الإسلام بوساطة المنظمات اليهودية الماسونية، وقسم العمل اليهودي في تركيا إلى ثلاث مراحل مدتها ثلاثون سنة، وهي عبارة عن تنفيذ فكرة ليتويود وهرتزل بإسقاط الدولة الإسلامية في تركيا، أما المرحلة الثانية، فقد استمرت عشرين سنة، وكانت لإبعاد تركيا عن الإسلام، ثم نشأ حزب الاتحاد والترقي، وكانت له علاقة باليهود والماسونية، ومن ثم استطاع إسقاط السلطان عبد الحميد، وبدأ في إبعاد تركيا عن النمط الإسلامي وتغريبها بطرق عديدة أهمها العلمانية التي كانت تعنى في تركيا بالتحديد اضطهاد المسلمين» ([24] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn24)).
وقد خاض حزب السلامة الوطني الانتخابات العامة لعام 1973م حيث حصل على 9 و 11% من الأصوات، أي بواقع 24.1 مليونًا من أصوات الناخبين ونتيجة لذلك فقد مثل نفسه في المجلس الوطني التركي بواقع 45مقعدًا ([25] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn25)).
وقد أعلن أربكان عشية انتخابات 1973م: «أننا سنعيد عهد الرسول e، كما أعلن أربكان بعد الانتخابات أن شعار حزبه هو (المفتاح), وهذا ما سيؤهل للحزب فتح الطريق المغلقة أمامه، ويكون مفتاح كل الحكومات الائتلافية» ([26] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn26)).
ونتيجة لذلك فقد تكونت أول حكومة ائتلافية، ضمت حزب الشعب الجمهوري، وحزب السلامة الوطني، وذلك في 25كانون الثاني 1974م، حيث ضمت الوزارة ثمانية عشر وزيرًا من أعضاء حزب الشعب الجمهوري، وسبعة أعضاء من حزب السلامة.
ويفضل الله تعالى ثم جهود حزب السلامة الوطني بقيادة أربكان، مثلث تركيا ولأول مرة في آذار 1974م في مؤتمر القمة الإسلامي، وقد اختير وزير الداخلية التركي وهو من حزب السلامة الوطني في هذا المؤتمر.
إن نشاط حزب السلامة الوطني خلال السبعينيات أدى إلى خرق المظاهر العلمانية في تركيا، حيث انتشرت بعض المظاهر الإسلامية في تركيا وخاصة في شهر رمضان، كما تم التوسع في المدارس الإسلامية، حيث سمح لها بتدريب الأئمة والوعاظ، وأصبحت هذه المدارس تعلم حوالي 10% من الطلاب في المدارس الثانوية بمن فيهم 50.000 من العنصر النسائي في تركيا، وفي الحقيقة وصل التصويت الإسلامي بين 10%-15%، وقد اعتبر العلمانيون هذه النسبة بمثابة خطر على المدنية التركية ([27] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn27)).
وبتأثير من حزب السلامة الوطني، وطلاب النور في تركيا خرجت إلى حيز الوجود سلسلة «ألف كتاب» التي دعمتها وزارة التربية، وتناولت هذه السلسلة الثقافة التركية بمعيار إسلامي, وأخذ حزب السلامة يعمق المفاهيم الإسلامية في المجلس الوطني التركي الكبير وهاجمت الصحف الإسلامية في تركيا كمال أتاتورك وأطلقت عليه اسم «الدجال». وضغط حزب السلامة الوطني على رئاسة الشئون الدينية حتى أصدرت بيانًا في حزيران 1973م أكدت فيه على دعوة المرأة التركية إلى الحجاب.
وحينما سافر أربكان إلى السعودية عام 1974م- وكان وقتئذ نائبًا لرئيس الوزراء - بدأ زيارته للكعبة، وفي الرسالة التي كتبها للملك، ذكر ما يلي: «إن معرفة الشعب والحجاج للمشاريع التي ستقام في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية بالقروض التي ستمنحونها لتركيا تعد من الأمور الهامة، إن دعمكم لموقفي في تركيا سيفتح لتركيا مرحلة جديدة في العالم الإسلامي، ومساعدتكم لنا في هذا المجال سوف تدعم هذه المرحلة» ([28] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn28)).
واستطاع أربكان أن يمرر قانونًا في البرلمان يسمح بموجبه للأتراك السفر برًا إلى الحج، وكان ذلك ممنوعًا ([29] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn29)).
لقد كانت خطوات حزب السلامة الوطني جريئة في المجتمع التركي, ولذلك لم يتحمل الجيش التركي خادم العلمانية في تركيا هذه الأعمال الحميدة, ولذلك تدخل الجيش بانقلابه الذي قضى على التعددية والحرية السياسية في 12أيلول 1980م، وقد سبق هذا الانقلاب مظاهرات كبيرة في مدينة قونيا يوم 6 أيلول، ونادى المتظاهرون بتأسيس دولة إسلامية، وقام أنصار حزب السلامة بالاستهزاء بكل ما يؤمن به أتاتورك والمؤسسة العسكرية، وقد هتف هؤلاء الذين جاءوا من جميع أنحاء البلاد بالشعارات الدينية، وطالبوا باستخدام الشريعة الإسلامية في التعامل السياسي الداخلي، ومنعوا عزف النشيد الوطني([30] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn30)).
واحتج المتظاهرون على ضم القدس، ونادوا بقطع العلاقات مع إسرائيل، ودعوة إسرائيل المناداة بالقدس حرة، كما دعا أربكان في هذه المظاهرة إلى بدء الصراع لأنها العقلية الغربية الزائفة والتي تحكم تركيا، وقد كتب المتظاهرون الشعارات باللغة العربية، وقام هؤلاء بحرق العلم الصهيوني والأمريكي والسوفيتي, ونادى المتظاهرون بشعار «الموت لليهود» ولا سيما أن مدينة قونيا تضم أعدادًا من طائفة اليهود والتي يبلغ عددها 20.000 يهودي ونادى المتظاهرون أيضًا: «جاء دور القانون الديني وانتهت الهمجية، الشريعة أو الموت، إن الدولة الملحدة يجب أن تدمر، وإن القرآن هو دستورنا، نريد دولة إسلامية بدون الحدود والطبقات» ([31] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn31)).
كانت شعبية حزب السلامة الوطني ترتقي، لأنه التزم القضايا الإسلامية علنًا خصوصًا في العامين 1979م، 1980م واضطر الحزب الجمهوري وحزب العدالة بإرضاء حزب السلامة الوطني، وقدما تنازلات للاتجاه الإسلامي، طمعًا في المساعدات الاقتصادية من الأقطار الإسلامية والحاجة الملحة إلى بترولها.
لم يستح قادة الجيش التركي بعد انقلابهم العسكري أن يقولوا بأن سبب تدخلهم من أجل وقف المد الإسلامي.
اتخذ الانقلابيون قرارًا بحظر جميع الأحزاب السياسية وحجز قادتها وتقديمهم للمحاكمة، وكان من الطبيعي أن يحاكم حزب السلامة الوطني وأن توجه التهم لزعيمه أربكان وزملائه المجاهدين. وكانت كل التهم تدور حول حرص حزب السلامة على إعادة دولة الإسلام لتركيا والتخلص من الأفكار العلمانية والمبادئ الكمالية، إن الغطرسة التركية العلمانية أعلنت بكل وقاحة على لسان الجنرال إيفرن رئيس أركان الجيش التركي بأن لها من القوة بحيث تستطيع أن تقطع لسان كل من يتهجم على أتاتورك([32] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn32)).
لقد استطاع حزب السلامة الوطني أن يدخل بعض التغييرات في السلوك السياسي الداخلي التركي، من بين ذلك: تحقيق الأذان في الجوامع وباللغة العربية، وفرض قراءة القرآن الكريم في محطات الإذاعة والتليفزيون، وكان ذلك محرمًا منذ مجيء المفسد الكبير مصطفى كمال إلى الحكم.
لقد أصبح أربكان مع حزبه المجاهد معلمًا من معالم الحركة الإسلامية المعاصرة في تركيا، ولقد أثرت حركة السلامة في الأوساط الإسلامية والطرق الصوفية والزوايا التقليدية, ووجدت من التيار الإسلامي التقليدي من يناصرها ويقف بجانبها ويدعمها, وحكمت المحكمة العسكرية الظالمة في عام 1983على المجاهد أربكان لمدة أربعة أعوام وعلى 22عضوًا من أعضاء حزب السلامة الوطني بالسجن لمدد تصل إلى ثلاثة أعوام ونصف ([33] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn33)).
وقام الجيش التركي بتسريح كل من اشتم منه رائحة إسلامية وأعلن إيفرن في حملته التي استهدفت الإسلاميين داخل القوات المسلحة بأن هؤلاء المسلمين «كان هدفهم الوصول إلى المراتب العليا في القوات المسلحة، ماذا سيحدث لو أنهم أمسكوا بزمام الجيش؟»([34] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn34))، وأضاف قائلاً: «قد يحولون البلاد إلى أي نوع من الأنظمة التي يريدون،
هل هذا نشاط ديني أم خيانة؟» ([35] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn35)).
وبدأت القيادة العسكرية في تركيا تبحث عن حل لمشاكلها السياسية وإرضاء الضغوط الأوروبية التي اتهمت تركيا بخرق حقوق الإنسان ويجب عليها إعادة الديمقراطية من جديد، فشكلت لجانًا جديدة لصنع دستور للبلاد بحيث يعطى الرئيس التركي الحق في فرض حالة الطوارئ، وحل البرلمان، والدعوة إلى انتخابات جديدة، وبذلك يكون باستطاعة العلمانيين قطع محاولات الإسلاميين المستمرة للقضاء على الدستور العلماني، وعدلت القوانين بحيث تكون للقيادة العسكرية حق الاحتفاظ ببعض السيطرة على الحياة السياسية في تركيا.
وبعد إعلان الدستور الجديد في عام 1982تكونت أحزاب سياسية إسلامية, وظهر حزب الرفاة وهو امتداد طبيعي لفكر السلامة الوطني وبدأت العناصر الإسلامية تتوافد على هذا الحزب الجديد والذي تعرض لمعارضة الجيش والضغط عليه لمنعه من دخول انتخابات عام 1983م، إلا أنه خاض الانتخابات وحصل على نسبة 5% من الأصوات([36] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn36)).
إضافة إلى ذلك، اشترك حزب الرفاة في انتخابات تشرين أول 1987م، حيث حصل على 7.06% من الأصوات ([37] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn37)).
وبدأت الجماعات الإسلامية تتمحور حول حزب الرفاة, وشرع حزب الرفاة في قيادة الحركة الإسلامية في كل المدن التركية، وحتى المحافظات الكبرى والقرى المتباعدة الأطراف، وانتعشت الحركة الإسلامية مع تسلم أوزال السلطة وهو المتعاطف مع الإسلام في تركيا خاصة أن أعدادًا كبيرة من قيادة جزبه - حزب الوطن الأم- من الوجوه الإسلامية المعروفة في تركيا, ودخلت كوادر قيادية هامة من حزب السلامة المنحل إلى حزب الوطن الأم الذي نجح في انتخابات 1983م بأغلبية كبيرة، وشجعت حكومة أوزال نشاط المساجد والمدارس الدينية, واهتم وزير الدولة المشرف على الشئون الدينية (كاظم أكصوى) بدورات تعليم القرآن الكريم والتي كانت في بداية الثمانينيات 200دورة رسمية ووصلت إلى 3000 دورة في عام 1987م, ونشطت الطرق الدينية، وقام كاظم أكصوى بجعل بعض المؤسسات الدينية والبنوك مثل بنك الأوقاف من أهم المراكز التي تغذي الحركة الإسلامية في تركيا ([38] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn38)).
واستمر حزب الرفاة في جهاده السلمي والتوغل المتزن في أعماق الشعب المسلم التركي الذي لا تزال أعمال حزب السلامة في ذاكرته ووجدانه والتي أعادت للمجتمع التركي وجوده وحضوره الإسلامي, واستطاع حزب الرفاة الذي هو امتداد لحزب السلامة في مارس 1994م أن يتحصل على أهم وأكبر البلديات في تركيا، وعلى فوزه بانتخابات ديسمبر 1995م كأكبر حزب في البلاد، تسلم على إثرها السلطة في ائتلاف حكومي مع حزب الطريق القويم في يونيو 1996م ([39] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn39)), وأصبح المجاهد الكبير نجم الدين أربكان رئيس الوزراء وقام بإصلاحات اقتصادية رائعة وارتفعت الرواتب في فترة وجيزة، وتقدم مندفعًا كالسهم نحو الدعوة لإقامة سوق إسلامية مشتركة ورفض دخول تركيا السوق الأوروبية المشتركة، فكانت دعوة إلى قيام أمم إسلامية متحدة، ومجلس إسلامي مشترك، وضرب ممثلو حزب الرفاة في البلديات وعلى مستوى الدولة أروع الأمثلة في النزاهة والعفة وطهارة البلد والقدرة على التخطيط, واهتمت مؤسسات الحزب بتقديم وتحسين أداء الخدمات للمواطنين وتعاطف الشعب التركي مع حزب الرفاة حتى كثير من المومسات أعطين الخدمات أصواتهن لحزب الرفاة الذي عمل
على إيجاد فرص للعمل الشريف بعد ترك بيوت الدعارة والفساد والرجوع إلى الله بالتوبة والمغفرة.
ولقد عالج ممثل الرفاة والذي تولى بلدية استانبول مشاكل العاصمة بكل جدارة, وتضاعفت ميزانية البلدية بعد أن كانت دائمًا تشتكي من العجز المالي بسبب الاختلاس.
لم يرض اليهود والعلمانيون عن هذه المكاسب العظيمة التي حققتها الحركة الإسلامية في تركيا, فدفعوا قادة الجيش لممارسة ضغوطهم على الأحزاب حتى قضوا على التحالف بين حزب الطريق القويم وحزب الرفاة, وتقدم حزب علماني متطرف مدعوم بقوة العسكر ورجال الاقتصاد العلمانيين وقدموا حزب الرفاة إلى المحكمة الدستورية التي حكمت بحل حزب الرفاة ومصادرة أملاكه 1997م ولا يزال الإسلاميون في تركيا يديرون صراعهم مع اليهود والعلمانيين وأعداء الإسلام بكل جدارة وشجاعة وذكاء. وإني على يقين راسخ لا يتزعزع أن الحركة الإسلامية في تركيا ستصل إلى الحكم وتطبق شرع الله بإذن الله، لأن كل المؤشرات والسنن تقول بذلك.
وأختم التجربة الإسلامية في تركيا بهذا الحوار للأستاذ والمجاهد الكبير الذي نخر أعمدة العلمانية في تركيا البروفسور نجم الدين أربكان، سأله صحفي مسلم مشهور بقوله: إن المشاركة في العملية الانتخابية أمر لا يجوز من الناحية الشرعية وهي مساهمة في تقوية النظام الجاهلي الذي يعتمد مثل هذه الأساليب.. فرد أربكان: وماذا نفعل إذن..؟ هل كان بإمكاننا أن نحقق المكاسب الكبرى على صعيد الحريات الشخصية والعامة.. ونؤسس هذه المئات من المدارس الإسلامية, ونرفع أصواتنا في البرلمان لتعديل المواد الدستورية التي تحد من الحريات الدينية, ونعيد للناس ثقتهم بأنفسهم وبدينهم, ونحاصر الشر بأنواعه حتى يكاد ينحسر عن بلادنا, بغير هذه الوسائل التي ترفع من مستوى أداء الجميع أفرادًا وجماعات, وتدفع الجميع لتحمل مسئولياتهم في إعادة البناء..؟ ([40] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftn40))
إن تجربة الحركات الإسلامية في السودان والأردن واليمن وتركيا من التجارب الرائدة المليئة بالدروس والعبر, ولم تفرط هذه الحركات في ثوابت الدين؛ بل التزمت بها ولم تداهن أو تجامل في أمر الشريعة؛ بل ضغطت على حكومتها وعدلت دساتيرها كما حدث في تركيا, وإن هذه الأعمال الجليلة التي قامت بها الحركات الإسلامية في بلدانها ومع حكوماتها لنوع من أنواع التمكين لهذا الدين.



[/URL]([1]) الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. أحمد النعيمى ص 184- 187.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref1)([2]) انظر: المعالم الرئيسية للأسس التاريخية والفكرية لحزب السلامة، عبد الحميد حرب ص 435، ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، البحرين 22- 25/2/1985م.

([3]) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، ص 126.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref3)([4]) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، ص 127.

([5]) المصدر نفسه، ص127.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref5)([6]) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، محمد مصطفى، ص (185- 186).

([7]) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د.النعيمى، ص128.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref7)([8]) المصدر نفسه، ص128.

([9])المصدر السابق نفسه، ص128.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref9)([10]) المعالم الرئيسية للأسس التاريخية لحزب السلامة الوطني، ص 435.

([11]) انظر: الحركة الإسلامية الحديثة، د. النعيمي ، ص 130.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref11)([12]) المصدر نفسه، ص131.

([13]) انظر: الحركة الإسلامية الحديثة, د. النعيمي ص 132.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref13)([14]) المصدر نفسه، ص 132.

([15]) المصدر نفسه، ص135.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref15)([16]) المصدر نفسه، ص 135.

([17]) الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمي، ص 135.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref17)([18]) الأحزاب السياسية في تركيا، حسين فاضل كاظم، ص 192.

([19]) الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمي ص 137.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref19)([20]) يقظة الإسلام في تركيا أنور الجندي، ص 29- 30.

([21]), (3) المصدر نفسه، 30.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref21)([22])

([23]) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمي، ص 141.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref23)([24]) الصحوة الإسلامية منطلق الأصالة وإعادة بناء الأمة على طريق الله، الجندي ، ص 117.

([25]) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د.النعيمي، ص 142.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref25)([26]) المصدر نفسه، ص143.

([27]) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمي، ص 145.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref27)([28]) الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، محمد مصطفى، ص 207.

([29]) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمي, ص147.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref29)([30]), (3) المصدر نفسه، ص151.

([31]) الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، د. النعيمي، ص 151.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref31)([32]) الحركات الإسلامية الحديثة، د. النعيمي ص 150.

([33]) المصدر نفسه، ص 156.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref33)([34]) المصدر نفسه، ص 165.

([35])انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، ص165.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref35)([36]), (3) المصدر نفسه، ص 179.

([37]) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة في تركيا، 179.

(ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref37)([38]) انظر: الحركات الإسلامية الحديثة ، ص179.

([39]) انظر: تحديات سياسية تواجه الحركة الإسلامية، مصطفى الطحان، ص 118.

[URL="ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref40"] (ada99:21 ثالثًا الحركة الإسلامية في تركيا.htm#_ftnref39)([40]) انظر: تحديات سياسية تواجه الحركة الإسلامية, ص 87.

الفاررة الي الله
09-29-2008, 04:22 AM
إقامــــــــــة الدولـــــــــــة
تمهيد:
من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم وصول أهل التوحيد والإيمان الصحيح إلى سُدَّة الحكم وتوليهم لمقاليد الدولة, لقد تحدث القرآن الكريم عمن قادوا دولاً وساسوا شعوبًا بشرع الله, من أمثال داود وسليمان عليهما السلام, والحاكم المؤمن والفاتح الصالح, والقائد العادل (ذي القرنين) وجعلهم قدوة ومثلاً رائعًا لأهل الإيمان على مر الدهور وكر العصور وتوالي الأزمان, وسلط القرآن الكريم الأضواء على جوانب هامة من أعمالهم وجهادهم العظيم الذي استهدفوا به التمكين لمثل عليا, ومبادئ رفيعة, وقيم سامية, وأخلاق فاضلة انبثقت من الإيمان بالله واليوم الآخر, بعيدة كل البعد عن الكبرياء الوطنية, والأمجاد القومية, والنزعات العرقية, وتقديس التراب والزعماء, ولم تكن فتوحاتهم وأعمالهم المجيدة تستهدف سيادة عسكرية أو مغانم اقتصادية, أو تطلعات توسعية أو نزوات عنصرية التي يبعث عليها حب التسلط والرغبة في العلو.
إنما خاضوا حروبًا وقادوا جيوشًا استهدفت كرامة الإنسان وتخليصه من الشرك والأوهام والانحرافات العقدية, وإزالة الظلم عن البشر وإقامة العدل, ودعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة, والمنهج السليم, والتصور الرباني.
وكان للنبي eوالخلفاء من بعده حظ وافر من هذا النوع من التمكين نحاول أن نسلط الأضواء في هذا الفصل على بعض معالمه, وسنعرج على التاريخ الإسلامي القديم والحديث لنضرب بعض الأمثلة الحية بإذن الله تعالى لنستخرج الدروس والعبر من هذه الدراسة المتواضعة.

الفاررة الي الله
09-29-2008, 04:25 AM
الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام
أولاً: داود عليه السلام:
يبدأ العصر الذهبي لبني إسرائيل مع ظهور داود عليه السلام في القتال عندما أكرمه الله تعالى بقتل جالوت, وبيّن القرآن الكريم أن داود عليه السلام كان مجاهدًا في جيش طالوت, وممن نجحوا في الامتحان العسير الذي قرر رئيس الجيش أن يخوضه جميع جنوده فسقط من سقط ونجح من نجح.
لقد رفع داود عليه السلام راية النصر وشرع في إعادة التمكين لبني إسرائيل بعد قتله لجالوت, وكان إذ ذاك فتى, وتم له الظفر, فالتقت على محبته القلوب, وتأكدت له أواصر الإخلاص, وأصبح بين عشية وضحاها حديث بني إسرائيل, يكنون له في نفوسهم الاحترام والمحبة والتوقير, ومنذ ذلك الحين بدأ نجمه يصعد في السماء وينتقل من ظفر إلى ظفر, ويجيئه النصر يتبعه النصر, حتى ولى الملك أخيرًا, وأصبح ذا سلطان وظهرت ملامح الحكم في زمنه في عدله وحكمه, وكان أوابًا رجاعًا إلى ربه بالطاعة والعبادة والذكر والاستغفار.
لقد كان منهج التغيير في زمن داود عليه السلام هو الصراع المسلح بين قوى الخير والشر, والإيمان والكفر, والهدى والضلال, وبالفعل تم دمغ الباطل وإضعافه ووصل بنو إسرائيل إلى قمة مجدهم وعزهم.
إن داود عليه السلام شدّ ملكه بالتسبيح والذكر والطاعة, فكان عليه السلام يسبح بالعشي والإشراق, وتجاوبت الجبال مع ذكره العذب الجميل, وكذلك تجاوبت الطيور, قال تعالى: *إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ" [ص:18], فوهبه الله هبة عظمى ذكرها في كتابه عَزَّ وجل: *وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ" [ص:20], أي جعلنا له ملكًا كاملاً من جميع الملوك العظماء, بحيث لا يتمكن منه أعداؤه لكثرة جيوشه, وكثافة حراسه التي قيل إنهم كانوا ألوفًا كثيرة يتناوبون في حراسته, ولم ينكسر له جيش في معركة أبدًا, فقد كان مؤيدًا بعون الله ونصره([1] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn1)), قال تعالى: *اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ" [ص:17].
أ- إن المتأمل في القرآن الكريم في قصة داود عليه السلام يتعرف على صفات الحاكم المؤمن الذي مكن الله له, وهي تحقق للقائد المصلح كمال السعادة في الدنيا والآخرة.
ومن أهم هذه الصفات:
1- الصبر: فقد أمر الله تعالى نبينا محمدًا eعلى جلالة قدره بأن يقتدي به في الصبر على طاعة الله.
2- العبودية: فقد وصفه ربه بقوله *عَبْدَنَا" وعبر عن نفسه بصيغة الجميع للتعظيم, والوصف بالعبودية لله غاية التشريف, كوصف محمد e بها ليلة المعراج: *سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ" [الإسراء:1].
وكان النبي e إذا ذكر داود عليه السلام وحدث عنه بيَّن فضله واجتهاده في العبادة, قال e:«إن أحب الصيام إلى الله صيام داود, وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام, كان ينام نصف الليل, ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا»([2] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn2)).
3- القوة على أداء الطاعة والاحتراز عن المعاصي في قوله: *ذَا الأيْدِ".
4- والرجّاع إلى الله بالطاعة في أموره كلها, في قوله تعالى: *إِنَّهُ أَوَّابٌ", وصف بالقوة على طاعة الله, وبأنه أواب دليل على كمال معرفته بالله التي جعلته يجتهد في العبادة على نهج رباني صحيح.
5- تسبيح الجبال والطيور معه: *إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ` وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ" [ص:19،18].
أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار, كما قال عز وجلَّ: *يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ" [سبأ:10].
قال ابن كثير: «وكذلك الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه إذا مر به الطير, وهو سابح في الهواء, فسمعه, وهو يترنم بقراءة الزبور, لا يستطيع الذهاب, بل يقف في الهواء ويسبح معه, وتجيبه الجبال الشامخات, وترجع معه, وتسبح تبعًا له»([3] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn3)).
6- قوة الملك: *وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ" [ص:20], أي قوينا ملكه بالجند أو الحرس, وجعلنا له ملكًا كاملاً من جميع ما يحتاج إليه الملوك.
7- الحكمة: *وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ" [ص:20], أعطيناه الفهم والعقل والفطنة, والعلم, والعدل, وإتقان العمل, والحكم بالصواب.
8- حسن الفصل في الخصومات: *وَفَصْلَ الْخِطَابِ" [ص:20], أي: وألهمناه حسن الفصل في القضاء بإحقاق الحق وإبطال الباطل, وإيجاز البيان بجعل المعنى الكثير في
اللفظ القليل([4] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn4)).
وكان من الطبيعي في سنن الله تعالى أن يتعرض داود عليه السلام للفتنة والابتلاء وكانت عين الله ترعاه, وتقود خطاه, وكانت يد الله معه تكشف له ضعفه وخطأه وتحميه من خطر الطريق وتعلمه كيف يتوقاه. قال تعالى: *وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ` إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ` إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ` قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ" [ص:21-24].
وبيان هذه الفتنة أن داود النبي الملك, كان يخصص بعض وقته للتصرف في شئون الملك, وللقضاء بين الناس, ويخصص البعض الآخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيده تسبيحًا لله في المحراب, وكان إذا دخل المحراب للعبادة والخلوة لم يدخل إليه حتى يخرج إلى الناس.
وفي ذات يوم فوجئ بشخصين يَتَسوران المحراب المُغلق عليه ففزع منهما. قالا: لا تخف نحن خصمان بغى بعضنا على بعض, وجئنا للتقاضي أمامك, ونطلب منك أن تحكم بالحق والعدل وتبتعد عن الشطط وتدلنا على الصواب, وبدأ أحدهما فعرض خصومته بطريقة توحي بأن أحدهما وقع في ظلم صارخ, فاندفع داود عليه السلام دون السماع إلى حجة الخصم الآخر وأصدر حكمه, وبعد الانتهاء من إصدار الحكم تنبه داود عليه السلام بأنه لم يتثبت, فربما كان صاحب النعجة الواحدة هو الظالم, فأيقن إنما الحادثة اختبار من الله تعالى فرجع إلى طبيعته واستغفر ربه وخر راكعًا وأناب([5] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn5)), لقد خاضت بعض التفاسير في هذه الحادثة بسبب التأثر بالإسرائيليات ونسبت لداود عليه السلام ما يتنافى مع عصمته.
إن علماء أهل السنة يجمعون على أن الأنبياء معصومون عن الكبائر([6] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn6)).
وقد ذكر العلامة السعدي -رحمه الله- فوائد عظيمة وحكمًا جزيلة من قصة داود عليه السلام, فقال:
1- ومنها أي الفوائد: اعتناء الله تعالى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الخلل بفتنته إياهم, وابتلائهم بما به يزول عنهم المحذور, ويعودون إلى أكمل من حالتهم الأولى, كما جرى لداود عليه السلام.
2- ومنها: أن الأنبياء معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن الله تعالى, لأن مقصود الرسالة لا يحصل إلا بذلك.
3- ومنها: أن داود عليه السلام كان في أغلب أحواله ملازمًا محرابه, لخدمة ربه, ولهذا تسور الخصمان عليه المحراب, لأنه كان إذا خلا في محرابه, لا يأتيه أحد؛ فلم يجعل كل وقته للناس مع كثرة ما يرد عليه من الأحكام, بل جعل له وقتًا, يخلو فيه بربه, وتقر عينه بعبادته, وتعينه على الإخلاص في جميع أموره.
4- ومنها: أنه ينبغي استعمال الأدب في الدخول على الحكام وغيرهم, فإن الخصمين لما دخلا على داود في حالة غير معتادة, ومن غير الباب المعهود, فزع منهم واشتد عليه ذلك, ورآه غير لائق بالحال.
5- ومنها: أنه لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم وفعله ما لا ينبغي.
6- ومنها: كمال حلم داود عليه السلام, فإنه ما غضب عليهما, حين جاءاه بغير استئذان, وهو الملك, ولا انتهرهما, ولا وبخهما.
7- ومنها: جواز قول المظلوم لمن ظلمه: «أنت ظلمتني», أو: يا ظالم أو باغ عليَّ ونحو ذلك؛ لقولهما: *خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ".
8- ومنها: أن الموعوظ والمنصوح ولو كان كبير القدر, جليل العلم, إذا نصحه أحد, أو وعظه, لا يغضب, ولا يشمئز, بل يبادره بالقبول والشكر.
9- ومنها: أن المخالطة بين الأقارب والأصحاب, وكثرة التعلقات الدنيوية المالية, موجبة للتعادي بينهم, وبغي بعضهم على بعض, وأنه لا يرد عن ذلك إلا استعمال تقوى الله, والصبر على الأمور بالإيمان والعمل الصالح.
10- ومنها: أن الاستغفار والعبادة خصوصًا الصلاة, مكفرات للذنوب, فإن الله رتب مغفرة ذنب داود, على استغفاره وسجوده([7] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn7)).
ب- استخلاف الله تعالى لداود عليه السلام:
قال تعالى: *يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" [ص:26].
خاطب الله تعالى داود عليه السلام بأن جعله حاكمًا بين الناس في الأرض, فله الحكم والسلطة, وعليهم السمع والطاعة, ثم بين الله تعالى له قواعد الحكم تعليمًا لغيره من الناس.
1- *فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ" أي فاقض بين الناس بالعدل الذي قامت به السموات والأرض, وهذه أولى وأهم قواعد الحكم.
2- *وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى" أي لا تمل في الحكم مع أهواء نفسك أو بسبب مطامع الدنيا, فإن اتباع الهوى مزلقة ومدعاة إلى النار, لذا قال: *فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ" أي أن اتباع الهوى سبب في الوقوع في الضلال والانحراف عن جادة الحق, وعاقبته الخذلان, قال تعالى: *إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ".
أي أن الذين يتنكبون طريق الحق والعدل, لهم عقاب شديد يوم القيامة والحساب الأخروي, بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم, وما فيه من حساب شديد دقيق لكل إنسان, وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم, ومنه القضاء بالعدل.
والعبرة من هذا الموضوع: الوصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق, ولا يحيدوا عنه, فيضلوا عن سبيل الله, وقد توعد الله من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والحساب الشديد([8] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn8)).
إن الآية الكريمة تبين أن الحكم بين الناس, مرتبة دينية, تولاها رسل الله, وخواص خلقه, وأن وظيفة القائم بها الحكم بالحق, ومجانبة الهوى, فالحكم بالحق يقتضي العلم بالأمور الشرعية, والعلم بصورة القضية المحكوم بها, وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي, فالجاهل بأحد الأمرين لا يصلح للحكم, ولا يحل له الإقدام عليه, وتبين كذلك أن الحاكم ينبغي له أن يحذر الهوى, ويجعله منه على بال, فإن النفوس لا تخلو منه؛ بل يجاهد نفسه, بأن يكون الحق مقصوده([9] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn9)).
ج- هبة من الله تعالى مباركة وفتح وإلهام:
إن داود عليه السلام كان له كثير من الأبناء والأولاد إلا أن الله خصه بالابن الصالح النبي الملك سليمان عليه السلام, وأثنى الله عليه في كتابه بكونه أوابًا إلى الله عزَّ وجلَّ, كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل في أكثر الأوقات, ومن مزيد فضل الله على عبده داود أن وهبه سليمان الذي ورث عنه الملك والنبوة.
قال تعالى: *وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ" [ص:30].
لقد أكرم الله تعالى سليمان عليه السلام بالملك والنبوة وأعطاه الفهم الثاقب,
والرأي السديد, ورجاحة العقل.
ومما يدلنا على ذلك قوله تعالى:
*وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ` فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا" [الأنبياء: 78, 79].
إن الآيات الكريمة تبين قصة زرع رعته ليلاً غنم لآخرين, وكان الله عليمًا شاهدًا بما حكم به داود وسليمان, لا تخفى عليه خافية, ولكنه تعالى أفهم سليمان القضية والحكمة والفتوى الصحيحة الراجحة فكان رأيه هو الأصوب, مع أنه سبحانه آتى كلاً من داود وسليمان النبوة وحسن الفصل في الخصومات والعلم والفهم والإدراك السليم للأمور, مما يدل على إقرار الحكمين في الجملة, وعلى أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه, وإن كان الصواب واحدًا, وهو ما قضى به سليمان, ودل قوله: *فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ" على إظهار ما تفضل الله عليه به في صغره([10] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn10)).
لقد استنبط العلماء من هذه الآيات كثيرًا من المسائل المهمة نذكر بعضها:
1- في هذه الآية دليل على جواز رجوع القاضي عما حكم به, إذا تبين له أن الحق في غيره, فقد رجع داود إلى حكم سليمان عليهما السلام.
2- يرى كثير من الفقهاء أن الحق واحد في أقوال المجتهدين, وليس الحق أو الصواب في جميع أقوالهم, بدليل قوله تعالى: *فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ" فخص سليمان بالفهم, ولو كان الكل مصيبًا لم يكون لتخصيص سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة([11] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn11)).
د- ابتكار في صناعة الأسلحة:
قال تعالى: *وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ"
[الأنبياء:80].
كان داود عليه السلام أول من اتخذ الدروع وصنعها, وتعلمها الناس منه, وإنما كانت صفائح, فهو أول من سردها وحلقها, فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام أبد الدهر, فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة.
وذلك يقتضي الشكر, لذا قال تعالى: *فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ" أي على تيسير نعمة الدروع لكم, وأن تطيعوا رسول الله e فيما أمر به, والمراد: اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه النعمة.
وهذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب, فالسبب سنة الله في خلقه, وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف, واتخاذ الحرفة كرامة, وهذه الآية فيها إشارة لحث أهل الإيمان على العمل والإبداع والأخذ بأسباب النصر على الأعداء, ومحاربة الفساد بإعداد الجيوش مقودة بقيم الإيمان وتعاليم الرحمن, وشريعة الديان.
قوله تعالى: *وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ` أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" [سبأ: 11،10], وكانت هذه هبة الله فوق الملك والسلطان, مع النبوة والاستخلاص, إن الله تعالى أنعم على عبده داود بتسييل الحديد له أو تعليمه كيف يسيل الحديد الذي هو مادة الإعمار والبناء والتصنيع, ولا شك في خطورة مادة الحديد في صناعة الحضارات وبناء الدول وفي حسم انتصارات الجيوش.
يقول الدكتور عماد الدين خليل: وفي سورة الحديد نقرأ هذه الآية: *لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحديد:25]. هل ثمة أكثر دلالة على ارتباط المسلم بالأرض من تسمية سورة كاملة باسم خام من أهم وأخطر خاماتها؟ هل ثمة أكثر إقناعًا لنزعة التحضير والإبداع والبناء, التي جاء الإسلام لكي يجعلها جزءًا أساسيًا من أخلاقيات الإيمان وسلوكياته في قلب العالم, من هذه الآية التي تعرض خام الحديد كنعمة كبيرة أنزلها الله لعباده, وتعرض معها المسألة في طرفيها اللذين يتمخضان دومًا عن الحديد (البأس الشديد) متمثلاً باستخدام الحديد كأساس للتسلح والإعداد العسكري, و(المنافع) التي يمكن أن يحظى بها الإنسان من هذه المادة الخام في كل مجالات نشاطه وبنائه (السلمي)؟ وهل ثمة حاجة للتأكيد على الأهمية المتزايدة للحديد بمرور الزمن, في مسائل السلم والحرب, وأنه غدا في عصرنا الراهن هذا وسيلة من أهم الوسائل في ميادين القوى الدولية سلمًا وحربًا؟
إن الدولة المعاصرة التي تملك خام الحديد تستطيع أن ترهب أعداءها بما يتيحه لها هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل.. وتستطيع -أيضًا- أن تخطو خطوات واسعة لكي تقف في مصاف الدول الصناعية العظمى التي يشكل الحديد العمود الفقري لصناعاتها وغناها([12] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn12)).
إن الله سبحانه وتعالى منح الحديد لداود عليه السلام, وعلمه كيف يلينه, لأن الفائدة تتحقق بوجود الخام والقدرة على تشكيله, ولا شك أن ذلك ساعد على بناء حضارة عظيمة جمعت بين المنهج الرباني والتطور العمراني والصناعي.. إلخ.
وإذا تأملنا في آية الحديد نجد تداخلاً عميقًا وارتباطًا وثيقًا بين آية الحديد, وإرسال الرسل وإنزال الكتب معهم, وإقامة الموازين الدقيقة لنشر العدل بين الناس, وبين إنزال الحديد الذي يحمل في طياته (البأس), ثم التأكيد على أن هذا كله إنما يجئ لكي يعلم الله *مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ" و *إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ".
إن المسلم الرباني لن تحميه بعد قدرة الله إلا يده المؤمنة التي تعرف كيف تبحث عن الحديد وتشكله وتستخدمه من أجل حماية العقيدة والتقدم بهذا الدين, وتحقيق النصر للمؤمنين, وإقامة دولة تحكمها شريعة رب العالمين, إن قول الله تعالى: *وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ" فيه إشارة إلى أهمية هذا الخام وتوظيفه لخدمة الإسلام.
ثانيًا: فقه التمكين عند سليمان:
تسلم سليمان عليه السلام قيادة الدولة القوية التي أسست على الإيمان والتوحيد وتقوى الله تعالى, لقد أوتي سليمان عليه السلام الملك الواسع والسلطان العظيم بحيث لم يؤت أحد مثلما أوتي, ولكنه أعطى قبل ذلك عطاء أعظم وأكرم, هيأه لأن يكون شخصية فريدة متميزة في التاريخ, لقد أعطي النبوة, ومُنح العلم وأوتي الحكمة, وذلك مثلما أعطي أبوه من قبل, قال تعالى: *وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ` وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ" [النمل: 16،15].
إن سليمان عليه السلام لم يرث عن أبيه مالاً أو دارًا أو عقارًا, وإنما ورث عنه العلم والحكمة وورث النبوة والحكم, وأعطاه الله تعالى نعمًا وهبات خاصة به لم يعطها أحدًا بعده فقد سأل الله عزَّ وجل أن يخصه بعطاء لا يصل إليه أحد, وقال: *رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ" [ص:35], يعني: أعطني ملكًا لا يكون لأحد من البشر من بعدي مثله([13] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn13)).
وإننا ونحن نمضي مع ما يحكيه القرآن عن سليمان عليه السلام, فإننا نعيش مع أنصع الصفحات المشرقة من عصور بني إسرائيل الذهبية أيام كانوا على الدين الصحيح.
يحدثنا القرآن أنه عليه السلام أقام مملكته على أسس من الإيمان بالله والإسلام له, ولهذا اعتبر سليمان مُلكه مفخرة عن ملك بلقيس ليس لامتداده وسعته وتفوقه فحسب, ولكن لأن ملك سليمان قام على العلم وأسس على الإيمان فقال: *وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ` وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ"[النمل: 43،42].
وإننا لنلمح من خلال القرآن أن دولة سليمان عليه السلام كانت مفعمة بالحيوية, مائجة بالحركة, وكان عليه السلام قائمًا بواجب العبودية إلى جانب القيام بمهام الملك ومسئوليات الحكام وإعمار الدنيا بطاعة الله, حتى دانت له الأرض جميعًا, وجاء على المعمورة وقت لم يكن فيها لسليمان ندٌّ منازع في الحكم والملك ولا شبيه مماثل في العلم والحكمة.
لقد تحدثت الآيات الكريمة عن صفات وأحوال سليمان الحكيم, فهي صفات وأحوال تحكي مواقف حاكم مسئول عن إدارة شئون الأرض, لما عليها من مخلوقات, فهل كانت هذه المسئوليات الهائلة التي تكاد تتصور في عصرنا, هل كانت عقبة أمام سليمان في سلك المنهاج القيم للحكم, والطريق الناجح في الإدارة؟ بالقطع لا. بل كان عليه السلام يدير هذه المملكة الشاسعة أحسن ما يدير الفرد شئونه مع أسرته في
بيته الصغير.
ومن خلال هذا السياق القرآني لسيرة سيدنا سليمان عليه السلام نستخلص دروسًا وعبرًا في كيفية المحافظة على دولة الإيمان, وما وظائفها في الحياة, وما هي وسائل قوتها.
إن قصة سليمان عليه السلام وردت في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع, في سورة النمل وص وسبأ, وكانت الآيات الكريمة في سورة النمل تتحدث عن حلقة من حلقات حياة سليمان عليه السلام؛ حلقة قصته مع الهدهد وملكة سبأ, يمهد لها السياق القرآني بما يعلنه سليمان على الناس من تعليم الله له منطق الطير, وإعطائه من كل شيء, وشكره لله على فضله المبين, ثم مشهد موكبه مع الجن والإنس, والطير, وتحذير نملة لقومها من هذا الموكب, وإدراك سليمان لمقالة النملة, وشكره لربه على فضله, وإدراكه أن النعمة ابتلاء, وطلبه من ربه أن يجمعه على الشكر والنجاح في هذا الابتلاء, لقد أشارت الآيات الكريمة إلى بداية التمكين, ومظاهر التمكين, وكيفية المحافظة على التمكين, وصفات القيادة الربانية الممكن لها.
أ- بداية التمكين:
بدأ التمكين بتلك الإشارة: *وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً" وقبل أن تنتهي الآية يجئ شكر داود وسليمان على هذه النعمة, وإعلان قيمتها وقدرها العظيم, فتبرز قيمة العلم, وعظمة المنة به من الله على العباد, وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد الله المؤمنين, ولا يذكر هنا نوع العلم وموضوعه؛ لأن جنس العلم هو المقصود بالإبراز والإظهار, وللإيحاء بأن العلم كله هبة من الله, وبأن اللائق بكل ذي علم أن يعرف مصدره, وأن يتوجه إلى الله بالحمد عليه, وأن ينفقه فيما يرضي الله الذي أنعم به وأعطاه, فلا يكون العلم مُبعدًا لصاحبه عن الله, ولا منسيًا له إياه, وهو بعض مننه وعطاياه وبعد الإشارة إلى الإنعام بمنة العلم على داود وسليمان, وحمدهما لله ربهما على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها يفرد سليمان بالحديث: *وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ" [النمل:16].
ب- مظاهر التمكين في دولة سليمان عليه السلام:
إن الله تعالى أنعم على عبده داود عليه السلام بالنبوة والملك, ثم ورثه ابنه سليمان عليه السلام, ومكن الله له من الملك والدولة, وأعطاه من النعائم ومظاهر الملك والعز والسلطة بحيث لا ينبغي لأحد من بعده أن يصل إلى ما وصل إليه, قال تعالى: *وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ` يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ"[سبأ:13،12].
ومن خلال الآيات السابقة في سورة النمل وهذه الآيات التي في سورة سبأ يمكننا أن نلخص مظاهر التمكين لسليمان عليه السلام في الآتي:
1- ورثه الله الملك عن أبيه كما أعطاه النبوة, فكان ملكًا جمع الشرفين: النبوة والملك.
2- علمه الله منطق الطير وأعطاه قدرة التحدث مع مخلوقات الله مثل النمل, قال تعالى: *وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ" [النمل:16] وقال تعالى: *حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ` فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" [النمل:19،18].
3- آتاه الله الحكمة على حداثة سنه, ويشهد لذلك ما أوردنا من بعض القصص التي حكم فيها بحكم أقره القرآن الكريم عليه, قال تعالى: *وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ` فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا" [الأنبياء: 79،78].
4- سخر الله تعالى له الريح فكانت تنقله إلى أي أطراف الدنيا شاء, وتقطع به المسافات الشاسعة البعيدة في ساعات معدودات, قال تعالى: *وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ" [سبأ:12]. (والمعنى أنها تقطع به من الصباح إلى الظهر مسيرة شهر, ومن الظهر إلى المساء مسيرة شهر, فتقطع به في النهار الواحد مسيرة شهرين, وفق مصلحة تحصل من غدوها ورواحها, يدركها سليمان, ويحققها أمر الله..) ([14] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn14)).
5- سخر الله تعالى له من الجن ومردة الشياطين, يغوصون له في البحار لاستخراج الجواهر واللآلئ, ويعملون له الأعمال التي يعجز عنها البشر كبناء القصور العالية والمحاريب في أماكن العبادة, والتماثيل والصور من نحاس وخشب وغيره, والجوابي جمع جابية وهي الحوض الذي نجبي به الماء, وقد كانت الجن تصنع لسليمان جفانًا كبيرة للطعام تشبه الجوابي, وتصنع له قدورًا ضخمة للطبخ راسية لضخامتها, قال تعالى: *وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ` يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ" [سبأ:13،12].
6- أسال الله له عين القطر -وهو النحاس المذاب- فكان النحاس يتدفق له
مذابًا من عين خاصة كتدفق الماء, فيصنع منه ما شاء, قال تعالى: *وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ
الْقِطْرِ" [سبأ:12].
وكان النحاس وقتها عنصر الحضارة ومادة التقدم ومظهر الأبهة والعظمة في الجيوش والحراسات والبنايات, وظل سليمان عليه السلام -الملك الجاد- يسعى في إعمار الدنيا بطاعة الله, حتى دانت له الأرض جميعًا, وجاء على المعمورة وقت لم يكن فيها لسليمان ندُّ في الحكم والملك ولا شبيه مماثل في العلم والحكمة([15] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn15)).
7- كان جنده مؤلفًا من الإنس والجن والطير, وقد نظم لهم أعمالهم ورتب لهم شئونهم, فإذا خرج خرجوا معه في موكب حافل, يحيط به الجند والخدم من كل جانب, فالإنس والجن يسيرون معه في موكب حافل, والطير تظله بأجنحتها من الحر والشمس([16] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn16)).
هذه هي أبرز مظاهر التمكين في زمن حكم سليمان عليه السلام, ويظهر إكرام الله له في قوله تعالى: *هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [ص:39].
وذلك زيادة في الإكرام والمنة, ثم زاد على هذا كله أن له عند ربه قُربى في الدنيا وحسن مآب في الآخرة: *وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ" [ص:40].
ج- فقه سليمان عليه السلام في إدارة الدولة:
إن القصص القرآني في سيرة سليمان عليه السلام أشار إلى أساليبه في إدارة الدولة والمحافظة على التمكين, وأهم هذا الفقه يظهر في النقاط الآتية:
1- دوام المباشرة لأحوال الرعية, وتفقد أمورها, والتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعاتها, فهذا كان حال سليمان عليه السلام: *وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ" [النمل:20] وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك, والاهتمام بكل جزء فيه والرعاية بكل واحدة فيها وخاصة الضعفاء([17] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn17)).
ولا شك أن القيادة تحتاج إلى لجان ومؤسسات وأجهزة حتى تستطيع أن تقوم بهذه المهمة العظيمة, إن سليمان عليه السلام كان مهتمًا بمتابعة الجند وأصحاب الأعمال وخاصة إذا رابه شيء في أحوالهم, فسليمان عليه السلام, لما لم ير الهدهد بادر بالسؤال: *مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ" [النمل:20] يعني (أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له) ([18] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn18)), ثم قال: *أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ" [النمل:20] سؤال آخر ينم عن حزم في السؤال بعد الترفق, فسليمان عليه السلام أراد أن يفهم منه أنه يسأل عن الغائب لا عن شفقة فقط ولكن عن جد وشدة, إذا لم يكن الغيب بعذر([19] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn19)).
2- لابد للدولة من قوانين حتى تضبط الأمور بحيث يعاقب المسئ, ويحسن للمحسن, ولابد من مراعاة التدرج في تقرير العقوبة, وأن تكون على قدر الخطأ وحجم الجرم, وهذا عين العدالة, ولهذا لم يقطع سليمان عليه السلام بقرار واحد في العقاب عند ثبوت الخطأ؛ بل جعله متوقفًا على حجم الخطأ: *لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ" [النمل:21] وقد استدل أهل العلم بهذه الآية على أن العقاب على قدر الذنب, وعلى الترقي من الشدة إلى الأشد بقدر ما يحتاجه إلى إصلاح الخلل([20] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn20)).
3- لابد للدولة المسلمة أن تهتم بالأجهزة الأمنية وتحرص أشد الحرص على الاهتمام بالأخبار والمعلومات حتى توظف لخدمة الدين, وعقيدة التوحيد, ونشر المبادئ السامية, والأهداف النبيلة, والمثل العليا, وأن تحرص على تحبيب الجهاد لأبنائها بواسطة الأجهزة الإعلامية والوسائل التربوية, وأن تهيئ النفوس للظروف المناسبة لإقامتها
للدين وإعلاء لكلمة الله, وهكذا كان شأن سليمان عليه السلام-كما قال القرطبي
-رحمه الله-: «فإنما صار صدق الهدهد عذرًا له, لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد, وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد»([21] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn21)).
4- لابد للقيادة في الدولة المسلمة أن تهتم بنصر دعوة التوحيد, وبذل الوسع في تبليغها لكل مكلف, فإن سليمان عليه السلام لما استمع إلى خبر القوم المشركين شمر عن ساعد الجد في إيصال البلاغ إليهم, وبدأ معهم بالحجة والبيان: *اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ" [النمل:28], قال القرطبي -رحمه الله-: «في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة ودعائهم إلى الإسلام, وقد كتب النبي  إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبار»([22] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn22)).
ومن المهم عرض الدعوة بعزة الإسلام وبشرف الإيمان وهيبة القرآن لا بتذلل واستخذاء, وعدم مداراة للناس في أمر الاستجابة لله, وترك مداهنتهم فيما يغضب الله, ولقد كان كتاب سليمان عليه السلام لملكة سبأ يبدأ بالرحمة, وتتخلله الكرامة, وآخره الدعوة إلى الاستجابة لله والاستسلام له سبحانه: *إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ` أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" [النمل: 31،30].
وعلى الدولة المسلمة أن تهتم بتعظيم اسم الله تعالى, والتشرف بذكره في المحافل والمناسبات والكتابات, فهذا شعار المؤمنين, وتنزيه هذا الاسم المقدس عما لا يليق به, والحفاظ عليه من جهل الجهال؛ ولذلك قدم سليمان عليه السلام اسمه, خوفًا من أن تتلفظ ملكة سبأ بكلمة لا تليق فيكون اسمه وقاية لاسم الله عزَّ وجلَّ ([23] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn23)).
وعلى الدولة المسلمة أن يكون خطابها الدعوي ملتزمًا بالجدية في دعوة الناس, وأن تراعي شمولية الإسلام, وتتوخى الاقتصار على المقصود منها, وهكذا كان خطاب سليمان عليه السلام: *إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ` أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" [النمل: 31،30].
فالمطلوب من الخلق إما العلم أو العمل, والعلم مقدم على العمل, فقوله: *بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" مشتمل على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وإثبات صفاته سبحانه, وقوله: *أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ" نهي عن الانقياد لغير الله عزَّ وجلَّ اتباعًا للهوى أو طاعة للنفس, وقوله: *وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" فيه الحث على الإيمان بالقلب والإسلام بالجوارح([24] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn24)).
وعلى القائمين بأمر الدعوة إلى الله أن يكونوا متعالين على حطام الدنيا, فعندما تعرض عليهم رشوة في الدين, أو رهانًا على المبدأ ليكن الشعار ما قال سليمان عليه السلام: *أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ" [النمل:36].
فملكة سبأ عندما عملت الحيلة لاختبار سليمان عليه السلام, وتفتق ذهنها عن بعث هدية له تمتحن بها حبه للدين, فأظهر عليه السلام عدم الاكتراث بهذا المال, وأعلم من جاءوا به أن الله تعالى آتاه الدين الذي هو السعادة القصوى, وآتاه من الدنيا ما لا مزيد عليه, فكيف يستمال مثله بمثل هذه الهدية؟! وصارحهم بأنهم هم الذين من شأنهم الفرح بتلك الهدية التي ظنوا أنه سيفرح بها, أما هو فلن يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف([25] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn25)).
5- المقدرة على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب للمكان المناسب, وعدم التردد في القرار الصعب للتغلب على الحال الأصعب, فعندما وجد سليمان عليه السلام, أن القوم ما زالوا على الشرك, بل يريدون استمالته وتنحيته عن صلاته في الحق, قال للوفد الذي جاء بالهدية: *ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ" [النمل:37].
ولا مانع من ركوب الشدة مع المعاند, واستعمال القوة في إرهاب من يصد عن الدعوة, فإن ذلك قد لا ينفع غيره في إنقاذ الناس من الشرك, بل من المعادن البشرية ما لا يلين إلا تحت وهج السيف وسنابك الخيل, وكان هذا الأسلوب سببًا في إسلام ملكة سبأ وانقيادها وجنوده لسليمان عليه السلام, ولا مانع من استعمال الذكاء والعقل النير, ودقة التدبير, في استجلاب قلوب المدعوين إلى الدين واستخدام نعم الله في دلالة الخلق على الله, ومخاطبة الناس بالكيفية التي تستهوي قلوب عوامهم وتجلب احترام خواصهم, فسليمان عليه السلام لما بلغه خبر مجئ ملكة سبأ في جمع من حاشيتها وجنودها, أراد أن يعلمها مدى ما أعطاه الله من قوة حتى إن عرشها الذي تركته في حماية عظيمة وحرس كثيف يسبقها إليه([26] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn26)).
6- وعلى الدولة المسلمة أن تستفيد من المهارات والمواهب وإمكانات الخاصة في أفراد الرعية, ووضع الفرد المناسب في مكانه الصحيح, إن مملكة سليمان كان فيها من الإنس والجن وغيرهم ما كان يمكن أن يؤدي مهمة الهدهد, ولكن سليمان اختاره مع ضعفه وصغره لتأدية هذه المهمة, فـ(تخصيصه عليه السلام إياه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف؛ لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة) ([27] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn27)).
د- أبرز صفات سليمان عليه السلام كحاكم لدولة:
إن الآيات الكريمة عرضت صفات سليمان عليه السلام كملك وحاكم ممكَّن له في الأرض, وفي هذا إشارة من الله تعالى إلى الصفات القيادية المطلوبة للإشراف على تمكين شرع الله تعالى:
1- الحزم: ويظهر ذلك عند القيادة إن غلب الظن أن هناك تقصيرًا, أو تكاسلاً
عن الحضور وقت الطلب أو التأخر وقت العمل: *لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ
لأَذْبَحَنَّهُ" [النمل:21] فإنه قد تبين لسليمان عليه السلام أن الهدهد غائب, فتهدد بذلك أمام الجمع الذي يعلم أن الهدهد غائب, حتى لا يكون غيابه -إن لم يؤخذ بالحزم- سابقة سيئة لبقية الجند([28] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn28)).
2- التريث والتأني قبل الحكم, فلعل للغائب عذرًا, أو للمقصر حجة تدفع الإثم, وترفع العقوبة, ولهذا قال سليمان بعدها: *أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ" [النمل:21] أي (بحجة تبين عذره في غيبته) ([29] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn29)), وهذا هو اللائق بالحاكم والقاضي إذا كان عادلاً, وسليمان عليه السلام الذي اشتهر بالعدالة هو وجنوده حتى عند النمل, لا ينتظر منه مع الهدهد, أو ما دونه أو ما فوقه, إلا أن يكون عادلاً لا يعاجل بالعقوبة قبل ثبوت الجريمة ولا يبادر إلى المؤاخذة قبل سماع الحجة.
3- سعة الصدر في الاستماع إلى اعتذار المعتذر, وحجة المتخلف, وسليمان عليه السلام أنصت لاسترسال الهدهد حتى انتهى من قوله, رغم أن فيه نوع معاتبة لسليمان, وفيه نسبة عدم الإحاطة إليه: *أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ ` إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ` وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ` أَلاَّ يَسْجُدُوا للهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ` اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" كل هذا وسليمان لا يقاطعه, ولا يكذبه, ولا يعنفه, حتى ينتهي من سرد الحجة, التي كانت مفاجأة ضخمة لسليمان عليه السلام.
4- قبول الاعتذار ممن يعتذر في الظاهر, وإيكال سريرته إلى الله تعالى, فسليمان عليه السلام سكت عن المؤاخذة وانتقل إلى تحري الخبر, قال القرطبي رحمه الله: (هذا دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته, ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم, لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه) ([30] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn30)).
5- التروي في تصديق الخبر؛ فهذا الذي حكاه الهدهد, أمر ليس بالسهل ولا باليسير, ثم إن الهدهد لا يجرؤ على اختلاق هذه القصة الطويلة, وهو يعلم تمكن سليمان من الرعية, ومقدرته على التأكد من صحة الأخبار, ومع ذلك لم يبادر عليه السلام إلى التصديق, كما أنه لم يتعجل التكذيب, بل قال: *سَنَنظُرُ" وهو من النظر, أو
التأمل والتحري([31] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn31)).
*سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ" يعني أصدقت في خبرك أم كذبت لتتخلص من الوعيد؟([32] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn32)).
6- عدم الاغترار بقوة النفس وكثرة الجند وسعة السلطان, وإسناد الفضل إلى الله في كل نعمة, وتجديد الشكر على هذه النعم, وسليمان عليه السلام لما طلب الإتيان بعرش بلقيس أجابته جنوده التي سخرها الله له مسارعين إلى الطاعة؛ فلما وجد سليمان طلبه مجابًا, وأمره مطاعًا سارع إلى ضبط النفس في سلك الخشية ومنهاج التواضع والطاعة لله رب العالمين: *فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ" [النمل:40] أي رأى العرش ثابتًا عنده: *قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي" أي هذا النصر والتمكين من فضل ربي ليختبرني أأشكر نعمته أم أكفرها, فإن من شكر لا يرجع نفع شكره إلا على نفسه حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد, ومن كفر النعم فإن الله غني عن شكره, كريم في عدم منع تفضله عنه([33] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn33)).
7- التواضع وهو في قمة المجد والتمكين: كان سليمان عليه السلام دائم التواضع حتى قيل إنه كان يمشي منكسر الرأس خشوعًا لله, وأثناء استعراضه لجنوده من الجن والإنس والطير, مر على وادي النمل, وفي نظرة التواضع إلى الأرض؛ أبصر نملة, فأشخص النظر صوبها, وأصاخ السمع إليها, وبما علم من منطق الطير والحيوان حاول أن يتفهم أمرها, لقد علم أنها تتخوف من بطش أقدام الجنود في ركب سليمان, لقد سمعها وفهم قولها: *قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ" [النمل:18]. نعم إنها كائن صغير في مملكة ضخمة عظيمة, تسعى كأخواتها للرزق, وتنصح لهم أن يفسحوا الطريق أمام ركب الملك العادل, حتى لا تقع مظلمة غير مقصودة من أحد منهم, قال القرطبي رحمه الله: (التفاتة مؤمن, أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا) ([34] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn34)).
إن هذه النملة لم تكن إلا واحدة من رعايا سليمان في مملكته التي ضمت إلى جانب الإنس والجن أنواعًا وألوانًا من الحيوان والطير والهوام.
لقد سمع كلامها وتفهم شكواها, فتبسم من قولها, فرق قلبه الكبير رفقًا لجرمها الصغير, فرحمها وأخواتها, وشكر ربه إذ علمه منطق هذه المخلوقات حتى يتمكن من إنصافها وإيصال العدل إليها, وسُرّ بأن عدالته وجنوده قد عرفها كل مخلوق, حتى مثل هذه النملة التي اعتذرت عنهم مقدمًا بأنهم إن أصابوا نملة بأقدامهم, فإن ذلك من غير قصد منهم ولا شعور([35] (ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftn35)).
*فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ" [النمل:19].
لقد أدرك سليمان عليه السلام أنه -في جنب الله- في حاجة إلى الرحمة والعطف واللطف أشد من حاجة هذه النملة إلى ذلك منه, ولهذا قال: *وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" [النمل:19].


[/URL]([1]) انظر: تفسير القرطبي (15/162).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref1)([2]) مسلم, كتاب الصيام, باب النهي عن صوم الدهر (2/816) رقم 189.

([3]) تفسير ابن كثير (4/29).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref3)([4]) انظر: تفسير المنير, وهبة الزحيلي (23/185،184،183).

([5]) انظر: قصص الرحمن في ظلال القرآن (4/36،35).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref5)([6]) انظر: تفسير المنير (23/190).

([7]) انظر: تفسير السعدي الذي اختصر في مجلد ص 559، 660.

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref7)([8]) انظر: تفسير المنير (23/188).

([9]) انظر: تفسير السعدي الذي جمع في مجلد واحد ص660.

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref9)([10]) انظر: تفسير المنير (17/106).

([11]) المصدر نفسه (17/105).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref11)([12]) التفسير الإسلامي للتاريخ, ص 222،221.

([13]) تفسير ابن كثير (4/40).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref13)([14]) في ظلال القرآن (5/2898).

([15]) انظر الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/587).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref15)([16]) انظر: دعوة سليمان عليه السلام, ص56،55.

([17]) انظر: تفسير القرطبي (13/177).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref17)([18]) تفسير الرازي (24/189).

([19]) (4) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/593).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref19)

([21]) تفسير القرطبي (13/189).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref21)([22]) المصدر نفسه (13/190).

([23]) المصدر نفسه (2/594).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref23)([24]) انظر: روح المعاني للألوسي (24/195).

([25]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/598).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref25)([26]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/598).

([27]) تفسير روح المعاني (9/193).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref27)([28]) انظر: في ظلال القرآن (5/2638).

([29]) تفسير القرطبي (13/180).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref29)([30]) المصدر نفسه (13/184).

([31]) تفسير الرازي (24/193).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref31)([32]) تفسير ابن كثير (3/349).

([33]) انظر الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/600).

(ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref33)([34]) تفسير القرطبي (13/170).

[URL="ada99:23 المبحث الأول تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.htm#_ftnref35"]([35]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/589).

الفاررة الي الله
10-09-2008, 11:47 PM
فقه التمكين عند ذي القرنين
أولاً: من هو ذو القرنين؟
اختلف المفسرون في اسم ذي القرنين ونسبه وزمان وجوده وسبب تلقيبه بذي القرنين, لقد تضاربت أقوالهم وآراؤهم, وتعارضت أدلتهم, واعتمد الكثير منهم على الإسرائيليات والخرافات والأساطير, والروايات الواهية, والأخبار الكاذبة.
وعندما طالعت الكتب التي تحدثت عن ذي القرنين([1] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn1)) خرجت بنتيجة وهي لا يمكننا الجزم بتحديد شخصية ذي القرنين, ولا تحديد رحلاته الثلاث التي أشار إليها القرآن الكريم, ولا تحديد السد الذي بناه على الكرة الأرضية.
إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لم يتعرضا إلى تلك التفصيلات, وبما أنهما سكتا عن المعلومات التفصيلية, فلا دلالة يقينية عليها.
ولذلك يكون كلام المفسرين وأهل التاريخ والعلماء عنها من باب الظن وليس من باب الجزم([2] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn2)).
لقد قالوا إن ذا القرنين: هو الإسكندر المقدوني اليوناني وذلك لأن البلاد التي استولى عليها الإسكندر امتدت إلى مشارق الأرض ومغاربها, وقيل هو قورش الإخميني, لإجماع المؤرخين على عدالة سيرته وحسن سيرته في الشعوب والممالك التي استولى عليها, وقيل إنه أبو كرب شمر بن عمرو الحميري, لقد ناقش الأستاذ محمد خير رمضان يوسف الأقوال السابقة وخرج بنتيجة أن ذا القرنين, لم يكن واحدًا من هؤلاء الثلاثة, ونقد الآراء السابقة نقدًا علميًا متينًا, ووصل إلى أن: (ذو القرنين القرآني الذي ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز, وأثنى عليه بالإيمان والإصلاح والعدل, في سورة قرآنية عظيمة, وآيات إعجازية جليلة, وقصة تاريخية نادرة, مليئة بالدروس والعبر, طافحة بالعظات والمبادئ والحكم.
إنه علم قرآني بارز.. خلد الله ذكره في كتابه الخالد, فاستحق أن ينال لقب القرآني وكفى, ولم أشأ أن أقول غير هذا لأنني لم أر من أعطى شخصية ذي القرنين حظها في التاريخ مثلما أعطى الله عز وجل في كتابه العظيم, إنه الرجل الطواف في الأرض, الصالح العادل, الخاشع لربه, والمنفذ لأمره, والقائم بين الناس بالإصلاح, والذي ملك أقاصي الدنيا وأطرافها, فلم يغره مال ولا منصب ولا جاه ولا قوة ولا سلطان, بل إنه بقى ذاكرًا لفضل ربه ورحمته, متأهبًا لليوم الآخر, ليلقى جزاءه العادل عند ربه.
ويكفي أن يبقى ذو القرنين ذلك الشخصية العظيمة في التاريخ, وذلك العلم البارز في العدل والإصلاح, والقيادة ومثال الحاكم الصالح, على مر التاريخ, وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, بشهادة الكتاب الخالد) ([3] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn3)).
إن القرآن الكريم اهتم بإخراج القيم الصحيحة في سيرة ذي القرنين وأعماله وأقواله مثل:
1- الحكم والسلطان والتمكين في الأرض ينبغي أن يسخر لتنفيذ شرع الله في الأرض وإقامة العدل بين العباد, وتيسير الأمر على المؤمنين المحسنين, وتضييق الخناق على الظالمين المعتدين ومنع الفساد والظلم وحماية الضعفاء من بطش المفسدين.
2- الرجال الأشداء ذوو الخبرات الفنية العالية في النواحي العسكرية والعمرانية والاقتصادية الذين كانوا طوع بنان ذي القرنين, وكذلك خضوع الأقاليم له وفتح الخزائن أمامه وتقديم خراج الشعوب له طواعية, كل ذلك لم يدخل في نفسه الغرور والبطر والطيش والغواية؛ بل بقى مثال الرجل المؤمن العفيف المترفع عن زينة الحياة الدنيا.
3- الاهتمام باتخاذ الأسباب لبلوغ الأهداف والغايات التي سعى إليها حيث آتاه الله من كل شيء سببًا فأتبع سببًا.
إن القرآن الكريم في قصة ذي القرنين وفي كل قصصه ركز على الدروس والعبر والحكم والسنن, ولم يهتم بكثير من القضايا التي لا تنفع الإنسان, ولذلك نجد في قصة ذي القرنين كثيرًا من المبهمات التي لا تفيد القارئ مثل: من هو ذو القرنين؟ وما شخصيته؟ وما حياته؟ وما الزمن الذي عاش فيه؟ والدولة التي حكمها, والحروب التي خاضها, والبلاد التي فتحها, ورحلته الأولى تجاه الغرب, وتحديد المنطقة التي وصل إليها, وتحديد المكان ذي العين الحمئة؟ وكيف وجد الشمس تغرب فيها, وأصل يأجوج ومأجوج, وتاريخهم, ومناطق سكنهم وإقامتهم بالضبط؟ وغير ذلك من التساؤلات([4] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn4)).
ثانيًا: معالم التمكين عند ذي القرنين:
أ- دستوره العادل:
إن المنهجية التي سار عليها ذو القرنين كحاكم مؤمن جعلته يلتزم بمعاني العدل المطلق في كل أحواله وسكناته, ولذلك سار في الناس والأمم والشعوب التي حكمها بسيرة العدل, فلم يعامل الأقوام التي تغلب عليها في حروبه بالظلم والجور والتعسف والتجبر والطغيان والبطش, وإنما عاملهم بهذا المنهج الرباني: *قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا ` وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا" [الكهف: 88،87].
وهذا المنهج الرباني الذي سار عليه يدل على إيمانه وتقواه, وعلى فطنته وذكائه, وعلى عدله ورحمته؛ لأن الناس الذين قهرهم وفتح بلادهم ليسوا على مستوى واحد, ولا على صفات واحدة, ولذلك لا يجوز أن يعاملوا جميعًا معاملة واحدة؛ فمنهم المؤمن ومنهم الكافر, ومنهم الصالح, ومنهم الطالح فهل يتساوون في المعاملة؟.
قال ذو القرنين: أما الظالم الكافر فسوف نعذبه لظلمه وكفره, وهذا التعذيب عقوبة له؛ فنحن عادلون في تعذيبه في الدنيا ثم مرده إلى خالقه لينال عذابه الأخروي.
إن الظالم والباغي الكافر في دستور ذي القرنين معذب مرتين؛ مرة في الدنيا على يديه, والأخرى يوم القيامة, حيث يعذبه الله عذابًا نكرًا, أما المؤمن الصالح فإنه مقرب من ذي القرنين, يجزيه الجزاء الحسن, ويكافئه المكافأة الطيبة, ويخاطبه بيسر وسهولة وإشراق وبر ومودة([5] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn5)), لقد كان ميزان العدالة في حكمه بين الناس, هو التقوى والإيمان والعمل الصالح, ودائمًا يتطلع إلى مقامات الإحسان.
ب- منهجه التربوي في الشعوب:
إن الله تعالى أوجب العقوبة الدنيوية على من ارتكب الفساد في المجتمع وكلف أهل الإيمان ممن مكن لهم في الأرض أن يحرصوا على تنفيذ العقوبات للمفسد والظالم لكي تستقيم الحياة في الدنيا.
إن ذا القرنين يقدم لكل مسئول أو حاكم أو قائد منهجًا أساسيًا, وطريقة عملية لتربية الشعوب على الاستقامة والسعي بها نحو العمل لتحقيق العبودية الكاملة لله تعالى, قال سيد قطب -رحمه الله-: (وهذا دستور الحاكم الصالح, فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم, والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء.. وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاءً حسنًا أو مكانًا كريمًا وعونًا وتيسيرًا, ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة, عندئذ يجد ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج, أما حين يضطرب ميزان الحكم, فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم, مقدمون في الدولة, وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون, فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة إفساد, ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد)([6] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn6)).
إن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجعل الحوافز المشجعة هدية للمحسن ليزداد في إحسانه, وتفجر طاقة الخير العاملة على زيادة الإحسان وتشعره بالاحترام والتقدير, وتأخذ على يد المسيء لتضرب على يده, حتى يترك الإساءة وتعمل على توسيع دوائر الخير والإحسان في أوساط المجتمع وتضييق حلقات الشر إلى أبعد حدود وفق قانون الثواب والعقاب المستمد من الواحد الديان.
جـ- اهتمامه بالعلوم المادية وتوظيفها للخير:
نلاحظ من الآيات القرآنية أن ذا القرنين وظّف علومًا عدة في دولته القوية ومن أهم هذه العلوم:
1- علم الجغرافيا حيث نجد أن ذا القرنين كان على علم بتقسيمات الأرض، وفجاجها وسبلها، ووديانها وجبالها وسهولها، لذلك استطاع أن يوظف هذا العلم في حركته مع جيوشه شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، ولا يخلو أن الأمر أن يكون في جيشه متخصصًا في هذا المجال. ([7] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn7))
2- كان صاحب خبرة ودراية بمختلف العلوم المتاحة في عصره، يدل على ذلك حسن اختياره للخامات، ومعرفته بخواصها، وإجلادته لاستعمالها والاستفادة منها، فقد استعمل المعادن على أحسن ما خلقت له، ووظف الإمكانات على خير ما أتيح له: *آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا" [الكهف: 96] أمرهم بأن يأتوه بقطع الحديد الضخمة، فآتوه إياها، فأخذ يبني شيئًا فشيئًا حتى جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في العلو، ثم قال للعمال: (انخفوا بالكير في القطع الحديدية الموضوعة بين الصدفين)([8] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn8)). فلما تم ذلك وصارت النار عظيمة قال للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها: آتوني نحاسًا مذابًا أفرغه عليه فيصير مضاعف القوة والصلابة، وهي طريقة استخدمت حديثًا في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته([9] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn9)).
3- كان واقعيًا في قياسه للأمور وتدبيره لها، فقد قدر حجم الخطر، وقدر ما يحتاجه من علاج، فلم يجعل السور من الحجارة، فضلاً عن الطين واللبن، حتى لا يعود منهارًا لأدنى عارض، أو في أول هجوم، ولهذا باءت محاولات القوم المفسدين بالفشل عندما حاولوا التغلب على ما قهرهم به ذو القرنين: *فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا" [الكهف:97], أي لم يتمكنوا من اعتلائه لارتفاعه وملاسته, وما استطاعوا أن يثقبوه لصلابته وثخانته([10] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn10)).
لقد كان ذو القرنين على علم بأخبار الغيب التي جاءت به الشرائع, ومع ذلك لم يتخذ من الأقدار تكأة لتبرير القعود والهوان, فقد بنى السد وبذل فيه الجهد, مع علمه بأن له أجلاً سوف ينهدم فيه لا يعلمه إلا الله.
ثالثًا: أخلاقه القيادية وفقهه في إحياء الشعوب:
أ- أخلاقه القيادية:
إن شخصية ذي القرنين تميزت بأخلاق رفيعة ساعدته على تحقيق رسالته الدعوية والجهادية في الحياة ومن أهم هذه الأخلاق:
1- الصبر: كان جلدًا صابرًا على مشاق الرحلات؛ فمثلاً تلك الحملات التي كان يقوم بها تحتاج إلى جهود جبارة في التنظيم والنقل والتحرك والتأمين, فالأعمال التي كان يعملها تحتاج إلى جيوش ضخمة, وإلى عقلية يقظة, وذكاء وقاد, وصبر عظيم وآلات ضخمة وأسباب معينة على الفتح والنصر والتملك([11] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn11)).
2- كانت له مهابة ونجابة: يستشعرها من يراه لأول مرة, فلا يخطئ ظنه عندما يوقن أنه ليس بملك جبار ولا ظالم, فعندما بلغ بين السدين ووجد القوم المستضعفين, استأنسوا به, ووجدوا فيه مخلصًا من الظلم والقهر الواقع عليهم فبادروه بسؤال المعونة؛ فمن الذي أدراهم بأنه لن يكون مفسدًا مثلهم, ومعه من القوة والعدة ما ليس مثلهم([12] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn12)).
3- الشجاعة: كان قوي القلب جسورًا غير هيّاب من التبعات الضخمة والمسئوليات العظيمة إذا كان في ذلك مرضاة الله سبحانه, فإن ما طلب من إقامة السد, كان عملاً عظيمًا في ذاته, حيث إن القوم المفسدين كانوا من الممكن أن يوجهوا إفسادهم إليه وإلى جنوده, ولكنه أقدم وأقبل غير متأخر ولا مدبر([13] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn13)).
4- التوازن في شخصيته: فلم تعكر شجاعته على حكمته, ولم ينقص حزمه من رحمته, ولا حسمه من رفقه وعدالته, ولم تكن الدنيا كلها -وقد سُخرت له- كافية لإثنائه عن تواضعه وطهارته وعفته.
5- كثير الشكر: لأنه كان صاحب قلب حي موصول بالله تعالى, فلم تُسكره نشوة النصر, وحلاوة الغلبة بعدما أذل كبرياء المفسدين, بل نسب الفضل إلى ربه سبحانه([14] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn14)), وقال: *هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي" [الكهف:98].
6- كان عفيفًا مترفعًا عن مال لا يحتاجه, ومتاع لا ينفعه: فإن القوم المستضعفين لما شكوا إليه فساد المفسدين, عرضوا عليه الخراج؛ (فأجابهم بعفة وديانة وصلاح: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه وما أنا فيه خير من الذي تبذلونه) ([15] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn15)).
إن مفتاح شخصية ذي القرنين تتمثل في إيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر, وحبه لأهل الإيمان وبغضه لأهل الكفر والعصيان, وحبه العميق للدعوة إلى الله, فالإيمان بالله واليوم الآخر يظهر ذلك جليًا في شخصية ذي القرنين عند قوله تعالى: *مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ" [الكهف:95], وقوله: *أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا" [الكهف:87], وقوله: *فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا" [الكهف:98]. وهذه المواضع التي صرح بأنه كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر يستفاد منها أمور:
- إن الثناء على الحاكم لا يكون بمجرد شجاعة أو فتوح أو عمارة, ما لم ينضم إليها الإيمان بالله واليوم الآخر, لأن هناك حكامًا كثيرين كانت لهم من الإصلاحات الدنيوية المجردة ما يعتبرهم الناس من أجله عظماء, ومع ذلك لم يورد القرآن لهم ذكرًا حسنًا, بل جاء في القرآن ذم حكام عمروا في الدنيا كثيرًا ولكنهم خربوا أديان الناس وأفسدوا عليهم آخرتهم مثل فرعون وهامان والنمرود ونحوهم.
- إن التوازن المدهش والخلاب في شخصية ذي القرنين؛ سببه إيمانه بالله تعالى واليوم الآخر, ولذلك لم تطغ قوته على عدالته, ولا سلطانه على رحمته, ولا غناه على تواضعه, وأصبح مستحقًا لتأييد الله وعونه؛ ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة وهو تفضل من الله تعالى على عبده الصالح, فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار([16] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn16)).
وكذلك أكرمه بكثرة الأعوان والجنود وقذف الرعب في قلوب الأعداء وتسهيل السير عليه, وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها([17] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn17)), وتمكنه بذلك من تملك المشارق والمغارب من الأرض, فكل هذه الأمور لا تعطى لشخص عادي, ولا يمكن أن يحققها حاكم بحوله وقوته وذكائه مهما بلغ, إلا أن يكون مؤيدًا من الله, ذلك التأييد الذي ينصر الله به عباده المؤمنين, ويدل على هذه العناية أيضًا ضمير العظمة في قوله تعالى: *وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" [النمل:84] أي: أمده بكل ما أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه, فزوده بعلم منازل الأرض وأعلامها وعرفه ألسنة الأقوام الذين كان يغزوهم, فكان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم([18] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn18)).
لقد أعطاه الله تعالى من كل شيء سببًا, وينصرف ذهن السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الأرض, وأسبابه من العلوم والمعرفة واستقراء سنن الأمم والشعوب صعودًا وهبوطًا, وفي سياسة النفوس أفرادًا وجماعات؛ تهذيبًا وتربية وانتظامًا, وأعطاه من أسباب القوة من الأسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر, وأسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنماء الزراعة مهما قيل ومهما تصور من أسباب التمكين التي تليق برجل رباني قد مكن له في هذه الأرض([19] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn19)) يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى: *إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" [الكهف:84], لقد كانت رعاية الله تعالى لذي القرنين عظيمة بسبب إيمانه بالله تعالى, واستعداده لليوم الآخر, ولذلك فتح له باب التوفيق وفق ما سعى إليه من أهداف وغاية سامية.
لقد بذل ذو القرنين ما في وسعه من أجل دعوة الناس إلى عبادة الله, فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف, وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان, فكان إذا ظفر بأمة أو شعب دعاهم إلى الحق والإيمان بالله تعالى قبل العقاب أو الثواب, وكان حريصًا على الأعمال الإصلاحية في كل الأقاليم والبلدان التي فتحها, فسعى في بسط سلطان الحق, والعدالة في الأرض شرقًا وغربًا, وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان, مثلما كان معاديًا لأهل الكفران([20] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn20)).
ب- فقهه في إحياء الشعوب:
إن حركة ذي القرنين الدعوية والجهادية جعلته يحتك بالشعوب والأمم, وتكلم القرآن الكريم عن رحلاته الإيمانية:

:astagfor: :astagfor:
1- الرحلة الأولى:
لم يحدد القرآن الكريم نقطة الانطلاق فيها وحدد النهاية إلى مغرب الشمس, ووجد عندها قومًا, فدعاهم إلى الله تعالى, وسار فيهم بسيرة العدل والإصلاح, قال تعالى: *أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا" [الكهف:87].
إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الحكم والسلطة, وفي قلوب الناس الحب والتكريم للمستقيمين, وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد والظلم, فالمؤمن المستقيم يجد الكرامة والود والقرب من الحاكم, ويكون بطانته وموضع عطفه وثقته ورعاية مصالحه وتيسير أموره.
أما المعتدي المتجاوز للحد, المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة الدنيا, ثم يرد إلى ربه يوم القيامة ليلقى العقوبة الأنكى بما اقترفت يداه في حياته الأولى.
ولم يعين السياق القوم الذين اتخذ فيهم ذو القرنين هذه السياسة الحكيمة كما أهمل ذكر المدة التي مكثها بينهم, والنتائج التي توصل إليها, وكأن الأمر المفروغ منه أن تثمر هذه السيرة العادلة, والمبادئ السامية حضارة ربانية وتقدمًا وسعادة وطمأنينة, لذا لا داعي لذكرها والوقوف عندها([21] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn21)).
2- الرحلة الثانية:
وهي رحلة المشرق حيث يصل إلى مكان يبرز لعين الرائي أن الشمس تطلع من خلف الأفق, ولم يحدد السياق أهو بحر أم يابسة؟ إلا أن القوم الذين كانوا عند مطلع الشمس كانوا في أرض مكشوفة بحيث لا يحجبهم عن شروقها مرتفعات جبلية أو أشجار سامقة, وذهب الشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- إلى أن المقصود *لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا" [الكهف:90], هي بلاد القطب الذي تكون فيه الشمس ستة شهور لا تغيب طوال هذه الشهور ولا يوجد ظلام يستر الشمس في هذه الأماكن([22] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn22)).
ونظرًا لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن منها, وهو الدستور المعلن في رحلة الغرب لم يكرر هنا إعلان مبادئه, لأنها منهج حياة ودستور دولة مترامية الأطراف وسياسة أمم, فهو ملتزم بها أينما حل أو ارتحل([23] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn23)).
3- الرحلة الثالثة:
تختلف عن الرحلتين السابقتين من حيث طبيعة الأرض والتعامل مع البشر وسكان المنطقة, ومن حيث الأعمال التي قام بها, فلم يقتصر فيها على الأعمال الجهادية لكبح جماح الأشرار والمفسدين؛ بل قام بعمل عمراني هائل, أما الأرض فوعرة المسالك, وأما السكان -وكأن وعورة الأرض قد أثرت على طبائعهم وطريقة تخاطبهم مع غيرهم- فهناك في التفاهم والمخاطبة بحيث لا يكاد الإنسان منهم يقدر على التعبير عما في نفسه, ولا أن يفقه ما يحدثه به غيره من غير بني قومه *وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً" [الكهف: 93], إما لسبب في أسلوب التخاطب والتعامل -كما أسلفنا- أو من التخلف الحضاري والبدائية في العادات والمفاهيم والمصطلحات, فلما وجدوا القوة في دولة ذي القرنين والعدل والصلاح في سيرته -وعدل السلطان يفتح أمامه القلوب قبل فتح الجيوش والأمصار- لجأوا إليه بحمايتهم من هجمات تلك القبائل الهمجية المفسدة, قبائل يأجوج ومأجوج التي كانت تشن عليهم هجماتهم من خلف الجبلين المتقابلين من الممر الضيق الذي بينهما, وذلك بإقامة السد بين الصدفين, مقابل خراج يدفعونه إليه في أموالهم, ونظرًا لأن القضية التي وضعها ذو القرنين نصب عينيه هي الإصلاح ومقاومة الفساد والشر, والحكم بالعدل بين الناس, ولم يكن همه جمع المال أو قصد العلو في الأرض بإذلال الشعوب, فقد رفض عرضهم, وتطوع بإقامة السد على أن يتطوعوا هم من جانبهم بتقديم الجهد البشري, فمنه الخبرة والتصميم والإشراف, وعليهم الطاقة العمالية والمواد الأولية المتوافرة في بلادهم([24] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn24)).
ونلاحظ من السياق القرآني أن هؤلاء القوم اتصفوا بصفات منها:
1- هم قوم متخلفون: *لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً" وهذا إما معناه أنهم لا يفقهون لغة غيرهم من الأقوام الأخرى, لأنهم لم يطَّلعوا عليها ولم يتعلموها, فهم منغلقون على لغتهم فقط, وإما معناه أن الكلام لا ينفع معهم, لأنهم لا يفقهون ولا يتفاعلون معه, ولا يتفاهمون مع قائله, لا يفعلون هذا لجفاء وغلظة عندهم, أو لغفلة وسذاجة في طبيعتهم.
2- هم قوم ضعفاء, ولذلك عجزوا عن صد هجمات يأجوج ومأجوج, والوقوف في وجههم, ومنع إفسادهم.
3- هم قوم عاجزون عن الدفاع عن أرضهم, ومقاومة المعتدين, ولذلك لجأوا إلى قوة أخرى خارجية, قوة ذي القرنين, حيث طلبوا منه حل مشكلاتهم والدفاع عن أراضيهم.
4- هم قوم اتكاليون كسالى, لا يريدون أن يبذلوا جهدًا ولا أن يقوموا بعمل, ولذلك أحالوا المشكلة على ذي القرنين, وأوكلوا إليه حلها, أما هم فمستعدون لدفع المال له([25] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn25)).
لقد كان فقه ذي القرنين في التعامل مع الشعوب المستضعفة هو السعي الجاد لنقلها من الجهل والتخلف والكسل والضعف إلى العلم والتقدم والنشاط والقوة, فكان يدير العمل بروح الجماعة, ويشترك بنفسه مع إشراك غيره, ويدل على ذلك ضمير المتكلم الذي يتقابل في تسلسل متتابع رفيع مع ضمير المخاطب في النظم القرآني الكريم مما يشير إلى روح الحماس والحيوية والتعاون المشترك([26] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn26)), *قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ` آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا" [الكهف: 96،95] لقد كان ذو القرنين حريصًا على مصلحة الناس, ناصحًا لهم فيما يعود عليهم بالنفع, ولهذا طلب منهم المعونة الجسدية, لما في ذلك تنشيط لهم ورفع لمعنوياتهم([27] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn27)). ومن نصحه وإخلاصه لهم, أنه بذل ما في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون, فهم طلبوا منه أن يجعل بينهم وبين القوم المفسدين سدًا, أما هو فقد وعد بأن يجعل بينهم ردمًا, (والردم هو الحاجز الحصين, والحجاب المتين وهو أكبر من السد وأوثق, فوعدهم بفوق ما يرجون) ([28] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn28)).
لقد عفَّ ذو القرنين عن أموال المستضعفين وشرع في تعليمهم النشاط والعمل والكسب والسعي, فقال لهم: *فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا" [الكهف:95].
إن هذا العبارة القرآنية معلم بارز في تضافر الجهود وتوحيد الطاقات والقدرات والقوى.
إن القيادة الحكيمة هي التي تستطيع أن تفجر طاقات المجتمع وتوجهه نحو التكامل لتحقيق الخير والغايات المنشودة.
إن المجتمعات البشرية غنية بالطاقات المتعددة في المجالات المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم, والقوى المادية, ويأتي دور القيادة الربانية في الأمة لتربط بين كل الخيوط والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات وتتجه بها نحو خير الأمة ورفعتها.
إن أمتنا الإسلامية مليئة بالمواهب الضائعة والطاقات المعطلة, والأموال المهدرة, والأوقات المبددة, والشباب الحيارى, وهي تنتظر من قيادتها في كل الأقطار والدول والبلاد لكي تأخذ بقاعدة ذي القرنين في الجمع والتنسيق والتعاون ومحاربة الجهل والكسل والتخلف([29] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn29))*فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ".
إن ذا القرنين لم يكن موقفه مع المستضعفين حمايتهم, وإنما توريثهم أسباب القوة حتى يستطيعوا أن يقفوا أمام المفسدين, لقد كان ذو القرنين يستطيع أن يبقى حتى يبدأ يأجوج ومأجوج في الهجوم, ثم يهاجم ويهزمهم, ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه ليس من وظيفة الحاكم أو الملك أن يظل في انتظار هجوم الظالم, ولكن وظيفته منع وقوع الظلم.
كيف منع ذو القرنين وقوع الظلم؟ لم يأت بجيوش لحماية المستضعفين مع قدرته على ذلك, وإنما طلب منهم أن يعينوه ليساعدهم على حماية أنفسهم ويتعلموا فنون الحماية ويكسبوا خبرات ويتدربوا على العمل الجاد المثمر الذي يجعلهم يبنون السد بأيديهم؛ وهذا أدعى للحفاظ عليه وإصلاحه إن أصابه شيء.
إن ذا القرنين رفض أن يكون هؤلاء المستضعفون عاطلين, قال الشيخ محمد متولي الشعراوي: وهذه تلفتنا إلى أن لله سبحانه وتعالى عطاء إمكانات, وعطاء ذاتي في النفس.. عطاء الإمكانات هو ما تستطيع أن توفره من وسائل تعينك على أداء العمل, والعطاء الذاتي في النفس هو القوة الذاتية في داخلك التي تعطيك طاقة العمل, وكثير منا لا يلتفت إلى عطاء النفس لا يلتفت إلى أنه فيه قوة يستطيع أن يعمل بها أعمالاً كثيرة, وأنه لا يستخدمها وأن لديه قوة تحمل وبإمكانه أن ينتقل من مكان إلى آخر.. وأن يعمل أعمالاً كثيرة.
هذه القوة معطلة عند عدد كبير من الناس, فهي غير مستخدمة, ويستطيع الرجل أن يفعل بها أشياء كثيرة, وأمامه المجالات التي يستخدم فيها طاقته؛ ولكنه لا يستخدمها, عنده قوة تفكير لو دربها على العلم لفتحت له أبوابًا كثيرة يرتزق منها؛ ولكنه يبقيها كسولة فلا تفكر في شيء ولا يستخدمها لينميها.
ماذا فعل ذو القرنين؟
لم يستعن بجيشه ولا بأناس آخرين.. إنما استعان بهؤلاء الضعفاء, لقد طلب منهم أن يأتوا بالحديد ثم بناء السد بحيث وصل به إلى قمة الجبلين, ثم قام بصهر الحديد, وأفرغ عليه النحاس ليكون السد في غاية المتانة والقوة.
إذن فهو قوَّى هؤلاء الضعفاء الذين كان يهاجمهم يأجوج ومأجوج, بأن علمهم كيف يعينون أنفسهم وكيف يبنون السد وجعلهم هم الذين يشتركون في البناء وهم الذين يقيمونه, وأعانهم هو بخبرته وعلمه فقط, ليأخذوا الثقة في أنفسهم, بأنهم يستطيعون حماية أنفسهم, وليتعلموا ما يعينهم ويحميهم, والإسلام ينهانا عن أن نعوِّد الناس على الكسل أو نعطيهم أجرًا بلا عمل, لأن ذلك هو الذي يفسد المجتمع, فالإنسان متى تقاضى أجرًا بلا عمل لا يمكن أن يعمل بعد ذلك أبدًا([30] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn30)).
إن ذا القرنين قام بمهمة الحاكم الممكن له في الأرض, فقوى المستضعف وجعله قادرًا على حماية نفسه من العدوان ولا يعتمد على حماية أحد, ولم يترك الناس في مقاعد المتفرجين؛ بل نقلهم إلى ساحة الجد عاملين([31] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn31)).
وهنا وقفة مهمة ودرس هام وضروري للأمة, وبخاصة في زماننا هذا, لأنها تواجه خطرًا ماحقًا مدمرًا, أشد وأقسى من يأجوج ومأجوج, إنه خطر الملاحدة واليهود والنصارى, الذين يسعون لتدمير كيان الأمة وسلخها من هويتها وعقيدتها وإسلامها وجعلها عاجزة مكتوفة الأيدي أمام هذا الخطر, تستنجد وتستنكر وتشكو إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة, والدعوة إلى مؤتمر دولي.
إن القرآن الكريم يعلمنا ويرشدنا إلى طريق النجاة ألا وهي الالتزام بمنهج الله واتخاذ طريق العمل الصائب الصحيح, بالجهاد والقتال والقوة والعلوم المتطورة لكي تستحق الأمة رحمة الله, فعلى الأمة أن تودِّع الأماني والأحلام الخادعة, وعليها أن تدخل ميدان العمل والعطاء والجهاد والشهادة, فعندما تحرك القوم المستضعفون نحو العمل بقيادة ذي القرنين, وصلوا إلى هدفهم المنشود, وغايتهم المطلوبة, ونقف مع ذي القرنين بعد أن تم بناء السد.
نظر ذو القرنين إلى سده العظيم الذي حفظ الناس من غارات المفسدين وقال: *هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي" [الكهف:98], إنها عبارة جميلة مباركة تشير إلى عدة معانٍ:
1- قال سيد قطب رحمه الله: (ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به, فلم يأخذه البطر والغرور, ولم تسكره نشوة القوة والعلم, ولكنه ذكر الله فشكره, ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه...) ([32] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn32)).
2- ذكر ذي القرنين لربه عند إنجاز عمله, يعلمنا كيف يكون ذكر الله سبحانه, إن من أعظم صور الذكر, هي أن يذكر ربه عند توفيقه في عمله, فيستشعر أن هذا بأمر ربه, فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر.
3- كان بناء السد رحمة من الله تعالى, وقد استخدم ذو القرنين علمه الذي علمه الله إياه, وتمكينه الذي مكنه الله له, استخدمه في مساعدة الناس وتقديم الخير لهم, ومنع العدوان عنهم, فكان علمه رحمة من ربه وكان استخدامه له رحمة من ربه.
4- كان القوم مُهددين بيأجوج ومأجوج, مُعرَّضين لإفسادهم, ولم يحمهم منهم إلا الله ببناء السد, فكان السد رحمة من الله لهم, وكان خلاصًا لهم وإنقاذًا بإذن الله, فلو لم يتم بناء السد, ولو بقى أولئك القوم يَشكون ويندبون, بدون عمل ولا جهد ولا حركة, لما أنقذوا أنفسهم من الخطر, لأن الإنقاذ لا يتم إلا بالعمل والجهد المتواصل, وتكاتف الجهود, والانقياد الطوعي للشعوب لشرع الله خلف القيادة الربانية([33] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn33)).
5- *فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا" [الكهف:98].
لقد أعلن ذو القرنين ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك عندما يحين وعد الله الذي لا يتخلف.
رابعًا: المفاهيم الحضارية والدروس والعبر:
أ- المفاهيم الحضارية:
إن الله تعالى أظهر في سيرة أحسن الملوك([34] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn34)) (ذي القرنين) مفاهيم حضارية وجعل في سيرته دروسًا لكل من أراد أن يحكم بالحق والعدل من الحكام في الناس, فأرشد القرآن الكريم عباده إلى ركائز الحضارة الربانية التي تقوم على شرع الله وتحكيمه بين العباد, فمن أهم هذه الركائز: الإيمان, العدل, العمل, وإنها لصفات لابد منها حتى يستقيم أمر الشعوب, ويأمنوا بحق على أنفسهم, وأموالهم, وأعراضهم, وأديانهم, وعقولهم, فالإيمان بالله ربًا يجعل الحاكم يحرص على أن يستقي أوامره وتشريعاته من منهج الله, الذي لا شطط فيه ولا خلاف, ولا إفراط ولا تفريط, ولا غلو ولا جفاء, ويكون بعيدًا كل البعد عن هواه, فلا يظلم ولا يبطر ولا يتحكم في رقاب الناس وأمنهم بدون وجه حق, والعدل لابد منه لأنه مركب النجاة, وأمان أهل الأرض, والثقة بين الراعي والرعية, والقائد والمقود والحاكم والمحكوم, وبالعمل والتعاون ينتشر العمران, وتعم الحضارة وفق منهج رب العالمين.
لقد بنى ذو القرنين حضارة ربانية معتمدة على ركائز الإيمان, والعلم والعدل, والإصلاح مستهدفة بني الإنسان أينما حل وأقام, أو ارتحل إلى أي مكان, فقاد الدنيا بالإيمان والخير والفلاح, وعمل على تخليصها من أسر المادة الطاغية, وكذلك الكفر والشرك والإجرام.
وحرص على تربية جنوده وأتباعه على الخير والحق ومحاربة الشر من النفوس, وأهم هذه الشرور الظلم والعدوان والتسلط على الناس, ومحاولة استعبادهم واستغلالهم لتحقيق مصالح شخصية, فالانحطاط الأخلاقي أضر شيء بالحياة الإنسانية.
إن الحضارة الربانية متكاملة, وقابلة للبناء في أي وقت كان فيه التزام بالمنهج الرباني وأحكامه, لأن المنهج الرباني وأحكامه فيه كل الخير من عناصر معنوية اعتقادية وروحية وأخلاقية وعلمية وإبداعية, وعناصر مادية تشمل التقدم العمراني والصناعي والزراعي والتجاري, وكذلك عناصر تنظيمية وتشريعية تنظم حياة الفرد والمجتمع والدولة, مرتبطًا بجميع جوانب الحضارة ولذلك تخرج للوجود حضارة ربانية مؤمنة تتقدم لصالح البشرية ولنشر الهداية لتعميمها على العباد وتسعى لبناء الرجال على أسس من العقلية والأخلاق, والأفكار الصحيحة, والتصورات السليمة قبل بناء المباني وتجميل المدن, وصناعة الأسلحة.
وتتميز الحضارة الربانية بتكاملها وتوازنها وتناسقها, من الحاجات الجسمية والعقلية والروحية وتتطلع إلى التنافس الشريف, وإسعاد البشرية, وتكوين الشخصية الربانية التي تتحمل مسئولياتها الحضارية.
إن سيرة ذي القرنين في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه تعطينا صورة مشرقة للإنسان القوي المؤمن العالم, الذي يسخر كل إمكانات دولته وجنوده وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز شرع الله وتمكين دينه وخدمة الإنسانية وإعلاء كلمة الله, وإخراج الناس من الظلمات إلى النور, ومن عبادة الناس والمادة إلى عبادة الله([35] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn35)), ولقد سار نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام والخلفاء الراشدون من بعده, على نفس المنوال والهدى الذي رسمه القرآن الكريم, ولقد طبقوا قول الله تعالى:*الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ" [الحج:41].
إن الإيمان الراسخ, والعمل الصالح, والسيرة الفاضلة, والمقاصد الخيرة, والدعوة إلى الله وإلى الحق واستخدام كل ما أوتينا من علم وحكمة يصنع الحضارة الربانية التي قاعدتها العقيدة الصحيحة, والتي تنبثق منها مبادئ وقيم وأخلاق ربانية تسعد من دخل في منهجها في الدنيا والآخرة.
إن الحضارة الإنسانية الرفيعة تتحقق في ظل دين الإسلام, وبذلك نستطيع أن نعرف الحضارة الربانية بأنها: «تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة الموحدة لخلافة الله في الأرض عبر الزمن, وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والكون والإنسان»([36] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn36)).
وهذا التعريف يتسع ليضم بين جوانبه حلقات الحضارة الربانية المتعددة والتي بدأت مع فجر التاريخ, عبر الأنبياء والرسل والمؤمنين بهم, حتى الحلقة الأوسع وهي الحلقة المبتدئة بعصر النبي  وما تبعه من تفاعلات وأحداث.
وهكذا تصبح الحضارة الربانية الحضارة العالمية, التي تضم بين أرجائها تفاعلات الأمم والشعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى, وتقبل في عضويتها العالم بأسره, أسوده وأصفره وأبيضه وفق المنهج الرباني وأحكامه.
وتسعى لخدمة الإنسان وإسعاده, ليكون مع سائر الأكوان المحيطة به في وحدة حضارية كونية تتسامى في تمجيد الله تعالى, وفي تسبيح أصيل للخلاق العليم خالق الوجود كله([37] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn37)), قال تعالى: *تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" [الإسراء: 44].
إننا إذا تأملنا في قول الله تعالى: *وَالْعَصْرِ ` إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ` إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [العصر:1-3]. لوجدناها بحق تمثل معنى الحضارة الربانية في مفاهيمها وعناصرها, فالسورة حوت عناصر الحضارة كلها بوضوح كامل: الإنسان, التجمع, صفة الجمع في السورة الذين آمنوا وعملوا الصالحات
- الزمن- الصبغة, كما تضمنت التفاعل الحضاري المستمر بالعمل والتطبيق والتنفيذ للمبادئ والمفاهيم.
إن تعطيل العمل والتنفيذ للمبادئ يعطل الربانية ويجعلها في حالة توقف وانتظار بل في حالة تأخر وانحسار([38] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn38)).
إن ذا القرنين ساهم في صناعة الحياة البشرية على أسس عقدية وأخلاق ربانية, وأكون قد أصبت الحقيقة إن قلت: وترك لنا معالم واضحة في التعامل مع نفسية الشعوب وتحريكها بالإيمان والعلم والعمل والعدل والإصلاح والتعمير.
ب- الدروس والعبر والحكم:
إن قصة ذي القرنين مليئة بالآيات والعبر والأحكام والآداب والثمرات والفوائد.
نذكر منها:
1- الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض, ورزقه من يشاء بغير حساب ملكًا ومالاً لما له من خفي الحكم وباهر القدرة, فلا إله سواه.
2- الإشارة إلى القيام بالأسباب, والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل, وأن على قدر الجد يكون الفوز والظفر, فإن ما قصه الله علينا عن ذي القرنين من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس, ومطلعها وشمالها وعدم فتوره, ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار, وركوب الأوعار والبحار ثم إحرازه ذلك الفخار, الذي لا يشق له غبار, أكبر عبرة لأولي الأبصار.
3- ومنها تنشيط الهمم لرفع العوائق, وأنه متى ما تيسرت الأسباب, فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر, عذرًا في الخمول, والرضاء بالدون, بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته حلاوة عقباه من الراحة والهناء.
4- وجوب المبادرة إلى معالي الأمور.
5- إن من قدر على أعدائه وتمكن منهم, فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال, وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال, بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته.
6- إن على الملك إذا اشتكى إليه جور مجاورين, أن يبذل وسعه في الراحة والأمن دفاعًا عن الوطن العزيز, وصيانة للحرية والتمدن من مخالب التوحش والخراب, قيامًا بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين.
7- إن على الملك التعفف عن أموال رعيته, والزهد في أخذ أجر في مقابل عمل يأتيه, ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته.
8- التحدث بنعمة الله إذا اقتضاه المقام.
9- تدعيم الأسوار والحصون في الثغور وتقويتها على أسس علمية وفق دراسة ميدانية صحيحة, لتنتفع به الأجيال على مر العصور وكر الدهور.
10- مشاركة الحاكم العمال في الأعمال, والإشراف بنفسه إذا تطلب الأمر, لكي تنشط الهمم.
11- تذكير الغير وتعريفهم ثمار الأعمال المهمة لكي يستشعروا رحمة الله تعالى.
12- استحضار القدوم على الله, واستشعار زوال هذه الدنيا والتطلع إلى ما عند الله.
13- الاعتبار بتخليد جميل الثناء, وجليل الآثار, حيث نجد أن الآيات الكريمة أوضحت أخلاق ذي القرنين الكريمة من شجاعة وعفة وعدل وحرص على توطيد الأمن والإحسان للمحسنين ومعاقبة الظالمين.
14- الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أممًا متباينة, كما كان يرمي إليه سعي ذي القرنين, فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بالمنهج الرباني والشرع السماوي([39] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn39)).
وبهذا نقف عند الدروس والعبر والحكم من هذا القصص القرآني الكريم.


[/URL]([1]) انظر: ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح لمحمد خير رمضان.

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref1)([2]) انظر: مع قصص السابقين في القرآن للخالدي (6/255،254).

([3]) ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح (247-249).

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref3)([4]) انظر: مع قصص السابقين في القرآن (6/244،242).

([5]) مع قصص السابقين (2/331،330).

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref5)([6]) في ظلال القرآن (4/2291).

([7]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/624).

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref7)([8]) روح المعاني (16/40). (3) انظر: في ظلال القرآن (4/2293).



(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref9)([10]) فتح القدير (3/313).

([11]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/624).

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref11)([12]، 3) المصدر نفسه (2/624).



(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref13)([14]) المصدر نفسه (2/627).

([15]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/625).

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref15)([16]) انظر: روح المعاني (16/30).

([17]) انظر: البحر المحيط (6/159).

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref17)([18]) انظر: روح المعاني (16/31).

([19]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي لمصطفى مسلم, ص304.

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref19)([20]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/623).

([21]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي, ص 305.

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref21)([22]) القصص القرآني في سورة الكهف ص87.

([23]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي, ص 306.

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref23)([24]) المصدر السابق, ص 307.

([25]) انظر: مع قصص السابقين (2/338).

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref25)([26]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/627).

([27]) انظر: أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي (3/243).

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref27)([28]) انظر: روح المعاني (16/40).

([29]) انظر: مع قصص السابقين (2/342).

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref29)([30]) القصص القرآني في سورة الكهف, ص 94،93.

([31]) المصدر نفسه, ص95.

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref31)([32]) الظلال (4/2293).

([33]) انظر: مع قصص السابقين (2/350).

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref33)([34]) انظر: مجموع الفتاوى (17/22).

([35]) انظر: ذو القرنين القائد الفاتح لمحمد خير رمضان, ص390.

(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref35)([36]) (2) الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب (1/490).



(ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftnref37)([38]) الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب (1/491).

[URL="ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند%2 0ذي%20القرنين.htm#_ftnref39"]([39]) انظر: تفسير الإمام القاسمي (11/87-90).

الفاررة الي الله
10-09-2008, 11:50 PM
فقه التمكين عند ذي القرنين
أولاً: من هو ذو القرنين؟
اختلف المفسرون في اسم ذي القرنين ونسبه وزمان وجوده وسبب تلقيبه بذي القرنين, لقد تضاربت أقوالهم وآراؤهم, وتعارضت أدلتهم, واعتمد الكثير منهم على الإسرائيليات والخرافات والأساطير, والروايات الواهية, والأخبار الكاذبة.
وعندما طالعت الكتب التي تحدثت عن ذي القرنين([1] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn1)) خرجت بنتيجة وهي لا يمكننا الجزم بتحديد شخصية ذي القرنين, ولا تحديد رحلاته الثلاث التي أشار إليها القرآن الكريم, ولا تحديد السد الذي بناه على الكرة الأرضية.
إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لم يتعرضا إلى تلك التفصيلات, وبما أنهما سكتا عن المعلومات التفصيلية, فلا دلالة يقينية عليها.
ولذلك يكون كلام المفسرين وأهل التاريخ والعلماء عنها من باب الظن وليس من باب الجزم([2] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn2)).
لقد قالوا إن ذا القرنين: هو الإسكندر المقدوني اليوناني وذلك لأن البلاد التي استولى عليها الإسكندر امتدت إلى مشارق الأرض ومغاربها, وقيل هو قورش الإخميني, لإجماع المؤرخين على عدالة سيرته وحسن سيرته في الشعوب والممالك التي استولى عليها, وقيل إنه أبو كرب شمر بن عمرو الحميري, لقد ناقش الأستاذ محمد خير رمضان يوسف الأقوال السابقة وخرج بنتيجة أن ذا القرنين, لم يكن واحدًا من هؤلاء الثلاثة, ونقد الآراء السابقة نقدًا علميًا متينًا, ووصل إلى أن: (ذو القرنين القرآني الذي ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز, وأثنى عليه بالإيمان والإصلاح والعدل, في سورة قرآنية عظيمة, وآيات إعجازية جليلة, وقصة تاريخية نادرة, مليئة بالدروس والعبر, طافحة بالعظات والمبادئ والحكم.
إنه علم قرآني بارز.. خلد الله ذكره في كتابه الخالد, فاستحق أن ينال لقب القرآني وكفى, ولم أشأ أن أقول غير هذا لأنني لم أر من أعطى شخصية ذي القرنين حظها في التاريخ مثلما أعطى الله عز وجل في كتابه العظيم, إنه الرجل الطواف في الأرض, الصالح العادل, الخاشع لربه, والمنفذ لأمره, والقائم بين الناس بالإصلاح, والذي ملك أقاصي الدنيا وأطرافها, فلم يغره مال ولا منصب ولا جاه ولا قوة ولا سلطان, بل إنه بقى ذاكرًا لفضل ربه ورحمته, متأهبًا لليوم الآخر, ليلقى جزاءه العادل عند ربه.
ويكفي أن يبقى ذو القرنين ذلك الشخصية العظيمة في التاريخ, وذلك العلم البارز في العدل والإصلاح, والقيادة ومثال الحاكم الصالح, على مر التاريخ, وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, بشهادة الكتاب الخالد) ([3] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn3)).
إن القرآن الكريم اهتم بإخراج القيم الصحيحة في سيرة ذي القرنين وأعماله وأقواله مثل:
1- الحكم والسلطان والتمكين في الأرض ينبغي أن يسخر لتنفيذ شرع الله في الأرض وإقامة العدل بين العباد, وتيسير الأمر على المؤمنين المحسنين, وتضييق الخناق على الظالمين المعتدين ومنع الفساد والظلم وحماية الضعفاء من بطش المفسدين.
2- الرجال الأشداء ذوو الخبرات الفنية العالية في النواحي العسكرية والعمرانية والاقتصادية الذين كانوا طوع بنان ذي القرنين, وكذلك خضوع الأقاليم له وفتح الخزائن أمامه وتقديم خراج الشعوب له طواعية, كل ذلك لم يدخل في نفسه الغرور والبطر والطيش والغواية؛ بل بقى مثال الرجل المؤمن العفيف المترفع عن زينة الحياة الدنيا.
3- الاهتمام باتخاذ الأسباب لبلوغ الأهداف والغايات التي سعى إليها حيث آتاه الله من كل شيء سببًا فأتبع سببًا.
إن القرآن الكريم في قصة ذي القرنين وفي كل قصصه ركز على الدروس والعبر والحكم والسنن, ولم يهتم بكثير من القضايا التي لا تنفع الإنسان, ولذلك نجد في قصة ذي القرنين كثيرًا من المبهمات التي لا تفيد القارئ مثل: من هو ذو القرنين؟ وما شخصيته؟ وما حياته؟ وما الزمن الذي عاش فيه؟ والدولة التي حكمها, والحروب التي خاضها, والبلاد التي فتحها, ورحلته الأولى تجاه الغرب, وتحديد المنطقة التي وصل إليها, وتحديد المكان ذي العين الحمئة؟ وكيف وجد الشمس تغرب فيها, وأصل يأجوج ومأجوج, وتاريخهم, ومناطق سكنهم وإقامتهم بالضبط؟ وغير ذلك من التساؤلات([4] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn4)).
ثانيًا: معالم التمكين عند ذي القرنين:
أ- دستوره العادل:
إن المنهجية التي سار عليها ذو القرنين كحاكم مؤمن جعلته يلتزم بمعاني العدل المطلق في كل أحواله وسكناته, ولذلك سار في الناس والأمم والشعوب التي حكمها بسيرة العدل, فلم يعامل الأقوام التي تغلب عليها في حروبه بالظلم والجور والتعسف والتجبر والطغيان والبطش, وإنما عاملهم بهذا المنهج الرباني: *قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا ` وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا" [الكهف: 88،87].
وهذا المنهج الرباني الذي سار عليه يدل على إيمانه وتقواه, وعلى فطنته وذكائه, وعلى عدله ورحمته؛ لأن الناس الذين قهرهم وفتح بلادهم ليسوا على مستوى واحد, ولا على صفات واحدة, ولذلك لا يجوز أن يعاملوا جميعًا معاملة واحدة؛ فمنهم المؤمن ومنهم الكافر, ومنهم الصالح, ومنهم الطالح فهل يتساوون في المعاملة؟.
قال ذو القرنين: أما الظالم الكافر فسوف نعذبه لظلمه وكفره, وهذا التعذيب عقوبة له؛ فنحن عادلون في تعذيبه في الدنيا ثم مرده إلى خالقه لينال عذابه الأخروي.
إن الظالم والباغي الكافر في دستور ذي القرنين معذب مرتين؛ مرة في الدنيا على يديه, والأخرى يوم القيامة, حيث يعذبه الله عذابًا نكرًا, أما المؤمن الصالح فإنه مقرب من ذي القرنين, يجزيه الجزاء الحسن, ويكافئه المكافأة الطيبة, ويخاطبه بيسر وسهولة وإشراق وبر ومودة([5] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn5)), لقد كان ميزان العدالة في حكمه بين الناس, هو التقوى والإيمان والعمل الصالح, ودائمًا يتطلع إلى مقامات الإحسان.
ب- منهجه التربوي في الشعوب:
إن الله تعالى أوجب العقوبة الدنيوية على من ارتكب الفساد في المجتمع وكلف أهل الإيمان ممن مكن لهم في الأرض أن يحرصوا على تنفيذ العقوبات للمفسد والظالم لكي تستقيم الحياة في الدنيا.
إن ذا القرنين يقدم لكل مسئول أو حاكم أو قائد منهجًا أساسيًا, وطريقة عملية لتربية الشعوب على الاستقامة والسعي بها نحو العمل لتحقيق العبودية الكاملة لله تعالى, قال سيد قطب -رحمه الله-: (وهذا دستور الحاكم الصالح, فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم, والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء.. وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاءً حسنًا أو مكانًا كريمًا وعونًا وتيسيرًا, ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة, عندئذ يجد ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج, أما حين يضطرب ميزان الحكم, فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم, مقدمون في الدولة, وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون, فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة إفساد, ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد)([6] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn6)).
إن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجعل الحوافز المشجعة هدية للمحسن ليزداد في إحسانه, وتفجر طاقة الخير العاملة على زيادة الإحسان وتشعره بالاحترام والتقدير, وتأخذ على يد المسيء لتضرب على يده, حتى يترك الإساءة وتعمل على توسيع دوائر الخير والإحسان في أوساط المجتمع وتضييق حلقات الشر إلى أبعد حدود وفق قانون الثواب والعقاب المستمد من الواحد الديان.
جـ- اهتمامه بالعلوم المادية وتوظيفها للخير:
نلاحظ من الآيات القرآنية أن ذا القرنين وظّف علومًا عدة في دولته القوية ومن أهم هذه العلوم:
1- علم الجغرافيا حيث نجد أن ذا القرنين كان على علم بتقسيمات الأرض، وفجاجها وسبلها، ووديانها وجبالها وسهولها، لذلك استطاع أن يوظف هذا العلم في حركته مع جيوشه شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، ولا يخلو أن الأمر أن يكون في جيشه متخصصًا في هذا المجال. ([7] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn7))
2- كان صاحب خبرة ودراية بمختلف العلوم المتاحة في عصره، يدل على ذلك حسن اختياره للخامات، ومعرفته بخواصها، وإجلادته لاستعمالها والاستفادة منها، فقد استعمل المعادن على أحسن ما خلقت له، ووظف الإمكانات على خير ما أتيح له: *آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا" [الكهف: 96] أمرهم بأن يأتوه بقطع الحديد الضخمة، فآتوه إياها، فأخذ يبني شيئًا فشيئًا حتى جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في العلو، ثم قال للعمال: (انخفوا بالكير في القطع الحديدية الموضوعة بين الصدفين)([8] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn8)). فلما تم ذلك وصارت النار عظيمة قال للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها: آتوني نحاسًا مذابًا أفرغه عليه فيصير مضاعف القوة والصلابة، وهي طريقة استخدمت حديثًا في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته([9] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn9)).
3- كان واقعيًا في قياسه للأمور وتدبيره لها، فقد قدر حجم الخطر، وقدر ما يحتاجه من علاج، فلم يجعل السور من الحجارة، فضلاً عن الطين واللبن، حتى لا يعود منهارًا لأدنى عارض، أو في أول هجوم، ولهذا باءت محاولات القوم المفسدين بالفشل عندما حاولوا التغلب على ما قهرهم به ذو القرنين: *فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا" [الكهف:97], أي لم يتمكنوا من اعتلائه لارتفاعه وملاسته, وما استطاعوا أن يثقبوه لصلابته وثخانته([10] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn10)).
لقد كان ذو القرنين على علم بأخبار الغيب التي جاءت به الشرائع, ومع ذلك لم يتخذ من الأقدار تكأة لتبرير القعود والهوان, فقد بنى السد وبذل فيه الجهد, مع علمه بأن له أجلاً سوف ينهدم فيه لا يعلمه إلا الله.
ثالثًا: أخلاقه القيادية وفقهه في إحياء الشعوب:
أ- أخلاقه القيادية:
إن شخصية ذي القرنين تميزت بأخلاق رفيعة ساعدته على تحقيق رسالته الدعوية والجهادية في الحياة ومن أهم هذه الأخلاق:
1- الصبر: كان جلدًا صابرًا على مشاق الرحلات؛ فمثلاً تلك الحملات التي كان يقوم بها تحتاج إلى جهود جبارة في التنظيم والنقل والتحرك والتأمين, فالأعمال التي كان يعملها تحتاج إلى جيوش ضخمة, وإلى عقلية يقظة, وذكاء وقاد, وصبر عظيم وآلات ضخمة وأسباب معينة على الفتح والنصر والتملك([11] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn11)).
2- كانت له مهابة ونجابة: يستشعرها من يراه لأول مرة, فلا يخطئ ظنه عندما يوقن أنه ليس بملك جبار ولا ظالم, فعندما بلغ بين السدين ووجد القوم المستضعفين, استأنسوا به, ووجدوا فيه مخلصًا من الظلم والقهر الواقع عليهم فبادروه بسؤال المعونة؛ فمن الذي أدراهم بأنه لن يكون مفسدًا مثلهم, ومعه من القوة والعدة ما ليس مثلهم([12] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn12)).
3- الشجاعة: كان قوي القلب جسورًا غير هيّاب من التبعات الضخمة والمسئوليات العظيمة إذا كان في ذلك مرضاة الله سبحانه, فإن ما طلب من إقامة السد, كان عملاً عظيمًا في ذاته, حيث إن القوم المفسدين كانوا من الممكن أن يوجهوا إفسادهم إليه وإلى جنوده, ولكنه أقدم وأقبل غير متأخر ولا مدبر([13] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn13)).
4- التوازن في شخصيته: فلم تعكر شجاعته على حكمته, ولم ينقص حزمه من رحمته, ولا حسمه من رفقه وعدالته, ولم تكن الدنيا كلها -وقد سُخرت له- كافية لإثنائه عن تواضعه وطهارته وعفته.
5- كثير الشكر: لأنه كان صاحب قلب حي موصول بالله تعالى, فلم تُسكره نشوة النصر, وحلاوة الغلبة بعدما أذل كبرياء المفسدين, بل نسب الفضل إلى ربه سبحانه([14] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn14)), وقال: *هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي" [الكهف:98].
6- كان عفيفًا مترفعًا عن مال لا يحتاجه, ومتاع لا ينفعه: فإن القوم المستضعفين لما شكوا إليه فساد المفسدين, عرضوا عليه الخراج؛ (فأجابهم بعفة وديانة وصلاح: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه وما أنا فيه خير من الذي تبذلونه) ([15] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn15)).
إن مفتاح شخصية ذي القرنين تتمثل في إيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر, وحبه لأهل الإيمان وبغضه لأهل الكفر والعصيان, وحبه العميق للدعوة إلى الله, فالإيمان بالله واليوم الآخر يظهر ذلك جليًا في شخصية ذي القرنين عند قوله تعالى: *مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ" [الكهف:95], وقوله: *أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا" [الكهف:87], وقوله: *فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا" [الكهف:98]. وهذه المواضع التي صرح بأنه كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر يستفاد منها أمور:
- إن الثناء على الحاكم لا يكون بمجرد شجاعة أو فتوح أو عمارة, ما لم ينضم إليها الإيمان بالله واليوم الآخر, لأن هناك حكامًا كثيرين كانت لهم من الإصلاحات الدنيوية المجردة ما يعتبرهم الناس من أجله عظماء, ومع ذلك لم يورد القرآن لهم ذكرًا حسنًا, بل جاء في القرآن ذم حكام عمروا في الدنيا كثيرًا ولكنهم خربوا أديان الناس وأفسدوا عليهم آخرتهم مثل فرعون وهامان والنمرود ونحوهم.
- إن التوازن المدهش والخلاب في شخصية ذي القرنين؛ سببه إيمانه بالله تعالى واليوم الآخر, ولذلك لم تطغ قوته على عدالته, ولا سلطانه على رحمته, ولا غناه على تواضعه, وأصبح مستحقًا لتأييد الله وعونه؛ ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة وهو تفضل من الله تعالى على عبده الصالح, فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار([16] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn16)).
وكذلك أكرمه بكثرة الأعوان والجنود وقذف الرعب في قلوب الأعداء وتسهيل السير عليه, وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها([17] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn17)), وتمكنه بذلك من تملك المشارق والمغارب من الأرض, فكل هذه الأمور لا تعطى لشخص عادي, ولا يمكن أن يحققها حاكم بحوله وقوته وذكائه مهما بلغ, إلا أن يكون مؤيدًا من الله, ذلك التأييد الذي ينصر الله به عباده المؤمنين, ويدل على هذه العناية أيضًا ضمير العظمة في قوله تعالى: *وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" [النمل:84] أي: أمده بكل ما أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه, فزوده بعلم منازل الأرض وأعلامها وعرفه ألسنة الأقوام الذين كان يغزوهم, فكان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم([18] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn18)).
لقد أعطاه الله تعالى من كل شيء سببًا, وينصرف ذهن السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الأرض, وأسبابه من العلوم والمعرفة واستقراء سنن الأمم والشعوب صعودًا وهبوطًا, وفي سياسة النفوس أفرادًا وجماعات؛ تهذيبًا وتربية وانتظامًا, وأعطاه من أسباب القوة من الأسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر, وأسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنماء الزراعة مهما قيل ومهما تصور من أسباب التمكين التي تليق برجل رباني قد مكن له في هذه الأرض([19] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn19)) يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى: *إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" [الكهف:84], لقد كانت رعاية الله تعالى لذي القرنين عظيمة بسبب إيمانه بالله تعالى, واستعداده لليوم الآخر, ولذلك فتح له باب التوفيق وفق ما سعى إليه من أهداف وغاية سامية.
لقد بذل ذو القرنين ما في وسعه من أجل دعوة الناس إلى عبادة الله, فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف, وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان, فكان إذا ظفر بأمة أو شعب دعاهم إلى الحق والإيمان بالله تعالى قبل العقاب أو الثواب, وكان حريصًا على الأعمال الإصلاحية في كل الأقاليم والبلدان التي فتحها, فسعى في بسط سلطان الحق, والعدالة في الأرض شرقًا وغربًا, وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان, مثلما كان معاديًا لأهل الكفران([20] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn20)).
ب- فقهه في إحياء الشعوب:
إن حركة ذي القرنين الدعوية والجهادية جعلته يحتك بالشعوب والأمم, وتكلم القرآن الكريم عن رحلاته الإيمانية:
1- الرحلة الأولى:
لم يحدد القرآن الكريم نقطة الانطلاق فيها وحدد النهاية إلى مغرب الشمس, ووجد عندها قومًا, فدعاهم إلى الله تعالى, وسار فيهم بسيرة العدل والإصلاح, قال تعالى: *أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا" [الكهف:87].
إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الحكم والسلطة, وفي قلوب الناس الحب والتكريم للمستقيمين, وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد والظلم, فالمؤمن المستقيم يجد الكرامة والود والقرب من الحاكم, ويكون بطانته وموضع عطفه وثقته ورعاية مصالحه وتيسير أموره.
أما المعتدي المتجاوز للحد, المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة الدنيا, ثم يرد إلى ربه يوم القيامة ليلقى العقوبة الأنكى بما اقترفت يداه في حياته الأولى.
ولم يعين السياق القوم الذين اتخذ فيهم ذو القرنين هذه السياسة الحكيمة كما أهمل ذكر المدة التي مكثها بينهم, والنتائج التي توصل إليها, وكأن الأمر المفروغ منه أن تثمر هذه السيرة العادلة, والمبادئ السامية حضارة ربانية وتقدمًا وسعادة وطمأنينة, لذا لا داعي لذكرها والوقوف عندها([21] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn21)).
2- الرحلة الثانية:
وهي رحلة المشرق حيث يصل إلى مكان يبرز لعين الرائي أن الشمس تطلع من خلف الأفق, ولم يحدد السياق أهو بحر أم يابسة؟ إلا أن القوم الذين كانوا عند مطلع الشمس كانوا في أرض مكشوفة بحيث لا يحجبهم عن شروقها مرتفعات جبلية أو أشجار سامقة, وذهب الشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- إلى أن المقصود *لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا" [الكهف:90], هي بلاد القطب الذي تكون فيه الشمس ستة شهور لا تغيب طوال هذه الشهور ولا يوجد ظلام يستر الشمس في هذه الأماكن([22] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn22)).
ونظرًا لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن منها, وهو الدستور المعلن في رحلة الغرب لم يكرر هنا إعلان مبادئه, لأنها منهج حياة ودستور دولة مترامية الأطراف وسياسة أمم, فهو ملتزم بها أينما حل أو ارتحل([23] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn23)).
3- الرحلة الثالثة:
تختلف عن الرحلتين السابقتين من حيث طبيعة الأرض والتعامل مع البشر وسكان المنطقة, ومن حيث الأعمال التي قام بها, فلم يقتصر فيها على الأعمال الجهادية لكبح جماح الأشرار والمفسدين؛ بل قام بعمل عمراني هائل, أما الأرض فوعرة المسالك, وأما السكان -وكأن وعورة الأرض قد أثرت على طبائعهم وطريقة تخاطبهم مع غيرهم- فهناك في التفاهم والمخاطبة بحيث لا يكاد الإنسان منهم يقدر على التعبير عما في نفسه, ولا أن يفقه ما يحدثه به غيره من غير بني قومه *وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً" [الكهف: 93], إما لسبب في أسلوب التخاطب والتعامل -كما أسلفنا- أو من التخلف الحضاري والبدائية في العادات والمفاهيم والمصطلحات, فلما وجدوا القوة في دولة ذي القرنين والعدل والصلاح في سيرته -وعدل السلطان يفتح أمامه القلوب قبل فتح الجيوش والأمصار- لجأوا إليه بحمايتهم من هجمات تلك القبائل الهمجية المفسدة, قبائل يأجوج ومأجوج التي كانت تشن عليهم هجماتهم من خلف الجبلين المتقابلين من الممر الضيق الذي بينهما, وذلك بإقامة السد بين الصدفين, مقابل خراج يدفعونه إليه في أموالهم, ونظرًا لأن القضية التي وضعها ذو القرنين نصب عينيه هي الإصلاح ومقاومة الفساد والشر, والحكم بالعدل بين الناس, ولم يكن همه جمع المال أو قصد العلو في الأرض بإذلال الشعوب, فقد رفض عرضهم, وتطوع بإقامة السد على أن يتطوعوا هم من جانبهم بتقديم الجهد البشري, فمنه الخبرة والتصميم والإشراف, وعليهم الطاقة العمالية والمواد الأولية المتوافرة في بلادهم([24] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn24)).
ونلاحظ من السياق القرآني أن هؤلاء القوم اتصفوا بصفات منها:
1- هم قوم متخلفون: *لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً" وهذا إما معناه أنهم لا يفقهون لغة غيرهم من الأقوام الأخرى, لأنهم لم يطَّلعوا عليها ولم يتعلموها, فهم منغلقون على لغتهم فقط, وإما معناه أن الكلام لا ينفع معهم, لأنهم لا يفقهون ولا يتفاعلون معه, ولا يتفاهمون مع قائله, لا يفعلون هذا لجفاء وغلظة عندهم, أو لغفلة وسذاجة في طبيعتهم.
2- هم قوم ضعفاء, ولذلك عجزوا عن صد هجمات يأجوج ومأجوج, والوقوف في وجههم, ومنع إفسادهم.
3- هم قوم عاجزون عن الدفاع عن أرضهم, ومقاومة المعتدين, ولذلك لجأوا إلى قوة أخرى خارجية, قوة ذي القرنين, حيث طلبوا منه حل مشكلاتهم والدفاع عن أراضيهم.
4- هم قوم اتكاليون كسالى, لا يريدون أن يبذلوا جهدًا ولا أن يقوموا بعمل, ولذلك أحالوا المشكلة على ذي القرنين, وأوكلوا إليه حلها, أما هم فمستعدون لدفع المال له([25] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn25)).
لقد كان فقه ذي القرنين في التعامل مع الشعوب المستضعفة هو السعي الجاد لنقلها من الجهل والتخلف والكسل والضعف إلى العلم والتقدم والنشاط والقوة, فكان يدير العمل بروح الجماعة, ويشترك بنفسه مع إشراك غيره, ويدل على ذلك ضمير المتكلم الذي يتقابل في تسلسل متتابع رفيع مع ضمير المخاطب في النظم القرآني الكريم مما يشير إلى روح الحماس والحيوية والتعاون المشترك([26] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn26)), *قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ` آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا" [الكهف: 96،95] لقد كان ذو القرنين حريصًا على مصلحة الناس, ناصحًا لهم فيما يعود عليهم بالنفع, ولهذا طلب منهم المعونة الجسدية, لما في ذلك تنشيط لهم ورفع لمعنوياتهم([27] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn27)). ومن نصحه وإخلاصه لهم, أنه بذل ما في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون, فهم طلبوا منه أن يجعل بينهم وبين القوم المفسدين سدًا, أما هو فقد وعد بأن يجعل بينهم ردمًا, (والردم هو الحاجز الحصين, والحجاب المتين وهو أكبر من السد وأوثق, فوعدهم بفوق ما يرجون) ([28] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn28)).
لقد عفَّ ذو القرنين عن أموال المستضعفين وشرع في تعليمهم النشاط والعمل والكسب والسعي, فقال لهم: *فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا" [الكهف:95].
إن هذا العبارة القرآنية معلم بارز في تضافر الجهود وتوحيد الطاقات والقدرات والقوى.
إن القيادة الحكيمة هي التي تستطيع أن تفجر طاقات المجتمع وتوجهه نحو التكامل لتحقيق الخير والغايات المنشودة.
إن المجتمعات البشرية غنية بالطاقات المتعددة في المجالات المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم, والقوى المادية, ويأتي دور القيادة الربانية في الأمة لتربط بين كل الخيوط والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات وتتجه بها نحو خير الأمة ورفعتها.
إن أمتنا الإسلامية مليئة بالمواهب الضائعة والطاقات المعطلة, والأموال المهدرة, والأوقات المبددة, والشباب الحيارى, وهي تنتظر من قيادتها في كل الأقطار والدول والبلاد لكي تأخذ بقاعدة ذي القرنين في الجمع والتنسيق والتعاون ومحاربة الجهل والكسل والتخلف([29] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn29))*فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ".
إن ذا القرنين لم يكن موقفه مع المستضعفين حمايتهم, وإنما توريثهم أسباب القوة حتى يستطيعوا أن يقفوا أمام المفسدين, لقد كان ذو القرنين يستطيع أن يبقى حتى يبدأ يأجوج ومأجوج في الهجوم, ثم يهاجم ويهزمهم, ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه ليس من وظيفة الحاكم أو الملك أن يظل في انتظار هجوم الظالم, ولكن وظيفته منع وقوع الظلم.
كيف منع ذو القرنين وقوع الظلم؟ لم يأت بجيوش لحماية المستضعفين مع قدرته على ذلك, وإنما طلب منهم أن يعينوه ليساعدهم على حماية أنفسهم ويتعلموا فنون الحماية ويكسبوا خبرات ويتدربوا على العمل الجاد المثمر الذي يجعلهم يبنون السد بأيديهم؛ وهذا أدعى للحفاظ عليه وإصلاحه إن أصابه شيء.
إن ذا القرنين رفض أن يكون هؤلاء المستضعفون عاطلين, قال الشيخ محمد متولي الشعراوي: وهذه تلفتنا إلى أن لله سبحانه وتعالى عطاء إمكانات, وعطاء ذاتي في النفس.. عطاء الإمكانات هو ما تستطيع أن توفره من وسائل تعينك على أداء العمل, والعطاء الذاتي في النفس هو القوة الذاتية في داخلك التي تعطيك طاقة العمل, وكثير منا لا يلتفت إلى عطاء النفس لا يلتفت إلى أنه فيه قوة يستطيع أن يعمل بها أعمالاً كثيرة, وأنه لا يستخدمها وأن لديه قوة تحمل وبإمكانه أن ينتقل من مكان إلى آخر.. وأن يعمل أعمالاً كثيرة.
هذه القوة معطلة عند عدد كبير من الناس, فهي غير مستخدمة, ويستطيع الرجل أن يفعل بها أشياء كثيرة, وأمامه المجالات التي يستخدم فيها طاقته؛ ولكنه لا يستخدمها, عنده قوة تفكير لو دربها على العلم لفتحت له أبوابًا كثيرة يرتزق منها؛ ولكنه يبقيها كسولة فلا تفكر في شيء ولا يستخدمها لينميها.
ماذا فعل ذو القرنين؟
لم يستعن بجيشه ولا بأناس آخرين.. إنما استعان بهؤلاء الضعفاء, لقد طلب منهم أن يأتوا بالحديد ثم بناء السد بحيث وصل به إلى قمة الجبلين, ثم قام بصهر الحديد, وأفرغ عليه النحاس ليكون السد في غاية المتانة والقوة.
إذن فهو قوَّى هؤلاء الضعفاء الذين كان يهاجمهم يأجوج ومأجوج, بأن علمهم كيف يعينون أنفسهم وكيف يبنون السد وجعلهم هم الذين يشتركون في البناء وهم الذين يقيمونه, وأعانهم هو بخبرته وعلمه فقط, ليأخذوا الثقة في أنفسهم, بأنهم يستطيعون حماية أنفسهم, وليتعلموا ما يعينهم ويحميهم, والإسلام ينهانا عن أن نعوِّد الناس على الكسل أو نعطيهم أجرًا بلا عمل, لأن ذلك هو الذي يفسد المجتمع, فالإنسان متى تقاضى أجرًا بلا عمل لا يمكن أن يعمل بعد ذلك أبدًا([30] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn30)).
إن ذا القرنين قام بمهمة الحاكم الممكن له في الأرض, فقوى المستضعف وجعله قادرًا على حماية نفسه من العدوان ولا يعتمد على حماية أحد, ولم يترك الناس في مقاعد المتفرجين؛ بل نقلهم إلى ساحة الجد عاملين([31] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn31)).
وهنا وقفة مهمة ودرس هام وضروري للأمة, وبخاصة في زماننا هذا, لأنها تواجه خطرًا ماحقًا مدمرًا, أشد وأقسى من يأجوج ومأجوج, إنه خطر الملاحدة واليهود والنصارى, الذين يسعون لتدمير كيان الأمة وسلخها من هويتها وعقيدتها وإسلامها وجعلها عاجزة مكتوفة الأيدي أمام هذا الخطر, تستنجد وتستنكر وتشكو إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة, والدعوة إلى مؤتمر دولي.
إن القرآن الكريم يعلمنا ويرشدنا إلى طريق النجاة ألا وهي الالتزام بمنهج الله واتخاذ طريق العمل الصائب الصحيح, بالجهاد والقتال والقوة والعلوم المتطورة لكي تستحق الأمة رحمة الله, فعلى الأمة أن تودِّع الأماني والأحلام الخادعة, وعليها أن تدخل ميدان العمل والعطاء والجهاد والشهادة, فعندما تحرك القوم المستضعفون نحو العمل بقيادة ذي القرنين, وصلوا إلى هدفهم المنشود, وغايتهم المطلوبة, ونقف مع ذي القرنين بعد أن تم بناء السد.
نظر ذو القرنين إلى سده العظيم الذي حفظ الناس من غارات المفسدين وقال: *هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي" [الكهف:98], إنها عبارة جميلة مباركة تشير إلى عدة معانٍ:
1- قال سيد قطب رحمه الله: (ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به, فلم يأخذه البطر والغرور, ولم تسكره نشوة القوة والعلم, ولكنه ذكر الله فشكره, ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه...) ([32] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn32)).
2- ذكر ذي القرنين لربه عند إنجاز عمله, يعلمنا كيف يكون ذكر الله سبحانه, إن من أعظم صور الذكر, هي أن يذكر ربه عند توفيقه في عمله, فيستشعر أن هذا بأمر ربه, فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر.
3- كان بناء السد رحمة من الله تعالى, وقد استخدم ذو القرنين علمه الذي علمه الله إياه, وتمكينه الذي مكنه الله له, استخدمه في مساعدة الناس وتقديم الخير لهم, ومنع العدوان عنهم, فكان علمه رحمة من ربه وكان استخدامه له رحمة من ربه.
4- كان القوم مُهددين بيأجوج ومأجوج, مُعرَّضين لإفسادهم, ولم يحمهم منهم إلا الله ببناء السد, فكان السد رحمة من الله لهم, وكان خلاصًا لهم وإنقاذًا بإذن الله, فلو لم يتم بناء السد, ولو بقى أولئك القوم يَشكون ويندبون, بدون عمل ولا جهد ولا حركة, لما أنقذوا أنفسهم من الخطر, لأن الإنقاذ لا يتم إلا بالعمل والجهد المتواصل, وتكاتف الجهود, والانقياد الطوعي للشعوب لشرع الله خلف القيادة الربانية([33] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn33)).
5- *فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا" [الكهف:98].
لقد أعلن ذو القرنين ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك عندما يحين وعد الله الذي لا يتخلف.
رابعًا: المفاهيم الحضارية والدروس والعبر:
أ- المفاهيم الحضارية:
إن الله تعالى أظهر في سيرة أحسن الملوك([34] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn34)) (ذي القرنين) مفاهيم حضارية وجعل في سيرته دروسًا لكل من أراد أن يحكم بالحق والعدل من الحكام في الناس, فأرشد القرآن الكريم عباده إلى ركائز الحضارة الربانية التي تقوم على شرع الله وتحكيمه بين العباد, فمن أهم هذه الركائز: الإيمان, العدل, العمل, وإنها لصفات لابد منها حتى يستقيم أمر الشعوب, ويأمنوا بحق على أنفسهم, وأموالهم, وأعراضهم, وأديانهم, وعقولهم, فالإيمان بالله ربًا يجعل الحاكم يحرص على أن يستقي أوامره وتشريعاته من منهج الله, الذي لا شطط فيه ولا خلاف, ولا إفراط ولا تفريط, ولا غلو ولا جفاء, ويكون بعيدًا كل البعد عن هواه, فلا يظلم ولا يبطر ولا يتحكم في رقاب الناس وأمنهم بدون وجه حق, والعدل لابد منه لأنه مركب النجاة, وأمان أهل الأرض, والثقة بين الراعي والرعية, والقائد والمقود والحاكم والمحكوم, وبالعمل والتعاون ينتشر العمران, وتعم الحضارة وفق منهج رب العالمين.
لقد بنى ذو القرنين حضارة ربانية معتمدة على ركائز الإيمان, والعلم والعدل, والإصلاح مستهدفة بني الإنسان أينما حل وأقام, أو ارتحل إلى أي مكان, فقاد الدنيا بالإيمان والخير والفلاح, وعمل على تخليصها من أسر المادة الطاغية, وكذلك الكفر والشرك والإجرام.
وحرص على تربية جنوده وأتباعه على الخير والحق ومحاربة الشر من النفوس, وأهم هذه الشرور الظلم والعدوان والتسلط على الناس, ومحاولة استعبادهم واستغلالهم لتحقيق مصالح شخصية, فالانحطاط الأخلاقي أضر شيء بالحياة الإنسانية.
إن الحضارة الربانية متكاملة, وقابلة للبناء في أي وقت كان فيه التزام بالمنهج الرباني وأحكامه, لأن المنهج الرباني وأحكامه فيه كل الخير من عناصر معنوية اعتقادية وروحية وأخلاقية وعلمية وإبداعية, وعناصر مادية تشمل التقدم العمراني والصناعي والزراعي والتجاري, وكذلك عناصر تنظيمية وتشريعية تنظم حياة الفرد والمجتمع والدولة, مرتبطًا بجميع جوانب الحضارة ولذلك تخرج للوجود حضارة ربانية مؤمنة تتقدم لصالح البشرية ولنشر الهداية لتعميمها على العباد وتسعى لبناء الرجال على أسس من العقلية والأخلاق, والأفكار الصحيحة, والتصورات السليمة قبل بناء المباني وتجميل المدن, وصناعة الأسلحة.
وتتميز الحضارة الربانية بتكاملها وتوازنها وتناسقها, من الحاجات الجسمية والعقلية والروحية وتتطلع إلى التنافس الشريف, وإسعاد البشرية, وتكوين الشخصية الربانية التي تتحمل مسئولياتها الحضارية.
إن سيرة ذي القرنين في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه تعطينا صورة مشرقة للإنسان القوي المؤمن العالم, الذي يسخر كل إمكانات دولته وجنوده وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز شرع الله وتمكين دينه وخدمة الإنسانية وإعلاء كلمة الله, وإخراج الناس من الظلمات إلى النور, ومن عبادة الناس والمادة إلى عبادة الله([35] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn35)), ولقد سار نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام والخلفاء الراشدون من بعده, على نفس المنوال والهدى الذي رسمه القرآن الكريم, ولقد طبقوا قول الله تعالى:*الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ" [الحج:41].
إن الإيمان الراسخ, والعمل الصالح, والسيرة الفاضلة, والمقاصد الخيرة, والدعوة إلى الله وإلى الحق واستخدام كل ما أوتينا من علم وحكمة يصنع الحضارة الربانية التي قاعدتها العقيدة الصحيحة, والتي تنبثق منها مبادئ وقيم وأخلاق ربانية تسعد من دخل في منهجها في الدنيا والآخرة.
إن الحضارة الإنسانية الرفيعة تتحقق في ظل دين الإسلام, وبذلك نستطيع أن نعرف الحضارة الربانية بأنها: «تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة الموحدة لخلافة الله في الأرض عبر الزمن, وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والكون والإنسان»([36] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn36)).
وهذا التعريف يتسع ليضم بين جوانبه حلقات الحضارة الربانية المتعددة والتي بدأت مع فجر التاريخ, عبر الأنبياء والرسل والمؤمنين بهم, حتى الحلقة الأوسع وهي الحلقة المبتدئة بعصر النبي  وما تبعه من تفاعلات وأحداث.
وهكذا تصبح الحضارة الربانية الحضارة العالمية, التي تضم بين أرجائها تفاعلات الأمم والشعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى, وتقبل في عضويتها العالم بأسره, أسوده وأصفره وأبيضه وفق المنهج الرباني وأحكامه.
وتسعى لخدمة الإنسان وإسعاده, ليكون مع سائر الأكوان المحيطة به في وحدة حضارية كونية تتسامى في تمجيد الله تعالى, وفي تسبيح أصيل للخلاق العليم خالق الوجود كله([37] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn37)), قال تعالى: *تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" [الإسراء: 44].
إننا إذا تأملنا في قول الله تعالى: *وَالْعَصْرِ ` إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ` إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [العصر:1-3]. لوجدناها بحق تمثل معنى الحضارة الربانية في مفاهيمها وعناصرها, فالسورة حوت عناصر الحضارة كلها بوضوح كامل: الإنسان, التجمع, صفة الجمع في السورة الذين آمنوا وعملوا الصالحات
- الزمن- الصبغة, كما تضمنت التفاعل الحضاري المستمر بالعمل والتطبيق والتنفيذ للمبادئ والمفاهيم.
إن تعطيل العمل والتنفيذ للمبادئ يعطل الربانية ويجعلها في حالة توقف وانتظار بل في حالة تأخر وانحسار([38] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn38)).
إن ذا القرنين ساهم في صناعة الحياة البشرية على أسس عقدية وأخلاق ربانية, وأكون قد أصبت الحقيقة إن قلت: وترك لنا معالم واضحة في التعامل مع نفسية الشعوب وتحريكها بالإيمان والعلم والعمل والعدل والإصلاح والتعمير.
ب- الدروس والعبر والحكم:
إن قصة ذي القرنين مليئة بالآيات والعبر والأحكام والآداب والثمرات والفوائد.
نذكر منها:
1- الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض, ورزقه من يشاء بغير حساب ملكًا ومالاً لما له من خفي الحكم وباهر القدرة, فلا إله سواه.
2- الإشارة إلى القيام بالأسباب, والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل, وأن على قدر الجد يكون الفوز والظفر, فإن ما قصه الله علينا عن ذي القرنين من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس, ومطلعها وشمالها وعدم فتوره, ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار, وركوب الأوعار والبحار ثم إحرازه ذلك الفخار, الذي لا يشق له غبار, أكبر عبرة لأولي الأبصار.
3- ومنها تنشيط الهمم لرفع العوائق, وأنه متى ما تيسرت الأسباب, فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر, عذرًا في الخمول, والرضاء بالدون, بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته حلاوة عقباه من الراحة والهناء.
4- وجوب المبادرة إلى معالي الأمور.
5- إن من قدر على أعدائه وتمكن منهم, فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال, وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال, بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته.
6- إن على الملك إذا اشتكى إليه جور مجاورين, أن يبذل وسعه في الراحة والأمن دفاعًا عن الوطن العزيز, وصيانة للحرية والتمدن من مخالب التوحش والخراب, قيامًا بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين.
7- إن على الملك التعفف عن أموال رعيته, والزهد في أخذ أجر في مقابل عمل يأتيه, ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته.
8- التحدث بنعمة الله إذا اقتضاه المقام.
9- تدعيم الأسوار والحصون في الثغور وتقويتها على أسس علمية وفق دراسة ميدانية صحيحة, لتنتفع به الأجيال على مر العصور وكر الدهور.
10- مشاركة الحاكم العمال في الأعمال, والإشراف بنفسه إذا تطلب الأمر, لكي تنشط الهمم.
11- تذكير الغير وتعريفهم ثمار الأعمال المهمة لكي يستشعروا رحمة الله تعالى.
12- استحضار القدوم على الله, واستشعار زوال هذه الدنيا والتطلع إلى ما عند الله.
13- الاعتبار بتخليد جميل الثناء, وجليل الآثار, حيث نجد أن الآيات الكريمة أوضحت أخلاق ذي القرنين الكريمة من شجاعة وعفة وعدل وحرص على توطيد الأمن والإحسان للمحسنين ومعاقبة الظالمين.
14- الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أممًا متباينة, كما كان يرمي إليه سعي ذي القرنين, فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بالمنهج الرباني والشرع السماوي([39] (ada99:24%20المبحث%20الثاني%20فقه%20التمكين%20عند% 20ذي%20القرنين.htm#_ftn39)).
وبهذا نقف عند الدروس والعبر والحكم من هذا القصص القرآني الكريم.



([1]) انظر: ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح لمحمد خير رمضان.

([2]) انظر: مع قصص السابقين في القرآن للخالدي (6/255،254).

([3]) ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح (247-249).

([4]) انظر: مع قصص السابقين في القرآن (6/244،242).

([5])مع قصص السابقين (2/331،330).

([6]) في ظلال القرآن (4/2291).

([7])انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/624).

([8])روح المعاني (16/40). (3) انظر: في ظلال القرآن (4/2293).



([10]) فتح القدير (3/313).

([11]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/624).

([12]، 3) المصدر نفسه (2/624).



([14]) المصدر نفسه (2/627).

([15]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/625).

([16]) انظر: روح المعاني (16/30).

([17]) انظر: البحر المحيط (6/159).

([18]) انظر: روح المعاني (16/31).

([19]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي لمصطفى مسلم, ص304.

([20]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/623).

([21]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي, ص 305.

([22]) القصص القرآني في سورة الكهف ص87.

([23]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي, ص 306.

([24])المصدر السابق, ص 307.

([25]) انظر: مع قصص السابقين (2/338).

([26]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/627).

([27]) انظر: أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي (3/243).

([28]) انظر: روح المعاني (16/40).

([29]) انظر: مع قصص السابقين (2/342).

([30]) القصص القرآني في سورة الكهف, ص 94،93.

([31]) المصدر نفسه, ص95.

([32]) الظلال (4/2293).

([33]) انظر: مع قصص السابقين (2/350).

([34]) انظر: مجموع الفتاوى (17/22).

([35]) انظر: ذو القرنين القائد الفاتح لمحمد خير رمضان, ص390.

([36]) (2) الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب (1/490).



([38]) الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب (1/491).

([39]) انظر: تفسير الإمام القاسمي (11/87-90).

الفاررة الي الله
10-18-2008, 04:57 PM
شــــــــروط التمكين وأسبابـــــــه
تمهيد:
إن الاستخلاف في الأرض, والتمكين لدين الله, وإبدال الخوف أمنًا, وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه. ولقد أشار القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين, ولوازم الاستمرار فيه.
قال تعالى: *وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ` وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [النور:56،55].
لقد أشارت الآيات الكريمة إلى شروط التمكين وهي: الإيمان بكل معانيه وبكل أركانه, وممارسة العمل الصالح, بكل أنواعه, والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر, وتحقيق العبودية الشاملة, ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه, وأما لوازم استمرار التمكين فهي: إقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, وطاعة الرسول .
وأما ما يتعلق بأسباب التمكين, فقد أمر الله تعالى بالإعداد الشامل في قوله تعالى: *وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ" [الأنفال:60].
والإعداد في حقيقته أخذ بالأسباب, فالإعداد المطلوب من خلال مفهوم الآية إعداد شامل؛ لأن كلمة قوة جاءت نكرة في سياق الأمر, فيشمل قوة العقيدة والإيمان, وقوة الصف والتلاحم, وقوة السلاح والساعد.
إن الآية الكريمة تفتح أذهان المسلمين على الإعداد الشامل؛ المعنوي والمادي, العلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات, وتدخل في طياتها
الإعداد التربوي والسلوكي والإعداد المالي, والإعلامي والسياسي والأمني,
والعسكري.... إلخ.
وفي هذا الباب سنتعرض لبيان شروط التمكين في فصل مستقل وبيان أسبابه في فصل آخر بإذن الله تعالى, لكي يستفيد منها المسلمون في حركتهم الجادة لتمكين شرع الله في الأرض.

الفاررة الي الله
10-18-2008, 04:58 PM
المبحث الأول الإيمان بالله والعمل الصالح
الفصل الأول شــــــــــروط التمكـــــــــين
المبحث الأول الإيمان بالله والعمل الصالح
لقد بين الله سبحانه لعباده حقيقة الإيمان الذي يقبل الله به الأعمال ويتحقق به وعد الله للمؤمنين.
فمن شروط الاستخلاف في الأرض تحقيق الإيمان بكل معانيه والالتزام بشروطه والابتعاد عن نواقضه.
وقد فصل القرآن الكريم والسنة النبوية موضوع الإيمان وأركانه وشروطه ولوازمه.
وقد بين علماء أهل السنة في تعاريفهم بيان حقيقة الإيمان فقالوا: بأن الإيمان هو التصديق بالقلب والنطق بالشهادتين والعمل بالجوارح والأركان, أي هو: اعتقاد وقول وعمل, فهذه الثلاثة كلها مندرجة فيه وتمثل أجزاء من حقيقته.
وقد تواترت أقوال العلماء ومن بعدهم على هذه الحقيقة, واستدلوا بأدلة كثيرة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على صحة هذا القول في حقيقة الإيمان([1] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn1)).
قال تعالى: *إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ` الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ` أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا" [الأنفال: 2-4].
فقد جمعت هذه الآيات -وهي تعرض صفات المؤمنين- بين عمل القلب وعمل الجوارح, واعتبرت هذا كله إيمانًا, وقصرت الإيمان عليه بأداة القصر والحصر *إِنَّمَا" وعرفت المؤمنين بتلك الصفات مجتمعة, عندما ضمنتها بعبارة *أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا" وأعمال الجوارح في هذه الصفات هي: إقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله.
ومنها قوله تعالى: *إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" [السجدة:15], فسجود المؤمنين عندما يذكَّرون بآيات الله, عبادة عملية بدنية, وتسبيحهم بحمد ربهم عبادة عملية لسانية, وعدم استكبارهم عبادة عملية سلوكية أخلاقية قلبية.. وهذه كلها أعمال مندرجة في حقيقة الإيمان.
ومنها قوله تعالى: *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" [البقرة: 277], فمن حقيقة الإيمان في الآية عمل الصالحات على عمومها, وخصصت اثنتين منها بالذكر وهما الصلاة والزكاة, واعتبرت أداءهما عمليًا من الإيمان.
إن آيات القرآن التي قرنت بين الإيمان وعمل الصالحات واعتبرت الأمرين من حقيقة الإيمان ومن صفات المؤمنين كثيرة, منها قوله تعالى: *إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا" [مريم:60].
وفي قوله تعالى: *إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ" [سبأ: 37]. وكقوله تعالى: *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً" [الكهف:30].
هذا وقد أطلق القرآن لفظ (الإيمان) على العمل في بعض الآيات ومن ذلك قوله تعالى: *وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" [البقرة: 143], والإيمان هنا يراد به الصلاة, وقد ذهب جمهور المفسرين إلى هذا, بل إن الصحابة فهموا هذا وتضافرت الروايات عنهم في سبب نزول الآية.
روى إمام المفسرين ابن جرير الطبري بسنده عن قتادة, قال: (كانت القبلة فيها بلاء وتمحيص, صلت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم نهي نبي الله , وصلى نبي الله  بعد قدومه المدينة مهاجرًا نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرًا..
ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام.. فقال في ذلك قائلون من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها, لقد اشتاق الرجل إلى مولده, قال الله عز وجل: *قُل للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [البقرة:142], فقال أناس -لما صُرفت القبلة نحو البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله: *وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ" [البقرة:143], ثم أورد الإمام الطبري إحدى عشرة رواية عن الصحابة والتابعين في أن المراد بالإيمان في الآية الصلاة, وأنها نزلت جوابًا على تساؤل لبعض الصحابة عن مصير الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس, وتساؤل آخرين منهم عن مصير صلاة إخوانهم إلى بيت المقدس الذين ماتوا قبل تحويل القبلة إلى الكعبة([2] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn2)).
فمعنى قوله: *وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ" على ما تضافرت به الرواية من أنه الصلاة, وما كان الله ليضيع تصديق رسول الله  بصلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره, لأن ذلك كان منكم تصديقًا لرسولي, واتباعًا لأمري, وطاعة منكم لي) ([3] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn3)).
وقد التفت الإمام الطبري إلى الربط بين الإيمان والصلاة, ولاحظ وجود التصديق في ممارسة الصلاة والتوجه فيها إلى بيت المقدس ثم إلى الكعبة المشرفة, وهذه اللفتة من الطبري لطيفة, وهذا الربط منه رائع, يشير إلى موهبته الفذة في التفسير واللغة وغيرهما([4] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn4)).
ومن الآيات التي أطلقت كلمة الإيمان على الأعمال قوله تعالى: *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" [يونس:9].
ذهبت طائفة من المفسرين إلى أن المراد بالإيمان هنا الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا.. وقد أورد الإمام الطبري أقوال مجموعة من التابعين في هذا المعنى, منها قول ابن جريج: (يهديهم ربهم بإيمانهم قال: يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة, يعارض صاحبه ويبشره بكل خير, فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك! فيجعل له نورًا من بين يديه حتى يدخله الجنة, فذلك قوله: *يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ" والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة, فيلازم صاحبه ويلازمه حتى يقذفه في النار) ([5] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn5)). وهناك آيات أخرى أطلقت على الإيمان عبارات أخرى تشير إلى العمل وتتضمنه, أورد الإمام البخاري في صحيحه بعضها.
منها قوله تعالى: *قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ" [الفرقان:77].
قال البخاري: (دعاؤكم: إيمانكم... ومعنى الدعاء في اللغة: (الإيمان).
وجعل ابن عباس رضي الله عنهما الدعاء بمعنى الإيمان قال: (لولا دعاؤكم: إيمانكم) ([6] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn6)).
ومن هذه الآيات قوله تعالى: *لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" [البقرة: 177].
فالآية اعتبرت هذه الخصال تصديقًا وإيمانًا, وجعلت أعمال البر هذه من الإيمان. ووجه الدلالة من الآية ما فسره رسول الله e حيث روى عبد الرزاق([7] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn7)) وغيره عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه سأل رسول الله e عن الإيمان فتلا عليه هذه الآية * لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ..... " إلى آخرها.. والحديث رجاله ثقات([8] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn8)).
ومن فقه الإمام البخاري وفطنته -وهو البصير في الحديث والتفسير- أنه جعل هذه الآية وما فيها من خصال البر من أمور الإيمان, وضمن باب أسماه «باب أمور الإيمان» وقرنها مع الآيات الأولى من سورة «المؤمنون» التي تتحدث عن صفات المؤمنين, ومع الحديث الذي يقرر أن الإيمان بضع وستون شعبة([9] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn9)).
ومن هذه الآيات: ثلاث آيات أوردها الإمام البخاري في صحيحه ضمن باب: «من قال إن الإيمان هو العمل» وهي قوله تعالى: *وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" [الزخرف: 72] قال ابن حجر في الفتح: «وقد نقل جماعة من المفسرين أن قوله هنا *تَعْمَلُونَ" معناه: تؤمنون»([10] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn10)) والثانية قوله تعالى: *فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ` عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [الحجر:93،92].
قال البخاري عن: «لا إله إلا الله» قال ابن حجر في الشرح: يدخل فيها المسلم والكافر, فإن الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف, بخلاف باقي الأعمال ففيها الخلاف.. فالسؤال عن التوحيد متفق عليه, فهذا هو دليل التخصيص, وحمل الآية عليه أولى, بخلاف الحمل على جميع الأعمال لما فيه من الاختلاف([11] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn11)).
من هذه الآيات التي أوردناها يتبين لنا أن الإيمان في القرآن شامل للاعتقاد وللنطق وللعمل, ولابد من القول بهذا اتباعًا للقرآن الكريم, الذي يجب أن تؤخذ منه الأقوال والآراء, وأن يعتمد عليه في الاستدلال والاستنباط, وأن يدخله المتأمل والباحث دون مقررات مسبقة.. فما قرره القرآن قبل, وما عرضه أخذ به, وما قال به لزم المؤمنين القول به.. وإليك أخي القارئ طائفة من أحاديث رسول الله  التي اعتبرت الإيمان شاملاً للقول والعمل والاعتقاد: روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي e قال: «الإيمان بضع وستون شعبة.. والحياء شعبة من الإيمان» ([12] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn12)).
وفي رواية للإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي e قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة, أفضلها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.. والحياء شعبة من الإيمان..» ([13] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn13)) والشاهد في الحديث ما ذكره رسول الله e, فالشهادة قول وإماطة الأذى عن الطريق عمل, والحياء خلق وسلوك, وجعل الثلاثة من الإيمان دليل على حقيقته, ومعظم شعب الإيمان هي أعمال([14] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn14)).
وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنهما عن النبي e قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»([15] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn15)).
وروى البخاري عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما أن النبي e قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» ([16] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn16)).
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله e سئل أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله», قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله», قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»([17] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn17)).
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله e أمر وفد عبد القيس عندما قدموا عليه بالإيمان بالله وحده. قال: «هل تدرون ما الإيمان؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا رسول الله, وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وأن تؤدوا خمسًا من المغنم»([18] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn18)).
هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث تجعلها شاملة للاعتقاد والعمل, وأما أقوال السلف فقد تواترت في بيان حقيقة الإيمان.
قال شارح الطحاوية: «ذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي([19] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn19)) وإسحاق([20] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn20)) بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان, وإقرار باللسان, وعمل بالأركان»([21] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn21)).
وقال الإمام سهل بن عبد الله التستري([22] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn22)): «الإيمان: قول وعمل ونية وسنة.. لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر, وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق. وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة»([23] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn23)).
وقال الإمام عبد الرزاق: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري([24] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn24)) ومالك بن أنس وعبد الله بن عمر والأوزاعي, ومعمر بن راشد([25] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn25)) وسفيان بن عيينة([26] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn26)) يقولون: الإيمان قول وعمل, يزيد وينقص.
وهذا قول ابن مسعود وحذيفة([27] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn27)) والنخعي([28] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn28)) والحسن البصري([29] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn29)) وعطاء([30] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn30)) وطاوس([31] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn31)) ومجاهد وعبد الله بن المبارك([32] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn32)).. فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح([33] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn33)).
فهؤلاء مصابيح الهدى وأئمة الدين وعلماء الأمة من أهل الحجاز والعراق والشام وخراسان يرون أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان.
وقال الإمام البخاري في كتاب الإيمان في صحيحه «هو قول وفعل يزيد وينقص والحب في الله والبغض في الله من الإيمان, وقال عمر بن عبد العزيز: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسننًا, فمن استكملها استكمل الإيمان, ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان, فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها, وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص([34] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn34)).
وبهذا يتبين لنا أن مفهوم الإيمان وحقيقته في القرآن والسنة, وفي مفهوم السلف, تصديق بالجنان, وإقرار باللسان, وعمل بالأركان, قال سيد قطب رحمه الله في ظلاله: «إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله, وتوجه النشاط الإنساني كله, فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله, لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله, وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة, لا يبقى معها هوى في النفس, ولا شهوة في القلب, ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله  من عند الله.
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله, بخواطر نفسه, وخلجات قلبه وأشواق روحه, وميول فطرته, وحركات جسمه, ولفتات جوارحه وسلوكه مع ربه في أهله, ومع الناس جميعًا.. يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلاً للاستخلاف والتمكين والأمن»([35] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn35)).
لقد تقرر أن الإيمان عند علماء السلف قول باللسان واعتقاد بالجنان وفعل بالأركان.
والقول باللسان هو النطق بشهادة الحق وهي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
ومعناها: لا معبود بحق إلا الله, وبذلك تنفي الإلهية عما سوى الله وتثبتها لله وحده([36] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn36)).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله, والتقرب إليه بما يحبه, ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه, وهذا حقيقة «لا إله إلا الله», وهي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين) ([37] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn37)), أما شقها الثاني: محمد رسول الله, فمعناه تجريد متابعته  فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر.
ومن هنا كانت «لا إله إلا الله» ولاء وبراء, نفيًا وإثباتًا.
ولاء لله ولدينه وكتابه وسُنَّة نبيه وعباده الصالحين, وبراء من كل طاغوت *فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى" [البقرة: 256].
وبهذه الآية يتضح أن الإنسان لا يكون مؤمنًا إلا بالكفر بالطاغوت.
وكلمة التوحيد ولاء لشرع الله, قال تعالى: *اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ" [الأعراف:3].
وقال تعالى: *فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا" [الروم: 30].
وبراء من حكم الجاهلية: قال تعالى: *أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" [المائدة: 50].
ويراء من كل دين غير دين الإسلام: قال تعالى: *وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [آل عمران: 85].
ثم هي نفي وإثبات, تنفي أربعة أمور([38] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn38)) وتثبت أربعة أمور.
تنفي الآلهة, والطواغيت, والأنداد, والأرباب.
فالآلهة: ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر, فأنت متخذه إلهًا.
والطواغيت: من عُبد وهو راضٍ, أو رُشح للعبادة.
والأنداد: ما جذبك عن دين الإسلام, من أهل, أو مسكن, أو عشيرة, أو مال فهو ند لقوله تعالى: *وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ" [البقرة: 165].
والأرباب: من أفتاك بمخالفة الحق وأطعته مصداقًا لقوله تعالى: *اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ...." [التوبة:31].
وتثبت أربعة أمور:
1- القصد: وهو كونك ما تقصد إلا الله.
2- والتعظيم والمحبة: لقوله تعالى: *وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ" [البقرة: 165].
3- والخوف والرجاء لقوله تعالى: *وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُّرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [يونس: 107].
ولقد جاء القرآن من أوله إلى آخره يبين معنى لا إله إلا الله, ينفي الشرك وتوابعه ويقرر الإخلاص وشرائعه, فكل قول وعمل صالح يحبه الله ويرضاه هو من مدلولات كلمة الإخلاص, لأن دلالتها على الدين كله إما مطابقة([39] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn39)), وإما تضمنًا([40] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn40)), وإما التزامًا([41] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn41)), يقرر ذلك أن الله سماها كلمة التقوى.
4- والتقوى: أن يتقي سخط الله وعقابه بترك الشرك والمعاصي, وإخلاص العبادة لله, واتباع أمره على ما شرعه, كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «أن تعمل بطاعة الله, على نور من الله, ترجو ثواب الله, وأن تترك معصية الله, على نور من الله, تخاف
عقاب الله»([42] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn42)).
لقد تم لأصحاب رسول الله e معرفة هذه الكلمة والتزام أحكامها والعمل بمقتضاها ولوازمها.
قال سفيان بن عيينة عندما سأله رجل عن الإيمان فقال: قول وعمل, قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله, وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه, وأشار سفيان بيده, قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون: أن الإيمان قول لا عمل؟ قال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تقرر أحكام الإيمان وحدوده, إن الله عز وجل بعث نبينا محمدًا  إلى الناس كلهم كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله, وأنه رسول الله. فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل, فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم, أمره أن يأمرهم بالصلاة, فأمرهم ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم, فلما علم الله جل وعلا صدق ذلك من قلوبهم, أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة, فأمرهم ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفهم الإقرار الأول ولا صلاتهم, فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من قلوبهم, أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم, حتى يقولوا كقولهم, ويصلوا صلاتهم, ويهاجروا هجرتهم, فأمرهم ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم, ولا قتالهم, فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبدًا, وأن يحلقوا رءوسهم تذللاً ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول, ولا صلاتهم, ولا هجرتهم, ولا قتلهم آباءهم, فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمرهم أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها, فأمرهم ففعلوا حتى أتوا بها قليلها وكثيرها, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم, ولا هجرتهم, ولا قتالهم آباءهم ولا طوافهم, فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده قال عز وجل: قل لهم: *الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" [المائدة:3].
قال سفيان الثوري: فمن ترك خلة من خلال الإيمان كان بها عندنا كافرًا ومن تركها كسلاً أو تهاونًا بها, أدبناه وكان بها عندنا ناقصًا, هكذا السُّنة أبلغها عني من سألك
من الناس([43] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn43)).
وقد ذكر العلماء رحمهم الله شروطًا سبعة لـ«لا إله إلا الله» لا تنفع صاحبها إلا باجتماع هذه الشروط. وإليك شرحها:
شروط كلمة التوحيد:
لابد أن تعلم أنه: (ليس المراد من هذا عدَّ ألفاظها وحفظها, فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها, ولو قيل له أعدها لم يحسن ذلك, وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم, وتراه يقع كثيرًا فيما يناقضها والتوفيق بيد الله, والله المستعان) ([44] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn44)).
وقد قال وهب بن منبه ([45] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn45)) لمن سأله: (أليس «لا إله إلا الله» مفتاح الجنة؟ قال: بلى. ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان, فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك, وإلا لم يفتح لك) ([46] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn46)).
وأسنان هذا المفتاح هي شروط «لا إله إلا الله» الآتية:
الشرط الأول: العلم بمعناها المراد منها نفيًا وإثباتًا, المنافي للجهل بذلك:
قال تعالى: *فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" [محمد:19]. وقال تعالى: *إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" [الزخرف:86] أي بـ «لا إله إلا الله», «وهم يعلمون» بقلوبهم ما نطقوا به بألسنتهم. وقال تعالى: *شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [آل عمران:18].
وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» ([47] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn47)).
الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك:
ومعنى ذلك: أن يكون قائلها مستيقنًا بمدلولات هذه الكلمة, يقينًا جازمًا, فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن([48] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn48)).
قال تعالى: *إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" [الحجرات:15].
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, لا يلقى بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة» ([49] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn49)).
الشرط الثالث: القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه:
وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها, وانتقامه
ممن ردها وأباها.
قال تعالى: *وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ` قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ` فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" [الزخرف: 23-25].
وقال تعالى: *وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" [الروم:47].
وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي e قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا, وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ, فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم, ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»([50] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn50)).
الشرط الرابع: الانقياد لما دلت عليه, المنافي لترك ذلك:
قال تعالى: *وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ... " [الزمر:54].
وقال تعالى: *وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ" [النساء: 125].
وقال تعالى:*وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى"
[لقمان:22].
وقال تعالى: *فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء: 65].
قال ابن كثير في تفسيرها: (يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكّم الرسول e في جميع الأمور, فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا, ولهذا قال: *ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به, وينقادون لك في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليمًا كليًا من غير ممانعة ولا مدافعة, ولا منازعة, كما ورد في الحديث: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» ([51] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn51)))([52] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn52)).
الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب:
وهو أن يقولها صدقًا من قلبه, يواطئ قلبه لسانه, قال تعالى: *الم ` أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ` وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" [العنكبوت:1-3].
وقال تعالى: *وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ` يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ` فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" [البقرة: 8-10].
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي e: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار» ([53] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn53)).
قال العلامة ابن القيم: «والتصديق بلا إله إلا الله يقتضي الإذعان والإقرار بحقوقها وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة, بالتصديق بجميع أخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.. فالمصدق بها على الحقيقة هو الذي يأتي بذلك كله, ومعلوم أن عصمة المال والدم على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبالقيام بحقها, وكذلك النجاة من العذاب على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبحقها»([54] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn54)).
وقال ابن رجب: (أما من قال: لا إله إلا الله بلسانه, ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعله قوله, ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى, قال تعالى: *وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ" [ص:26]) ([55] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn55)).
الشرط السادس: الإخلاص:
وهو تصفية بصالح النية عن جميع شوائب الشرك([56] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn56)).
قال تعالى: *أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ" [الزمر: 3].
وقال تعالى: *وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ" [البينة:5].
وفي «الصحيح» عن أبي هريرة عن النبي e: «أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه», «أو نفسه»([57] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn57)).
وقال الفضيل بن عياض([58] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn58))-رحمه الله-: «إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل, وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل, حتى يكون خالصًا صوابًا, والخالص أن يكون لله, والصواب أن يكون على السنة»([59] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn59)).
الشرط السابع: المحبة لهذه الكلمة, ولما اقتضته ودلت عليه, ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها, وبغض ما ناقض ذلك:
شرط المحبة أن توافق من تحب



على محبته بلا عصيان


فإذا ادعيت له المحبة من خلا



فك ما يحب فأنت ذو بهتان


أتحب أعداء الحبيب وتدعي



حبًا له ما ذاك في إمكان


وكذا تعادي جاهدًا أحبابه



أين المحبة يا أخا الشيطان؟


ليس العبادة غير توحيد المحبة



مع خضوع القلب والأركان([60] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn60))



قال تعالى: *وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ" [البقرة:165]، وقال تعالى: *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ" [المائدة: 54].
وفي الحديث الصحيح: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» ([61] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn61)).
وقال الشيخ حافظ الحكمي([62] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn62))رحمه الله: (وعلامة حب العبد ربه: تقديم محابه وإن خالفت هواه, وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه, وموالاة من والى الله ورسوله, ومعاداة من عاداه, واتباع رسوله e, واقتفاء أثره, وقبول هداه) ([63] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn63)).
ويقول ابن القيم في «النونية»:
وبعد أن بينت حقيقة الإيمان وشروطه التي يتحقق بها التمكين لدين الله والنصرة على الأعداء يتضح لنا: أن الفرد بغير الإيمان الحقيقي بالله, ريشة في مهب الريح, لا تستقر على حال, ولا تسكن إلى قرار, والإنسان بغير الدين الإسلامي يتحول إلى حيوان شره, أو وحش مفترس, لا تستطيع الثقافة الوضعية ولا القانون الجاهلي أن يحدا من شراهته أو يمنعاه من الافتراس.
والمجتمع بغير دين صحيح, وإيمان قوي, مجتمع متوحش مظلم متألم, وإن لمعت فيه بوارق الحضارة المهترئة وامتلأ بأدوات الرفاهية وأسباب النعيم الحسي, فهو مجتمع البقاء فيه للأقوى, لا للأفضل والأتقى, مجتمع تقرأ التعاسة والشقاء في وجوه أصحابه, وإن زينوا وجوههم بأنواع الأصباغ والمحسنات, وركبوا الطائرات, وسكنوا العمارات واغتصبوا أعظم الثروات, فهو مجتمع تافه رخيص هزيل, لأن غايات أهله غايات ساذجة, سطحية هزيلة لا تتجاوز شهوات البطون والفروج, قال تعالى: *وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ" [محمد: 12].
بخلاف مجتمع الإيمان والإسلام المبني على الحب في الله والرضا بكل ما صدر عن الله عز وجل واهب الحياة ومنشئ الخلق, وصاحب الأمر والنهي المطلق في الوجود كله, وهذا أمر طبيعي, في أن يحب الإنسان ربه, وخالقه ورازقه, لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها, وأي إحسان كإحسان من خلق فقدر وشرع فيسر, وجعل الإنسان في أحسن تقويم, ووعد من أطاعه بجنة الخلد التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
لهذا كله ولأكثر منه, أحب المؤمنون ربهم حبًا لا يقاس بغيره مما هو دونه, فقدموا أنفسهم وأهليهم وأموالهم في سبيل الله, بلا تردد أو منة, بل اعتبروا ذلك تفضلاً من الله عليهم, أن فتح لهم باب الجهاد والاستشهاد في سبيله ويسر لهم أسبابه, فقاموا بذلك الواجب خير قيام([64] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn64)).
إن الإيمان الحقيقي بالله, هو الذي ينبعث منه الحب في الله الذي يحرك إرادة القلب, ويوجهها إلى المحبوبات وترك المحظورات, وكلما ازداد الإيمان بالله في نفس المؤمن كلما ازدادت المحبة في الله لديه قوة وصلابة, وتحول المر حلوًا, والكدر صفاء, والألم شفاء, والنصرة جهادًا, والابتلاء رحمة, والإحجام عن نصرة أهل الحق خيانة, وتراجعًا عن الإسلام.
فالحب في الله أخص من الرضا وأعمق أثرًا حيث إنه الضمان الوحيد لترابط المجتمع واحترام حقوقه([65] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn65)), ولذلك ورد في الحديث الشريف: « لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا, ولا تؤمنوا حتى تحابوا, أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»([66] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn66)).
فحقيقة المحبة في الله لا تتم إلا بموافقة الباري جل وعلا في حب ما يحب
وبغض ما يبغض([67] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn67)).
ولذلك فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم إيمانًا من كان أقربهم إلى الله في محبته, وأقواهم في طاعته, وأتمهم عبودية له([68] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn68)).
وهذه الصفات تستلزم محبة الرسول e ومحبة ما جاء به من عند الله, ومحبة المؤمنين بهذا الدين, وإيثارهم على النفس بالمال والنصرة والتأييد والانضمام في حزبهم حيث إنهم حزب الله من انضم إلى حزب الله فقد أفلح في دنياه وأخراه.
إن الإيمان بالله, والحب في الله, وما يترتب عليهما قواعد متلازمة ينبني بعضها على البعض الآخر, ويتأثر اللاحق منها بالسابق, فإذا قوي الإيمان بالله في نفس المؤمن ازداد الحب في الله, وازدادت الأفعال المترتبة على ذلك, حتى تصبح الجماعة المسلمة, كخلايا الدم في الجسم تعمل لغرض واحد, وهدف واحد, وفي إطار واحد, عند ذلك تصبح الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة قادرة على أداء رسالتها ودورها العظيم في حق نفسها, وفي حق البشرية جمعاء([69] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn69)).
ولذلك جعل الله تعالى رابطة الدين والإيمان فوق كل الروابط الجاهلية الفاسدة مثل رابطة الدم, ورابطة اللون أو اللغة, أو رابطة الوطن أو الإقليم أو رابطة الحرفة, أو الطبقة, أو غير ذلك من الروابط الجاهلية التي تختلف اختلافًا جذريًا مع أصول
الإسلام ومنطلقاته في الموالاة والمعاداة والحب والبغض, قال تعالى: *يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات:13].
فالمقياس لتفاوت الأفراد في الإسلام هو التقوى والعمل الصالح, وهذا المبدأ يحقق العدل بالنسبة لكافة المنتمين إليه, ويسع العالم أجمع دون أي تمييز بينهم فيما عدا التقوى والعمل الصالح([70] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn70)).
إن الإيمان الحقيقي يجعل من أتباعه أخوة متحابين يعملون على رضا مولاهم العظيم, قال تعالى: *وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" [آل عمران:103].
إن الفهم الصحيح لحقيقة الإيمان وكلمة التوحيد لها آثار في حياة الإنسان, وتلك الآثار لها أثر في التمكين, فمن أهم هذه الآثار:
1- ما تنشئه في النفس من الأنفة وعزة النفس بحيث لا يقوم دونه شيء لأنه لا نافع إلا الله, وهو المحيي والمميت, وهو صاحب الحكم والسلطة والسيادة. ومن ثم ينزع من القلب كل خوف إلا منه سبحانه, فلا يطاطئ الرأس أمام أحد من الخلق, ولا يتضرع إليه, ولا يتكفف له, ولا يرتع من كبريائه وعظمته, لأن الله هو العظيم القادر, وهذا بخلاف المشرك والكافر.
2- ينشأ من الإيمان بهذه الكلمة من أنفة النفس وعزتها: تواضع من غير ذل, وترفع من غير كبر, فلا يكاد ينفخ أوداجه شيطان الغرور ويزهيه بقوته وكفاءته لأنه يعلم ويستيقن أن الله الذي وهبه كل ما عنده قادر على سلبه إياه إذا شاء, أما الملحد فإنه يتكبر ويبطر إذا حصلت له نعمة عاجلة.
3- المؤمن بهذه الكلمة: يعلم علم اليقين أنه لا سبيل إلى النجاة والفلاح إلا بتزكية النفس والعمل الصالح.
4- من آثار الإيمان الصحيح عدم تسرب اليأس, والبعد عن القنوط, لأنه يؤمن أن الملك والخزائن لله رب العالمين, لذلك فهو على طمأنينة وسكينة, وأمل, حتى ولو طرد العبد أو أهين وضاقت عليه سبل العيش.
5- من آثار كلمة الإيمان والتوحيد في نفس العبد إعطاء قوة عظيمة من العزم والإقدام والصبر والثبات والتوكل والتطلع إلى معالي الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى, مع شعوره أن وراءه قوة مالك السماء والأرض, فيكون ثباته ورسوخه وصلابته التي يستمدها من هذا التصور, كالجبال الراسية, وأنى للكفر والشرك بمثل هذه القوة والثبات؟.
6- من آثار الإيمان الحقيقي تشجيع الإنسان وامتلاء قلبه جرأة؛ لأن الذي يجبن الإنسان ويوهن عزمه شيئان: حبه للنفس والمال والأهل, أو اعتقاده أن هناك أحدًا غير الله يميت الإنسان, فإيمان المرء بلا إله إلا الله يرفع عن قبله كلاً من هذين السببين, فيجعله موقنًا بأن الله هو المالك الوحيد لنفسه وماله, فعندئذ يضحي في سبيل مرضاة ربه بكل غال ورخيص عنده. وينزع الثاني بأن يلقي في روعه أنه لا يقدر على سلب الحياة منه إنسان ولا حيوان ولا قنبلة ولا مدفع, ولا سيف ولا حجر, وإنما يقدر ذلك الله وحده. من أجل ذلك لا يكون في الدنيا أشجع ولا أجرأ ممن يؤمن بالله تعالى, فلا يكاد يخيفه أو يثبت في وجهه زحف الجيوش, ولا السيوف المسلولة, ولا مطر الرصاص والقنابل.
7- ومن ثمار الإيمان الصحيح, التحلي بالأخلاق الرفيعة والتطهر من الأخلاق الوضيعة.
8- ومن ثمار الإيمان على العبد تجعله حريصًا على التمسك بشرع الله تعالى ومحافظًا عليه.
9- ومن ثمار الإيمان تربية العبد على أن يكون جنديًا من جنود الدعوة التي تسعى لتحكيم شرع الله وتمكين دينه سبحانه وتعالى.
إن من شروط التمكين لدين الله تعالى في الأرض تحقيق الإيمان الذي يريده الله وبيَّنه رسوله  وتجسد في حياة أصحابه.
إن الإيمان المطلوب هو الذي يبعثنا على الحركة والهمة, والنشاط والسعي, والجهد والمجاهدة, والجهاد والتربية, والاستعلاء والعزة, والثبات واليقين([71] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn71)).
يقول الشيخ حسن البنا رحمه الله تعالى مفرقًا بين إيمان خامل وإيمان عامل, إيمان المسلم القاعد وإيمان المسلم الداعية تحت عنوان «إيماننا»:
«والفرق بيننا وبين قومنا بعد اتفاقنا في الإيمان بهذا المبدأ, أنه عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم, لا يريدون أن ينزلوا على حكمه ولا أن يعملوا بمقتضاه.. على أنه إيمان ملتهب مشتعل قوي يقظ في نفوس الإخوان المسلمين, ظاهرة نفسية عجيبة نلمسها ويلمسها غيرنا في نفوسنا نحن الشرقيين: أن نؤمن بالفكرة إيمانًا يخيل للناس حيث نتحدث إليهم عنها أنها ستحملنا على نسف الجبل وبذل النفس والمال واحتمال المصاعب ومقارعة الخطوب حتى ننتصر بها أو تنتصر بنا, حتى إذا هدأت ثائرة الكلام وانفض نظام الجمع, نسي كل إيمانه وغفل عن فكرته, فهو لا يفكر في العمل لها, ولا يحدث نفسه بأن يجاهد أضعف الجهاد في سبيلها, بل قد يبالغ في هذه الغفلة وهذا النسيان, حتى يعمل على ضدها وهو يشعر أو لا يشعر.. أو لست تضحك عجبًا حين ترى رجلا ً من رجال الفكر والعمل والثقافة في ساعتين اثنتين متجاورتين من ساعات النهار: ملحدًا من الملحدين, وعابدًا مع العابدين»([72] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn72)).
إن الإيمان الذي جاء به القرآن الكريم وبينه سيد الخلق أجمعين عليه أفضل الصلاة والتسليم ليس إيمانًا مجردًا حبيس دائرة الذهن والتصور؛ بل هو تصديق يتبعه عمل, وإقرار يتبعه التزام, واعتقاد يتبعه خضوع.
فحقيقة الإيمان في القرآن الكريم تدفع العبد المؤمن إلى جهاد ودعوة, والتزام وحركة, وتواصٍ بالحق وثبات عليه, وتواصٍ بالصبر وحث عليه([73] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn73)).
يقول سيد قطب رحمه الله: (والعمل الصالح هو الثمرة الطيبة للإيمان, والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب, فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة, ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح.. هذا هو الإيمان الإسلامي.. لا يمكن أن يظل خامدًا لا يتحرك, كامنًا لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن.
فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت, شأنه شأن الزهرة لا تُمسك أريجها, فهو ينبعث منها انبعاثًا طبيعيًا, وإلا فهو غير موجود.
ومن هنا قيمة الإيمان.. إنه حركة وعمل وبناء وتعمير.. يتجه إلى الله.. إنه ليس انكماشًا وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير.. وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة, وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة كبرى في صميم الحياة([74] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn74)).
إن الإيمان قوة دافعة وطاقة مجمعة, فما كادت حقيقته تستقر في القلب حتى تتحرك لتعمل, ولتحقق ذاتها في الواقع, ولتوائم بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة, كما أنها تستولي على مصادر الحركة في الكائن البشري كلها, وتدفعها في الطريق.
«ذلك سر قوة العقيدة في النفس, وسر قوة النفس بالعقيدة, سر تلك الخوارق التي صنعتها العقيدة في الأرض, وما تزال في كل يوم تصنعها الخوارق التي تغير وجه الحياة من يوم إلى يوم, وتدفع بالفرد وتدفع بالجماعة إلى التضحية بالعمر الفاني المحدود في سبيل الحياة الكبرى التي لا تفنى, وتقف بالفرد القليل الضئيل أمام قوى السلطان وقوى المال وقوى الحديد والنار, فإذا هي كلها تنهزم أمام العقيدة الدافعة في روح فرد المؤمن, وما هو الفرد الفاني المحدود الذي هزم تلك القوى جميعًا, ولكنها القوى الكبرى الهائلة التي استمدت منها تلك الروح, والينبوع المتفجر الذي لا ينضب ولا ينحسر ولا يضعف»([75] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn75)).
«تلك الخوارق التي تأتي بها العقيدة الدينية في حياة الأفراد وفي حياة الجماعات لا تقوم على خرافة غامضة, ولا تعتمد على التهويل والرؤى, إنها تقوم على أسباب مدركة وعلى قواعد ثابتة, إن العقيدة الدينية فكرة كلية تربط الإنسان بقوى الكون الظاهرة والخصبة, وتثبت روحه بالثقة والطمأنينة, وتمنحه القدرة على مواجهة القوى الزائلة والأوضاع الباطلة, بقوة اليقين في النصر, وقوة الثقة في الله, وهي تفسر للفرد علاقاته بما حوله من الناس والأحداث والأشياء, وتوضح له غايته واتجاهه وطريقه, وتجمع القوى والطاقات حول محور واحد, وتوجيهها في اتجاه واحد, تمضي إليه مستنيرة الهدف, في قوة وفي ثقة وفي يقين».
ويضاعف قوتها أنها تمضي مع الخط الثابت الذي يمضي فيه الكون كله ظاهرة وخافية, وأن كل ما في الكون من قوى مكنونة تتجه اتجاهًا إيمانيًا, فيلتقي المؤمن في طريقه, وينضم إلى زحفها الهائل لتغليب الحق على الباطل مهما يكن للباطل من قوة ظاهرة لها في العيون بريق»([76] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftn76)).
وبهذا لعلي أكون قد أوضحت حقيقة الإيمان التي نسعى لإيجادها في أفراد الأمة والجماعة المسلمة لنقطع خطوة نحو التمكين المنشود.



[/URL]([1]) انظر: في ظلال الإيمان للخالدي, ص 23.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref1)([2]) انظر: تفسير الطبري (3/167-169).

([3]) المصدر نفسه (3/169).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref3)([4]) في ظلال الإيمان, د. الخالدي, ص26.

([5]) تفسير الطبري (15/28).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref5)([6]) صحيح البخاري, كتاب الإيمان, باب دعاؤكم إيمانكم (1/9).

([7]) هو الإمام العلامة الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني, صاحب المصنف, رحل الأئمة إليه, من اليمن, وله أوهام مغمورة في سعة علمه, توفي 211هـ, العبر (1/283).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref7)([8]) فتح الباري, كتاب الإيمان, باب أمور الإيمان (1/74).

([9]) المصدر نفسه (1/74).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref9)([10]) فتح الباري, كتاب الإيمان, باب: من قال إن الإيمان هو العمل (1/109).

([11]) المصدر نفسه (1/110).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref11)([12]) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: أمور الإيمان (1/10) رقم 9.

([13]) رواه مسلم, كتاب الإيمان, باب: بيان عدد شعب الإيمان (1/63) رقم 57.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref13)([14]) في ظلال الإيمان, ص 30.

([15]) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: من الإيمان أن يحب لأخيه (1/11) رقم 13.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref15)([16]) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: حب الرسول × من الإيمان (1/11) رقم 14.

([17]) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: +فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ" (1/14) رقم 26.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref17)([18]) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: أداء الخمس من الإيمان (1/23) رقم 53.

([19]) هو الإمام العابد الحجة الثقة عبد الرحمن بن عمر الأوزاعي الفقيه, روى عن خلق كثير من التابعين, وكان رأسًا في العلم والعمل والاتباع, بارعًا في الكتابة, كان يكثر من الصلاة والعبادة وقيام الليل, توفي في بيروت عام 158هـ, تهذيب التهذيب (6/238), شذرات الذهب (1/341).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref19)([20]) هو إمام المشرق إسحاق بن إبراهيم المروزي ثم النيسابوري الحافظ ابن راهويه, عالم خراسان والعراق في عصره, توفي سنة 238هـ, حلية الأولياء 9/234.

([21]) انظر: الطحاوية, ص 373.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref21)([22]) من الزهاد الكبار والعباد المشهورين اشتهر بالتصوف السني وبالحكم الجميلة.

([23]) الإيمان لابن تيمية: 163.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref23)([24]) هو سفيان بن مسروق شيخ الإسلام من أهل الحديث, توفي 161هـ, سير أعلام النبلاء (7/229).

([25]) هو معمر بن راشد أبو عمر البصري من تلاميذ عبد الرزاق الصنعاني ت 153هـ, ميزان الاعتدال 4/154.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref25)([26]) هو محمد أبو محمد بن عيينة بن أبي عمران الهلالي, توفي 198هـ, تهذيب التهذيب (4/117).

([27]) حذيفة بن اليمان صحابي جليل صاحب سر رسول الله ×.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref27)([28]) هو إبراهيم بن يزيد النخعي, توفي 96هـ, تهذيب التهذيب (1/177).

([29]) من سادات التابعين اشتهر بالعلم والعبادة والزهد, توفي 110هـ بالبصرة.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref29)([30]) هو عطاء بن أبي رباح فقيه أهل الحجاز, أفضل أهل زمانه, توفي 114هـ, العبر (1/108).

([31]) طاوس بن كيسان اليماني أبو عبد الرحمن أحد الأعلام علمًا وأدبًا (ت106هـ), العبر (1/99).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref31)([32]) كان من المجاهدين العاملين جمعت فيه خصال الخير توفي 181هـ, وفيات الأعيان (3/32).

([33]) مسلم مع شرح النووي, كتاب الإيمان (1/146-147).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref33)([34]) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: قول النبي ×: «بني الإسلام على خمس» (1/9).

([35]) ظلال القرآن (4/2528).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref35)([36]) انظر: فتح المجيد, ص36.

([37]) مجموع فتاوى الإسلام (28/32).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref37)([38]) انظر: الولاء والبراء في الإسلام لمحمد سعيد القحطاني, ص 25.

([39]) دلالة المطابقة: هي دلالة اللفظ على معناه.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref39)([40]) دلالة التضمين: هي دلالة اللفظ على جزء من معناه.

([41]) دلالة الالتزام: هي دلالة اللفظ على معنى خارج عنه لكنه لازم له.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref41)([42]) انظر: المورد العذب الزلال. مجموعة الرسائل النجدية (4/99).

([43]) كتاب الشريعة لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري, ص104.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref43)([44]) معارج القبول للشيخ الحافظ الحكمي (1/418).

([45]) وهب بن منبه بن كامل اليماني الصنعاني روى عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وابن عمر, توفي 110هـ, انظر: تهذيب التهذيب (1/167).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref45)([46]) رواه البخاري, كتاب الجنائز, باب: من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله (2/87).

([47]) رواه مسلم, كتاب الإيمان, باب: الدليل من مات على التوحيد (1/55) رقم 43.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref47)([48]) معارج القبول (2/419).

([49]) رواه مسلم, كتاب الإيمان, باب: الدليل من مات على التوحيد (1/57،56) رقم 27.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref49)([50]) رواه البخاري, كتاب العلم, باب: فضل من عَلِم وعلم (1/32) رقم 79.

([51]) الحديث مروي في الأربعين النووية ص 134, قال فيه النووي: وهو حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref51)([52]) تفسير ابن كثير (1/533).

([53]) رواه البخاري, كتاب العلم, باب: من خص بالعلم قومًا (1/47) رقم 128.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref53)([54]) التبيان في أقسام القرآن لابن القيم, ص43.

([55]) كلمة الإخلاص لابن رجب, ص28.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref55)([56]) معارج القبول (2/423).

([57]) صحيح البخاري, كتاب العلم, باب الحرص على الحديث (3/38) رقم 99.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref57)([58]) هو أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود الطالقاني الأصل, الزاهد العابد الثقة الإمام المشهور, كان أول أمره من قطاع الطرق, ثم تنسك وسمع الحديث بالكوفة, مات سنة 187 هـ, حلية الأولياء 8/84, سير أعلام النبلاء (8/421).

([59]) مجموع الفتاوى (3/124).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref59)([60]) النونية, ص158.

([61]) صحيح البخاري, كتاب الإيمان, باب: حلاوة الإيمان (1/11) رقم 16.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref61)([62]) هو الشيخ العلامة حافظ أحمد الحكمي, عالم سلفي من منطقة تهامة, ولد سنة 1342هـ, بقرية السلام بالقرب من جيزان, كان آية في الذكاء وسرعة الحفظ والفهم, تتلمذ على يد الشيخ الداعية عبد الله القرعاوي توفي سنة 1377هـ, وعمره 35, انظر ترجمته في مقدمة معارج القبول بقلم ابنه.

([63]) معارج القبول (2/424).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref63)([64]) انظر: كتاب الإيمان وأثره في الحياة, د. القرضاوي, ص5-12.

([65]) انظر: الموالاة والمعاداة للجلعود (1/245).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref65)([66]) رواه مسلم, كتاب الإيمان, بيان لا يدخل الجنة إلا المؤمنون (1/74) رقم 93.

([67]) انظر: مجموعة التوحيد, ص 422-423.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref67)([68]) انظر: مجموعة التوحيد, ص 422، 423.

([69]) انظر: الموالاة والمعاداة (1/246).

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref69)([70]) المصدر نفسه (1/246).

([71]) انظر: في ظلال الإيمان, ص 63.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref71)([72]) رسائل حسن البنا, ص16.

([73]) انظر: في ظلال الإيمان, ص 64.

(ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref73)([74]) في ظلال القرآن (6/3967،3966).

([75]) انظر: في ظلال القرآن (6/3353).

[URL="ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20والع مل%20الصالح.htm#_ftnref76"] (ada99:26%20المبحث%20الأول%20الإيمان%20بالله%20وال عمل%20الصالح.htm#_ftnref75)([76]) المصدر نفسه (6/3353).

الفاررة الي الله
11-11-2008, 11:15 PM
تحقيـــــــــق العبـــــــادة

أولاً: معنى العبادة في اللغة والشرع:

أ- في اللغة: العبادة والعبدية والعبودية: الطاعة([1] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn1)).
وفي لسان العرب: أصل العبودية: الخضوع والتذلل.
والتعبد: التنسك, والعبادة: الطاعة.
والتعبد: التذلل, والتعبيد: التذليل.
بعير معبد: مذلل, وطريق معبد: مسلوك مذلل([2] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn2)).
ويرى أبو الأعلى المودوي في معنى العبادة استنادًا إلى الاستعمال اللغوي لمادة (ع ب د) أن أصل معنى العبادة هو الإذعان الكلي, والخضوع الكامل والطاعة المطلقة([3] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn3)).
ب- العبادة في الشرع: خضوع وحب([4] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn4)), والعبادة المأمور بها العبد تتضمن معنى الذل والخضوع لله, ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له([5] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn5)).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: (والإله هو المعبود الذي يستحق غاية الحب والعبودية والإجلال والإكرام والخوف والرجاء.....) ([6] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn6)).
وينص ابن القيم -رحمه الله-: على أن (العبادة تجمع أصلين غاية الحب بغاية الذل والخضوع)([7] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn7)). ودعائم هذه العبادة التي تنتظم أعمال الإنسان كلها القلبية, والعملية الفردية والجماعية: المحبة والخوف والرجاء, وقد جعل ابن القيم هذه الثلاث في قلب المؤمن: (بمنزلة الطائر, فالمحبة رأسه, والخوف والرجاء جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران, ومتى قطع الرأس مات الطائر, ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر) ([8] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn8)), وبهذا يتضح مفهوم العبادة في الشرع.
ثانيًا: حقيقة العبادة:
إن من شروط التمكين لدين الله تحقيق العبادة لله في دنيا الناس وعلى الجماعة المسلمة أن تفهم حقيقة العبادة في القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين , وأن تعمل على نشر المفهوم الصحيح لمعنى العبادة في شرايين الأمة حتى تخرج من الأوهام والمغالطات والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
لقد ساد بين الناس مفاهيم خاطئة للعبادة, صرفت عقولهم وقلوبهم وأعمالهم عن هذه الوظيفة التشريفية التي خلق الله الإنسان من أجلها, وسخر له كل شيء في نفسه وفي الكون من حوله, ليقوم بها وفق أمر خالقه, وعند تأمل القرآن الكريم والسنة النبوية وما تحويه من أخبار وأوامر ونواه ووعد ووعيد, نجد كلها تدور حول تقرير ألوهية الله سبحانه وتعالى وعبودية الإنسان له.
فإذا كان خلق الإنسان وتسخير الكون له, وإيجاد العقل والقلب والإرادة فيه, وإرسال الرسل وإنزال الكتب وخلق الجنة والنار, وقبيل ذلك وبعده ما تقتضيه صفات الباري -جل وعلا- من كونه في ذاته وأفعاله سبحانه وتعالى حكيمًا عليمًا, خلق كل شيء فقدره تقديرًا, ولم يخلق شيئًا عبثًا ولم يوجد شيئًا لغير حكمة, وإذا كان القرآن المجيد, وما فيه من أخبار وأوامر ووعد ووعيد جاء لأجل هذه المهمة العظيمة, ألا وهي تعبيد الخلق كلهم لله سبحانه فكيف يصح حينئذ أن يتصور أن العبادة هي النية النقية وحسب, أو أنها الشعائر التعبدية فقط, أو أنها لبعض نشاطات الإنسان دون بعض, أو لبعض أفعاله وأحواله دون بعض.
بل إن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان, وجعلها غايته في الحياة, ومهمته في الأرض, دائرة رحبة واسعة, إنها تشمل شئون الإنسان كلها, وتستوعب حياته جميعًا, وتستغرق كل مناشطه وأعماله([9] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn9)), وبهذا المعنى الشامل, فهم السلف الصالح عبادة الإنسان فردًا كان أو جماعة, وقد لخص هذا المعنى الشامل للعبادة وحدد ماهيتها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حين قال: (العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة, فالصلاة والزكاة والصيام والحج, وصدق الحديث, وأداء الأمانة, وبر الوالدين, وبر الوالدين, وصلة الأرحام, والوفاء بالعهود, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والجهاد للكفار والمنافقين, والإحسان إلى الجار واليتامى والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم, والدعاء والذكر والقراءة, وأمثال ذلك من العبادة, وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له, والصبر لحكمه, والشكر لنعمه, والرضا بقضائه, والتوكل عليه, والرجاء لرحمته, والخوف لعذابه, وأمثال ذلك هي من العبادة لله..) ([10] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn10)).
وبهذا التعريف الجامع لا يمكن أن يخرج أي شيء من نشاطات الإنسان وأعماله, سواء كان ذلك في العبادات المحضة, أو في المعاملات المشروعة, أو في العادات التي طبع الإنسان على فعلها.
أما في العبادات والمعاملات المشروعة فإنها مما يحبه الله ويرضاه, وهذا أمره الشرعي الدائر بين الأحكام الخمسة التي اصطلح عليها الفقهاء وهي: (الواجب, والمحرم, والمستحب, والمكروه, والمباح) أما في العادات فالذي لم يحدد منها بأوامر الشرع, ولم يتقيد بأحكامه على وجه الخصوص, فإنه لا يخرج عن كونه داخلاً تحت عمومات الشرع باعتبار عبودية الإنسان في كل أحواله لله سبحانه, وباعتبار أن (العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله, أو فيما يكرهه, فلهذا أيضًا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة) ([11] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn11)).
وإن كان ينبغي لنا هنا الإشارة إلى أن الأصل في العبادات المحضة المنع حتى يرد ما يدل على مشروعيتها, وأن أصل العادات العفو حتى يرد ما يدل على منعها, وذلك مبني على (أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينه, وعادات يحتاجون إليها في دنياهم, فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله, أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع, وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه, والأصل فيه عدم الحظر, فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى, وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله, والعبادة لابد أن يكون مأمورًا بها, فما لم يثبت أنه مأمور به, كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟!.
وما لم يثبت من العبادات أنه منهي عنه, كيف يحكم عليه أنه محظور؟ والعادات الأصل فيها العفو, فلا يحظر منها إلا ما حرم) ([12] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn12)).
وهذا التقسيم في الحظر والإباحة لا يخرج شيئًا من أفعال الإنسان العادية من دائرة العبادة لله, ولكن ذلك يختلف في درجته ما بين عبادة محضة وعادة مشوبة بالعبادة, وعادة تتحول بالنية والقصد إلى عبادة, لأن المباحات يؤجر عليها بالنية والقصد الحسن إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة, أو المندوبة أو تكميلاً لشيء منهما) ([13] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn13)).
وقال النووي في شرحه لحديث «في بضع أحدكم صدقة»([14] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn14)): (وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنية الصادقة) ([15] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn15)).
ومن ذلك يتضح: (أن الدين كله داخل في العبادة, والدين منهاج الله جاء ليسع الحياة كلها, وينظم جميع أمورها من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة, وسياسة الحكم, وسياسة المال, وشئون المعاملات والعقوبات, وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب.
إن الشعائر التعبدية من صلاة, وصوم, وزكاة, لها أهميتها ومكانتها ولكنها ليست العبادة كلها؛ بل هي جزء من العبادة التي يريدها الله تعالى.
إن مقتضى العبادة المطالب بها الإنسان, أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرفاته وسلوكه وعلاقاته مع الناس وفق المناهج والأوضاع التي جاءت بها الشريعة الإسلامية, يفعل ذلك طاعة لله واستسلامًا لأمره..) ([16] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn16)).
والدليل على المفهوم الشامل للعبادة, من الكتاب والسنة وفعل الصحابة رضي الله عنهم: فأما من القرآن الكريم فقوله تعالى: *وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56]، *وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة:31], *قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ` لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" [الأنعام:163،162], *وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ" [البينة:5].
ومن السنة أحاديث كثيرة بعضها في عموم العادات بدون تخصيص وبعضها الآخر في أفراد السلوك العادي, وفي هذا الأخير دليل وتشبيه على المعنى العام المقصود إثباته هنا فمن ذلك:
قوله e: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة, وهو يحتسبها كانت له صدقة» ([17] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn17)).
قوله e: «كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم»([18] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn18)).
قوله e: «دينار أنفقته في سبيل الله, ودينار أنفقته في رقبة, ودينار تصدقت به على المسكين, ودينار أنفقته على أهلك, أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك» ([19] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn19)).
وقال e: «كل سُلامي من الناس عليه صدقة, كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة, وتعين الرجل على دابته فيحمل عليها, أو ترفع له متاعه صدقة, والكلمة الطيبة صدقة, وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة, ودل الطريق صدقة, وتميط الأذى عن الطريق صدقة»([20] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn20)).
وأما الاستدلال على عموم العبادة وشمولها لحياة الإنسان بفعل السلف وفهمهم ففيما روى البخاري في صحيحه عن أبي بردة([21] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn21)) في قصة بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن, وفي آخره قال أبو موسى لمعاذ: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: «أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي, فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي»([22] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn22)). وفي كلام معاذ رضي الله عنه, دليل أن المباحات يؤجر عليها بالقصد والنية.
وهذا الفهم يجعل المسلم يقبل على شئون الحياة كلها وكله حرص على إتقانها لكونها عبادة لله تعالى ملتزمًا بالشروط الآتية:
1- أن يكون العمل مشروعًا في نظر الإسلام, أما الأعمال التي ينكرها الدين
فلا تكون عبادة بأي حال من الأحوال, قال الرسول : «.. إن الله تعالى طيب لا يقبل
إلا طيبًا..» ([23] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn23)).
2- أن تصحبه النية الصالحة, فينوي المسلم إعفاف نفسه, وإغناء أسرته, ونفع أمته, وعمارة الأرض كما أمره الله رب العالمين.
3- أن يؤدي العمل بإتقان وإحسان, قال النبي : «إن الله كتب الإحسان على
كل شيء..» ([24] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn24)).
4- أن يلتزم في عمله حدود الله تعالى, فلا يظلم, ولا يخون, ولا يغش, ولا يجور.
5- ألا يشغله عمله لمعاشه عن واجباته الدينية([25] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn25)). قال تعالى: *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"[المنافقون:9].
إن من أخطر الانحرافات التي وقعت فيها الأجيال المتأخرة من المسلمين انحرافهم في تصور مفهوم معنى العبادة.. وحين يعقد الإنسان مقارنة بين المفهوم الشامل الواسع العميق الذي كانت الأجيال الأولى من المسلمين تفهمه من أمر العبادة, والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الأجيال المعاصرة, لا يستغرب كيف هوت هذه الأمة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض الذي نعيشه اليوم, وكيف هبطت من مقام الريادة, والقيادة للبشرية كلها لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه الأمم تنهشه من كل جانب كما تنهش الفريسةَ الذئابُ([26] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn26)).
إن من شروط التمكين أن يكون مفهوم العبادة في حس الجيل, إن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كله, ما نفهم من قول الله سبحانه: *وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56].
لقد كان الجيل الأول لهذه الأمة يفهم الحياة كلها على أنها عبادة تشمل الصلاة والنسك, وتشمل العمل كله, وتشمل لحظة الترويح كذلك, فلا شيء في حياة الإنسان كلها خارج من دائرة العبادة, وإنما هي ساعة بعد ساعة في أنواع مختلفة من العبادة, كلها عبادة وإن اختلفت أنواعها ومجالاتها([27] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn27)).
وبهذا الفهم العميق لمفهوم العبادة حققت تلك الأمة في سالف عهدها ما حققته من منجزات في كل اتجاه, فحين كانت تمارس الأمة إيمانها الحق, وعبادتها الحقة, وكانت الأخلاق في حسها جزءًا من العبادة المفروضة على المسلم, حدثت إنجازات هائلة لم تتكرر في التاريخ, ففي أقل من نصف قرن امتد الفتح الإسلامي من الهند شرقًا إلى المحيط غربًا, وهي سرعة مذهلة لا مثيل لها في التاريخ كله, ولم يكن الكسب هو الأرض
التي فتحت, وإنما كان الكسب الأعظم هو القلوب التي اهتدت بنور الله فدخلت في دين الله أفواجًا([28] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn28)).
وما كانت تلك الأمة لتقدر على دك حصون الشرك, واقتلاعها بمثل هذه السهولة, وبمثل هذه السرعة, وما كانت لتقدر على إبراز تلك المثل الرفيعة التي أبرزتها في عالم الواقع, من إقامة العدل الرباني في الأرض, ونظافة التعامل, والوفاء بالمواثيق, وشجاعة النفس, والبطولة الفذة في ميدان الحرب والسلم سواء, وما كانت لتقدر على إنشاء حركتها العلمية الضخمة, ولا حركتها الحضارية السامقة.. ما كانت لتقدر على ذلك كله, ولا على شيء منه, لولا هذا الإحساس العميق لديها بأنها في ذلك كله تقوم بالعبادة التي خلق الله الإنسان من أجلها وتقوم به بذات الحس الذي تؤدي به الصلاة([29] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn29)).
هكذا كانت العبادة تصورًا وفهمًا وعملاً عند الأجيال المسلمة الأولى([30] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn30)), ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ تصحيح المفاهيم أولاً, ثم إقامة بناء جديد على المفاهيم الصحيحة للإسلام([31] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn31)).

:astagfor:

إن قضية العبادة ليست قضية شعائر, وإنما هي قضية دينونة واتباع, وإنها لذلك استحقت كل هذه الرسل والرسالات, وكل هذا الاهتمام([32] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn32)).
وحتى تستحق الأمة الإسلامية اليوم وعد الله بالتمكين فإن عليها أن تصيغ حياتها كلها صياغة جديدة على منهج الله رب العالمين, لتصبح كلها عبادة من لحظة التكليف إلى لحظة الموت, لا تندّ عنها لحظة واحدة من لحظات الوعي, ولا لمحة, ولا خاطر, ولا لون من ألوان النشاط([33] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn33)), امتثالاً وتحقيقًا لقول الله تعالى: *قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الأنعام:162].
إن من أسباب ضياع الأمة وضعفها, وانهزامها أمام أعدائها فقدها لشرط مهم من شروط التمكين ألا وهو تحقيق العبودية بمفهومها الشامل الصحيح.
ثالثًا: أهمية الجانب العبادي في حياة الإنسان:
إن العبادات التي سنها الله لنا ذات تأثير شامل مشرق, ولها أخطر المهمات في تمكين الحقائق العليا للرسالات الإلهية, وتحقيق الفطرة الإنسانية على وجهها الصحيح المستقيم, طالما تمثلت فيها عناصر الحب والذل, والرجاء والخوف ونحوها, ومعلوم لدى العلماء أن للعبادة مقصدًا أصليًا, وهو التوجه إلى الواحد الصمد, وإفراده بالعبادة في كل حال, طلبًا لرضا الله, والفوز بالدرجات العلا, وهناك مقاصد تابعة للعبادة: صلاح النفس, واكتساب الفضيلة, فالصلاة مثلاً أصل مشروعيتها الخضوع لله تعالى, وإخلاص التوجه إليه, والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه, وتذكير النفس بذكره, قال تعالى: *وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي" [طه:14], وقال: *إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ" [العنكبوت:45] يعني أن اشتمال الصلاة على التذكير بالله هو المقصود الأصلي, ثم إن لها مقاصد تابعة كالاستراحة إليها من أنكاد الدنيا وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة, وكذلك سائر العبادات لها فوائد أخروية وهي العامة, وفوائد دنيوية وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية وهي الانقياد والخضوع لله([34] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn34)).
وإذا تأملنا في مهمة العبادة يمكننا أن نستخلص الآتي:
1- تثبيت الاعتقاد:
إن روح العبادة هو إشراب القلب حب الله تعالى, وهيبته, وخشيته والشعور الغامر بأنه رب الكون ومليكه, والتوجه دائمًا بما شرع من شعائر ونسك, باعتبارها مظهرًا عمليًا دائبًا لصدق الإنسان في دعوى الإيمان, وتذكيرًا مستمرًا بسلطان الإله الأعلى, وإلهابًا متجددًا لجذوة اليقين في الله, ورجاء فضله وثوابه.
ولنأخذ مثالاً عباديًا لتثبيت معنى التوحيد, وإجلال الله تعالى, وهو (الأذان) وقد شرع بدخول أوقات الصلاة المفروضة, فهو يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات, وينادي به منادي المسلمين صوتًا في كل مكان يوجد به تجمع إسلامي, ولو كان أدنى الجمع من المسلمين, بل شرع مع ذلك للمسافر, والمنفرد, ولو كان في بادية لما يمثله من معانٍ عظيمة ليس مجرد الإعلام بدخول الوقت.
إن المؤذن حين ينادي بصوته الأعلى: (الله أكبر الله أكبر) ثم يكررها, يطلب شرعًا أن يردده معه كل مسلم ومسلمة حين يسمعون هذا القول الأجل, لينسكب في مشاعر الجميع وفي أوقات متكررة متقاربة, معنى الكبرياء المطلق لله رب العالمين, وأنه تعالى فوق كل شيء وأكبر من كل شيء, فينبغي أن يعتز به وحده, ويلوذ بحماه وكنفه, ويستعلي فوق أعناق الطواغيت والجبارين بهذا النداء الجهير, الذي أراد الله عز وجل أن يتواطأ عليه المجتمع كله, وأن يظل حتى المنفرد على صلة دائمة به.
فإذا تقرر هذا المعنى عاد النداء الأجل ليملأ الآفاق: (أشهد أن لا إله إلا الله) وهو تذكير يومي بالعهد والميثاق الذي أعطاه العبد لربه بأن لا يعبد ولا يطيع إلا ربه الأكبر, المنفرد بالكبرياء في السموات والأرض.
ثم يأتي الشق الثاني من الشهادة: (أشهد أن محمدًا رسول الله) وهو كما علمت إقرار متكرر أيضًا بالطريق الذي تؤخذ عنه العبادة المشروعة, والتي لا تصح إلا بالتلقي عن الوحي الإلهي الذي جاء به المعصوم .
ثم تأتي رابعًا: الدعوة إلى الصلاة نفسها في جملتين فقط: (حي على الصلاة, حي على الصلاة) لأن الأذان كما قلنا أبعد مدى, وأشمل آثارًا.
ثم تأتي خامسًا: الدعوة العامة إلى الصلاح المطلق, المتمثل في الاستجابة لهذا الدين الإلهي الأغر, ومثله وتعاليمه, وفي مقدمتها الصلاة بداهة([35] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn35)).
ولذلك يعود الشارع بالمؤذن إلى نقطة البدء ليكبر في الختام التأكيد على تفرده تعالى بالكبرياء, وإعلان التوحيد بصيغة الإقرار والإثبات بعد صيغة الشهادة السابقة (الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا الله) معنى هذا أن الأذان وحده يجري على ألسنة المؤمنين, ويسكب في ضمائرهم, ويغرس في حياتهم ووجدانهم إفراد الله تعالى بالكبرياء (ثلاثين) مرة يوميًا, وإفراده تعالى بصفة الألوهية الذي تفرده بالعبادة والطاعة «خمس عشرة» مرة, وهو نداء لا يتقيد بحدود معبد, أو مسجد, وإنما ينطلق ليدخل كل بيت, ويصافح كل سمع, ويطرق كل قلب يريد الهدى.
وإذا كان هذا هدف الوسيلة في تقرير الأصول العليا فإن القصد الذي تؤدي إليه (وهي الصلاة) أعظم شأنًا, وأتم مظهرًا, فقد فرضها الله على كل بالغ من الذكور والإناث خمس مرات في اليوم والليلة, وهي تبدأ بالتكبير ويطلب من المصلي تكرار هذه الجملة (الله أكبر) في صلوات الفرض فقط (أربعًا وتسعين مرة) عدا ما يقرع سمعه بعددها من صلوات إمامه إذا صلى جماعة, فضلاً عن السنن الراتبة والنوافل المطلقة وهي أضعاف ذلك.
ثم إن العبد يتلو كتاب ربه في صلاته, ويحني له ظهره راكعًا, ويخر بجبهته ساجدًا, ويناجي مولاه معظمًا, ومسبحًا, وحامدًا, وداعيًا, وليس هناك في الوجود أسمى وأجل من هذه الشعيرة في ربط العبد بهذا السلطان الإلهي, وإلهاب نفسه بمعاني عظمته وسموه([36] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn36)).
إن الصلاة عندما تؤخذ على وجهها الصحيح -واحة وراحة- يسكن إلى ظلها المؤمن كلما مسه تعب الحياة ولغوبها, وهذا مصداق قول الله تعالى: *إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ` إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ` وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ` إِلاَّ الْمُصَلِّينَ ` الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ" [المعارج: 19-23].
2- تثبيت القيم الأخلاقية:
فقد جاء المنهاج الرباني في العبادة ليتمم مكارم الأخلاق, ويدعو الناس إلى المثل العليا, والفضائل الكريمة كالصبر, والمثابرة, والسماحة, والسخاء, والصدق, والتي تحقق للإنسان سعادته في الدنيا فضلاً عن الآخرة, وللعبادات بأنواعها مهمة عظيمة في تثبيت هذه الأخلاق, وتدعيمها, وغرسها في نفس المؤمن ووجدانه, (فالصلاة) مثلاً تعود المؤمن الصبر, والدأب, والإخلاص والنظام, حتى تصبح جميعًا خلقًا راسخًا في النفس, فالمسلم النائم حين يقوم من لذة النوم على نداء المؤذن «الصلاة خير من النوم», وكذلك حين ينسحب من ضجيج الأسواق والبيع والشراء ملبيًا لنداء «حي على الصلاة», ثم لا يزال دأبه هكذا عبر الساعات, والأيام, والأعوام, فهذا وأمثاله لابد أن تتربى فيهم هذه المعاني الخلقية العالية([37] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn37)).
و(الزكاة) التي أخذت من معنى الزيادة, والنماء, والتطهير, لها -هي الأخرى- أكبر الأثر في تنقية الخلق من زخم الشح والبخل والإمساك, وفي طبعه بطبائع البذل, والعطاء والسخاء, كذلك تستل صدور المحتاجين, وتبدل به شيئًا من خلق الحب, والمودة, أو على الأقل سلامة الصدور, فتشيع في المجتمع تبعًا لذلك كل علائق التداني والتقارب, وتتداخل صلات الناس بمشاعر الألفة, وإلى مثل هذا يشير قوله تعالى: *خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ" [التوبة: 103].
و(الصوم) له عمله الأساسي في تربية الإرادة الإنسانية, والضمير الحي اليقظ الذي يتعامل على أساس من رقابة الله تعالى له, واطلاعه عليه, فضلاً عن غرس خليقة الصبر, والضبط النفسي بالإمساك الطويل عن شهوتي البطن والفرج وبالكف عن
اللغو, والصخب, والقدرة على تغيير عاداته حتى لا يتعود الجمود, أوتستعبده
عاداته وتقاليده([38] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn38)).
ثالثًا: إصلاح الجانب الاجتماعي:
ويظهر ذلك في الصلاة ودورها في إيجاد العلاقات الاجتماعية, وذلك واضح في الحكمة من صلاة الجماعة, لأن اجتماع المسلمين راغبين في الله, راجين, راهبين, مسلمين وجوههم إليه خاصية عجيبة في نزول البركات, وتدلي الرحمة, فيحدث التعاون, والتعارف, والوحدة والاجتماع على الخير.
ثم تأتي صلاة الجمعة: فتجمع أهل الحي على هيئة جامعة أكثر من ذلك في كل يوم جمعة, حيث شرع الله لنا خطبتها تذكيرًا وتعليمًا للمسلمين بما يصلح دينهم ودنياهم, كحد أدنى للتثقيف العام في أمور الدين, ثم تأتي صلاة العيد, فتجمع أهل المدينة كلها مرتين في السنة في عيد الفطر والأضحى, يخرجن الأبكار والعواتق([39] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn39)), بل والحيض يشهدن الخير ودعوة المسلمين, ويعتزلن المصلى كما جاء في الحديث الصحيح الذي ترويه أم عطية([40] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn40)) رضي الله عنها قالت: «أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور»([41] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn41)).([42] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn42))
هذا عدا ما شرعه الله تعالى لنا من صلوات جامعة في مناسبات شتى, كالاستسقاء والخسوف والكسوف والجنائز, والتراويح في رمضان, إن الصلاة -لو وعى المسلمون حقيقتها- لهي توجيه وتنظيم اجتماعي كامل, يتمثل فيه المجتمع الكبير, وبقدر ما يحسن المسلمون هذه الصلاة, وما تعنيه من معان وتوجيهات, بقدر ما يرجى لهم إحسان الحياة في اجتماعاتهم, ولا فرق في هذا المنهاج بين المسجد والمجتمع, فكلاهما تجمع يجب أن يخضع لدين الله وتعاليمه([43] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn43)).
أما الزكاة: في حقيقتها واجب مالي يؤخذ من الأغنياء ليرد على الفقراء وذوي الحاجة من الغارمين والأرقاء وغيرهم, وهي بذلك تمثل الحد الأدنى المفروض فرضًا للتعاون الاجتماعي, والتكافل الاقتصادي بين أبناء الأمة الواحدة, لذلك جعل الله تعالى معظم مصارفها اجتماعية بحتة, بأوسع المدلولات الاجتماعية في القديم أو الحديث على السواء, وكما جاءت صلاة العيد لتوسع دائرة الاجتماع في الصلاة, تأتي هنا أيضًا «زكاة الفطر» لتوسع قاعدة التكافل والتعاون إلى أقصى حد.
أما الأثر الاجتماعي لفريضة (الحج) فواسع شامل, ولا زالت آثاره تظهر كل يوم بجديد من حكمة الله تعالى في تشريعه, وقد أشار القرآن الكريم إلى كثير من ذلك, قال تعالى: *لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ" [البقرة: 198].
روى البخاري بسنده عن ابن عباس قال: (كانت عكاظ, ومجنة, وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية, فتأتموا أن يتجروا في موسم الحج, فسألوا رسول الله فنزلت الآية: *لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ" [البقرة: 198]([44] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn44)), وقال تعالى: *وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ` لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ" [الحج:28،27].
والمنافع المشهودة كلمة جامعة تشمل المنافع الروحية والمادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, والاقتصادية وسائر ما يطلق عليه اسم (المنفعة), وقد جعلت غاية من غايات الحج وتقديمها على ذكر الله تعالى إيذان ببالغ أهميتها في مراتب المنافع والحكم الشرعية, وإن من أعظم هذه الفوائد جمع أطراف الأمة المسلمة كل عام, وما يحققه من استنفار جزء من كل إقليم سنويًا ليركبوا الأخطار والأسفار, ويقطعوا السهول والقفار, أو يمتطوا الأجواء والبحار, ويتركوا الأولاد والأهل والديار فيجتمع المسلمون من أطراف الأرض, ويلتقي الشرقي بالمغربي, والمصري بالهندي, في مؤتمر جامع, ورحلة مباركة, وليحققوا عمليًا دعوة القرآن بالسير في الأرض, والسياحة في الآفاق, ومطالعة المشاهد المقدسة, ومنازل الوحي, وآثار النبوة منذ أبي الأنبياء إبراهيم إلى خاتمهم محمد e ثم مدارج الصحابة رضي الله عنهم, التي تهب على المسلمين منها روح الإخلاص, والبذل, والعطاء والانقياد المطلق لأمر الله عز وجل([45] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn45)).
ومن ناحية أخرى فالحج نظام يوجب على الجميع زيًا واحدًا, وحركة واحدة, وكلمة واحدة, وطاعة واحدة. وبتثبيت الاعتقاد, والأخلاق وإصلاح الاجتماع تأخذ العبادات الإسلامية دورها العظيم في بناء الحياة الإنسانية على أرفع القواعد, وأنبل الغايات, وأكرمها وأطهرها, وتأخذ بالإنسان إلى أفق أرفع من التراب والطين, ومتاع الحياة الفانية, حيث تربطه بالحي الباقي, وبالنعيم الخالد, فهي غسيل مستمر لأدران المادة, وتهذيب لطغيانها, وعبادات الإسلام تقوم في أساسها على مراعاة الرقابة الإلهية, وابتغاء الآخرة, دون واسطة بين العبد وربه في العبادات كلها وتحرر الإنسان من عبودية الكهنوت وطقوسها ورسومها([46] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn46)).
إن القرآن الكريم اهتم اهتمامًا بالغًا ببيان حقيقة العبودية ودعوة الناس إلى تحقيقها كما ينبغي, كما بيّّن شروط قبول العبادة وأمر المسلمين بالالتزام بها, ووجه الناس إلى مفاهيم أصيلة في العبودية وحذرهم من الشرك ومن الانحراف عن معنى العبودية الصحيح, كما أشار إلى أهمية الجانب العبادي في حياة الناس في تثبيت الاعتقاد, وتأسيس القيم والأخلاق وزرعها وغرسها في نفوس المؤمنين, كما اهتم ببيان الجانب العبادي في إصلاح النواحي الاجتماعية, وركز القرآن في توجيهاته الكريمة في مجال العبادة على إفراد الله وحده في العبادة وتحرير العبادة من رق الكهنوت, واهتم بمسألة التوازن بين الروح والجسد, وفتح مجال الرخص والتخفيضات في العبادة, هذا كله من أجل أن تحقق الأمة عبوديتها لخالقها سبحانه وتعالى من أيسر الطرق وأسهل السبل وأخف التكاليف, وجعل طريق تحقيق العبودية شرطًا من شروط التمكين لهذه الأمة العظيمة.
إن تقرير حقيقة العبودية في حياة الناس يصحح تصوراتهم ومشاعرهم, كما يصحح حياتهم وأوضاعهم, فلا يمكن أن تستقر التصورات والمشاعر, ولا أن تستقر الحياة والأوضاع, على أساس سليم قويم, إلا بهذه المعرفة وما يتبعها من إقرار, وما يتبع الإقرار من آثار عندما تستقر هذه الحقيقة بجوانبها في نفوس الناس وفي حياتهم يلتزمون بمنهجه وشريعته ويستشعرون العزة أمام المتجبرين والطغاة, حين يخرون لله راكعين ساجدين يذكرونه ولا يذكرون أحدًا إلا الله تصلح حياتهم وترقى وتكرم على هذا الأساس.
إن استقرار هذه الحقيقة الكبيرة في نفوس المسلمين وتعليق أنظارهم بالله وحده, وتعليق قلوبهم برضاه, وأعمالهم بتقواه, ونظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه.. في هذه الحياة.. فأما ما يجزي الله به المؤمنين المقربين بالعبودية العاملين للصالحات في الآخرة, فهو كرم منه وفضل في حقيقة الأمر وفيض من عطاء الله([47] (ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftn47)).
إن الذين يستنكفون عن عبودية الله, يذلون لعبوديات من هذه الأرض لا تنتهي.
يذلون لعبودية الهوى والشهوة, أو عبودية الوهم والخرافة, ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم, ويحنون لهم الجباه.. ويحكمون في حياتهم وأنظمتهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم عبيدًا من البشر هم وهم سواء أمام الله.

:astagfor:



[/URL]([1]) القاموس المحيط كتاب (الدال), فصل (العين) 378.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref1)([2]) لسان العرب, كتاب الدال, فصل العين المهملة 3/271.

([3]) المصطلحات الأربعة في القرآن للمودودي, ص97.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref3)([4]) العبادة في الإسلام للقرضاوي, ص 31.

([5]) انظر: مجموع الفتاوى (1/207).

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref5)([6]) المصدر نفسه (28/35).

([7]) مدارج السالكين (1/74).

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref7)([8]) مدارج السالكين (1/517).

([9]) انظر: العبادة في الإسلام للقرضاوي ص53.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref9)([10]) مجموع الفتاوى (10/150).

([11]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/399).

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref11)([12]) مجموع الفتاوى (29/116-117).

([13]) انظر: حقيقة البدعة وأحكامها للغامدي (1/19).

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref13)([14]) رواه مسلم, كتاب الزكاة, باب أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1/697).

([15]) شرح النووي مع مسلم, كتاب الزكاة, باب كل نوع من المعروف صدقة (7/97).

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref15)([16]) مقاصد المكلفين, د. عمر الأشقر ص46-47.

([17]) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: ما جاء أن الأعمال بالنيات (1/24) رقم 55.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref17)([18]) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (3/22).

([19]) رواه مسلم, كتاب الزكاة, باب: النفقة على العيال والمملوك (1/191).

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref19)([20]) رواه البخاري, كتاب الصلح, باب: فضل الإصلاح بين الناس (3/227) رقم 2707.

([21]) هو التابعي الثقة أبو بردة حارث, وقيل عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري, ثقة كثير الحديث, تولى قضاء الكوفة للحجاج, ثم عزله, ت107هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (4/343).

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref21)([22]) البخاري, كتاب المغازي, باب: بعثة أبي موسى ومعاذ إلى اليمن (5/156) رقم 43،42.

([23]) مسلم, كتاب الزكاة, باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب (2/703).

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref23)([24]) مسلم شرح النووي, كتاب العبد, باب: الأمر بإحسان الذبح (مجلد5) ج13, ص106.

([25]) انظر: العبادة في الإسلام, د. القرضاوي, ص 63،62.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref25)([26]) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح لمحمد قطب, ص 173.

([27]) المصدر السابق نفسه, ص 203-204.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref27)([28]) المصدر السابق نفسه, ص 222.

([29]) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح, ص192.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref29)([30]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية, ص 59.

([31]) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح, ص 250-251.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref31)([32]) انظر: في ظلال القرآن (4/1943).

([33]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية, ص 59.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref33)([34]) انظر: العبادة في الإسلام للقرضاوي: 48-49.

([35]) وسطية القرآن في العبادة والأخلاق والتشريع, ص 40.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref35)([36]) انظر: المنهاج القرآني في التشريع, ص458.

([37]) وسطية القرآن في العبادة والأخلاق والتشريع, ص 42.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref37)([38]) انظر: المنهاج القرآني في التشريع, ص 460.

([39]) العواتق: جمع عاتقة وهي التي عتقت من الخدمة أو من قهر أبويها.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref39)([40]) هي نسيبة بنت الحارث وقيل بنت كعب من فقهاء الصحابة ت 70هـ, انظر: سير أعلام النبلاء (2/318).

([41]) ذوات الخدور: الستور.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref41)([42]) رواه البخاري, كتاب العيدين, باب: خروج النساء والحيض إلى المصلى (2/9).

([43]) انظر: المنهاج القرآني في التشريع: 462.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref43)([44]) رواه البخاري, كتاب التفسير, باب: ليس عليكم جناح (5/186) رقم 4519.

([45]) انظر: المنهاج القرآني في التشريع: 465.

(ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20الع بـــــــادة.htm#_ftnref45)([46]) المصدر نفسه: 468.

[URL="ada99:27%20المبحث%20الثاني%20تحقيـــــــــق%20العب ـــــــادة.htm#_ftnref47"]([47]) في ظلال القرآن (2/820).

الفاررة الي الله
11-18-2008, 02:51 PM
محاربــــــــــة الشـــــــرك
ومن شروط التمكين المهمة؛ محاربة الشرك بجميع أشكاله وأنواعه؛ ولذلك على الجماعة المسلمة والتي تسعى لتحكيم شرع الله تعالى أن تعرف حقيقة الشرك وخطره وأسبابه وأدلة بطلانه وأنواعه وأن تنقي صفها منه بجميع الأساليب الشرعية, ولا يمكن للإنسان أن يحذر من الشرك وأن يحذر غيره إلا إذا عرفه وعرف خطره.
ومعرفة الشرك وما يتعلق به له فوائد عديدة:
أحدها: أن الإنسان يمكنه بمعرفة الشرك أن يحذر من الوقوع فيه.
الثاني: أنه يمكنه أن يحذر غيره.
الثالث: أنه يظهر له بذلك حسن الإسلام والتوحيد, وذلك أنه إذا عرف الشرك وظهر له بطلانه, عرف أن ضده وهو التوحيد أفضل الأعمال, وبضدها تتميز الأشياء إلى غير ذلك من الفوائد.
ولهذه الأسباب وغيرها فقد اهتم الدعاة الصادقون والعلماء المخلصون والقادة الربانيون ببيان الشرك وأقسامه وأسبابه وخطره وجميع ما يتعلق به, وبينوا أن تحقيق الإيمان الصحيح لا يتم ولا يقبل من صاحبه إلا بترك الشرك والبعد عنه.
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: (ولا يتم توحيد العبادة حتى يخلص العبد لله في جميع إرادته وأقواله وأفعاله, وحتى يدع الشرك الأكبر المنافي للتوحيد كل المنافاة, وهو أن يصرف نوعًا من العبادة لغير الله تعالى, وتحقيق هذا التوحيد وتمامه أن يدع الشرك الأصغر وهو: كل وسيلة يتوسل بها إلى الشرك الأكبر كالحلف بغير الله, ويسير
الرياء ونحو ذلك) ([1] (ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftn1)).
أما حقيقة الشرك بالله: (أن يعبد المخلوق كما يعبد الله, أو يعظم كما يعظم الله, أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والألوهية) ([2] (ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftn2)).
أما أقسام الشرك فقسمه العلماء إلى نوعين: شرك في الربوبية, وشرك في الألوهية قال السعدي -رحمه الله-: (الشرك نوعان: شرك في ربوبيته تعالى كشرك الثانوية الذين يثبتون خالقًا مع الله, وشرك في ألوهيته, كشرك المشركين الذين يعبدون الله ويعبدون غيره ويشركون بينه وبين المخلوقين, ويسوونهم مع الله في خصائص ألوهيته) ([3] (ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftn3)).
لقد وردت النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة في التحذير من الشرك, وبيان خطره, وأنه أعظم ذنب عصى الله به, وأنه لا أضل من فاعله, وأنه مخلد في النار أبدًا لا نصير له ولا حميم ولا شفيع يطاع, قال تعالى: *إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ وَمَن يُّشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا" [النساء:48].
وقال تعالى: *إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا" [النساء:116]، وقال تعالى: *وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" [الحج: 31]، وقال تعالى: *وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [الزمر: 65].
والأحاديث الواردة في ذم المشركين كثيرة منها:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله  يقول: «من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار» ([4] (ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftn4)).
وحديث جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله e يقول: «من لقى الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة» ([5] (ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftn5)).
وحديث أبي بكرة([6] (ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftn6)) رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله  فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ثلاثًا «الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور» وكان رسول الله  متكئًا فجلس, فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت»([7] (ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftn7)).
إن تفشي الشرك في المجتمعات الإسلامية سبب في ضياعها وانحرافها عن هدى المولى عز وجل, فمن أعظم الظلم, وأبعد الضلال, عدم إخلاص العبادة لرب العالمين وتسوية المخلوق مع الخلاق العليم.
فالله وحده المتفرد بالعبودية فهو مالك النفع والضر, الذي ما من نعمة إلا منه, لا يدفع النقم إلا هو الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه, والغنى التام لجميع وجوه الاعتبارات.
إن الشرك هو الذنب الوحيد المتميز عن بقية الذنوب بعدم المغفرة لصاحبه إذا مات ولم يتب منه, وأما بقية الذنوب فإن صاحبها إن مات ولم يتب منها فإنه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
إن الذنوب التي دون الشرك جعل الله لمغفرتها أسبابًا كثيرة كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة, وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة الشافعين, ومن دون ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد, وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة, وأغلق دونه أبواب الرحمة, فلا تنفعه الطاعات دون التوحيد, ولا تفيده الشدائد والمحن شيئًا.
إن الشرك بالله تمجه وترفضه الفطرة السليمة, ولقد بقى البشر بعد آدم قرونًا طويلة وهم أمة واحدة على التوحيد والهدي, ثم أدخلت عليهم الشياطين الشرور المتنوعة بطرق كثيرة, فكان قوم نوح قد مات منهم أناس صالحون فحزنوا عليهم فجاءهم إبليس وأمرهم أن يصوروا تماثيلهم ليتذكروا أحوالهم, فكان هذا باب الشر العظيم.
فلما مات الذين صوروهم لهذا المعنى خلف من بعدهم خلف قل فيهم العلم واستفزهم الشيطان وأغواهم حتى أوقعهم في الشرك, ثم بعث الله فيهم نوحًا عليه السلام يعرفونه ويعرفون صدقه وأمانته وكمال أخلاقه فقال: *يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ" [الأعراف:59]. إلا أنهم عصوه وما آمن معه إلا قليل.
إن الله تعالى خلق الناس على فطرة التوحيد ثم استطاعت الشياطين أن تميل بالناس وتنحرف بهم نحو الوثنية المظلمة والشرك العظيم, قال تعالى: *كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ" [البقرة:213].
أي: أن الناس كانوا على ملة آدم عليه السلام حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحًا عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض([8] (ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftn8)).
وقال تعالى: *فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" [الروم:30].
وقال تعالى: *وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" [النحل:36]. وقال : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» ([9] (ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftn9)).
وهذه الأدلة الدامغة التي ذكرناها تدل على أن الناس كانوا على التوحيد وأن الشرك طارئ وحادث فيهم.
إن الجماعة المسلمة التي رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد e رسولاً تحرص على تحقيق التوحيد ومحاربة الشرك وهي تسعى لتحكيم شرع الله, لأنها تعلم علم اليقين أن من شروط التمكين وإقامة دولة الإسلام تحقيق التوحيد وتهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر, ومن البدع القولية والاعتقادية, والبدع الفعلية العملية, ومن المعاصي وذلك بكمال الإخلاص لله في الأقوال والأفعال والإرادات, وبالسلامة من الشرك الأكبر المناقض لأصل التوحيد, ومن الشرك الأصغر المنافي لكماله وبالسلامة من البدع([10] (ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftn10)), وتربي الناس على الاستعانة بالله في جميع أمور حياتهم والاستعانة به والنذر له والذبح له وحده سبحانه وتعالى وأن تكون الحاكمية لله رب العالمين.
وهي تحارب شرك القبور, وكذلك شرك القوانين الوضعية وتدعو إلى إفراد العبودية لله وحده في جميع شئون الحياة الإنسانية, ولسان حالها ومقالها قول الله تعالى: *قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ` لاَ شَرِيكَ لَهُ" [الأنعام:162،163].
لذلك لابد من محاربة الشرك ومداخله وألوانه وجميع طرقه لأن الشرك ذلة في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة, ولأن من متطلبات الإيمان ولوازمه محاربة ضده ألا وهو الشرك.
وبعد أن ذكرت الآية الكريمة شروط الاستخلاف والتمكين والأمن, أرشدت الآيات التي بعدها إلى كيفية المحافظة على هذا التمكين والأمن، وإلى العدة الفعلية للأمة الإسلامية ألا وهي: الاتصال بالله, وتقويم القلب بإقامة الصلاة, والاستعلاء على الشح, وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة, وطاعة الرسول  والرضا بحكمه, وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة, وتحقيق المنهج الذي أراده للحياة: *لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [النمل:46] في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال, وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال. إن الأمة الإسلامية عندما تسير على نهج الله تعالى وتحكم شرعه في الحياة, وترتضيه في كل أمورها.. يتحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن, وما من مرة خالفت عن هذا النهج والطريق القويم إلا تخلفت في ذيل القافلة, وذلت, وطرد دينها من الهيمنة على البشرية, واستبد بها الخوف, وتخطفها الأعداء.
إن وعد الله لا يتبدل ولا يتغير إذا أقمنا الشروط, فإذا أردنا الوعد فعلينا بتحقيق الشروط ولا أحد أوفى بعهده من الله تعالى([11] (ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftn11)).
آثار الشرك:
إن الشرك الذي يقع فيه الإنسان له آثاره الوبيلة في دنياه وآخرته, سواء أكان الواقع فيه فردًا أم جماعة, فمن تلك الآثار:
1- إطفاء نور الفطرة:
قال تعالى: *وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا" [الأعراف:172].
وعلى هذا فإن الشرك نقض للميثاق الذي أخذه الله على البشر وهم في عالم الذر, كما أنه انحراف عن الغاية التي خلق الله الجن والإنس من أجلها, قال تعالى: *وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56].
إن الإنسان يستمد من حقيقة التوحيد إشراقته ونوره وسداد أمره, فإذا أشرك بالله تصبح أعماله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. وتصبح حاله وأعماله معتمة مظلمة, قال تعالى: *وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ` أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ" [النور: 40،39].
2- القضاء على منازع النفس الرفيعة:
إن النفس المتعلقة بالله المتطلعة إلى رضاه لا تستغرقها شهوات الحس ولا تنصرف بكليتها إلى متاع الأرض القريب, إنما تتطلع دائمًا إلى المثل العليا والقيم الرفيعة, وإلى الترفع عن الدنس في كل صوره وأشكاله, سواء أكان فاحشة من الفواحش التي حرمها الله, أو ظلمًا يقع على الناس, أو موقفًا خسيسًا يقفه الإنسان من أجل شهوة رخيصة أو مطلب من مطالب الحياة الدنيا.
ولكن حين تهتز حقيقة التوحيد في النفس ويغشيها الشرك فإن النفس تنحط فتشغلها الأرض, يشغلها المتاع الزائل فتتكالب عليه وتنسى القيم العليا والجهاد من أجل إقامتها وتحقيقها, ويكون جهادها صراعًا خسيسًا على هذا المتاع الزائل يتقاتل من أجله الأفراد والدول والشعوب, وتصبح الحياة البشرية محكومة بقانون الغاب, القوي يأكل الضعيف, والغلبة للقوة لا لصاحب الحق.. وهو الأمر الذي نراه سائدًا في الجاهلية المعاصرة في كل منحى من مناحي الحياة([12] (ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftn12)). قال تعالى: *وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" [الحج:31].
3- القضاء على عزة النفس ووقوع صاحبه في العبودية الذليلة:
إن العزة الحقيقية تستمد من الإيمان بالله وحده, قال تعالى: *وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ" [المنافقون:8], ولكن المشرك لا يعرف هذه العزة ولا يتذوقها, إنه عبد؛ ولكنها عبودية ذليلة لأنها ليست عبودية لله, الكريم الرحيم, الذي يُعز عباده بعزته, إنه عبد لبشر مثله يتحكم فيه فيذله, أو عبد لشهواته: شهوة المال أو شهوة الجنس أو شهوة السلطان.. كلها عبودية ذليلة وإن بدت لأول وهلة متاعًا وتمكنًا وتجبرًا في الأرض.
ثم يذهب هذا المتاع الزائل الذي تذل له أعناق الرجال, ويأتي اليوم الذي يقفون فيه موقف الخزي الأكبر أمام العزيز الجبار: *أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ` ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ ` مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ" [الشعراء: 205-207].
4- تمزيق وحدة النفس البشرية:
إن الشرك يشتت وحدة النفس البشرية ويمزقها, فيصلي الإنسان -إذا صلى- لإله ويبيع ويشتري ويبتغي الرزق باسم إله آخر يحل له الربا ويحل له الغش والخداع بغية الربح, ويمارس شهواته باسم إله ثالث يُحِل له العلاقات غير المشروعة ويزين له الخبائث, وقد يتوجه إلى بشر مثله أو إلى صنم من الأصنام فيطلب منه البركة أو يطلب منه أن يقربه إلى الله زلفى.. وهكذا تتشتت نفسه في محاولة استرضاء هذه الأرباب المتعددة التي كثيرًا ما يكون لكل منها مطالب تخالف مطالب الأخرى وتعارضها.
وفي النهاية يفقد نفسه بعد أن يفقد أمنه وطمأنينته: ([13] (ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftn13)) *ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً
فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ" [الزمر:29].
5- إحباط العمل:
قال تعالى: *وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [الزمر: 65].
هذه بعض الآثار التي تحدث للإنسان الذي يقع في الشرك ولا شك أن تلك الآثار تبعد المجتمع من التمكين الرباني.


[/URL]([1]) الفتاوى السعدية للعلامة عبد الرحمن السعدي, ص13.

(ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftnref1)([2]) الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة لعبد الرزاق العباد, ص 178.

([3]) الرياض الناضرة للسعدي, ص244.

(ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftnref3)([4]) مسلم, كتاب الإيمان, باب: من مات لا يشرك بالله شيئًا (1/94) رقم 92.

([5]) المصدر السابق نفسه, رقم 92.

(ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftnref5)([6]) هو نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو أبو بكرة الثقفي, تدلى إلى رسول الله × من حصن الطائف في (بكرة) فاشتهر بأبي بكرة وأسلم وأعتقه رسول الله × يومئذ, وكان من فضلاء الصحابة وسكن البصرة توفي بالبصرة سنة 50هـ, انظر: أسد الغابة (5/38), الإصابة (3/542).

([7]) مسلم, كتاب الإيمان, باب: بيان الكبائر (1/91) رقم 143.

(ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftnref7)([8]) انظر: تفسير ابن كثير (1/250).

([9]) مسلم, كتاب القدر, باب: كل مولود يولد على الفطرة (4/2047) رقم 2658.

(ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftnref9)([10]) انظر: الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة, ص191.

([11]) في ظلال القرآن (4/2530).

(ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ا لشـــــــرك.htm#_ftnref11)([12]) انظر: ركائز الإيمان لمحمد قطب, ص141،140.

[URL="ada99:28%20المبحث%20الثالث%20محاربــــــــــة%20ال شـــــــرك.htm#_ftnref13"]([13]) انظر: ركائز الإيمان, ص 144-145.

الفاررة الي الله
12-04-2008, 06:37 PM
تقـــــوى الله عز وجـــــل
قال تعالى: *وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا..." [الأعراف:96].
إن من شروط التمكين المهمة -التي نضيفها إلى المباحث السابقة- تقوى الله عز وجل, لأن تقوى الله لها ثمرات عظيمة في الدنيا والآخرة, وهذه الثمرات تظهر على الأفراد, ومن ثمَّ على الجماعة المسلمة التي تسعى لتحكيم شرع الله والتمكين لدينه. إن تقوى الله تعالى تجعل بين العبد وبين ما يخشاه من ربه ومن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك, وهي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله, وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
أولاً: ثمرات التقوى العاجلة والآجلة:
1- المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب العبد:
قال تعالى: *وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا` وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ" [الطلاق: 3،2].
2- السهولة واليسر في كل أمر:
قال تعالى: *وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا" [الطلاق:4].
قال سيد قطب رحمه الله: «واليسر في الأمر غاية ما يرجوه الإنسان, وإنها لنعمة كبرى أن يجعل الله الأمور ميسرة لعبد من عباده؛ فلا عنت ولا مشقة ولا عسر ولا ضيق يأخذ الأمور بيسر في شعوره وتقديره, وينالها بيسر في حركته وعمله, ويرضاها بيسر في حصيلتها ونتيجتها, ويعيش من هذا في يسر رَخِيّ نَدِيّ حتى يلقى الله»([1] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn1)).
3- تيسير العلم النافع:
قال تعالى: *وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [البقرة: 282].
قال العلامة محمد رشيد رضا: (أي اتقوا لله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه, وهو يعلمكم ما فيه قيام مصالحكم وحفظ أموالكم وتقوية رابطتكم, فإنكم لولا هدايته لا تعلمون ذلك, وهو سبحانه العليم بكل شيء, فإذا شرع شيئًا فإنما يشرعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن تبعه شرعه, وكرر لفظ الجلالة لكمال التذكير وقوة التأثير) ([2] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn2)), لقد تكرر لفظ الجلالة في قوله تعالى: *وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ثلاث مرات, فالأولى حث على التقوى, والثانية وعدٌ بإنعامه, والثالثة تعظيم شأنه سبحانه وتعالى.
4- إطلاق نور البصيرة:
قال تعالى: *إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا" [الأنفال:29]. إن تقوى الله تعالى في الأمور كلها تعطي صاحبها نورًا يفرق به بين الحق والباطل, وبين دقائق الشبهات التي لا يعلمهن كثير من الناس, وعندما تسيطر تقوى الله على الصف المسلم يصبح يتحرك بفرقان رباني.
5- محبة الله عز وجل ومحبة ملائكته والقبول في الأرض:
قال تعالى: *بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" [آل عمران: 76].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله e أنه قال: «إذا أحب الله العبد قال لجبريل: قد أحببت فلانًا فأحبه, فيحبه جبريل عليه السلام, ثم ينادي في أهل السماء, إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه, فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض»([3] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn3)).
6- نصرة الله عز وجل وتأييده وتسديده:
وهي المعية المقصودة بقول الله عز وجل: *وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" [البقرة:194]. فهذه المعية هي معية التأييد والنصرة والتسديد, وهي معية الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه, ومعيته للمتقين والصابرين وهي تقتضي التأييد والحفظ والإعانة كما قال تعالى لموسى عليه السلام وهارون: *لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى" [طه:46].
أما المعية العامة مثل قوله تعالى: *وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ" [الحديد: 4]. وقوله: *يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ" [النساء:108]. فتستوجب من العبد الحذر والخوف ومراقبة الله عز وجل.
7- البركات من السماء والأرض:
قال تعالى: *وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ...." [الأعراف: 96].
قال القاسمي رحمه الله: *وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى" أي: القرى المُهْلَكة *آمَنُوا" أي: بالله ورسله *وَاتَّقَوْا" أي: الكفر والمعاصي *لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" أي: لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب, مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء وبعضها من الأرض) ([4] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn4)).
ويدل على هذا المعنى قوله عز وجل: *وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا" [الجن:16].
فانظر إلى بركات التقوى, واعلم أن ما نحن فيه من قلة البركة ونقص الثمار وكثرة الآفات والأمراض إنما هو نتيجة حتمية لضعف وازع التقوى وكثرة المعاصي, كما يقول تعالى: *ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [الروم:41].
8- البشرى وهي الرؤيا الصالحة وثناء الخلق ومحبتهم:
قال تعالى: *أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ` الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ` لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ..." [يونس:62-64].
والبشرى في الحياة الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه, وعن النبي : «الرؤيا الصالحة من الله» ([5] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn5)). وعنه e: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة» ([6] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn6)).
وعن أبي ذر t قال: قلت لرسول الله e: الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» ([7] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn7)). وقد رأينا من الموفقين في العمل الإسلامي ثناء الناس على أعمالهم في الدنيا.
9- الحفظ من كيد الأعداء ومكرهم:
قال تعالى: *وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ"
[آل عمران: 120].
قال ابن كثير -رحمه الله-: (يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم, فلا حول ولا قوة لهم إلا به, وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن) ([8] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn8)).
إنه تعليم من الله تعالى للمسلمين في كيفية الاستعانة على أعداء الله وكيدهم.
10- حفظ الذرية الضعاف بعناية الله تعالى عز وجل:
قال تعالى: *وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا" [النساء:9], وفي الآية إشارة إلى إرشاد المسلمين الذي يخشون ترك ذرية ضعاف بالتقوى في سائر شئونهم حتى تحفظ أبناؤهم ويدخلوا تحت حفظ
الله وعنايته, ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله, وإشارة
إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع, وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف كما في آية: *وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا" [الكهف:82]. فإن الغلامين حفظا ببركة أبيهما في أنفسهما ومالهما([9] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn9)).
11- سبب لقبول الأعمال التي بها سعادة العباد في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: *إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" [المائدة:27].
ولهذا لابد من الدعاة العاملين والعلماء الراسخين من استحضار هذه المعاني العظيمة, فإن أعمالنا مهما كان حجمها وتضحياتنا مهما كانت ضخامتها لا تقبل إلا من المتقين, لأنهم هم الذين يستشعرون أن كل خير هو من الله وحده.
12- سبب النجاة من عذاب الدنيا:
قال الله تعالى: *وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ` وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يتَّقُونَ" [فصلت: 18،17].
إن الله تعالى سلم أهل الإيمان والتقوى من بين أظهر الكافرين دون أن يمسهم سوء أو أن ينالهم من ذلك ضرر, بسبب إيمانهم وتقواهم لله تعالى.
13- تكفير السيئات وهو سبب النجاة من النار, وعظم الأجر وهو سبب الفوز بدرجة الجنة:
قال تعالى: *وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا" [الطلاق:5].
قال ابن كثير رحمه الله:(أي يذهب عنهم المحظور, ويجزل لهم الثواب على العمل اليسير)([10] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn10)).
14- ميراث الجنة, فهم أحق الناس بها وأهلها, بل ما أعد الله الجنة إلا لأصحاب هذه الرتبة العلية والجوهرة البهية:
قال تعالى: *تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا" [مريم:63], فهم الورثة الشرعيون لجنة الله عز وجل.
15- وهم لا يذهبون إلى الجنة سيرًا على أقدامهم بل يحشرون إليها ركبانًا:
مع أن الله عز وجل يقرب إليهم الجنة تحية لهم ودفعًا لمشقتهم, كما قال تعالى: *وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ" [ق:31].
قال تعالى: *يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا" [مريم:85].
16- وهي تجمع بين المتحابين من أهلها حين تنقلب كل صداقة ومحبة إلى عداوة ومشقة:
قال تعالى: *الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ" [الزخرف:67].
ومن بركة التقوى أن الله عز وجل ينزع ما قد يعلق بقلوبهم من الضغائن والغل فتزداد مودتهم وتتم محبتهم وصحبتهم, قال تعالى:*إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَّعُيُونٍ ` ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ ` وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ"[الحجر:45-47].
إن هذه الثمار العظيمة عندما تمس شغاف قلوب العاملين في الدعوة الإسلامية تضفي على العمل محيطًا ربانيًا موصولاً بالله, متصلة حلقة الدنيا بالآخرة, كما أن الحرص على تقوى الله تعالى يكسب الصف الإسلامي صفات رفيعة وأخلاقًا حميدة, ومكارم نفيسة تجعله أهلاً لتمكين شرع الله على يديه. ومن أهم هذه الصفات التي تجعل الصف المسلم متماسكًا في حركته الدءوبة نحو تحكيم شرع الله:
ثانيًا: صفات المتقين:
1- الصدق, فهم أصدق الناس إيمانًا, وأصدقهم أقوالاً وأعمالاً, وهم الذين صَدَّقوا المرسلين قال تعالى: *أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" [البقرة: 177].
قال القاسمي - رحمه الله -: *أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا..." في إيمانهم لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فلم تغيرهم الأحوال ولم تزلزلهم الأهوال، وفيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعوة الإيمان: *وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" عن الكفر وسائر الرذائل، وتكرير الإشارة لزيادة تنويه بشأنهم وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم([11] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn11)). وقد رغب النبي e في هذه الخصلة النبيلة والرتبة الجليلة فقال e: «وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا» ([12] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn12)).
2- ومن صفاتهم، أنهم يعظمون شعائر الله عز وجل: قال الله تعالى: *ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ" [الحج: 32].
إن المتقين يعظمون طاعة الله وأمره فيدفعهم ذلك إلى طاعته, ويعظمون كذلك ما نهى الله عنه فيدفعهم ذلك عن معصيته.
3- ويتحرون العدل ويحكمون به، ولا يحملنهم بغض أحد على تركه, قال تعالى: *وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة: 8].
وفي الآية تعليم وإرشاد على وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه.
4- يتبعون سبيل الصادقين من الأنبياء والمرسلين وصحابة سيد الأولين والآخرين e, قال تعالى: *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" [التوبة: 119].
فلا شك أن من صفات المتقين أنهم ينتهجون منهج الصحابة رضي الله عنهم، لأنهم أولى الناس بهذه الصفات التي أمرنا الله أن نكون مع أهلها، فقد شهد الله لهم الصدق، وشهد لهم رسوله e، فلا يجوز لأحد أن يلزمهم بشيء، أو يتهمهم بما برأهم الله عز وجل منه ورسوله e، فالصحابة كلهم عدول، وظهرت فيهم من علامات الصدق والإيمان واليقين ما يجعل العاقل يقطع بتعديلهم، فمن تقوى الله عز وجل موالاتهم ومحبتهم ونصرتهم والاحتجاج بإجماعهم، وفهم الكتاب والسنة على منهجهم وطريقتهم، وبغض من يبغضهم وبغير الحق يذكرهم([13] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn13)).
5- يَدَعون ما لا بأس به حذرًا مما به بأس ويتقون الشبهات، إن المتقين يتورعون عن الشبهات وعما يرتابون فيه مما ليس حلالاً بينًا، وذلك أدعى أن يتورعوا عن الحرام البين، ومن اجترأ على الشبهة اجترأ كذلك على الحرام.
ولهذا قال رسول الله e: «إن الحلال بيّن وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» ([14] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn14)).
ولابد من التنبه لأمر مهم وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبهات فإنه لا يحتمل ذلك، بل ينكر عليه، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما لمن سأله من أهل العراق: عن دم البعوض يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين، وسمعت رسول الله e يقول:«هما ريحانتاي من الدنيا» ([15] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn15)).
6- إنهم يعفون ويصفحون: قال تعالى: *وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [البقرة: 237]. وقال تعالى:*وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ" [الشورى: 4].
فأخبر عز وجل أن من اتصف بهذه الصفة فأجره في ذلك على الله عز وجل كما رغبهم الله عز وجل في مغفرته إذا فعلوا ذلك, فقال عز وجل: *وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [النور: 22].
وقال تعالى في وصف المتقين: *وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [آل عمران: 134]. فالإحسان وصف من أوصاف المتقين، ولم يعطفه على ما سبقه من الصفات، بل صاغه بهذه الصيغة تمييزًا له بكونه محبوبًا عند الله تعالى([16] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn16)).
7- ومن صفاتهم أنهم غير معصومين من الخطايا إلا من عصمه الله عز وجل من الأنبياء غير أنهم لا يفارقون الكبائر، ولا يصرون على الصغائر، بل كلما وقعوا في صغيرة رجعوا إلى الله بالتوبة والاستغفار والعمل الصالح عملا بقول الله تعالى: *إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" [الأعراف: 201].
شأن المؤمنين المتقين إذا مسهم طائف من الشيطان لحملهم على محاكاة الجاهلين والخوض معهم وعلى غير ذلك من المعاصي والفساد تذكروا فأبصروا فحذروا وسلموا، وإن زلوا تابوا وأنابوا([17] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftn17)).
إن هذه الصفات عندما تتغلغل في نفوس الدعاة والعلماء وأبناء المسلمين تكون الأمة المسلمة جديرة بنصر الله وتوفيقه، وبهذا نكون قد فصلنا أهم شروط التمكين المتمثلة في الإيمان بالله والعمل الصالح، والعبادة، ومحاربة الشرك وتقوى الله عز وجل.



[/URL]([1]) في ظلال القرآن (6/3602).

(ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftnref1)([2]) تفسير المنار (3/128).

([3]) مسلم, كتاب البر والصلة والآداب, باب: إذا أحب الله تعالى (4/2030) رقم 2637.

(ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftnref3)([4]) انظر: محاسن التأويل (7/221).


([5]) البخاري, كتاب الرؤيا, باب: رؤيا الصالحين (8/88) رقم 6986.


(ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftnref5)([6]) البخاري, كتاب الرؤيا, باب المبشرات (8/89) رقم 6990.



([7]) مسلم, كتاب الرؤيا, باب المبشرات (4/2034).


([8]) تفسير القرآن العظيم (1/329).


(ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftnref8)([9]) انظر: محاسن التأويل للقاسمي (5/47).



([10]) تفسير ابن كثير (4/382).




(ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftnref10)([11]) انظر: تفسير القاسمي (3/54).




([12]) البخاري, كتاب الأدب, باب قول الله تعالى: +كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" (7/124).


(ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftnref12)([13]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/289).



([14]) البخاري، كتاب الإيمان، باب: من استبرأ لدينه (1/22) رقم 22.



(ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftnref14)([15]) البخاري، فضائل الصحابة، باب مناقب الحسن والحسين (4/261).



([16]) انظر: تفسير المنار (4/134، 135).



[URL="ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20عز %20وجـــــل.htm#_ftnref17"] (ada99:29%20المبحث%20الرابع%20تقـــــوى%20الله%20ع ز%20وجـــــل.htm#_ftnref16)([17]) نفس المصدر السابق (9/550).

الفاررة الي الله
12-16-2008, 08:36 PM
أســـــــباب التمكــــــــــين
تمهيد:
إن الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى التمكين أمر أرشدنا إليه القرآن الكريم، وحثنا على الأخذ بها سيد المرسلين e، وقد أمر الله تعالى بالإعداد الشامل فقال: *وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ" [الأنفال: 60].
والإعداد في حقيقته أخذ بالأسباب.
وأشارت الآية الكريمة إلى الأمر بإعداد:
1- ما استطعتم من قوة. 2- ومن رباط الخيل.
والغاية:
1- ترهبون به عدو الله وعدوكم. 2- وآخرين من دونهم لا تعلمونهم.
وإعداد القوة، لفظ عام يشمل كل قوة، فقوة العقيدة والإيمان قوة، وقوة الصف والتلاحم قوة، وقوة السلاح والساعد قوة. ورباط الخيل إشارة إلى السلاح الثقيل، وإشارة إلى وجوب وجوده في أيدي المسلمين لا تأخذه شراء أو هبة من أحد.
ولا يمنع من الحفاظ على الخيل كجزء من الإعداد الإسلامي، لأنها عند الالتحام أقوى من التحام الأفراد بغير أفراس، وقد أثبتت الحروب الحديثة أهمية الخيل كما حدث للمجاهدين في جبال الأفغان ضد الشيوعيين، وفي جنوب السودان ضد النصارى.
إن الآية الكريمة تضع أذهان المسلمين على الإعداد الشامل، المعنوي والمادي، العلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات، وتدخل في طياتها، الإعداد التربوي، والسلوكي، والإعداد المالي، والإعداد الإعلامي، والسياسي والأمني والعسكري... إلخ.
كما أن الآية الكريمة وضحت أن الإعداد يحتاج إلى إنفاق هائل ووعدت بالتعويض في الدنيا والجزاء في الآخرة لتحفز المسلمين وتحثهم على ذلك, قال تعالى: *وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ" [الأنفال: 60].


المبحث الأول سنة الأخذ بالأسباب وإرشاد القرآن للإعداد
أولاً: سنة الأخذ بالأسباب:
إن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلاقة مباشرة مع سنن التمكين سنة الأخذ بالأسباب، ولذلك يجب على الأفراد والجماعات العاملة للتمكين لدين الله فهمها واستيعابها وإنزالها على أرض الواقع.
قال الإمام الرازي: أصل السبب في اللغة: الحبل، قالوا: ولا يدعي الحبل سببًا حتى ينزل ويصعد به, ومنه قوله تعالى: *فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ..." [الحج: 15]. ثم قيل لكل شيء سبب لأنك بسلوكه تصل الموضع الذي تريده, قال تعالى: *فَأَتْبَعَ سَبَبًا" [الكهف: 85] أي طريقا، وأسباب السموات أبوابها، لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها، قال تعالى مخبرا عن فرعون: *لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ ` أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ" [غافر: 36 - 37] والمودة بين القوم تسمى سببا لأنهم بها يتواصلون. والسبب في اصطلاح الشرع: ما يوصل إلى الشيء ولا يؤثر فيه كالوقت للصلاة([1] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn1)).
واستعير السبب لكل ما يتوصل به إلى أمر من الأمور([2] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn2))، إن سنة الأخذ بالأسباب مقررة في كتاب الله تعالى، ولقد وجه الله عباده المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شئونهم الدنيوية والأخروية سواء.
قال تعالى: *وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" [التوبة: 105]
وقال سبحانه: *هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" [الملك: 15]..
ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى طلب من السيدة مريم أن تباشر
الأسباب وهي في أشد حالات ضعفها, قال تعالى: *وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ
عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا" [مريم: 25].
وهكذا يؤكد القرآن الكريم على ضرورة مباشرة الأسباب في كل الأمور والأحوال([3] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn3)).
«ولقد قدر الله سبحانه وتعالى لدينه أن ينتصر، وللمسلمين أن يُمكنوا، وللمشركين أن ينهزموا، ومع ذلك فهل قال الله تعالى للمسلمين: ما دمت قدرت لكم النصر والتمكين فاقعدوا وانتظروا إنفاذي قدري، وهو لابد نافذ؟ كلا، وإنما قال لهم: *وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ..." [الأنفال: 60] وقال تعالى: *ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ" [محمد: 4].
وقال عز وجل: *إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" [محمد: 7] فلابد من اتخاذ الأسباب للنصر والتمكين، وإن كان ذلك قدرًا مقدورًا من عند الله([4] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn4)).
«وليس الله - سبحانه وتعالى - عاجزا عن نصرة الحق بغير الأدوات البشرية، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون، ولكن هكذا اقتضت مشيئته وهكذا تجري سننه»([5] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn5)).
ورسول الله e وهو أفضل المتوكلين كان أوعى الناس لهذه السنة الربانية، فكان وهو يؤسس لبناء الدولة الإسلامية يأخذ بكل ما في وسعه من أسباب، ولا يترك شيئا يسير جزافا، والمتتبع للسيرة النبوية يلمس ذلك تماما.. «ففي الهجرة - على سبيل المثال - لم يترك رسول الله  أمرا من الأمور إلا أعد له عدته، وحسب له حسابه، ورسم له خطته على نحو يستوعب كل الطاقات والوسائل.
فقد أعد النبي eالرواحل والدليل، واختار الرفيق والمكان الذي سيتوارى فيه - هو وصاحبه - حتى يهدأ الطلب، ويفتر الحماس، وأحاط ذلك كله بما يمكن للبشر من أخذ الحذر، والكتمان، وأسباب الاحتياط، وترك للإرادة الإلهية - بعد ذلك - ما لا حيلة له فيه([6] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn6)).
وكذلك الأمر بالنسبة لغزوة بدر، وأحد، والأحزاب... وجميع غزواته 
وكل أموره.
وكان eيوجه أصحابه دائما إلى مراعاة هذه السنة الربانية، في أمورهم الدنيوية والأخروية على السواء, ففي أمورهم كان النبي  يرشدهم دائما إلى الأخذ بما يمكن من أسباب للوصول إلى حياة كريمة بعيدا عن ذل السؤال ومهانة العوز والحاجة، روى أبو داود والترمذي عن أنس t أن رجلا من الأنصار أتى النبي eفسأله عطاء، فقال الرسول e: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى. حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه، قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله  بيده وقال: من يشتري مني هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال رسول الله e: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه فأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال له: اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فائتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله eعودًا بيده، ثم قال: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما, فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا, فقال له رسول الله e: هذا خير لك من أن تجئ المسألة نكتة سوداء في وجهك يوم القيامة([7] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn7)).
«وهذا نفس المعنى الذي أشار إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t حين قال للكسالى القابعين في المسجد ينتظرون الرزق: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: «اللهم ارزقني» وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وإن الله تعالى يقول: *فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ..." [الجمعة: 10].
نعم، لابد من بذل الجهد، لأن الأخذ بالأسباب والكدح للحصول على ما يرغب الإنسان في تحقيقه هو ذاته من سنن الله تعالى...» ([8] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn8)).
وكذلك بالنسبة لأمر الآخرة، لابد من الأخذ بالأسباب حتى يصل الإنسان إلى ما يرجو من رحمة الله وجنته، قال تعالى: *وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا" [الإسراء: 19] لقد كان في وجدان الأمة الإسلامية في عصرها الزاهر أن إيمانها بقدرة الله - تعالى - المطلقة، وقضائه وقدره لا يتعارض مع اتخاذ الأسباب.
لقد كانوا يدركون أن لله - تعالى - سننا في هذا الكون وفي حياة البشر غير قابلة للتغيير، ومع أن لله تعالى سننا خارقة تملك أن تصنع كل شيء ولا يعجزها شيء إلا أن الله جلت قدرته قد قضى أن تكون سنته الجارية ثابتة في الحياة الدنيا، وأن تكون سننه الخارقة استثناء لها، وكلتاهما معلقة بمشيئة الله.
لذلك كان في حسهم أنه لابد لهم من مجاراة السنن الجارية إذا رغبوا في الوصول إلى نتيجة معينة في واقع حياتهم، أي أنه لابد من اتخاذ الأسباب المؤدية إلى النتائج بحسب تلك السنن الجارية([9] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn9)).
ولقد أصاب المسلمين في أحد ما أصابهم، لأنهم لم يستجمعوا المقدمات التي تنتج النصر ولم يكن المشركون أولى بالله منهم، ولكن هذه سنة الله، فالله - تعالى - قد وضع للنصر أسبابا كثيرة، وأوجب على عباده رعايتها، فمن أبى فلا يلومن إلا نفسه.
وإن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة العالمية لشعوب الأرض لم يكن ظلما وقع بهم، بل كان نتيجة طبيعية لقوم نسوا رسالتهم، وحطوا مكانتها، وشابوا معدنها بركام هائل من الأوهام في مجال العلم والعمل على سواء، وأهملوا السنن الربانية, وظنوا أن التمكين قد يكون بالأماني والأحلام، ولكن هيهات، بل هذا من صميم العدل الإلهي([10] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn10)), قال تعالى: *ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ" [آل عمران: 182].
ولكن إذا كان هذا عقاب الله للمؤمنين الذين عصوه، فما بال الكافرين الذين جحدوه سبحانه بالمرة، ومع ذلك فإنهم متمكنون في الأرض - من الناحية المادية غاية التمكين؟
إن هؤلاء الكفار لم يبلغوا ما بلغوه لأنهم أقرب من الله أو أرضى له، ولم يبلغوا ما بلغوا بسحر أو بمعجزة أو لأنهم خلق آخر متميز، ولم يقيموا الصناعات أو يجوبوا البحار، أو يخترقوا أجواء الفضاء لأن عقيدتهم حق، أو لأن فكرهم سليم، إنهم بلغوا ذلك لأن السبيل إلى هذا التقدم درب مفتوح لجميع خلق الله مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم, قال تعالى: *مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ" [هود: 15].
إن الله - سبحانه وتعالى - جعل التمكين في الحياة يمضي بالجهد البشري، وبالطاقة البشرية على سنن ربانية ثابتة، وقوانين لا تتبدل ولا تتحول، فمن يقدم الجهد الصادق ويخضع لسنن الحياة يصل على قدر جهده وبذله وعلى قدر سعيه وعطائه.
إنها السنة التي أرادها الله في هذه الحياة، إنها مشيئته وسننه وإرادته([11] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn11)).
ب- التوكل على الله والأخذ بالأسباب:
التوكل على الله - سبحانه وتعالى - لا يمنع من الأخذ بالأسباب، فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما أمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب التي تنشئ النتائج فيتوكل عليها([12] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn12)).
ولقد أرشدنا النبي eفي أحاديث كثيرة ضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، كما نبه - عليه السلام - على عدم تعارضها.
1- عن أنس بن مالك t قال: جاء رجل إلى النبي eعلى ناقة له، فقال: يا رسول الله أدعها وأتوكل؟ فقال: (اعقلها وتوكل) ([13] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn13)).
وهذا الحديث أصل في التوكل وفيه الأمر باتخاذ الأسباب والاحتراز مع
الأمر بالتوكل([14] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn14)).
2- وعن عمر بن الخطاب t عن النبي eقال: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتعود بطانا» ([15] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn15)).
وفي هذا الحديث الشريف حث على التوكل على الله مع الإشارة إلى أهمية الأخذ بالأسباب حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان الله تعالى الرزق لها([16] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn16)).
إن العمل بسنة الأخذ بالأسباب من صميم تحقيق العبودية لله تعالى، وهو الأمر الذي خلق له العبيد، وأرسلت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السموات والأرض، وله وجدت الجنة والنار، فالقيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية([17] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn17)).
إن القرآن الكريم أرشدنا إلى الأخذ بالأسباب وأرشدنا ألا نعتمد عليها وحدها وإنما نتوكل على الله مع الأخذ بها, وعلى المسلم أن يتقي في باب الأسباب أمرين:
1- الاعتماد عليها، والتوكل عليها، والثقة بها ورجاؤها وخوفها, فهذا شرك يرق ويغلظ، وبين ذلك.
2- ترك ما أمر الله به من الأسباب، هذا أيضا قد يكون كفرا وظلما وبين ذلك, بل على العبد أن يفعل ما أمره الله به من الأمر، ويتوكل على الله توكل من يعتقد أن الأمر كله بمشيئة الله، سبق بها علمه، وحكمه، وأن السبب لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع, ولا يقضي ولا يحكم، ولا يحصل للعبد ما لا تسبق له به المشيئة الإلهية ولا يصرف عنه ما سبق به الحكم والعلم، فيأتي بالأسباب إتيان من لا يرى النجاة والفرح والوصول إلا بها، ويتوكل على الله توكل من يرى أنها لا تنجيه ولا تحصل له فلاحا ولا توصله إلى المقصود، فيجرد عزمه للقيام بها حرصا واجتهادًا, ويضرع قلبه من الاعتماد عليها والركون إليها تجريدا للتوكل واعتمادا على الله وحده([18] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn18)). وقد جمع النبي  بين هذين الأصلين في الحديث الصحيح، حيث يقول: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله
ولا تعجز...» ([19] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn19)).
فأمره بالحرص على الأسباب والاستعانة بالمسبب ونهاه عن العجز وهو نوعان:
1- تقصير في الأسباب وعدم الحرص عليها.
2- وتقصير في الاستعانة بالله وترك تجريدها.
فالدين كله ظاهره وباطنه، وشرائعه وحقائقه تحت هذه الكلمات النبوية([20] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn20)).
إن استيعاب وفهم سنة الأخذ بالأسباب لأفراد الأمة الإسلامية وجماعتها من ضروريات فقه التمكين لهذا الدين.
ثانيًا: إرشاد القرآن للإعداد:
إن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتم القرآن الكريم اهتماما كبيرا في إرشاد الأمة للأخذ بأسباب القوة وأوجب الله تعالى على الأمة الأخذ بأسبابها، لأن التمكين لهذا الدين طريقه الوصول إلى القوى بمفهومها الشامل، وقد قال الأصوليون: «وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»([21] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn21)).
إن القرآن الكريم أوجب على أتباعه إعداد القوة بصورة واضحة, قال تعالى:*وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ"[الأنفال: 60].
شرح الآية الكريمة:
الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل([22] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn22)). والضمير في «لهم» راجع إلى الكفار.
وقوله: *مَّا اسْتَطَعْتُم" قال ابن كثير: أي مهما أمكنكم([23] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn23))، وهذا التعبير القرآني يشير إلى أقصى حدود الطاقة، بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها([24] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn24)).
والمراد بالقوة هنا: ما يكون سببا لحصول القوة، وذكر الفخر الرازي فيه وجوها:
1- المراد من القوة أنواع الأسلحة.
2- ورد أن النبي eقرأ الآية الكريمة على المنبر وقال: «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاثا([25] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn25)).
3- قال بعضهم: القوة هي الحصون.
4- قال أصحاب المعاني: الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على
حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد، فهو من جملة القوة، وقوله عليه السلام: «القوة الرمي» لا ينفي كون غير الرمي معتبرا كما أن قوله:
«الحج عرفة» ([26] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn26)). وقوله: «الدين النصيحة» ([27] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn27)) لا ينفي اعتبار غيره، بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود وكذا هنا([28] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn28)).
كما يساعد على هذا الفهم مجيء كلمة «قوة» هنا نكرة لا معرفة, فهي تشمل كل سلاح معروف أو سيعرف مع الزمن المتجدد فهي تتسع لإعداد الطائرات والصواريخ والدبابات.. وكل الأسلحة التي لها التأثير الحاسم في المعركة([29] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn29)).
ومعنى «رباط الخيل» قال النسفي: هي اسم للخيل التي ترابط في سبيل الله تعالى([30] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn30))، وقال صاحب تفسير المنار: الرباط في أصل اللغة: الحبل الذي يربط به الدابة،
ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها([31] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn31)), ومعنى *تُرْهِبُونَ بِهِ" أي: تخزون، كما قال الطبري([32] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn32))، وقال ابن كثير: تخوفون به([33] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn33))، وقال الشيخ المراغي: الرهبة: هي الخوف
المقترن بالاضطراب([34] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn34)).
ومعنى *وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ" قال الطبري: هم كل عدو للمسلمين غير الذي أمر النبي ؛ أن يشرد بهم من خلفه([35] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn35))، وذكر الفخر الرازي فيه وجوها ثم قال: وأصح ما قيل في المقصود منهم: «أنهم المنافقون»([36] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn36)).
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء, فقال جل شأنه: *تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ..." ذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له ومستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم وذلك الخوف يفيد أمورًا كثيرة:
1- أنهم لا يتجرءون على دخول دار الإسلام.
2- أنهم إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم دفع الجزية.
3- أنه ربما صار ذلك داعيا إلى الإيمان لما يرون من قوة أهله وعزته.
4- أنهم لا يعينون سائر الكفار.
5- أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار الإسلام([37] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn37)).
ويقول صاحب الظلال: الإسلام يأمر بأعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها، فلابد للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض لتحرير الإنسان.
وأهمية القوة بالنسبة للدعوة الإسلامية تتلخص في أمور:
الأمر الأول: أن تؤمِّن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها فلا يُصدون عنها، ولا يفتنون كذلك بعد اعتناقها.
الأمر الثاني: أن ترهب هذه القوة أعداء الإسلام، فلا يفكروا في الاعتداء على حرمات الإسلام.
الأمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء ألا يفكروا في الوقوف في وجه الدين الإسلامي وهو ينطلق لتبليغ كلمة الله إلى الإنسان في كل الأرض.
الأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة «الألوهية» من دون الله رب العالمين([38] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn38)).
وبما أن الأمة الإسلامية أمة مجاهدة، فلابد أن تكون هذه الأمة قوية حتى تستطيع أن تنهض بهذه الرسالة التي أنيطت بها، ولذلك حث النبي eالمؤمنين أن يكونوا أقوياء، وعلى أن يحصلوا كل أسباب القوة، فقال : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»([39] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn39)).
وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحصلوا كل أسباب القوة، فهم يواجهون نظاما عالميا وقوى دولية لا تعرف إلا لغة القوة, فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد، ويقابلوا الريح بالإعصار، ويقاتلوا الكفر وأهله بكل ما يقدرون عليه، وبكل ما امتدت إليه يدهم وبكل ما اكتشف الإنسان ووصل إليه العلم في ذلك العصر من سلاح وعتاد واستعداد حربي، لا يقصرون في ذلك ولا يعجزون([40] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn40)).
إن هذا الإعداد الشامل من أجل تمكين الله يدخل تحت مسمى الجهاد والذي بدونه يستحال التمكين لشرع الله وإقامة دولة تحكم بمنهج الله، يقول الشيخ محمد الغزالي: «إن التغيير الإسلامي الذي تنشده الأمة الإسلامية لا يمكن تحقيقه من غير جهاد، وبدون صياغة جيل مجاهد، فالمهمة التغييرية مهمة شاقة، فالقوى الظاهرة والخفية القابضة على الزمام في عالمنا قوى شريرة، وقد هيأها أعداء لهذا الدور من زمن بعيد، وهي تعمل ليل نهار على خفت صوت الإسلام بشتى الطرق والوسائل, وإزالة هذه القوى، وإقامة الإسلام مكانها ليس بالأمر السهل، فهي ستتشبث بمواقعها حتى النفس الأخير وذلك يحتاج أولا وقبل كل شيء إلى تربية جهادية تخرج أنماطا من المجاهدين، يحبون الموت كما يحب الناس الحياة، ويعيشون همَّ الإسلام وقضاياه ليلهم ونهارهم. لابد من بناء قاعدة صلبة متينة تستطيع أن تصمد في هذا الصراع الجبار, وتقف في وجه المؤامرات، وتجاهد في كل المجالات والجبهات، وتدفع ثمن التمكين لدين الله في الأرض من زهرة
أبنائها الشهداء([41] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn41)).
«إن الواجب على الأمة الإسلامية اليوم لتنهض وتتقدم وتترقى في مصاعد المجد أن تجاهد -بمالها ونفسها- الجهاد الذي أمرها الله به في القرآن الكريم مرارا عديدة، فالجهاد بالمال والنفس هو العلم الأعلى الذي يهتف بالعلوم كلها، فإذا تعلمت الأمة هذا العلم وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف»([42] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftn42)).



[/URL]([1]) انظر: مفاتيح الغيب (2/626).

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref1)([2]) انظر: مفردات القرآن كتاب السين، ص220، المعجم الوسيط، ص426.

([3]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن لمحمد سيد، ص248.

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref3)([4]) مفاهيم ينبغي أن تصحح لمحمد قطب، ص262، 263 بتصرف يسير.

([5]) حول التفسير الإسلامي للتاريخ محمد قطب، ص104.

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref5)([6]) أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة المقبلة, د. القرضاوي، ص17، 18.

([7]) رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب: ما تجوز فيه المسألة (2/120).

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref7)([8]) حول تفسير التاريخ الإسلامي، ص89.

([9]) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح، ص262، 263.

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref9)([10]) انظر: الغزو الثقافي يمتد من فراغنا للغزالي، ص147: 150.

([11]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص252.

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref11)([12]) المصدر نفسه: ص253.

([13]) رواه الترمذي في صفة القيامة باب (60) (4/668) رقم 537.

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref13)([14]) انظر: التوكل على الله تعالى وعلاقته بالأسباب، د. عبد الله الدميجي، ص179.

([15]) الترمذي، كتاب الزهد، باب التوكل على الله (4/573) رقم 2344، حسن صحيح.

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref15)([16]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص254.

([17]) انظر: مدارج السالكين (2/130).

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref17)([18]) مدارج السالكين (3/501).

([19]) مسلم: كتاب القدر باب الأمر بالقوة (4/2052) رقم 2664.

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref19)([20]) انظر: مدارج السالكين (3/501).

([21]) في ظلال القرآن (2/919) تفسير آية 54 من سورة المائدة.

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref21)([22]) تفسير المنار (5/53).

([23]) تفسير القرآن العظيم (2/122).

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref23)([24]) في ظلال القرآن (2/1553).

([25]) مسلم مع شرح النووي، كتاب الجهاد، باب: فضل الرمي (13/64).

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref25)([26]،3) مسلم، كتاب الإيمان، باب: إن الدين النصيحة (1/74).




(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref27)([28]) تفسير المنار (5/53).

([29]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص89.

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref29)([30]) انظر: تفسير النسفي.

([31]) تفسير المنار (10/16).

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref31)([32]) تفسير الطبري (6/22)

([33]) تفسير ابن كثير (2/322)

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref33)([34]) تفسير المراغي (4/23)

([35]) تفسير الطبري (6/22)

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref35)([36]) مفاتيح الغيب (7/533).

([37]) المصدر نفسه (7/324) وما بعدها.

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref37)([38]) في ظلال القرآن (3/3154) مع تصرف.

([39]) مسلم مع شرح النووي كتاب 6، (16/ 215)

(ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref39)([40]) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ لأبي الحسن الندوي، ص225.

([41]) ركائز الإيمان بين العقل والقلب، ص75 بتصرف.

[URL="ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسباب %20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref42"] (ada99:31%20المبحث%20الأول%20سنة%20الأخذ%20بالأسبا ب%20وإرشاد%20القرآن%20للإعداد.htm#_ftnref41)([42]) انظر: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ الأمير شكيب أرسلان، ص164.

tinah
08-19-2011, 04:29 AM
ركوب موجة الفتاوي المناهضة لفريضة الجهاد



بقلم تينا العيجان

ركوب موجة الفتاوي المناهضة لفريضة الجهاد

عجبت من هذا الفريق وذاك الفريق ، يريدون ركوب الموجة في غفلة من الناس عنهم ، وهم واهمين اذ أن الناس باتت أكثر يقظة وانتباها لهم

الاعجب في امر هؤلاء هو محاولة منع الجهاد بحجج توهم انها منطلقة من الشريعة السمحاء

" كبرت كلمة تخرج من افواههم "

شخص اسمه رمضاني يقول عن نفسه انه خطيب جمعة ، وسواء كان حقا خطيب جمعة في احدى مساجد بلاد الله الواسعة او لم يكن فنحن لا نحاكم شخصه ولكن نحاكم مزاعمه التي تهدف الى بث اليأس في النفوس والإدعاء ان الله لا يوجب الجهاد عندما يكون قد اصاب الأمة وهن وضعف في قوتها العسكرية ويزعم ان الجهاد العسكري فقط عندما يكون للامة مقدرة عسكرية ضاربة ! وهو يركب الموجه المعادية لكل من حمل سلاحا دفاعا عن المقدسات الاسلامية في فلسطين وغيرها ويسخر من علمهم ويضعف من علو كعبهم في العلم والفضل والجهاد ويحاول ضحد حججهم القوية المستندة على الايات القرانية الشريفة والاحاديث النبوية التي علمتها الأمة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فهو يسفه اراء الاقدمين والاحدثين من كبار علماء الامة ويفسر على هواه حديث التحذير عن التهاون عن الجهاد بحجج بات فريق تلك الموجة يلوكها وهي حجة ان للجهاد فقهه وشروطه وان مضيت معه في ثنايا سطور كتابه المشبوه لتعرف منه ماهي تلك الشروط وذلك الفقه لم تجد عنده بضاعة حقيقية بل تجده ينقل الاقوال مجزأة في غير سياقاتها بل في وقاحة يلجأ غالبا الى الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو يتجاوز كل الامثلة القوية من الايات القرانية الكريمة والاحاديث النبوية الصحيحة المؤكدة التي لا يختلف عليها احد من علماء الدنيا ويصر على ان كل الايات القرانية انما هي تعني بالجهاد فقط جهاد النفس وجهاد الانسان في تأمين لقمة العيش وان الواجب الرضوخ للزعماء الخونة الذين يضعون ايديهم في ايدي الاعداء بحجج واهية ضد المجاهدين في سبيل الله ويتعاونون معهم في توهين شأن الجهاد والمجاهدين وتشويه سمعة كل مجاهد نذر نفسه لاعلاء كلمة الله

وكتاب المدعو رمضاني يحمل عنوانا عجيبا فهو معنون ب" السبيل الى العز والتمكين "

ومن اعجب ادلته على عدم تخطئة المتخاذلين امام واجباتهم في حماية الديار الاسلامية ومقدساتها وشيوخها ونسائها واطفالها قوله في صفحة 118 الطبعة السابعة من كتابه المذكور زعمه أن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عند وصفه لما أصاب رسول الله من أذى ابو جهل وعدم مبادرته الى انقاذ الرسول ومناصرته هو الدليل على عدم وجوب مناصرة المسلمين بعضهم بعضا ويعلق على ذلك الموقف بقوله بالنص " فلم ينتصر لا بلسانه ولا بيده ، فهل يجرؤ احد على تأثيمه في ذلك بعد أن سكت عنه صاحب الشريعة "

والمدعو رمضاني بقوله ذلك ينفي وجوب الالتزام وبالايات الواضحة في وجوب نصرة المظلوم واجابة الاستنصار في مثل قوله تعالي "وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ، والله بما تعملون بصير*والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير" وضمنيا ينكرالاحاديث النبوية الصريحة "كقوله صلى الله عليه وسلم " انصر اخاك ظالما او مظلوما " وقوله صلى الله عليه وسلم " من لم يهمه امر المسلمين فليس منهم .

ان موجه التنديد بدعوات الجهاد استجابة لرغبات رسمية في بعض الدول العربية والاسلامية قد باتت ملفتة للنظر وان راكبي هذه الموجة هم فئات من بعض الاشخاص الذين تعينهم الجهات الرسمية للخطابة والامامة في المساجد وهي تعلم ضحالة العلم الذي يحملونه في صدورهم وان ركوب هؤلاء مثل هذه الموجه لن يغير من حقيقة الصحوة التي تعيشها الامة الاسلامية التي باتت تتوق الى الجهاد ورد الأذى عن ثالث الحرمين الشريفين

كتبته : اختكم تينة العيجان

أم عمر
08-19-2011, 08:12 AM
جزاكم الله خيرا ونفع بكِ وجعل ماكتبتى فى ميزانك

وأهلا بكِ بيننا مفيدة ومستفيدة بإذن الله