المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بيان حقيقة الإيمان والرد على مرجئة العصر الشيخ حامد العلي


الوليد المصري
07-12-2008, 05:28 PM
قال الشيخ حامد العلي حفظه الله في كتاب بيان حقيقة الإيمان والرد على مرجئة العصر

"الحمد لله الذي نزل القرآن ، وفرض الإيمان ، وبين أنه تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان ، أشهد أن لا اله إلا هو ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله الذي فرق بين أهل الإسلام وطاعة الرحمن ، وأهل التولي والكفران .


وبعد : فقد كنت اطلعت على كتاب بعنوان (أحكام التقرير بأحكام التكفير) ، فراعني ما فيه ، وأفزعني ما يحتويه ، فانه قرر مذهب المرجئة في الإيمان ، واستشهد لذلك بكلام أئمتهم ، ظانا أنه مطابق للاعتقاد الصحيح المنقول عن أهل السنة ، ثم رأيت رسالة صغيرة في نقض هذا الكتاب ،

بعنوان ( براءة أهل السنة ) وفق فيها الكاتب وقد سمى نفسه: ( أبو عبدالرحمن السبيعي ) أيما توفيق ، وأجاد غاية الإجادة في رد ما في كتاب (أحكام التقرير ) من الباطل وفرق بينه وبين الحق أحسن تفريق ، فاللهم اجزه عن الإسلام والمسلمين وأهل السنة المتبعين خير الجزاء آمين .


ثم اطلعت على كتاب آخر بعنوان ( الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير ) فوجدته علا درجة عن سابقه ( وهو كتاب أحكام التقرير ) ، غير أنه أخطأ الصواب في مواضع ومال عن جانبه ، منها أنه قرر أن كفر العمل لا يخرج أبدا عن الملة الإسلامية ، إلا إذا دل على الجحود والتكذيب أو الاستخفاف والاستهانة والعناد وعدم الانقياد ، فهو وان نجا من قول من يرى الكفر العملي لا يكون منه أبدا كفر أكبر حتى يقارنه الجحود والتكذيب ، كما في الكتاب الأول ، وهو مذهب المرجئة بعينه

لكنه اشترط شروطا أربعة ليكون الكفر العملي كفرا أكبر ، وعطف بعضها على بعض عطف النسق ، وهي الاستخفاف والاستهانة والعناد وعدم الانقياد ، فكأنه يقول لا يكفر من أتى بناقض عملي إلا إذا قام بقلبه أربعة مجتمعه هي المذكورة ، ونسب هذا إلى أهل السنة ، وإذا قلنا قصد التأكيد بعطف مترادفات ،

صار مذهبه بالاختصار أنه يرى أن الكفر العملي لا يكون أبدا كفرا أكبر، حتى يقارنه أمران لابد من اجتماعهما في القلب ( الاستخفاف والعناد ) والعناد هو الاستكبار ، فاقتضى هذا أن من يسجد للأصنام طمعا في المال ويطوف بالناس حول الأضرحة ويذبح لها ويسجد لها ، راغبا في عرض الدنيا ،

غير مستخف( من الاستخفاف ) ولا مستكبر ، أنه لا يكفر على مذهبه وبمقتضى شروطه ، وأن من سب دين الإسلام وأستهزأ بشعائره لعوض يطلبه من متاع الدنيا ، غير مستخف ، ولا مستكبر لا يكون كافرا أيضا على هذا الرأي ، وقد صرح الكاتب بهذا فأخرج من يفعل الكفر العملي الأكبر الناقض للإيمان ، لا عن استكبار لكن برغبة ، عن أن يكون كافرا ، وهو خلاف اعتقاد أهل السنة ،


وقد غلط أيضا من جهة أنه يحكي هذه الشروط وكأنها مذهب أهل السنة الذي استقر إجماعهم عليه ، أفلا ذكر من كفر منهم تارك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها كإسحاق بن راهويه وغيره ، وأنهم لم يشترطوا أن يكون ذلك عن استخفاف واستكبار ، فمن أين ــ لعمري ــ يطلق قيودا ويشترط شروطا ما أنزل الله بها من سلطان ، فان كان لابد فاعلا فهلا ذكر الخلاف ، ولم يجزم أنه اعتقاد أهل السنة مجتمعين ، وان كانوا ــ في التحقيق ــ لما قاله مفارقين .


فان قيل فلعله يرى أنه لا يسب الرسول صلى الله عليه وسلم راغب في المال ، أو يسجد للأصنام طامع في عرض الدنيا ونحو ذلك إلا من هو من أهل الاستخفاف ، وان كان قد يجمع مع ذلك إيثار متاع دنيا أو شهوة من الشهوات ، فاكتفى بذكر هذا الوصف( الاستخفاف ) ليكون من دلالة التلازم فيحتوى ما أشرت إليه .

فالجواب أنه لم يكتف بهذا الشرط حتى ضم إليه الاستكبار ، فمن هنا أدخل على اعتقاد أهل السنة ــ حاكيا عنهم مذهبهم ــ أمورا جعلها في سياق الشروط ، بلا دليل ولا برهان .

ولنا أن نسأل كيف لنا أن نعرف ما في قلب الساجد للصنم الساب للرسول المستهزئ بالدين وأمثالهم ، هل هو معاند ومستخف أو لم يقم بقلبه شيء من ذلك ، فعلى رأي الكاتب لا نحكم بكفر أحد حتى يعلن لنا بلسانه ويبين ما في قلبه ، وان سب ديننا ونبينا وسجد للصلبان والأصنام وألقى المصحف في الحشوش ،

وإلا فما معنى اشتراط الشروط إذا كانت لا سبيل إلى معرفتها وهي في طي علم الغيوب ، وإذا كان المؤلف لا يحكم على من ينقض إيمانه بالنواقض العملية إلا إذا صرح بلسانه أنه جامع بين أمرين الاستخفاف والعناد ،


فمذهب المرجئة القديم خير من هذا القول الرديء ، فان قدماء القوم كانوا يقولون إذا أظهر السجود للأصنام وسب الرسول يحكم بكفره ظاهرا لأن أحكام الدنيا مبنية على الظاهر ، فان كان مع ذلك مصدقا بقلبه كان مؤمنا عند الله ، وهذا من أحكام الآخرة ولم نخاطب بها ، وأما هؤلاء المحدثون فانهم يقولون لا نحكم بكفره حتى يعلن بلسانه انطواء قلبه على الاستخفاف والاستكبار، أولئك أفسدوا أحكام الآخرة ، وهؤلاء أفسدوها وأحكام الدنيا فإنا لله وإنا إليه راجعون .



ثم يا قوم ، يا أهل العقول والإنصاف ، إن كنتم تقولون لا نكفر ساب الرسول والساجد للأصنام حتى نعلم كونه مستكبرا بقلبه مستخفا ، على مذهب صاحب الكتاب المذكور ،

خالفتم سلفكم من المرجئة وخالفتم إجماع أهل السنة كما سيأتي بيانه ، وصرتم كالغراب الذي حاكى الحمامة فأضاع مشيته وأخطأ مشيها .

وان كنتم تقولون نكفر ساب الرسول والساجد للأصنام من أهل النطق بالشهادتين ولا نسأل عما في قلبه لامتناع أن يكون منه ذلك إلا مع استخفاف واستكبارـ فليت شعري ـ

أوليس الذي يزيح الشريعة بقوة السلطان ،بعد أن كان يحكم بها قضاة الشرع والعلماء ، ثم يعاقب من يحكم بها منهم بالقتل والتشريد والحبس وقطع الأرزاق ، ويأتي بأحكام الطاغوت ، ينصبها حاكمة بين العباد في كل أوجل أمورهم وشئون معايشهم ،

فيفرضها فرضا ويحمل الناس عليها ويسوم من يحاربها سوء العذاب ، أفلا يكون هذا أولى بوصف الاستخفاف من ذلك الذي يسجد للصليب أو يسب الدين طامعا في مال ، فما بال القوم يحومون حول هذا الحمى ويخشونه ، أم أن الكفر لا يجتمع والسلطان ، فبينهما تهاجر عظيم الشان .

أوليس حال أكثر بلاد المسلمين هذا الحال الذي وصفت ، فهل يقدر أحد أن ينصب قاضيا يقضي بالشريعة الإلهية إلا ويزج به في أشد العذاب ،

ويقولون : أفنحن لا نقضي بالعدل حتى تعارض القانون ، أم تريد أن تجعل الشريعة ، بدل قوانيننا الأوربية العريقة ،



ثم أتاهم من حيث لم يكونوا يحتسبون من يفتيهم بأن قولوا نحن فيما فعلناه غير مستحلين ولا مستخفين ولا معاندين لله رب العاملين ، فتكونون بحمد الله من جملة عصاة الموحدين ،



وهل هناك من لا يخطئ من المؤمنين ، لكنكم مع ذلك من ولاة أمر المسلمين وقد علم مالكم من الحقوق العظيمة ، ونحن معكم كلما فعلتم ما يكفر به ، زدنا لكم شرطا من الشروط يخرجكم من باب التكفير ، لتبقى إمامتكم الإسلامية على الدوام ، ولا تنسونا بعد ذلك ، بالفضل والانعام ،




فصار حال هؤلاء المرجئة ، وحال آهل الحق في دولة الطاغوت ، كما قال الشاعر :

إذا قلت المحـــــــــال رفعت صوتي = وان قــــلت اليقـــين أطلت هــمسي

وما أصدق وصف الإمام ابن القيم لهذا المذهب الرديء إذ قال :

وكذلك الارجاء حين تقر بالمعبود تصبح كامل الإيمــان
فارم المصاحف في الحشوش و خرب البيت العتيق وجد في العصيان

واقتل إذا ما استطعت كل موحـــــد وتمسحن بالقس والصلبـــان

واشتم جميع المرسلين ومن أتوا من عنده جهرا بلا كتمـــان

وإذا رأيت حجارة فاسجد لهـــا بل خر للأصنام والأوثــــان

وأقر أن الله جل جلالـــــه هو وحده الباري لذي الأكـــوان

واقر أن رسوله حقا أتـــــى من عنده بالوحــــــي والقـرآن

فتكون حقا مؤمنا وجميـــع ذا وزر عليك وليس بالكفــــران

هذا هو الإرجاء عند غلاتـــهم من كل جهمي أخي شيطـــــــان



وصار حال الشريعة بين الحكام بالطاغوت ومن يفتيهم بمثل هذه الفتاوى ، كحال الخلافة لما دار عليها ما يدور اليوم على الشريعة ، وحق لنا أن نتمثل قول شوقي :

عادت أغاني العرس رجع نواح ونعيت بين معالم الأفـراح
كفنت في ليل الزفاف بثوبـــه ودفنت عند تبلج الاصبـــاح
شيعت من هلع بعبرة ضاحــك في كل ناحية وسكرة صـــاح
ضجت عليك مآذن ومنابـــر وبكت عليك ممالك ونــــواح
الهند والهة ومصر حزينـــة تبكي عليك بمدمع ســــحاح
والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الشريعة ماح



وكانت مأساة الخلافة ، ثم دارت على الشريعة ، ثم صار الأمر اليوم إفساد عقائد الناس ، وتهوين ارتكاب الكفر الأكبر ، بتركيبه على مذهب المرجئة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

والمقصود أن في الكتاب المذكور مواضع تحتاج إلى تفنيد ، ليس هذا هو موضعه ، لكنني بعد الاطلاع على الكتابين المذكورين ، وما فيهما من مطابقة أو مقاربة مذهب أهل الإرجاء ، قرأت لبعض الكتاب من أهل الكويت ممن يطلب علوم الشريعة ، وينتسب إلى عقيدة السلف ، مقالا في صحيفة يقرر فيه أن ما يندفع به وعيد عصاة الموحدين ،

يندفع به حكم التكفير بجامع أنهما من الوعيد ، وذلك كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة والشفاعة أو غيب لا نعلمه



ولم نؤمر أن نبحث عنه ، كما قال بلفظه ، وأظنه قرأ الكتابين فأساء فهم ما فيهما من الصواب ، وزاد على ما فيها من الخطأ ، فحاز السيئتين ، وهكذا البدع تبدأ صغارا ثم تؤول كبارا، ولما رددت عليه وبينت أنه يخالف إجماع أهل الإسلام

ويقول بما لم يضل به حتى غلاة المرجئة ، رد علي قولي ، وتمسك بما عليه من البهتان ، وظن أننا في مفاخرة في الردود أو مغالبة بين الأقران .

ثم بعد هذا كله جرت أحاديث في مجالس عديدة حول هذه القضية ، وحاورني فيها طلبة متعلمون ، وغيرهم من المخالفين ، وجرى في هذه المجالس كلام طويل متشعب ، وقرأنا كلاما لأهل العلم من المتقدمين والمتأخرين ،ثم طلب مني بعض الاخوة أن أسوق ما جرى من الكلام سياق الحوار بين اثنين ، أجعل نفسي فيه طرفا وأذكر ما ذكرت من الكلام في المجالس المتفرقة ،



وأسوق كلام غيري مساق متكلم واحد ، وأزيد ما يحتاج إلى زيادة لتوضيح الكلام وإيصال المعنى بأوضح عبارة ، وأجعل ذلك كله كحديث مجلس واحد تمثيلا للقارئ ، لتقرب المسألة من صغار الطلبة ويفهمها المبتدئ في تعلم العقيدة السلفية ، فرأيت الإجابة لطلبه ، اقتداء بمن تقدم من أهل العلم في تصوير مسائل العلم على هذا النحو كابن القيم في نونيته وغيرها وغيره من العلماء


وليس مقصودي شرح جميع مسائل الإيمان وبيان الفرق بين مذهب السلف ومذهب غيرهم فيه ، فان ذلك يطول جدا ، وإنما أذكر ما جرى حوله غالب الحديث ، ويستفيد منه من عنده معرفة بأصول هذا الباب ، دون غيره ، والله الموفق وعليه التوكل ، وهذه صورة المحاورة .

وأنبه قبل البدأ في ذكر قولي وقول المحاور ، إلى أن دراسة هذه القضية إنما تهدف إلى إيقاف طلبة العلم على حقيقة الحكم الشرعي المذكور في الكتاب والسنة في موضوع الإيمان ونواقضة ، وأن هذا من الواجب المتحتم ولا يجوز السكوت عن بيانه حفاظا على الدين الحق من الاندراس واختلاط مفاهيمه ألحقه بالباطل ،



غير أنه ينبغي لكل مسلم أن يحتاط في باب الحكم على الناس بنقض الإيمان ولا يقدم عليه إلا بعلم ، ولولا انتشار الجهل في هذه القضية ودخول مذهب الإرجاء على كثير من المنتسبين إلى العلم وهم يعلمون أو لا يعلمون ، وخوفا من استقرار البدعة في نفوس كثير من الناس لما احتجنا إلى الكلام فيها هنا والله المستعان ،





واليك صورة المحاورة :

الوليد المصري
07-12-2008, 05:34 PM
قال : العمل عند السلف شرط كمال في الإيمان .

قلت : حكاية هذا عن السلف غلط محض .

قال : ذكره ابن حجر في الفتح عند شرح ترجمة البخاري ( وهو قول وفعل يزيد وينقص ) .

قلت : هات الكتاب واقرأ

قال : قال ابن حجر ( فالسلف قالوا : هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان ، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله ومن هنا نشأ القول بالزيادة والنقص كما سيأتي ، والمرجئة قالوا : هو اعتقاد ونطق فقط ، والكرامية قالوا : هو نطق فقط والمعتزلة قالوا : هو العلم والنطق والاعتقاد ،والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطا في صحته والسلف جعلوها شرطا في كماله ) انتهى

قلت : رحم الله الإمام ابن حجر وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ، غير أن ما ذكره هنا عن السلف والتفريق بين قولهم وقول المعتزلة لا يخلو من نظر ، والصواب خلافه .

قال : كيف يكون هذا ؟ ما ذكره هو ما تعلمناه ، أن العمل شرط كمال ، ولذلك تارك العمل لا يكفر ، وتارك التصديق والنطق يكفر .





قلت : بل العمل جزء من حقيقة الإيمان والإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل ، والتولي عن العمل بالكلية زوال لحقيقة الإيمان الشرعي ، وتارك العمل بالكلية ليس بمؤمن عند السلف ، والفرق بين قولهم وقول المعتزلة والخوارج أن تارك بعض العمل عند المعتزلة والخوارج ليس بمؤمن ، وجعلوا منه مرتكب مطلق الكبائر ، وأما السلف فيقولون تارك العمل بالكلية ، وتارك ما ينزل منزلة ترك العمل بالكلية كالنواقض العملية مثل ترك الصلاة ـ عند من يقول به ــ ليس بمؤمن ، وأما تارك بعضه الذي لا ينزل منزلة تركه بالكلية ، كفعل الكبائر المعروفة ، فانه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ، هو مسلم فيه مطلق الإيمان , وليس مؤمنا الإيمان المطلق الذي يستحق صاحبه الجنة بلا عقاب .

قال : أنت من جماعة التكفير ،وهذا القول هو قولهم ، وسمعنا عنكم وهذا أوان عرفت حقيقتكم .

قلت : مهلا عفا الله عنك ، اصبر حتى تسمع قولي فربما كان صوابا وكان قولك هو الخطأ ، ولا تعجل فلربما كان مع المستعجل الزلل.


قال : لا ينبغي أن أسمع من أهل البدع ، فانه يجب هجرهم .

قلت : هلا سمعت مني قاصدا دعوتي إلى الحق ، فان أخطأت علمتني وان ضللت هديتني، فإني أراك لم تهجر من هو أضل مني عندك لأجل دنيا تصيبها ، فهل جعلتني أضل الناس ؟

قال : هات نسمع ، ونرد عليك إذا خالفت منهج السلف .

قلت : حقيقة مذهب السلف أنه يتركب مما يلي :

1ـ الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، والقول هو قول القلب وهو التصديق ، وقول اللسان وهو النطق بالشهادتين ، والعمل هو عمل القلب والجوارح بما فيها اللسان ، وعمل القلب يدخل فيه الخوف والرجاء والمحبة والتوكل ..الخ .

قال : أما هذا فصواب .

قلت : 2ـ الإيمان حقيقة جامعة لهذه الأمور ، متركبة منها

قال : وهذا صواب أيضا إن شاء الله .

قلت : 3ـ المرجئة تقول( وهو قول أئمتهم المشهورين ) الإيمان شيء واحد فقط وهو تصديق القلب ، والنطق بالشهادتين شرط لإجراء أحكام الدنيا عندهم فحسب .

قال : هذا هو قولهم .

قلت : 4ـ إذا كان عمل الجوارح إنما هو نتيجة حتمية لعمل القلب وعمل القلب نتيجة لتصديقه ما لم يحل بين التصديق وبين العمل القلبي مانع ، فهذا يعني أن عمل الجوارح لازم لعمل القلب لا يتخلف تخلفا تاما إلا إذا زال عمل القلب زولا تاما .

بمعنى أنه إذا كان يصدق بالله تعالى ربه ومعبوده المستحق للعبادة وكمال الصفات ، فلا بد أن يحبه ويخافه ويرجوه ويتوكل عليه بالتوحيد ، ما لم يقم بقلبه مانع الكبر أو غيره.

وإذا أحبه وخافه ورجاه وكان حبه وخوفه ورجاؤه لله أكبر مما يكون لغير الله ، فلا بد أن يأتي بشيء من مقتضى هذا كله من عمل الجوارح، ولا يتخلف عمل الجوارح تخلفا كليا مع وجود عمل القلب ، بلا مانع يمنع من تخلفه ، كعدم التمكن مثلا أو مفاجأة الموت ، أو الجهل

قال : أنا موافق على هذا كله ، لا إشكال فيه .

قلت : 5ـ إذن لا يمكن افتراض وجود باطن الإيمان ( تصديق القلب وعمله ) دون شيء من ظاهر العمل ، لأن حقيقة الإيمان مركبة من الأمرين أصلا .

قال : فلماذا قالت المرجئة إذن ، بأنه يكون مؤمنا بقلبه ، والعمل خارج عن اسم الإيمان .

قلت : لأن الإيمان عندهم هو التصديق فقط ، فلم يصعب عليهم تصور وجوده مع فقد كل الأعمال بالكلية .

قال : والسلف ؟

قلت : الإيمان عندهم تصديق وعمل ، مركب من الأمرين ، وعمل الجوارح لازم لعمل القلب ، وكلاهما من الإيمان نفسه وداخل مسماه ، ولهذا لا يوجد الإيمان مع انتفاء عمل الجوارح كله إلا لمانع ، لأن انتفاء عمل الجوارح بالكلية بلا مانع ، يعني انتفاء عمل القلب بالكلية ، ولا يكون الشخص مؤمنا وليس في قلبه شيء من عمل القلب ( خوفه ورجاؤه ومحبته وتوكله ..الخ ) ، فإذن لا ايمان مع انتفاء عمل الجوارح بالكلية

قال : قد يكون الإنسان مصدقا بوجود الله تعالى لكن لا يحبه ولا يخافه ولا يرجوه أكبر من محبته وخوفه ورجاءه لغيره .

قلت :فإذن لن يأتي بالعمل الصالح ، إلا على صورة يكون العمل مع الشرك بالله ، فهل تسمى هذا مؤمنا ؟

قال : حاشا لله ، بل هو مشرك ، لكن كيف وهو مصدق ؟

قلت : هو مصدق بالله تعالى ، لكن كتصديق ابليس وفرعون ، ليس معه انقياد قلبي لما صدق به ، بسبب مانع منع من الانقياد القلبي الذي تكون معه أعمال القلوب ،ومن الأسباب المانعة : الكبر فإبليس استكبر عن الانقياد مع وجود التصديق ، وفرعون كذلك قال الله تعالى عنه (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) ، ولهذا من الكفر ما يكون استكبارا لا تكذيبا ، ومن الأسباب المانعة إيثار الحياة الدنيا فيسمع حجة الرسل ويعتقد صدقها بقلبه، ولا ينقاد لها لأنه لا يريد الانقياد لغيره إذا كان ينزعه عن حالة يحبها ويريدها ويؤثرها على اتباع الرسل ، كاتباع ملة آباءه على سبيل المثال ، وذلك مثل أبي طالب ، فانه كان يعتقد صدق الرسول وصحة رسالته لكنه آثر محمدته في قومه ومكانته في قلوبهم على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخشي أن تفوت هذه المكانة فيسبونه ويلومونه إذا اتبعه، فآثر هذه على الآخرة ، فصار كافرا بتوليه عن الشهادتين ، وان كان يعتقد صدق الرسول ، ولو فرض أن انسانا نطق بالشهادتين وتولى عن الانقياد لها بالعمل توليا تاما لنفس السبب الذي حمل أبي طالب على الامتناع عن النطق لكان حكمه حكم أبي طالب سواء ، ولا ينفعه النطق بالشهادتين مع التولي عن العمل بالكلية عند أهل السنة وان كانت المرجئة تعتقد أنه ينفعه .

قال : هذا واضح بحمد الله تعالى ، وهل هو كفر التولي المذكور في القرآن .

قلت : نعم هو كفر التولي، كما في قوله (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ، فالتصديق قابله بالتكذيب ، وفعل الصلاة التي هي أعظم العمل وتاركها كتارك العمل كله ، قابله بالتولي .

قال : وما تقول المرجئة في مثل أبي طالب ، يقولون كل من حكم الله أو رسوله بكفره فهو مكذب في الباطن ، وان كان يظهر التصديق وهو مكابرة أوقعهم فيها إصرارهم على أن الإيمان هو التصديق فقط وضده هو التكذيب فقط .

قال : وماذا يقولون فيما لو صدق رجل بقلبه وامتنع عن النطق هل نحكم عليه بالإسلام أو الكفر ؟ فإذا كنا نحكم عليه بالكفر فقد كفرناه مع وجود التصديق فكيف يجعلون التصديق وحده هو الإيمان، وإذا كنا نحكم عليه بالإسلام فهو خلاف الإجماع المتيقن.


قلت : يقولون النطق شرط لإجراء أحكام الدنيا فقط ، ولو تركه ثم مات فانه مؤمن عند الله ، هذا قول غلاتهم ، ويقولون :هو مؤمن عند الله ، وان كنا نطبق عليه أحكام الكفر ، لأننا مأمورون بالظاهر في إجراء أحكام الدنيا، وبعضهم يقول ( كافر قضاء مؤمن ديانة ) .





وقلت : ومن قال منهم الإيمان تصديق القلب وعمله ، فرارا من هذا القول ، فانه يتناقض عندما يخرج عمل الجوارح لأنها لازمة لعمل القلب ، ومن قال منهم تصديق القلب وعمله والنطق بالشهادتين فقط من عمل الجوارح لكي يجعل مثل أبي طالب كافرا وليوافق النقل ، فانه يتناقض أيضا لأن جعل النطق بالشهادتين ، لازما لعمل القلب لا يصح الإيمان إلا بهما معا ، ثم إخراج أعمال الجوارح كلها من هذا اللزوم ، تحكم وتناقض بين ، فان من نطق بالشهادتين لوجود تصديق القلب وعمله ، لابد أن يأتي بشيء من عمل الجوارح ، ولا يتصور أن يتركها بالكلية ، فان الملزوم لا يتخلف عن لازمه .

قال أو قلت : ذلك أن الإنسان حارث وهمام ، لا يكون له إرادة إلا ومعها عمل ، طبيعة الخلقة الإنسانية أنها تعمل بحسب الإرادة التي تنبثق من التصديق والعلم .

قلت : صدقت ، فلا يكون الإنسان ذا علم وتصديق إلا ويترتب عليه إرادة بحسب علمه وتصديقه ، ثم العمل يكون على وفق هذه الإرادة .

قال : إلا لمانع يمنع من حصول محبة في القلب وإرادة توافقان التصديق ، ومن الموانع الكبر والعناد والتولي والإعراض أو إيثار الانقياد لغير ما صدق به لسلطان محبة ذلك الغير على قلبه ، ونحو ذلك .

قلت : صدقت ، هل علمت الآن أنه لا يصح أن يقال العمل شرط كمال هكذا بإطلاق .

قال : علمت وهو خلاف الصواب ولا يطابق مذهب السلف

قلت : وهذا النص عن إمام أهل السنة الناطق بمذهبهم يبين صحة ما قلناه ، ( قال الحميدي وأخبرت أن أقواما يقولون : إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت ، ويظل مسندا ظهره مستدبر القبلة حتى يموت ، فهو مؤمن ــ ما لم يكن جاحدا ــ إذا علم أن ترك ذلك فيه إيمانه ، إذا كان مقرا بالفرض واستقبال القبلة ، فقلت : هذا الكفر بالله الصراح ، وخلاف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفعل المسلمين قال الله عز وجل (حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) قال حنبل : قال أبو عبدالله ( وهو الإمام أحمد ) : من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به صلى الله عليه وسلم ) كتاب الإيمان مجموع الفتاوى 7/209








وإليك هذا النص ( قال الاجرى ، فالأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان ، فمن لم يصدق الإيمان بعمله ، مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه ، ورضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل ، لم يكن مؤمنا ، ولم تنفعه المعرفة والقول ، وكان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه ، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه ..وقد قال عز وجل في كتابه ، وبين في غير موضع ، أن الإيمان لا يكون إلا بعمل ،وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قالته المرجئة الذين لعب بهم الشيطان ) الشريعة ص 121

قال : لو كان العمل مجرد شرط كمال لا يصح أن يقول الإمام أحمد والحميدي والآجري قولهم المتقدم ، فان شرط الكمال لو ذهب كله يذهب الكمال فقط ، وقد كنت أظنك خارجيا تكفيريا خبيثا أحذر منك ، فبان لي الآن أن من كان يقول فيكم هذه الأوصاف ، ينطبق عليه قول الاجري : مرجئ خبيث يحذر منه .

قلت : لا عليك فالحق أبلج والباطل لجلج ،ومهما نفخ في الباطل فان مآله إلى اضمحلال ، وقد قيل عن دعاة أهل السنة من قبل أنهم خوارج وأنهم يكفرون المسلمين فلم يطفئ ذلك نور الحق الذي دعوا إليه ، ذلك أن الله تعالى نصب للحق منارا هاديا .

قال : لكن ما توجيه النصوص التي ذكر فيها دخول أقوام الجنة بلا عمل .

قلت : تلك محمولة على أقوام مخصوصين ، منعهم من العمل مانع الجهل أو عدم التمكن أو غير ذلك والمتشابه إذا رد إلى المحكم تبين وجهه ومعناه ، أما قول من يقول انهم مؤمنون إيمانا صحيحا مع وجود عمل القلب ، وقد قام في قلوبهم حب الله أعظم من غيره والخوف والرجاء كذلك ، ثم علموا ما يسخط ربهم وما يرضيه ، وتمكنوا من العمل ، ثم لم ينقادوا لشيء منه قط ، ولا سجدوا لله سجدة ولا سبحوه بألسنتهم تسبيحة واحدة قط ، بل تولوا توليا كليا عن الانقياد دهرهم كله حتى ماتوا ، فهذا لا يتصور وقوعه أصلا إذا قلنا الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل (عمل القلب والجوارح )، وأن عمل الجوارح لازم لعمل القلب لا يتخلف عنه إلا لمانع خارج عن إرادة الإنسان وقدرته ، لا يتصور وقوعه على مذهب أهل السنة ، وإنما تتصوره المرجئة التي تقول الإيمان مجرد التصديق والعمل خارج عن اسم الإيمان بالكلية ، وهو شرط لكماله وليس جزءا من حقيقته في عقيدتهم .

قال : لكن هذا يترتب عليه أن الكفر الأكبر يكون منه كفر عملي ، كما يكون اعتقاديا ، ويترتب عليه أن المكفرات العملية إن كانت من نواقض الإيمان لا يشترط فيها الاستحلال والجحود ، بعبارة أخرى يترتب عليه أن الكفر ليس بالجحود فقط ، بل يكون بعض الأعمال ما هو كفر أكبر ، وان لم يستحله الفاعل ويجحد تحريم الشريعة له ،( قلت : وهو النواقض العملية ) قال : لأن العمل إذا كان من الإيمان ، فيكون منه ما يضاد الإيمان ، كما يضاد التكذيب التصديق في الإيمان المركب منهما.



قلت : ليكن كذلك ، ويكون من الكفر العلمي أيضا كفر أكبر وان لم نعلم انطواء القلب على الاستكبار والاستخفاف أيضا، وتسمى النواقض العملية ، بل هذا هو مذهب السلف ، ولا يقول أن الكفر الأكبر لا يكون إلا بالاعتقاد خاصة جحودا أو استحلالا إلا المرجئة ، ألم تر الإمام أحمد يكفر تارك الصلاة وان لم يستحل وان لم يكابر الشريعة ، وذلك بسبب أن اعتقاد الإمام مطابق للنصوص في حقيقة الإيمان التي شرحتها آنفا ، ووافقتني عليها .

وقلت أيضا : ومن هنا يحكي شيخ الإسلام عن طائفة من السلف تكفيرهم تارك الأركان الأربعة( الصلاة والصيام والحج والزكاة ) أو بعضها وان لم يستحل ، فجعلوا ترك هذه الأركان بمنزلة ترك العمل كله ، لأن ترك الركن يبطل العبادة وإلا فما فائدة جعله ركنا ، وهذا يدل على أن فهمهم لحقيقة الإيمان أن العمل باعتبار جنسه لا بعضه ركن في الإيمان ، ويدل على أنهم يكفرون ــ الكفر الأكبر بأعمال مخصوصة .

قال : لكن هل يكفر تارك الصوم أو الحج أو الزكاة كتارك الصلاة .

قلت : كلا بسبب أن النصوص خصصت تارك الصلاة ، وجاءت بعضها تنص على أن تارك سائر الأركان ليس بكافر ،مع أن تاركها بمعنى المتولي عن فعلها الممتنع عن التزامها بالكلية حتى لو قوتل عليها لقاتل فانه يكفر كمانعي الزكاة ، وان لم يجحد وجوبها ،والنصوص التي خصصت الأركان الثلاثة لا تتناول هذه الصورة ، و المقصود هنا بيان دلالة تكفير من يكفر من السلف لتارك الأركان الأربعة على مذهبهم في حقيقة الإيمان ، وأن من الكفر العملي عندهم ما يكون كفرا أكبر بسبب أن الكفر عندهم ليس بالجحود والتكذيب فقط ، انطلاقا من اعتقادهم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط .

قال : أما من هذه الجهة فالدلالة واضحة ، لما كان الإيمان عندهم ، تصديقا قلبيا ولسانيا وعملا ، صار ضده وما ينقضه أيضا منه تكذيب ومنه عمل .

قال : لكن الإشكال لازال باقيا في الفرق بينهم وبين من يكفر بارتكاب الكبائر كالخوارج .

قلت : الفرق أن الخوارج يكفرون بمطلق الكبائر كالزنى وشرب الخمر والقتل ، والسلف لا يكفرون بها ، بل بالنواقض العملية كترك الصلاة عند من يكفر بها ، وسب الرسول صلى الله عليه وسلم ، والاستهزاء بالمصحف وتوجيه العبادة لغير الله تعالى ، ونحو هذه النواقض العملية .

قال: حتى ولو لم يستحل ؟

قلت : حتى ولو لم يستحل ، ولا يشترط الاستحلال في كل تكفير إلا المرجئة .



قال : فهمت أن الخوارج يكفرون بكل كبيرة مطلقا ، والسلف يكفرون بأفعال معينة ــ ليس منها الكبائر المعروفة ــ يسمونها النواقض العملية ، وترك الصلاة مثال واضح لهذا ، وكما أن من يحكم بكفر تارك الصلاة من السلف لا يشترط الاستحلال ، كذلك من يكفر بغيرها من النواقض العملية لا يشترط الاستحلال .


قلت : نعم ، غير أنهم قد يختلفون في الفعل هل هو من النواقض العملية أم لا ، واختلافهم في تكفير تارك الصلاة هو من هذا الوجه ، لا من أجل أن من أتى بالنواقض العملية لا يكفر إلا بالاستحلال عندهم ، بمعنى أن من لا يكفر بترك الصلاة من السلف ليس لأنه يرى رأي المرجئة الذين لا يكفرون إلا بالاستحلال مطلقا ، بل لأنه لا يجعل ترك الصلاة من النواقض العملية ، وترى نفس الفقيه الذي لا يكفر بترك الصلاة ــ إن كان على مذهب السلف في العقائد ــ تراه يكفر ساب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا وان لم يستحل .

قال : لكننا نسمع كثيرا من العلماء يقولون لا يكفر من فعل كذا إلا أن يستحل .

قلت : نعم ويكون المذكور بهذا الحكم ، ليس من النواقض العملية ، ولا يكون من النواقض العملية إلا ما يقتضي التكفير بحد ذاته ، من غير اشتراط استحلال قلبي عندهم.

قال : أما أن التكفير ببعض الأعمال التي تسمى النواقض من غير اشتراط الاستحلال يتلاءم على مذهب السلف في فهمهم لحقيقة الإيمان ، فواضح جدا ، لكن يبقى إشكال وهو أن من يسب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا أو يستهزئ بالمصحف ونحوهما ، لا يتصور أن يكون ذلك منه إلا باستحلال وعدم تصديق ، وحينئذ تعود المسألة إلى أن التكفير لا يكون إلا بالتكذيب الذي هو ضد التصديق ، وأن الأعمال شرط كمال فقط ، فكأن الخلاف عاد إلى أن يكون خلافا لفظيا ، بمعنى أن كل ناقض عملي لا يتصور وقوعه إلا مع عدم تصديق قلبي ( الاستحلال صورة منه ) ، فحينئذ النتيجة واحدة .

قلت : غير صحيح البتة ، إذا كنت تقصد بالاستحلال ، انه يعتقد أنه حلال في الدين فواضح أنه قد يعتقد تحريمه ، ومع ذلك يفعله ، وإذا كنت تقصد أنه لا يصدق بالله وبأن النبي صلى الله عليه وسلم حق وأنه حرم هذا الفعل ، فكذلك واضح أنه قد يصح منه هذا التصديق ومع ذلك يقع منه السب ، وقد رأينا بعض الجهلة يسبون الدين والرب تعالى في حال الغضب ويصلون أحيانا ، وهم كفار بسبهم وان اعتقدوا أنه محرم وصدقوا بالدين ، وعليهم أن يتوبوا توبة صحيحة ليرجعوا إلى الإسلام

قال : لكن لا يقع ذلك منهم إلا لهوان الدين في قلوبهم .

قلت : نعم ، وقد يكون لأسباب أخرى أيضا ،لأن ترابط فعل الجوارح بالقلب ضرورة خلقية ، لكن المقصود أن هذا الذي سميته هوان الدين وترتب عليه فعل المكفرات العملية هو أمر أخر يختلف عن التكذيب والجحود والاستحلال الذي يشترطه المرجئة في كل حكم بالتكفير ، ويختلف عن العناد والاستكبار المقارن للاستخفاف كما يشترطه بعضهم ، ويقولون لا يكون التكفير بالكفر الأكبر إلا اعتقاديا مطلقا ، وأما أفعال الجوارح فلا يكفر بها إلا مقرونة بالاستحلال والتكذيب أو الجحود فيكون التكفير بهذا الاعتقاد لا بالفعل .

قال : حتى لو سجد للصنم ، لا تكفره المرجئة إلا بالاعتقاد المقارن؟

قلت : حتى لو سجد للصنم ، لا يكون كفره عندهم لسجوده للصنم ، بل لما في قلبه من اعتقاد قارن السجود .

بل لقد حدثني بعض أفاضل الدعاة أن بعض الطلبة المتأثرين بكتاب ( الحكم بما أنزل الله وأصول التكفير ) لما سأله ذلك الفاضل عن حكم من يسجد للأصنام طمعا في متاع الدنيا غير مستحل ولا مستكبر ولا جاحد قال لا يكفر .

قال : لكن كيف لنا أن نعرف اعتقاده وما في قلبه ، فكيف إذن نحكم عليه ، أليس هذا يقتضي أن لا يحكم على أحد بالكفر إلا إذا نطق به فقط.

قلت : المرجئة قديما كانت تقول نحن مأمورون أن نحكم بالظاهر ، فنكفره إجراء لأحكام الدنيا فقط لأنها تبنى على الظاهر ، وإذا علم الله تعالى أنه مصدق بالله ، غير مستحل السجود للصنم ، فانه مؤمن عند الله تعالى ناج يوم القيامة من حكم التكفير وان عوقب على فعل المحرم.

وقلت : وهم يقولون لو قدر أننا علمنا أنه كافر عند الله تعالى أيضا فهذا يدل على أنه غير مصدق بقلبه ، وكل من كفره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فهو غير مصدق بقلبه ، وان كان يظهر خلاف ذلك ، لأن الكفر لا يكون إلا التكذيب .

يتبع

الوليد المصري
07-12-2008, 05:38 PM
قال : لكن نحن لا يهمنا إلا إجراء أحكام الدنيا ، أما الآخرة فحكمها إلى الله تعالى ، وحينئذ فالخلاف سيكون لفظيا ، المرجئة والسلف متفقون على أن ساب الرسول والساجد للصنم مثلا ، نجري عليه أحكام التكفير في الدنيا لأننا لا سبيل لنا لمعرفة ما في قلبه ، فيأخذ الجميع بالنواقض العملية في أحكام الدنيا على اتفاق بينهم من باب الأخذ بالظاهر والله يتولى السرائر .


قلت : الخلاف فيما لو زعم بلسانه أنه مصدق في حال إتيانه بالناقض العملي كالسجود للصنم وسب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا ، بمعنى أنه يفعل ذلك ويزعم أنه غير مستحل ، فهل نكفره ، ونقيم عليه حد الردة ، والعجب أن مرجئة العصر أوغل في الإرجاء من المتقدمين انهم يقولون لا نكفره ولا نعمل بالظاهر وان سجد للصليب وسب الرسول صلى الله عليه وسلم ونحوها ، ولا نكفر إلا من يقر على نفسه انه مستحل جاحد فقط ، وهذا من أعجب المذاهب ، وأعجب منه من يقول لا نكفر أهل الشهادتين قط لأن الكفر قد يندفع بما يندفع به وعيد عصاة الموحدين .

قال : دعنا الآن من مرجئة العصر ، فلنفهم أولا مذهب الإرجاء القديم والفرق بينه وبين مذهب السلف ، ثم نعود إلى من تقصدهم بالتفصيل ، أجبني على السؤال التالي : كيف يتصور أن يسجد للصنم أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم ويزعم أنه مصدق بدين الإسلام غير مستحل لما يفعل ، إلا إن يكون مكرها ، والمكره نزل فيه قوله تعالى (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)





قلت : يتصور أن يوافق المشركين على دينهم إيثارا لعرض من أعراض الدنيا ، يوافقهم فيسجد للصليب مثلا ليعطوه أو يكرموه أو يجعلوه سفيرا أو أميرا أو ينحلوه مالا ، أو ليبقى في بلادهم حيث يتنعم فيها بملذات لا يجدها في بلاده ، وهو في قلبه كافر بصليبهم ، وإذا خلا بالمسلم يظهر له كفره بالصليب ، ويسجد له في ظاهر أمره ويعظمه ، موافقة للمشركين طمعا في دنياهم .

قال : أو يسب معهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لنفس الغرض ، أو يعظم دينهم ويرفعه على دين الإسلام ، لنفس الغرض ، أو يقاتل معهم وينصرهم على المسلمين لنفس الغرض ، وهو مع ذلك لا يستحل هذا كله ، ويصدق بقلبه بدين الإسلام ، ويقر لمن يخلو به من المسلمين إن دين الإسلام هو الحق وأنه لا يتركه بقلبه ، مع نطقه بالشهادتين ، وأنه كافر بقلبه بدين المشركين ، لكن إنما يصانعهم طمعا بما في أيديهم من الدنيا .

قلت : نعم ، فهل هذا مسلم لأنه مصدق فحسب ، عاص فاسق بارتكاب الكبيرة فقط، لم ينقض إيمانه لأنه لم يستحل ؟

قال : كلا هو ناقض لإيمانه ، ولا كرامة له ولا نعمة عين .

قلت : هذا النص الذي سأنقله لك عن شيخ الإسلام ابن تيمية يعد مثالا واضحا لجميع ما ذكرناه آنفا ،قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( إن سب الله وسب رسوله كفر ظاهرا وباطنا سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده ، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل ) الصارم المسلول ص451

قال : ما معنى قوله ( ظاهرا وباطنا ) ؟

قلت : إشارة إلى مخالفة قول المرجئة أنه يكفر ظاهرا فقط ، وهم يقولون نكفره ظاهرا لأننا مأمورون بالأخذ بالظاهر ، أما أمر الباطن فإذا كان يعتقد تحريم ما فعل ولا يستحله فانه مؤمن عند الله وان حكمنا عليه بالكفر ظاهرا ، هذا مذهب المرجئة المتقدمين ، أما المحدثون فلا يكفرونه باطنا ولا ظاهرا إلا أن يصرح بالاستحلال ، وأما أهل السنة فانه يكفر ظاهرا وباطنا عندهم ، لأن السب من النواقض في حد ذاته .

قال : لكن واقع الأمر أنه لا يسب النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا من هان عليه مقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس في قلبه من توقيره ما يوجب كف لسانه عما لا يليق به فضلا عن سبه .

قلت : عدنا إلى ما ذكرته من قبل ، وهو أن هذا الذي تسميه هوان مقام النبوة عنده ، هو أمر آخر غير الاستحلال ، وهو غير اعتقاده أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجوز سبه ، أو أنه في مقام يستحق السب حاشاه صلى الله عليه وسلم ، والمقصود أنه قد لا يعتقد هذا كله ، ومع ذلك يكفر بالسب إن فعله عامدا عالما بمعنى اللفظ ، ولا ريب أنه لم يسبه إلا لفساد في عمل القلب أوجب هذا الاستخفاف الذي كفر به ، ضرورة ارتباط عمل الجوارح بعمل القلب .

قال : لكن لماذا لم يوجب التصديق به صلى الله عليه وسلم عند هذا الساب ما أوجب عند غيره من تعظيمه وتوقيره .

قلت : لأن التصديق المجرد إذا عارضه مانع ، فانه لا يوجب عمل القلب من حب الله تعالى الذي منه حب رسول صلى الله عليه وسلم ، وتعظيم الله الذي يدخل فيه تعظيم رسله ، والخوف من الله تعالى ورجاء ما عنده خوفا ورجاء أعظم مما يكون لغير الله تعالى ، ومن الموانع الكبر والإعراض ومنه أن القلب يكون مشغولا بإرادة مرادات أخرى ــ كإيثار الحياة الدنيا من رئاسة أو مال ــ غلبت عليه فمنعت من اتباع ما يعلم صدقه وحب قلبه له وإرادته ، فلما انشغل القلب بهذا العمل القلبي منع من حصول مقتضى التصديق بما جاءت به الرسل ، فيكون مصدقا بما جاءت به الرسل وعالما بأنه حق لكن لا يكون في قلبه عمل بمقتضى هذا التصديق ، فلا يكون في قلبه حب الله تعالى أعظم من كل محبوب ، ولا إرادة ما عنده أعظم من كل إرادة ولا الخوف منه أعظم من خوفه من غيره ، فتأتي أعمال الجوارح على وفق ما في قلبه ، فيقع منه ما يكون كفرا أكبر ، بمقتضى ما في قلبه من فساد في عمل القلب .

قال : وهذا كله أمر آخر غير التصديق .







قلت : نعم هو غير التصديق ، فقد يكون مصدقا بالله ، محبا مريدا لغير ما صدق به ، والمرجئة تقول إذا كان مصدقا ، فهو مؤمن عند الله تعالى، لأن الإيمان هو التصديق ، والأعمال ليست منه ، ومن يقول الأعمال شرط كمال فهي عنده ليست منه أيضا ، لأن الشرط إنما يكون خارج الماهية ، فإذا جعله كمالا فان زوال الكمال زوالا تاما لا يؤثر في صحة الإيمان ، عند هؤلاء .

قال : لعل الذين اشترطوا الاستحلال والتكذيب للتكفير بالنواقض العملية ، وقالوا إذا كان مصدقا لا يكفر بالعمل قط ، وقالوا الكفر العملي لا يكون كفرا أكبر قط ، وقال بعضهم الكفر الأكبر هو الإعتقادي والأصغر هو العملي هكذا بإطلاق ، اشتبه عليهم المقصود باعتقاد القلب ، واختلط بعمل القلب والتصديق ،وهم إنما يقصدون بالاعتقاد ما يعم عمل القلب ، ولم يفطنوا إلى أن قولهم الكفر الأكبر لا يكون إلا اعتقاديا يندرج فيه القول بأن الكفر لا يكون إلا التكذيب والاستحلال وهو قول المرجئة.

قلت : قولهم الكفر الأكبر لا يكون إلا اعتقاديا ، يعني ضد التصديق ، وهو التكذيب ، لأن عمل القلب غير اعتقاده ، اعتقاده هو تصديقه وعلمه ، وأما عمله فأمر آخر وارءه .

قال : ففي الحقيقة قولهم بعينه هو قول المرجئة ، أو يرجع إليه .

قلت : نعم ، ولو أنهم قالوا الكفر العملي الأكبر دليل على فساد عمل القلب ، مع وجود التصديق ، وهذا ما نعنيه بأن الكفر الأكبر هو الاعتقادي ، أي أن الكفر العملي الأكبر ملزوم لفساد عمل القلب ، ولان فساد عمل القلب هو السبب الباعث على هذا الكفر العملي الأكبر ، سميناه الكفر الإعتقادي ، ونعده كفرا أكبر ، لكان صوابا في المعنى خطأ في العبارة ، وهو أشبه بالخلاف اللفظي .



قال : لعلهم يقصدون هذا المعنى ، فأخطئوا اللفظ الدال على مقصودهم .

قلت : يتبين بالمثال ، إذا قالوا ساب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا ــ غير المستحل ــ كافر ، وقد أمرنا أن نحكم بكفره ظاهرا ، مع عدم اطلاعنا على اختلال باطنه وفساد عمل قلبه ، لكننا نعلم بعلمنا بارتباط الظاهر بالباطن أن عمل قلبه فيه فساد أوجب سبه الظاهري ، مع أنه قد يكون مصدقا بالرسول وبما جاء به ، فقولهم صواب لا أشكال فيه على مذهب السلف .
وان قالوا : بل نحكم بكفره ظاهرا ، وهو في الباطن مؤمن عند الله إن كان مصدقا غير مكذب إن كان من أهل الشهادتين ، فهذا مذهب الإرجاء القديم، وهؤلاء كانوا يقولون لو قدر أننا علمنا أنه كافر باطنا ، فلا يكون إلا مكذبا باطنا ، لأن الكفر لا يكون إلا التكذيب والجحود .

وان قالوا : إن تبين لنا انه مصدق غير مكذب ، ولا مستحل ولا جاحد ، لكن وقع منه السب تهاونا لا تكذيبا ولا استكبارا ، فهو غير كافر ، وان كان أتى بعمل الكفر ، لأن الكفر الأكبر لا يكون إلا بالاعتقاد أو الاستكبار والاستخفاف ولا يكون بالعمل قط ، فهم مرجئة العصر ومذهبهم أقبح من المذهب القديم ، لأنهم يفسدون زواجر الشريعة المقصودة بحدود الردة في أحكام الدنيا ، ويفتحون الباب لتتابع الناس في أقبح الكفر بحجة أنه معصية وليس كفرا ، وينطوي هذا على خطر عظيم على الدين ، وأي فساد أعظم من زوال الحد الفاصل بين أعظم متمايزين متضادين موجبين لأعظم مطلوب أو ضده ،الإيمان والكفر .
قلت : وإذ قد تبين لك حقيقة مذهب السلف في الإيمان ، وما ينبني عليه من أقوالهم في التكفير ، وأنهم يكفرون بالنواقض العملية ، ولا يشترطون الاستحلال والجحود والتكذيب فيها ، وأن المرجئة هم الذين لا يكفرون إلا بالاستحلال أو الاعتقاد أو التكذيب أو الجحود وهي ألفاظ تدل على معان متقاربة أو متداخلة ، وذلك بناء على إن الإيمان عندهم هو التصديق فقط والأعمال ليست منه ، وأن حكاية مذهب السلف إن العمل شرط في كمال الإيمان غلط عليهم ومخالف لمذهبهم ، فسأنقل لك بعض النقول التي تبين بعض أحكام نواقض الإيمان ومنزلة العمل منه ، عن أجلة العلماء وطابق بينها وبين ما ذكرت لك أنفا :


1ـ قال الربيع كان الحسن البصري يقول ( الإيمان كلام وحقيقته العمل فمن لم يحقق القول بالعمل لم ينفعه القول ) الإبانة لابن بطة 2/792


2ـ وعن سهل بن عبدالله التستري ( الإيمان إذا كان قولا بلا عمل فهو كفر ، وإذا كان قولا وعملا بلا نية فهو نفاق وإذا كان قولا وعملا ونية بلا سنة فهو بدعة ) الإبانة لابن بطة 2/814


3ـ وقال الإمام ابن بطة رحمه الله ( فمن زعم أنه يقر بالفرائض ولا يؤديها ويعلمها وبتحريم الفواحش والمنكرات ولا ينزجر عنها ولا يتركها وأنه مع ذلك مؤمن فقد كذب بالكتاب وبما جاء به رسوله ) الإبانة 2/795



4ـ شيخ الإسلام ابن تيمية ( والصحابة لم يقولوا : أأنت مقر لوجوبها أو جاحد لها ؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة ، بل قد قال الصديق لعمر رضي الله عنه : والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب ، وقد روى أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها ، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعا سيرة واحدة ،وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار ، وسموهم جميعا أهل الردة ) الدرر السنية 8/35

قال : هل يعني هذا تكفير تارك الزكاة ؟

قلت : من تركها بخلا أو أحيانا ، فهو كمن يترك الصلاة أحيانا مثل أن يضيعها ويؤخرها عن وقتها وتفوته بعض الفرائض فهذا لا يكفر ، لكن من عزم على تركها بالكلية امتناعا وتوليا عن التزامها ، حتى لو قوتل عليها لقاتل دون دفعها ، فالصحابة ــ كما قال شيخ الإسلام ـ على تكفيره وان كان مصدقا بدين الإسلام وأن الزكاة فرض فيه ، وهو دليل على أن هذا الفعل عندهم من النواقض العملية ، وهو (العزم على ترك الزكاة بالكلية والامتناع عن التزامه ــ توليا عن هذا الركن العظيم ــ والقتال على ذلك ) ولهذا لم يفرقوا بين مستحل جاحد أو غيره .

5ـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا : ( ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لأن ذلك لا يكره الرجل عليه وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد لأنه استثنى المكره وهو لا يكره على العقد والقول وإنما يكره على القول فقط فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين فانه كافر أيضا ، فصار من تكلم بالكفر كافرا إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، وقال في المستهزئين ( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته ) الصارم المسلول ص524

قال : تقصد أن المعنى أن من اكره على ناقض قولي ــ كسب الرسول مثلا ــ ففعله مكرها ولم ينشرح صدره به لا يكفر ،وأن من فعله غير مكره يكفر وان اعتقد التحريم .

قلت : نعم هذا هو معنى الآية وظاهرها ، وتفسير شيخ الإسلام لها .

قال : أليس المعنى هو أنه لا يكفر إلا من يشرح صدره بعمل الكفر يعني يستحله ويعتقد صحته ، لأن الله تعالى قال ( ولكن من شرح بالكفر صدرا ...الآية )
قلت : كلا ، بل قوله (ولكن من شرح بالكفر صدرا) يعني من المكرهين على قول الكفر ، لا يكفر من المكرهين إلا من انشرح صدره بعد إكراهه وقال كلمة الكفر منشرحا بها صدره ، أما غير المكره إذا قال كلمة تنقض الإيمان كسب الله تعالى ورسوله ، وكان طامعا راجيا لعرض من الدنيا مثلا ، وان كان في قلبه يكرهها ، فانه يكفر وان اعتقد تحريم فعله ولم يستحله ، وان كان من أهل الشهادتين ، ألا ترى مصداق ذلك في حديث ( يصبح مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا ) ، فمن قال كلمة الكفر الأكبر كسب الله ورسوله أو الاستهزاء بالدين أو عمل عملا هو من الكفر الأكبر طمعا في عرض الدنيا فقد باع دينه بعرض من الدنيا ، وما أكثر ذلك هذه الأيام قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) ، وقد جاءت هذه الآية بعد آية الإكراه في سورة النحل .





7ـ في أجوبة ابني شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب الإمامين حسين وعبدالله ما يلي : (المسألة الثانية وهي : الأشياء التي يصير بها المسلم مرتدا ، .. الثانية : إظهار الطاعة والموافقة للمشركين على دينهم والدليل قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} ، وذكر الفقيه سليمان بن الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب في هذه المسألة عشرين آية من كتاب الله ، وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استدل بها أن المسلم إذا أظهر الطاعة والموافقة للمشركين من غير إكراه ، أنه يكون بذلك مرتدا خارجا من الإسلام ، وان كان يشهد أن لا اله إلا الله ، ويفعل الأركان الخمسة أن ذلك لا ينفعه ) مجموعة التوحيد 403

قال : هذا مثل ما ذكرت آنفا : أنه إذا سجد للصليب أو سب دين الإسلام أو قاتل مع قومه الكفار أهل الإسلام المجاهدين لإظهار الدين ، ونحو ذلك من النواقض العملية أنه يكفر وان لم يستحل على مذهب السلف ، لأنه أظهر الطاعة والموافقة للمشركين على دينهم من غير إكراه .

قلت : نعم ، ما ذكره علماء الدعوة السلفية النجدية هنا هو مطابق تماما لمذهب السلف وينبئ عن فهمهم الدقيق لهذه القضية ، ذلك أنها كانت قضيتهم التي جاهدوا في سبيلها ، فهم أعلم بها من غيرهم

وقلت : ومعلوم أن من أسباب زيادة العلم عند بعض العلماء مزيـــد عنايتهم ببعض أنواعه لحصول البلوى عندهم أكثر من غيرهم كما قــال شيخ الإسلام ابن تيمية ( فان أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة ،ثم أهل الشام ،ثم أهل العراق ، فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم ،وأهـل الشام كانوا أهل غزو وجهاد فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم ) التفسير الكبير 2/212

وكذلك علماء الدعوة النجدية لما كانوا يجاهدون واحتاجوا إلى هذه القضية ، كان تحقيقهم لها ومعرفتهم بتفاصيلها أكثر من غيرهم ممــــن هو بعدهم ، وهم فيها أسد نظرا ، وأهدى سبيلا ، وأقوم قيلا ، وهـــــم إنما بنوها على أصول أهل السنة في الإيمان لم يخرجوا عن ذلك قيـــــد أنملة .










8ـ قال شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبدالوهاب ( فانهم لم يريدوا من النبي صلى الله عليه وسلم ( يعني المشركين ) تغيير عقيدته ، ففيه بيان لما يكثر وقوعه ممن ينتسب إلى الإسلام في إظهار الموافقـــــــــــة للمشركين خوفا منهم ، ويظن أنه لا يكفر إذا كان قلبه كارها له ، إلى أن قال : الثالثة : أن الذي يكفر به المسلم ليس هو عقيدة القلب خاصـة ، فان هؤلاء الذين ذكرهم الله لم يريدوا منه صلى الله تغيير العقيـدة كما تقدم ، بل إذا أطاع المسلم من أشار عليه بموافقتهم لأجل مالــــه أو بلده أو أهله ، مع كونه يعرف كفرهم ويبغضهم ، فهذا كافر لا من أكره ...إلى أن قال : ولكن رحم الله من تنبه لسر الكلام وهو المعنى الذي نزلت فيه هذه الآيات ، من كون المسلم يوافقهم في شيء من دينهم الظاهر ، مع كون القلب بخلاف ذلك ، فان هذا هو الذي أرادوه من النبي صلى الله عليه وسلم ، فافهمه فهما حسنا ، لعلك تعرف شيئا من دين إبراهيم عليه السلام ) مجموعة التوحيد 404

قال : يقصد موافقتهم في شركهم وكفرهم كتعظيم الاصنام والسجود لها ، وسب دين الإسلام أو محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك ، فانه يكفر وان كان في قلبه لا يستحل ما فعل ويكره الكفار ويبغض دينهم ، لكن حمله على هذا الناقض العملي الطمع في المال أو الجاه والرئاسة ونحو ذلك ، كما في الحديث ( يصبح كافرا ويمسي مؤمنا ، ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا )

قلت : نعم هذا هو مقصوده ، وليس مجرد موافقتهم في مباح أو قبول مشورتهم في أمر يحسنونه ، أو في ارتكاب كبيرة كأن يشرب معهم الخمر مثلا .

وأما إذا كان في سلطانهم فخاف على نفسه منهم ، فأظهر لهم موافقته لدينهم إذا لقيهم وقلبه كاره ، فانه يدخل في آية الإكراه ، ولكن إذا لم يكن في سلطانهم وإنما حمله على موافقتهم الطمع في الدنيا ، فانه يكفر وان لم يستحل وان كان قلبه كارها ، قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ( أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن وهو ليس في سلطانهم ،وإنما حمله على ذلك اما طمع في رياسة أو مال أو مشحة بوطن أو عيال ، او خوف مما يحدث في المآل ، فانه في هذه الحال يكون مرتدا ولا تنفعه كراهته لهم في الباطن ، وهو ممن قال الله فيهم { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } ، فاخبر أنه لم يحملهم على الكفر الجهل أو بغضه ، ولا محبة الباطل ، وإنما هو أن لهم حظا من حظوظ الدنيا فآثروه على الدين) مجموعة التوحيد 418

قلت : وتأمل قوله ( أن الذي يكفر به المسلم ليس هو عقيدة القلب خاصة ) وكيف يرد على من لا يجعل من كفر العمل كفرا أكبر قط .

وتأمل قوله ( أو خوف مما يحدث في المآل ) وكونه لم يعذره بذلك ، ولم يرفع عنه حكم التكفير ، وإنما بما يقع عليه من الإكراه في الحال ، وسنكمل بقية النقول في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .

وتأمل قوله ( لعلك تعرف شيئا من دين إبراهيم ) وكيف جعل هذه القضية من صلب الدين وأساس التوحيد
9ـ وفي أجوبة الإمامين حسين وعبدالله ابني الشيخ في بيان ما يصير به المسلم مرتدا ( الأمر الرابع : الجلوس عند المشركين في مجالس شركهم من غير انكار والدليل قال تعالى { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } وفي أجوبة آل الشيخ رحمهم الله تعالى ( لما سئلوا عن هذه الآية الجواب أن الايةعلى ظاهرها ، إن الرجل إذا سمع آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ، فجلس عند الكافرين المستهزئين بآيات الله من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، فهو كافر مثلهم ، وان لم يفعل فعلهم ) مجموعة التوحيد 405

قال : إذا كانوا يسبون دين الإسلام مثلا ويكذبون القرآن ويسخرون من أحكامه ، وهو يجالسهم في خوضهم هذا ، ولا ينكر عليهم ، من غير أن يكره على حضور هذه المجالس ، بل يعدهم أهل مجلسه الذين يصاحبهم وينادمهم ويسمع أيات الله يستهزء بها ولا يعرض ، فانه يكفر ما لم ينكر أو يقوم ، إذا كان هذا هو معنى الآية فهو واضح ، وهو دليل على أن التصديق والشهادتين لم ينفعاه لأنه نقضهما .



قلت : أما دلالة الآية فواضحة كما فسرها هذان الإمامان ، وهي دليل على أن المكفرات العملية لا يشترط فيها الاستحلال ، ولو كان لا يكفر حتى يستحل بمعنى يعتقد جواز خوض أهل مجلسه في آيات الله ، لما كان يكفر بمجرد هذا العمل ، وتأمل أنه لم يفعل شيئا غير أن سكت وبقي معهم ، فكيف لو كان يسب معهم ولا يستحل .

10ـ وقالا رحمهما الله ( وهو أن الذي يدعي الإسلام ، ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة والمنزل ، بحيث يعده المشركون منهم ، فهو كافر مثلهم ، وان ادعى الإسلام إلا أن يكون يظهر دينه ، ولا يتولى المشركين ) مجموعة التوحيد 406

قال : مفهوم هذا مع سياق ما تقدم ، إذا تولى المشركين بهذه الصورة بحيث يخفي دينهم أمامهم غير مكره ،ويتولاهم وينصرهم ويكون معهم بحيث يعدونه منهم ،يوافقهم على دينهم ، فهذا حكمه .

11ـ واسمع هذا النقل عن إمام الدعوة المجدد محمد بن عبدالوهاب ، لتعلم حقيقة ما كانوا عليه من فهم لحقيقة الإيمان ونواقضه ، يقول رحمه الله كما في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/300 ( سألني الشريف( شريف مكة آنذاك )عما نقاتل عليه وما نكفر به ؟ فقلت في الجواب : إنا لا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم ( تدبر في حكايته الإجماع على ما يكفرون به ثم لاحظ ما هي المكفرات التي كانوا يقاتلون عليها ) ،قال : وهو الشهادتان بعد التعريف إذا عرف ثم أنكر ونقول أعداؤنا معنا على أنواع : الأول : من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله وأن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر والبشر انه الشرك ولم يلتفت إلى التوحيد علما وعملا ولا ترك الشرك فهذا كافر نقاتله )

قال : هذا كفر الإعراض ، يعلم بقلبه صحة التوحيد ولكن يفعل الشرك فيكون كافرا ، وقد يفعله موافقة لقومه فحسب ، فلا ينفعه علمه بقبح الشرك وأن دين الرسول صلى الله عليه وسلم هو التوحيد ، إذا كان يأتي الشرك ولا ينقاد للتوحيد .

قلت : ما رأيك الآن فيمن يقول لا نكفر من يسجد للأضرحة والقبور ويطوف حولها ويستغيث بها ويفعل السحر ...الخ ، إذا علمنا أنه لا يستحله بل يفعل ذلك من باب الدجل على الناس وأكل أموالهم وحبا في رئاسة ينالها بسبب هذه الأفعال الشركية ، لا نكفره لأنه غير مستحل .

قال : هذا هو مذهب المرجئة .

قلت : هو مذهب الجدد أما القدماء فكانوا خيرا من هؤلاء ، لأنهم كانوا يقولون نحكم عليه الكفر في أحكام الدنيا لأننا أمرنا بالأخذ بالظاهر وظاهره الكفر ، وإذا علم الله انه مصدق بقلبه بالتوحيد ، فهو مؤمن عند الله لأن الإيمان هو التصديق ، أما الجدد فانه يقولون لا نكفره حتى في أحكام الدنيا ، ولو فعل الأفعال المذكورة ، وزاد عليها بأن أقام حماية السلطة لعباد القبور والأضرحة وشرع لهم القوانين التي تعاقب من يتعرض لهم ، وأحاطهم برعاية الدولة وتنظيمها والإنفاق على هذه الآلهة وتزيينها للناس وتنظيم من يشرفون عليها ، تقول المرجئة الجدد لا نكفره لأنه ناطق بالشهادتين ، ولم يصرح بأنه يستحل ويجحد ويكذب .





قال : انا لله وانا إليه راجعون ، ومن هم هؤلاء الجدد ؟

قلت : لنكمل الحديث عن شيخ الإسلام المجدد ثم نأتي على جواب سؤالك هذا.

ثم قال ( النوع الثاني : من عرف ولكن سب أهل التوحيد ومدح من عبد يوسف والأشقر وأبي علي والخضر ( وهي أضرحة كانت يطاف حولها ويستغاث بها ويسجد لها على زعم أن المقبورين فيها من الصالحين الذين يشفعون عند الله ) وفضلهم على من وحد الله وترك الشرك فهذا اعظم كفرا ، النوع الثالث : من عرف التوحيد واحبه واتبعه وعرف الشرك وتركه لكن يكره من دخل في التوحيد ويحب من بقي على الشرك فهذا أيضا كافر )

قال : مهلا ، قف هنا ، هذا النوع كفره الإمام بمجرد حبه لأهل الشرك لأنهم قومه وقبيلته وكراهيته لأهل التوحيد لأنهم يقاتلون قومه فقط ، مع أنه لا يفعل ما يفعله قومه من الشرك بل يلتزم دعاء الله وحده





قلت : نعم ، انطلاقا مما ذكرنا من حقيقة الإيمان ، وارتباط الظاهر بالباطن فيه ، وعملا بقوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) ، فالإيمان بالله ورسوله الصحيح الشرعي ، لم يقم بهؤلاء ، بل قام في قلوبهم تصديق مجرد لم يوجب عمل القلب الذي يوجب عمل الجوارح ، بل منع حصول موجب التصديق فيهم ، مانع إيثار وتقديم محبة الأهل والمال على الانتصار لدين الله تعالى ، فأحبوا قومهم المشركين وكرهوا الموحدين .

ولنكمل كلام الإمام المجدد ( النوع الرابع : من سلم من هذا كله تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج والثاني لا يكفر إلا بالجحد والثالث التفريق بين الصلاة وغيرها ، وكذلك المعاصي فرقوا بين ما يصادم أصل الإسلام ومالا ، وبين ما سماه الشارع كفرا وما لم يسمه هذا ما عليه أهل السنة ) مجموعة الرسائل 3/14

قال : هذا الكلام يحتاج إلى شرح ، ما معنى الخلاف في أعمال الجوارح واقع بين أهل السنة هل يكفر أو لا يكفر ؟

قلت : يعني اختلفوا في أفعال الجوارح التي هي الأركان الأربعة هل يكفر بتركها بدليل ما ذكره بعده فانه حكى ثلاثة أقوال في ذلك ، ولا يعني كخلاف الخوارج مع أهل السنة في تكفير مرتكب مطلق الكبائر ، فانه أجل من أن يقول مثل هذا القول .

قال : وما معنى قوله ( وكذلك المعاصي فرقوا بين ما يصادم أصل الإسلام أم لا ....الخ )

قلت : يعني المعاصي التي تكون نواقض عملية وعبر عنها بقوله ( ما يصادم أصل الإسلام ) وبقوله ( وماسماه الشارع كفرا ) فهذه يفرقون بينها وبين سائر المعاصي ، فالأولى يكفر بها ، وأما سائر المعاصي فلا يكفر حتى يستحل ، وقد قدمت لك أمثلة كثيرة ، وتأمل قوله هذا الذي عليه أهل السنة ، وقارن بين قوله و ما يقوله المرجئة الجدد .







12ـ قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ( الرابعة قوله أو نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها فلا يكفر بذلك ، هل المعنى : نطق بها ولم يعرف شرحها أو نطق ولم يعلم أنه تكفره ؟ فأجاب : فالمسألة الأولى : قد استدل العلماء عليها بقوله تعالى في حق بعض المسلمين المهاجرين في غزوة تبوك (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) وذكر السلف والخلف : أن معناها عام إلى يوم القيامة فيمن استهزأ بالله أو القرآن أو الرسول وصفة كلامهم أنهم قالوا : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء ، يعنون بذلك : رسول الله والعلماء من أصحابه ، فلما نقل الكلام عوف بن مالك أتى القائل يعتذر أنه قاله على وجه اللعب كما يفعله المسافرون ، فنزل الوحي أن هذا كفر بعد الإيمان ولو كان على وجه المزح ،والذي يعتذر يظن أن الكفر إذا قاله جادا لا لاعبا .. الرابعة : إذا نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها صريح واضح أنه يكون نطق بما لا يعرف معناه ، وأما كونه أنه لا يعرف أنه تكفره فيكفي فيه قوله (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) فهم يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم ظانين أنها لا تكفرهم ، والعجب ممن يحملها على هذا وهو يسمع قوله تعالى (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) ( وانهم وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أيظن أن هؤلاء ليسوا كفارا ؟ لكن لا تستنكر الجهل الواضح لهذه المسائل لأجل غربتها ) ص 447 تاريخ نجد .

قلت : فهذا تصريح أنه إذا قال كلمة الكفر الأكبر وهو يعلم معناها فانه يكفر وان لم يستحل وان ظن أنها غير مكفرة .

13 ـ وقال العلامة محمد الشوكاني في جواب سؤال عن قوم من الأعراب لا يأتون من العمل إلا النطق بالشهادتين هل هم كفار ، فقال ( من كان تاركا لأركان الإسلام وجميع فرائضه ورافضا لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين فلا شك ولا ريب إن هذا كافر شديد الكفر ..ثم قال : والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في هذا الشأن كثيرة ومعلومة لكل فرد من أهل العلم بل هذا الأمر الذي بعث الله به رسوله وأنزل لأجله كتبه والتطويل في شأنه والاشتغال بنقل برهانه من باب إيضاح الواضح وتبيين المبين ) إرشاد السائل إلى دليل المسائل ص43

قال : نحتاج مع هؤلاء المرجئة العصرية أن نبين هذا الواضح فانا لله وانا إليه راجعون.

14ـ وقال العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله عمن يعتقد أن تارك جميع الجوارح ليس بكافر ( هذا من فروع مذهب المرجئة وهو الرائج في البلدان التي أهلها يدعون الإسلام ، فالمسلم هو الذي لا يكون نصرانيا ولا يهوديا بالنسبة إلى العمل بالدين ، وان كانوا لا ينكرون فضل من يصلى ، لكنه مسلم على كل حال عندهم ( يعني ولو لم يعمل بشيء من الدين ومثل لذلك بالأعمال الظاهرة كالصلاة ) ، وأنه من حزب المسلمين ، وأنه يبغض الكافرين ، هذا بقطع النظر عن الشرك ، فهذه مذاهب ردية ) وقال رحمه الله ( تجد الإسلام الفاشي عند الأكثرية إذا لم ينتسب إلى طائفة أخرى ، يقولون مسلم وهو لا يصلي ولا يصوم ، والإيمان حاصل له وهو تصديق الرسول ) الفتاوى 1/

وقال : تكفي هذه النقول ، وهي ناطقة بوضوح أن مذهب السلف هو أن العمل ركن في الإيمان ، وأن الإيمان يزول بالتولي عن جميع العمل لا بعضه كما تقول الخوارج ، وأن الكفر الأكبر منه اعتقادي ، ومنه عملي وان كان القلب مصدقا ، وهو مع ذلك لا يكون إلا مع فساد في عمل القلب أوجب فعل الجوارح للكفر الناقض للإيمان ، ضرورة ارتباط الظاهر بالباطن في طبيعة الخلقة الإنسانية ، غير أننا لم نؤمر بالتنقيب عن الباطن ، بل نحكم على من أتى بالناقض والكفر العملي الأكبر بالكفر الأكبر كمن سب الرسول واستهزء بالمصحف وسجد للصليب والأصنام ونحو ذلك ، حتى لو لم يكن مستحلا ، ذلك أن عمل القلب ليس هو تصديقه ، فقد يكون في القلب تصديق ويأتي العبد من عمل الكفر ما يكون به كافرا الكفر الأكبر ، هذا على طريقة أهل السنة.

وأن مذهب المرجئة هو عدم التكفير إلا بالجحود والتكذيب والاستحلال فقط ، غير أن المتقدمين منهم يجعلون من أتى بالمكفر العملي كافرا ظاهرا ، وأما باطنا فهو مؤمن عندهم إن كان مصدقا .

وأما المحدثون فأضل سبيلا ، لأنهم لا يكفرونه لا ظاهرا ولا باطنا ، إلا أن يصرح بأنه جاحد مكذب مستحل لما فعل أو مستخف معاند مستكبر عن اتباع الرسل ، ولو طاف وسجد ودعا وذبح للصليب أو الأضرحة ،وأقام المؤسسات تحميها وتزينها للناس ، وتشرف عليها وتنفق على سدنتها وكهانها وتنظمها ولو عاقب من يمسها بسوء ، ولو استهزء بدين الإسلام وسب شعائره ، ولو قاتل المسلمين ، وأعان الكفار في حربهم للمجاهدين بما يقدر عليه من نفس ومال ، ولو كانوا يقاتلون دفاعا عن المسجد الأقصى ، لا يكفر من فعل ذلك كله ــ عند مرجئة العصر ــ إلا أن يستحل ذلك ، ويجحد ويكذب ويقول ذلك بلسانه أو يصرح أنه مستخف معاند مستكبر عن اتباع الرسول ، ويقول هؤلاء قبح الله مذهبهم وقد سمعناهم : ألا تراه مسلما يحضر خطبة المولد ، ويبني المساجد ، ويقول بسم الله الرحمن الرحيم في خطابه وينطق بالشهادتين ، ويقول أنى مسلم ، فكيف تكفرونه من غير أن يصرح بأنه مستحل أو مستكبر ، ورأيناهم يجعلون من يكفر مثل هؤلاء الزنادقة من الخوارج المارقة ويستحلون تأليب الطواغيت عليه وكتابة التقارير عنه .

فقلت : هل أنت الآن من جماعة التكفير ؟ ومن الخوارج ؟ لما تبين لك حقيقة الإيمان الذي عليه أهل السنة .

قال : بعد ضحكة طويلة .....والله يا أخي لا تلومني على ما قلته أول الحديث وما كنت عليه سابقا من الجهل ، فإنني لم أكن أسمع إلا الاتهامات والدعاوى المرسلة والطعن فيكم ونسبتكم إلى جماعة التكفير ، بلا تحقيق ولا علم ، ولا وجدت من يدلني على العلم كما سمعت اليوم من هذه النصوص عن العلماء إلا اليوم ، فلك مني جزيل الشكر .

وقال : لكن بقي عندي أمران :

الأول : وهو أنه لايخفى عليك ، أن فتنة التكفير قد عاثت في الأرض فسادا ردحا من الزمن ، وأنها أشغلت الساحة الإسلامية بتكفير طائش متخبط ، وأخذت تلك الجماعات بلوازم ما أنزل الله بها من سلطان ، حتى فر الناس منها إلى هذا غلو في الإرجاء ، فكيف السبيل إلى اتقاء فتنة التكفير ، بعد أن تبين لنا كيف نتقي فتنة الإرجاء ، وهل يجوز الجرأة على تكفير أهل الشهادتين والتتابع فيها بهذا الطيش ؟



قلت : جماعة التكفير انطلقت من نصوص صحيحة ، لكنها فهمتها فهما خاطئا ، والتزمت لأجلها لوازم باطلة ، فوقعت فيما وقعت فيه من تكفير الحكام مطلقا بلا تفصيل ولا تحقيق ولا علم ، وكذا تكفير الشعوب والمجتمعات ، فألحقت بالدعوة الإسلامية ضررا بالغا ، والعصمة منها باختصار :

أولا : أن لا يقدم على أحكام التكفير إلا أهل العلم الذين أحاطوا بقواعد الأصول وعرفوا العقائد المنقولة عن أهل السنة.


ثانيا : أن نعلم أنه لا يجوز تكفير أهل الشهادتين إلا بعلم بما أتوا به من النواقض الإعتقادية أو العملية ، ثم إقامة الحجة عليهم وبيان المحجة بحسب ضوابط ذلك .


ثالثا : أن نعلم أننا لسنا مكلفين أن ننقب عن بواطن الناس أو نفتش عن عقائدهم ، لنحكم عليهم بالإسلام أو الكفر من غير نازلة تحتاج إلى حكم معين ، ولا أن نجعل التكفير هدفا في حد ذاته ، بل من أظهر الإسلام وأكل ذبيحتنا وصلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم له مالنا وعليه ما علينا ولا يجوز امتحان المسلمين سواء ــ الحكام والمحكومون ــ لمعرفة دخائلهم ، ويكفي المؤمن ــ ما لم تنزل به نازلة تقتضي معرفة تفصيلية ــ يكفيه أن يكفر بالطاغوت جملة وهو كل ما يعبد من دون الله تعالى ، ولا عليه أن يعرف حكم هذا وذاك ـ سواء كان حاكما أو محكوما ــ تطفلا ودخولا فيما لا يعنيه ولم يكلف به ، بل هذا من الهوس وحماقة العقول الفارغة .

هذا باختصار سبيل الخلاص ، فهات الأمر الثاني

قال : أن هؤلاء الذين وقعوا في الإرجاء وهم لا يشعرون ، إنما فروا من هذه الفتنة ، فتنة التفكير ، ويقولون لئن نخطئ في العفو أحب ألينا من أن نخطئ في العقوبة ، أي نخطئ في الحكم على رجل بأنه مسلم ويكون كافرا في واقع الأمر ، خير من أن نخطئ في تكفيره ويكون مسلما فان تكفير المسلم من كبائر الذنوب والموبقات .

قلت : نعم هو كذلك ونحن معهم ، إذا اشتبه الأمر على من يحتاج إلى الحكم ــ وقد قدمنا أنه لا يجب على المسلم ما لم تنزل به نازلة تقتضي معرفة حكم الشخص مسلم هو أم كافر ــ إذا اشتبه عليه الأمر فلا يجوز أن يقدم على تكفير أحد من أهل الشهادتين فانهما أصل الإسلام ، ولا يزول بالشك .

غير أن المستنكر أن نعتقد عقائد المرجئة وننسبها إلى الدين ونغير أحكام الشريعة ونقدم عليها آراء باطلة لفرق ضالة ، كما أنه من المستنكر أن ينقض الإنسان دينه بنواقض مجمع عليها ويكفر بمقتضى أصول أهل السنة ثم لا يحكم عليه بالكفر ، ومن المستنكر أن ينسب من يكفر من هذا شأنه إلى مذهب الخوارج بالباطل والافتراء .

ولا يخفى أنه كما أن التكفير بلا دليل جرم عظيم ، كذلك زوال الحدود الشرعية بين الكفر والإيمان ، وجعل الكافر مؤمنا ، من أعظم الفساد في الدين ، والنقض لعرى الإيمان .

قال : قد شفيت وكفيت وهديت ، وإني لك شاكر ، وعلى مذهب أهل السنة بعون الله صابر .

ملحــق
يشتمل على نص جواب العلامة عبدالله بن الغنيمان رئيس الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة سابقا ، والعلامة عبدالله بن جبرين من كبار العلماء على سؤال في موضوع منزلة العمل من الإيمان .

بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى سماحة العلامة الشيخ المحقق عبدالله بن الغنيمان حفظه الله وأبقاه ذخرا ، وأسبع عليه وافر الانعام ، من ابنكم حامد عبدالله العلي من الكويت ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :

فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على سوابغ نعمه ، ومزيد إحسانه وكرمه ، ونسأله سبحانه أن يديم عليكم ما آتاكم من نعمة العلم والحكمة ، ويمن علينا وعليكم بالثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، ويوزعنا شكر نعمته ، وحسن عبادته .

موجب الخطاب بعد إبلاغ السلام وحصول التشريف بالسؤال عن حالكم والاطمئنان على جنابكم ، طلب جواب أهل العلم ، ومن له اليد الطولى في تحقيق العقيدة السنية ، والطريقة السلفية المرضية ، عن اعتقاد قوم ينسبونه إلى مذهب أهل السنة والجماعة ،زاعمين :

أن من يصدق بقلبه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وينطق بلسانه بالشهادتين ولو مرة واحدة لا يزيد عليها ، فهو مسلم ناج من الخلود في النار ، وإن تولى عن الانقياد للشهادتين بعمل الجوارح توليا كليا ، فلا يفعل واجبا من الواجبات قط ، ولا ينتهي عن شيء من المحرمات إلا ما أشرب من هواه ، أولم يقدر عليه ، مع تمكنه من الفعل وعلمه بما أوجبه الله تعالى ، ولو عمر ما يتذكر فيه من تذكر !

فلما قيل لهم : إن مثل هذا يمتنع أن يكون مؤمنا لأن ترك الانقياد بعمل الجوارح على هذه الصورة ، لا يكون إلا مع زوال عمل القلب الذي ل ايصح الإيمان بدونه ، قالوا : يكفيه من عمل القلب ما حمله على النطق بالشهادتين ولو مرة واحدة في دهره ، وبهذا العمل القلبي فحسب ، وبالتصديق والنطق بالشهادتين ولو مرة واحدة ، يصح إيمانه ويكون مسلما ، ولو قال لا أفعل شيئا من فرائض الإسلام ، ولا أستحل تركها ، ولا أنتهي عن شيء من المحرمات ، ولا أستحل فعلها ، أنه بذلك لا يكون ناقضا لإيمانه ، بل هو مسلم ناقص بالإيمان من أهل الكبائر .

فلما قيل لهم : إن هذا هو اعتقاد المرجئة ، ولا يستقيم على طريقة أهل السنة الذين يجعلون الإيمان قولا وعملا ، وأن من يتولى عن عمل الجوارح كله مع العلم والقدرة لا يكون مؤمنا بل هو كافر وإن نطق بالشهادتين ، وأما أهل الكبائر فهم أهل انقياد في الجملة بالأعمال الظاهرة مع التقصير ، لكنهم اقترفوا كبائر الذنوب ولم يتوبوا منها .

قالوا : بل ما نقوله هو اعتقاد أهل السنة ، وقال بعضهم هو اعتقاد طائفة من أهل السنة ، ونحن على هذا الاعتقاد .

والمطلوب : تحرير المسألة ، وبيان منهج أهل السنة في الباب ، فإن ضاق وقتكم عن التحرير المفصل ، فعلى قدر ما يسعكم من الوقت ، وإن عجلتم الجواب فهو غاية المطلوب ، فإن الحاجة ماسة ، أبقاكم الله ذخرا ، وأيدكم بالتوفيق .

وهذا نص جواب العلامة ابن غنيمان حفظه الله
من عبدالله بن محمد الغنيمان إلى الأخ المكرم حامد بن عبدالله العلي ، أعلى الله قدره بطاعته ، وأتم عليه نعمته ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، كتابكم الكريم وصلنا ، وسؤالكم عن أحوالنا ، فجزاك الله خيرا ، ونخبركم بأننا على ما يسرك والحمد لله رب العالمين .

أما السؤال : فلا يخفى عليك أن قول القائل : من صدق بقلبه ونطق بالشهادتين ولو مرة واحدة لا يزيد عليها ، فهو مسلم ناج من الخلود في النار ، وأن تولى عن الانقياد …إلى آخره ، أنه قول باطل مصادم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو قول المرجئة الضلال ، فإن من الضروريات دينا أن الرسول بعث بالإيمان والعمل ، وأن من تولى عن العمل فإنه يعتبر غير متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ، وكتبه ورسله ، والبعث بعد الموت ، والجزاء ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، ومتى حصل للعبد هذا الإيمان ، وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام ، الذي هو الاستسلام لله بالطاعة من الشهادتين والصلاة وأداء الزكاة وصوم رمضان والحج لأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله والانقياد له مع الحب والخضوع فمن الممتنع أن يكون العبد قد حصل له الإيمان في القلب والحب والانقياد في الباطن ولا يحصل له ذلك في الظاهر كالجوارح مع القدرة عليه كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة ولا يحصل له المراد ففرض أن هناك إيماناً مع تخلف العمل فرض ممتنع وبهذا يتبين أن من آمن بقلبه إيماناً جازماً امتنع أن لا ينطق بالشهادتين ولا يعمل ما أوجب عليه الشرع مع قدرته على ذلك،


فعدم العمل مستلزم لانتفاء الإيمان القلبي ، وبهذا يتبين خطأ المرجئة الجهمية ونحوهم في زعمهم بأن مجرد الإيمان القلبي ينفع بدون أعمال الجوارح ، فإن هذا ممتنع حصوله ، فلا يمكن أن يوجد إيمان القلب الجازم إلا ويوجد معه العمل الظاهر ، ولهذا علق الرسول صلى الله عليه وسلم ترك قتال الناس بإتيانهم العمل ، كما قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.

كما قرن التولي مع التكذيب فإن التولي هو ترك العمل ، وضد ذلك قرن العمل الصالح مع الإيمان لأنه يستلزمه ، قال شيخ الإسلام ( اسم الإيمان إذا أطلق في كلام اللهورسوله يتناول فعل الواجبات ، وترك المحرمات ) 7/42 من الفتاوى .







وقال : كفر أحمد ووكيع وغيرهما ، من قال بقول جهم في الإيمان ، وهو أن الإيمان معرفة القلب وتصديقه ، وقال ( اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتينفهو كافر وأما الصلاة والزكاة والصوم والحج فاختلفوا في تكفير تاركها ،ونحن إذا قلنا أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب ، فالمقصود المعاصيكالزنا وشرب الخمر ، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور ) نفس المصدر ص 302

وقال ( فالإيمان في القلب لا يكون إيمانا بمجرد تصديق ليس له عمل قلب ، وموجبه من محبة الله ورسوله ونحو ذلك ) نفس المصدر 529.

يعني أنه لابد من العمل مع الإيمان ، وقد دل على هذا القرآن في مواضع كثيرة جدا ، كقوله جل وعلا ( والعصر ، إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملواالصالحات ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) .

فأقسم بأن جنس الإنسان في خسران مستمر ، إلا من آمن وعمل صالحا ، وحصل منه التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، وقال جل وعلا ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، ثمرددناه أسفل سافلين ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فلهم أجر غيرممنون ) فبين أن من لم يؤمن بالله ويعمل صالحا فهو في أسفل سافلين وأسفل سافلين هو جهنم .

والأدلة علـــى ذلك من كتاب الله جل وعلا كثيرة جدا ، كقوله جل وعلا ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداوسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ) ، فنفى الإيمان عن غير هؤلاء فمن كان إذا ذكر القرآن ، لا يفعل ما فرض الله عليه من السجود لم يكن من المؤمنين .

واسم الإيمان يطلق تارة على ما في القلب من الأقوال القلبية والأعمال القلبية من التصديق والمحبة والتعظيم ونحو ذلك ، وتكون الأقوال الظاهرة والأعمال لوازمه ومقتضاه ودلائله ، وتارة يطلق على ما في البدن جعلا لموجب الإيمان ومقتضاه داخلا في مسماه ، وبهذا يتبين أن الأعمال الظاهرة تسمى إسلاما ، وأنها تدخل في مسمى الإيمان ، كما ذكر في الفتاوى 7/551

وبهذا يتبين أنه إذا وجد في القلب إيمان ، امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين أو لا يعمل مع القدرة على ذلك ، فعدم العمل دليل على عدم الإيمان وانتفائه ، ويمتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما ، ثم لا يحصل منه حركة ظاهره لوصله ، فمن الخطأ أن يظن أن الإيمان إذا وجد في القلب يتخلف عنه العمل .















قال شيخ الإسلام رحمه الله ( منشأ الغلط في هذا الموضع من وجوه ، أحدهما :ظنهم أن العمل والتصديق مستلزم لجميع درجات الإيمان ، والثاني : ظنهم أنما في القلوب لا يتفاضل الناس فيه ، والثالث : ظنهم أن ما في القلب منالإيمان المقبول ، يمكن تخلف القول الظاهر والعمل الظاهر عنه ، والرابع :ظنهم أن ليس في القلب إلا التصديق وأن ليس الظاهر إلا عمل الجوارح ،والصواب أن القلب له عمل مع التصديق ، والظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر ،وكلامهما مستلزم للباطن ) الفتاوى 7/554

ونرجــو أن ييسر الله تعالى الكتابة في الموضوع بتوسع وبيان مقنع والله الموفق. انتهى الجواب .

وهذا جواب العلامة سماحة الشيخ عبدالله بن جبرين حفظه الله على نفس السؤال السابق:
قال حفظه الله بعد التحية والسلام ما مختصره: (وبعد فإن التلفظ بالشهادتين يحصل به الدخول في الإسلام من الكفار وذلك لأنهم ينكرونها ثم لا شك بعد ذلك أنهم مطالبون بأركان الإسلام وترك المحرمات ودليل ذلك قوله ((عصموامني دماءهم وأموالهم إلا بحقها))ومن المعلوم أن العبرة بالظاهرة فإن القلب خفي فالأخذ إنما هو بما ظهر لنا فالغيب لا يعلمه إلا الله والوحي قد انقطع وإنما نأخذ الإنسان بالظاهر فمن ترك العبادات وأصر على الترك دل ذلك على ضعف يقينه فيستتاب فإن تاب وإلا قتل..فعلى هذا القول أن هؤلاء كاذبون في زعمهم أنهم مسلمون فإن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل فمن لم يعمل بتعاليم الإسلام فهو كاذب غير مؤمن والله أعلم) انتهى الجواب.

وفي الختام ننبه إلى أن ما يذكره العلماء من أنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً إذا ترك جميع عمل الجوارح يقصد به أن من يدعي أنه مؤمن إذا تولى عن جميع عمل الجوارح ، يكون كاذباً في دعواه ، ويكون كافراً في حقيقة الأمر ، ولا ينفعه النطق بالشهادتين، لأنه يمتنع أن يكون مؤمناً بقلبه الإيمان المتضمن لعمل القلب ثم يتولى عن عمل الجوارح تولياً تاماً،


وإن كان قد يكون مصدقاً بقلبه ، فإن التصديق المجرد ليس هو الإيمان الشرعي الذي هو ضد الكفر، بل لا بد أن يكون مع التصديق عمل القلب، وحينئذ فالإيمان الشرعي المقبول المتضمن لعمل القلب لا يتخلف عنه عمل الجوارح بالكلية، وليس المقصود أن المسألة برأسها ممتنعة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله أجمعين.





انتهى

قـَسْوَرَةُ الأَثَرِيُّ
07-12-2008, 06:02 PM
الأول : وهو أنه لايخفى عليك ، أن فتنة التكفير قد عاثت في الأرض فسادا ردحا من الزمن ، وأنها أشغلت الساحة الإسلامية بتكفير طائش متخبط ، وأخذت تلك الجماعات بلوازم ما أنزل الله بها من سلطان ، حتى فر الناس منها إلى هذا غلو في الإرجاء ، فكيف السبيل إلى اتقاء فتنة التكفير ، بعد أن تبين لنا كيف نتقي فتنة الإرجاء ، وهل يجوز الجرأة على تكفير أهل الشهادتين والتتابع فيها بهذا الطيش ؟



قلت : جماعة التكفير انطلقت من نصوص صحيحة ، لكنها فهمتها فهما خاطئا ، والتزمت لأجلها لوازم باطلة ، فوقعت فيما وقعت فيه من تكفير الحكام مطلقا بلا تفصيل ولا تحقيق ولا علم ، وكذا تكفير الشعوب والمجتمعات ، فألحقت بالدعوة الإسلامية ضررا بالغا ، والعصمة منها باختصار :

أولا : أن لا يقدم على أحكام التكفير إلا أهل العلم الذين أحاطوا بقواعد الأصول وعرفوا العقائد المنقولة عن أهل السنة.


ثانيا : أن نعلم أنه لا يجوز تكفير أهل الشهادتين إلا بعلم بما أتوا به من النواقض الإعتقادية أو العملية ، ثم إقامة الحجة عليهم وبيان المحجة بحسب ضوابط ذلك .



ثالثا : أن نعلم أننا لسنا مكلفين أن ننقب عن بواطن الناس أو نفتش عن عقائدهم ، لنحكم عليهم بالإسلام أو الكفر من غير نازلة تحتاج إلى حكم معين ، ولا أن نجعل التكفير هدفا في حد ذاته ، بل من أظهر الإسلام وأكل ذبيحتنا وصلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم له مالنا وعليه ما علينا ولا يجوز امتحان المسلمين سواء ــ الحكام والمحكومون ــ لمعرفة دخائلهم ، ويكفي المؤمن ــ ما لم تنزل به نازلة تقتضي معرفة تفصيلية ــ يكفيه أن يكفر بالطاغوت جملة وهو كل ما يعبد من دون الله تعالى ، ولا عليه أن يعرف حكم هذا وذاك ـ سواء كان حاكما أو محكوما ــ تطفلا ودخولا فيما لا يعنيه ولم يكلف به ، بل هذا من الهوس وحماقة العقول الفارغة .



لله درّ الشيخ حامد غفر الله له


و نتعلّم منه الادب و الخُضوع لاهل العلم بالتلطف في السؤال نفع الله به


و في جواب الشيخين العالمين كفاية و هو ما عليه من نعرِف من اهل العلم قاطبة رزقنا الله حسن الفهم عنهم

الوليد المصري
07-12-2008, 06:41 PM
أوليس الذي يزيح الشريعة بقوة السلطان ،بعد أن كان يحكم بها قضاة الشرع والعلماء ، ثم يعاقب من يحكم بها منهم بالقتل والتشريد والحبس وقطع الأرزاق ، ويأتي بأحكام الطاغوت ، ينصبها حاكمة بين العباد في كل أوجل أمورهم وشئون معايشهم ،

فيفرضها فرضا ويحمل الناس عليها ويسوم من يحاربها سوء العذاب ، أفلا يكون هذا أولى بوصف الاستخفاف من ذلك الذي يسجد للصليب أو يسب الدين طامعا في مال ، فما بال القوم يحومون حول هذا الحمى ويخشونه ، أم أن الكفر لا يجتمع والسلطان ، فبينهما تهاجر عظيم الشان .




أوليس حال أكثر بلاد المسلمين هذا الحال الذي وصفت ، فهل يقدر أحد أن ينصب قاضيا يقضي بالشريعة الإلهية إلا ويزج به في أشد العذاب


ويقولون : أفنحن لا نقضي بالعدل حتى تعارض القانون ، أم تريد أن تجعل الشريعة ، بدل قوانيننا الأوربية العريقة ،


ثم أتاهم من حيث لم يكونوا يحتسبون من يفتيهم بأن قولوا نحن فيما فعلناه غير مستحلين ولا مستخفين ولا معاندين لله رب العاملين ، فتكونون بحمد الله من جملة عصاة الموحدين ،



وهل هناك من لا يخطئ من المؤمنين ، لكنكم مع ذلك من ولاة أمر المسلمين وقد علم مالكم من الحقوق العظيمة ، ونحن معكم كلما فعلتم ما يكفر به ، زدنا لكم شرطا من الشروط يخرجكم من باب التكفير ، لتبقى إمامتكم الإسلامية على الدوام ، ولا تنسونا بعد ذلك ، بالفضل والانعام ،

سقف العالم
08-26-2008, 02:53 AM
جهدٌ طيبٌ , جزاكِ اللهُ خيراً وبارك اللهُ فيكِ , وثقل موازينكِ


لا إله إلا الله العظيم الحليم , لا إله إلا الله رب العرش العظيم , لا إله إلا الله رب السموات , ورب الأرض , ورب العرش الكريم

اجعل لسانك رطبا بذكر الله سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر ولا حول ولا قوة الا بالله

هجرة إلى الله السلفية
10-16-2008, 03:35 AM
جزاك الله خيرا
وبارك فيك
اخي الفاضل الوليد