الوليد المصري
07-02-2008, 07:04 PM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
إهداء
إلى تجمعات أهل السنة والجماعة التي تسعى لإعلاء كلمة الله في كل مكان.
إلى المجاهدين الصادقين من أهل السنة والجماعة الذين يقاتلون أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا.
إلى كل مسلم يريد أن يعرف الوجه الحقيقي القبيح للعلمانية، ولا يريد أن ينخدع بشعاراتها الزائفة.
إلى كل إنسان ضل الطريق أو انخدع بأباطيل العلمانية ويريد أن يهتدي إلى الحق.
{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}، {وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}.
مقدمة
غفلة - أي غفلة- أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام بشرع الله أنهم متروكون من الباطل وأهله!
غفلة - أي غفلة- أن يظن المسلمون اليوم أنهم يملكون تجنب المعركة! أو تأجيل المواجهة!
غفلة - أي غفلة- أن تظن الفئة المؤمنة أنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة مع العلمانية الديمقراطية الكافرة!
خير لأهل السنة والجماعة اليوم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة، من أن يستسلموا للوهم والخديعة... {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}[الأنعام، الآية: 55].
إن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق، ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل وأنه يسلك سبيل المجرمين.
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح، واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات.
ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف الكفار والمجرمين وفي أساليبهم المتعددة والمتنوعة ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين. فهما صفحتان متقابلتان.. وطريقان مفترقان.. ولابد من وضوح الألوان والخطوط.
من هنا يجب أن تبدأ كل تجمعات أهل السنة والجماعة اليوم بتحديد وتعريف سبيل المؤمنين والعنوان المميز للمؤمنين والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات.
فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم. ومن هم المجرمون. بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم. بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والعلمانيين الكافرين المجرمين.
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدلتها وأفسدتها التحريفات البشرية... حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك... لا يجدي معها التلبيس!
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم التي تنتمي إلى أهل السنة والجماعة ليست في شيء من هذا... إنها تتمثل في وجود أقوام وتجمعات من الناس من سلالات المسلمين في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام، يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته..
ثم إذا هذه الأقوام وإذا هذه التجمعات تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسماً. وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام وأحكامه. وإن ظنت أنها تدين بالإسلام!
وفي الأرض اليوم أقوام وأحزاب.. علمانية وغيرها.. أسماؤهم أسماء المسلمين، وهم من سلالات المسلمين، من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، إذا اتبعهم أحد قذفوه في النار، يعيشون في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام.
وهذا أشق ما تواجهه تجمعات أهل السنة والجماعة اليوم في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام!
أشق ما تعانيه الدعوة الإسلامية الحقيقية اليوم هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله ومدلول الإسلام في جانب، ولمدلول الشرك، وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر.
أشق ما تعانيه تجمعات أهل السنة والجماعة اليوم هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق العلمانيين المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين والتباس الأسماء واللافتات والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق!
ويعرف أعداء أهل السنة والجماعة هذه الثغرة سواء كانوا من الرافضة الباطنية أو كانوا من العلمانيين، فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً، حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام!.. تهمة تكفير "المسلمين"!!!
ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم وأذواقهم!!
لا إلى قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويوصف من يجهر بالحق بالتطرف والتزمت والتعصب والإرهاب!!
هذه هي المشقة الكبرى.. وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لابد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المجرمين.. ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة. وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألا تقعدهم عنها لومة لائمن ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفرون المسلمين!
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون!
إن الإسلام بيّن والكفر بيّن... فمن ينتسب إلى العلمانية الكافرة والتي ترفع راية فصل الدين عن الحياة وعن الدولة فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين المجرمين.
أجل يجب أن يجتاز أهل السنة والجماعة اليوم، خاصة أصحاب الدعوة إلى الله بهذه العقبة، وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله، لا تصدها شبهة، ولا يعوقها غبش، ولا يميعها لبس.
فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم على الحق... وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله على الباطل.
كذلك لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية إيمان وكفر... إسلام أو علمانية تشرك بالله وإن شيدت المساجد وتشدقت بالعقيدة الإسلامية وأقامت في أحزابها لجاناً للشؤون الدينية لتضليل العوام!!
هذا ما ينبغي أن يعيه الواعون اليوم وغداً، فلا ينساقوا وراء حركات التمييع الخادعة والمخدوعة التي تتخذ من ذلك وسيلة لتخدير مشاعر المسلمين تجاه المعسكرات التي تضمر لأهل السنة والجماعة الحقد وتبيت لهم الكيد، الأمر الذي تبذل فيه هذه المعسكرات -ومنها العلمانية- جهدها، وهي بصدد الضربة الأخيرة الموجهة إلى جذور العقيدة الإسلامية.
إن العلمانية الكافرة.. والمعسكرات التي ورائها، لا تخشى شيئاً أكثر مما تخشى الوعي في قلوب أهل السنة والجماعة، مهما ل عددهم أو عدتهم، فالذين يخدرون هذا الوعي هم أعدى أعداء هذه العقيدة، وهم أكفر أعداء الإسلام.
لذلك، فهي غفلة - أي غفلة- أن يظن أصحاب الحق أنهم يملكون تجنب المعركة أو تأجيل المواجهة!
وغفلة - أي غفلة- أن يظن أصحاب الدعوة إلى الله أنهم متروكون من العلمانية ومن وراءها من معسكرات الباطل والكفر
... إنها معركة لا خيار لأهل السنة والجماعة فيها.
... إنها مواجهة لا يملك أصحاب الحق ألا يخوضوها في وجه الباطل.
... إنها منازلة لا تستطيع الحركة الإسلامية الحقيقية أن تتجنبها لأن العلمانية الكافرة لابد ستحاول البطش بهم.
لقد آن لتجمعات أهل السنة والجماعة أن تعد العدة وتجمع الشمل وتنفض غبار الخلافات الجانبية لتتفرغ للمعركة الحقيقية والمواجهة المصيرية مع العلمانية الكافرة ومن وراءها من معسكرات الكفر والضلال.
ولقد آن لتجمعات أهل السنة والجماعة أن تتكتل في مواجهة الرافضة الباطنية ومن يناصرونهم من أعداء الأمة الإسلامية من العلمانيين وغيرهم.
لقد آن لتجمعات أهل السنة والجماعة أن تحسم موقفها من أعدائها وتتوكل على ربها حق التوكل. إنه نعم المولى ونعم النصير.
حسم موقف أهل السنة والجماعة من العلمانية
هناك كلمة لا نحسب أنها تغيب عن ذهن القارئ الواعي بأمر هذا الدين، وإن كنا نخشى أن تكون قد تاهت - أو توارت- أثناء الصراع الدائر بين أهل السنة والجماعة والفرق المختلفة الضالة التي تنتسب لهذا الدين.
إن أحد التحديات الخطيرة - إن لم تكن أخطرها على الإطلاق - والتي تواجه أهل السنة والجماعة في هذا العصر، لهي إسقاط اللافتات الزائفة وكشف المقولات الغامضة وفضح الشعارات الملبسة التي تتخفى وراءها العلماني الكافرة التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.
ولفضح العلمانية ومواجهتها، لابد أولاً أن يصل أمر المواجهة إلى المستوى المطلوب من الحسم والحزم والوضوح في نفوس أهل السنة... فإنه بدون هذا الحسم والحزم، وبدون هذا الوضوح، تعجز تجمعات أهل السنة عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة، ويعجز علماؤها ومفكروها عن التصدي للهجمة العلمانية. وتتأرجح المواقف وتتميع المواجهة.
وبالتالي تفقد تجمعات أهل السنة أهدافها الحقيقية بفقدانها لتحديد نقطة البدء الصحيحة في مواجهة التجمعات الجاهلية - ومنها العلمانية- من حيث تقف هذه التجمعات الجاهلية فعلاً، لا من حيث تزعم وتدعي. والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع الفعلي.. بعيدة جداً.
التوحيد نقيض العلمانية
ومن أجل حسم الصراع بين أهل السنة والجماعة من جانب والعلمانية من جانب آخر، ونظراً لما أصاب الكثير من التصورات الإسلامية من انحراف وغبش في أذهان الناس في هذا العصر، ولما يثيره أعداء الإسلام الظاهرون منهم والمتسترون من شبهات وأباطيل.
فإنه من الواجب علينا أن نقوم بتجلية تلك التصورات وكشف هذه الشبهات في كلمة موجزة عن حقيقة العلمانية الكافرة، وبيان أن التوحيد الذي هو أعظم حقيقة في التصور الإسلامي - بل الوجود كله- هو في الوقت ذاته أكبر نقيض للعلمانية.
ومن هنا كان لابد من معرفته حق المعرفة والتأكيد عليه في جميع مراحل الدعوة إلى الله مع بيان سبيل إحياء الأمة في التمسك واتباع مناهج وأصول أهل السنة والجماعة.
وإذا كان معنى لا إله إلى الله الكفر بالطاغوت والإيمان بالله،
فإننا نستطيع القول بأن الشرك - الذي ظل عبر التاريخ محور الصراع بين الأمم والرسل - هو عبادة الطاغوت مع الله أو من دونه في أمرين متلازمين:
الأول: الإرادة والقصد.
الثاني: الطاعة والاتباع.
أما شرك الإرادة والقصد فهو التوجه إلى غير الله تعالى بشعيرة من شعائر التعبد كالصلاة والقرابين والنذور والدعاء والاستغاثة تبعاً للتبريرات الجاهلية المردودة القائلة: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: الآية: 3].
وطاغوت هذا النوع قد يكون صنماً أو وثناً ـو ميتاً أو جنياً أو شيخاً... الخ.
وأما شرك الطاعة والاتباع فهو التمرد على شرع الله تعالى وعدم قبول حكمه وتحكيمه في شؤون الحياة بعضها أو كلها.
وهو مفرق الطريق بين الإسلام والجاهلية... بين الإيمان والكفر.
كما أنه السمة المشتركة بين الجاهليات كلها على مدار التاريخ، وبه استحقت أن تسمى جاهلية مهما بلغ شأنها في الحضارة والمعرفة.. {أفحكم الجاهلية يبغون} [المائدة: 50]... {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21].
وطاغوت هذا النوع قد يكون زعيماً أو حاكماً أو كاهناً أو يكون هيئة تشريعية أو أنظمة وأوضاع وتقاليد وأعراف وعادات أو مجالس نيابية وبرلمانات أو لجان أو مجالس شعبية أو قوانين ودساتير وأهواء وأحزاب... الخ.
والواقع أن كلا النوعين من الشرك مردهما إلى أصل واحد، وهم تحكيم غير الله والتلقي عن غيره.
فإن مقتضى تحكيمه وحده ألا تتوجه البشرية إلى غيره بأي نوع من أنواع العبادات والقرباتن وألا تتوجه وتسير في حياتها كلها إلا وفق ما شرع الله لها في كتبه وعلى لسان رسله.. {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [يوسف: 40].
إن رد الأمر كله إلى الله واتخاذه وحده حكماً في كل شيء هو بعينه العبادة التي أمر الله ألا يصرف شيء منها لغير، وهذا هو ذات الدين القيم الذي لا يرضى الله تعالى سواه وإن جهله أكثر الناس على مدار التاريخ.
الطاغوت تتعدد صوره وأشكاله
إذا تقرر هذا، فكل ما يجابه هذه الحقيقة أو جزءاً منها فهو طاغوت في أي صورة كان وفي أي عصر ظهر، ولا يكون الإنسان - فرداً أ مجتمعاً - شاهداً ألا إله إلا الله حقيقة إلا بالكفر بالطاغوت والبراءة منه وأهله.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن الإنسان على مفترق طريقين لا ثالث لهما، فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية لغير الله".
وكل عبودية لغير الله كبرت أو صغرت هي في نهايتها عبادة للشيطان.. {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} [يس: 60-61].
يشمل ذلك العرب الذين قال الله فيهم.. { إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً} [النساء: 117].
ويشمل كذلك كل عبادة لغير الله على مدار التاريخ.
لقد تغيرت ولا شك بعض مظاهر العبادة... فلم يعد هناك تلك "الإناث" التي كان العرب في شركهم يعبدونها، لكن عبادة الشيطان ذاتها لم تتغير، وحلت محل "الإناث" القديمة أوثان أخرى، الدولة والزعيم والمذهب والحزب والقومية والعلمانية والحرية الشخصية والفن والجنس... الخ.
عشرات من "الإناث" الجديدة غير تلك الإناث الساذجة البسيطة التي كان يعبدها العرب في الجاهلية الأولىن تضفى عليها القداسات الزائفة وتعبد من دون الله ويطاع أمرها في مخالفة الله وفي تغيير خلق الله... وما تغيرت إلا مظاهر العبادة "تطورت"!!..
ولكن الجوهر لم يتغيرن إنه عبادة الشيطان.
وعلى ضوء هذا الفهم الإجمالي لمعنى "الطاغوت" و"العبادة" يتضح لنا المعنى الحقيقي لشهادة "لا إله إلا الله" الذي هو - كما سبق- الكفر بالطاغوت وإفراد الله تعالى وحده بالعبادة.
الجاهلية تتعدد صورها وأشكالها
وكما أن الطاغوت تتعدد صوره وأشكاله، فإن الجاهلية أيضاً تتعدد صورها وأشكالها.
يجب أن نعلم أن الجاهلية بعضها يتمثل في إلحاد بالله سبحانه وإنكار لوجوده... فهي جاهلية اعتقاد وتصور كجاهلية الشيوعيين. وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الاتباع والطاعة كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم..
وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك.
وبعضها يتمثل في اعتراف بوجود الله سبحانه وأداء للشعائر التعبدية مع انحراف خطير في تصور مفهوم ودلالة " لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"..
ومع شرك كامل في الاتباع والطاعة، وذلك كجاهلية من سمون أنفسهم "مسلمين" من العلمانيين ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية مع انحرافهم وسوء فهمهم لمعنى الشهادتين ومع استسلامهم لغير الله من العبيد.. وكلها جاهلية.. وكلها كفر بالله كالأولين. أو شرك بالله كالآخرين.
مقارنة بين الجاهلية العربية القديمة والجاهلية العلمانية الحديثة
إن الدارس لعقائد الجاهلية العربية القديمة يجد - من أول وهلة- إنها لم تكن تنكر وجود الله أبداً، بل كانت توحده في معظم أفعاله تعالى كالخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة.. {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25].
وكانوا يقرون بمشيئة الله النافذة في الكون وقدره الذي لا يرد.. {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شيء} [الأنعام: 148].
وكانوا يؤمنون بالملائكة {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أزل علينا الملائكة} [الفرقان: 21]، ويؤمنون بالرسل.. {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثلما أوتي رسل الله} [الأنعام: 124].
ويقرون بأن الله يملك الرزق والسمع والبصر ويحيي ويميت وأنه يدبر الأمر.. {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله} [يونس: 31].
وكان منهم من يؤمن بالبعث والحساب كقول زهير:
(يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينتقم)
وكذلك كان لدى الجاهلين العرب بعض الشعائر التعبدية منها تعظيم البيت الحرام وطوافهم حوله ووقوفهم بعرفات وتعظيم الأشهر الحرم.
وكذلك ذبحهم ونذرهم لله كما في قصة نذر عبد المطلب وإهدائهم للبيت الحرام وتخصيص شيء من الحرث والأنعم لله.. {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً} [الأنعام: 136].
ومن الناحية التشريعية كانت الجاهلية العربية تقيم بعض الحدود كحد السرقة، فقد ذكر الكلبي والقرطبي في تفسيره: "أن قريشاً كانت تقطع يد السارق".
وهو حد معروف في الشرائع السابقة كما في حديث المخزومية وشفاعة زيد لها.
وشيء آخر سبقت - بل فاقت- به الجاهلية العربية القديمة الجاهليات العلمانية المعاصرة وهو "حرية التدين". فكان منهم الحنفاء الذين يتعبدون ببقايا دين إبراهيم عليه السلام...
وكان منهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى...
وكان منهم عبدة الكواكب وعبادة الأوثان...
وبعضهم كان يعبد الجن أو الملائكة.
وبعضهم كان يعبد الجن أو الملائكة.
بيان حكم الله على المجتمع رغم كل ذلك
ولكن - وهذا هو المهم- بماذا حكم الله على هذا المجتمع؟
إن الله تعالى حكم على هذه البيئة وعلى هذه المجتمعات والتصورات بأنها كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور جميعها - التي يحتج العلمانيون اليوم بها على إسلامهم - صفراً في ميزان الإسلام، وكفراً بالله ورسوله.
ولذلك نشبت المعركة الطويلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد النزاع، معركة شرسة ونزاع حاد، حتى أن السيف كان الحكم الأخير.
والشيء المثير أيضاً، أن موضوع هذه المعركة العنيفة الطويلة لم يكن سوى كلمة واحدة "لا إله إلا الله" كلمة يصر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أقصى حدود الإصرار، وترفضها الجاهلية إلى أبعد مدى للإنكار والرفض.
لماذا؟… لأنه منذ اللحظة الأولى حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، إلى شهادة أن "لا إله إلا الله" كان الجواب الفوري… {أجعل الآلهة إلهاً واحدا إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5].
فالقضية واضحة في أذهانه من أن الالتزام بهذه الكلمة معناه الرفض الجازم والتخلي الكامل عن كل ما عدا الله من معبوداتهم وطواغيتهم المختلفة، طاغوت الأوثان وطاغوت الزعامة وطاغوت القبيلة وطاغوت الكهانة وطاغوت التقليد... الخ،
والاستسلام الكامل لله ورد الأمر كله - جليله وحقيره وكبيره وصغيره- إلى الله تعالى وحده لا شريك له.
إهداء
إلى تجمعات أهل السنة والجماعة التي تسعى لإعلاء كلمة الله في كل مكان.
إلى المجاهدين الصادقين من أهل السنة والجماعة الذين يقاتلون أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا.
إلى كل مسلم يريد أن يعرف الوجه الحقيقي القبيح للعلمانية، ولا يريد أن ينخدع بشعاراتها الزائفة.
إلى كل إنسان ضل الطريق أو انخدع بأباطيل العلمانية ويريد أن يهتدي إلى الحق.
{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}، {وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}.
مقدمة
غفلة - أي غفلة- أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام بشرع الله أنهم متروكون من الباطل وأهله!
غفلة - أي غفلة- أن يظن المسلمون اليوم أنهم يملكون تجنب المعركة! أو تأجيل المواجهة!
غفلة - أي غفلة- أن تظن الفئة المؤمنة أنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة مع العلمانية الديمقراطية الكافرة!
خير لأهل السنة والجماعة اليوم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة، من أن يستسلموا للوهم والخديعة... {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}[الأنعام، الآية: 55].
إن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق، ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل وأنه يسلك سبيل المجرمين.
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح، واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات.
ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف الكفار والمجرمين وفي أساليبهم المتعددة والمتنوعة ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين. فهما صفحتان متقابلتان.. وطريقان مفترقان.. ولابد من وضوح الألوان والخطوط.
من هنا يجب أن تبدأ كل تجمعات أهل السنة والجماعة اليوم بتحديد وتعريف سبيل المؤمنين والعنوان المميز للمؤمنين والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات.
فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم. ومن هم المجرمون. بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم. بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والعلمانيين الكافرين المجرمين.
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدلتها وأفسدتها التحريفات البشرية... حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك... لا يجدي معها التلبيس!
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم التي تنتمي إلى أهل السنة والجماعة ليست في شيء من هذا... إنها تتمثل في وجود أقوام وتجمعات من الناس من سلالات المسلمين في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام، يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته..
ثم إذا هذه الأقوام وإذا هذه التجمعات تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسماً. وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام وأحكامه. وإن ظنت أنها تدين بالإسلام!
وفي الأرض اليوم أقوام وأحزاب.. علمانية وغيرها.. أسماؤهم أسماء المسلمين، وهم من سلالات المسلمين، من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، إذا اتبعهم أحد قذفوه في النار، يعيشون في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام.
وهذا أشق ما تواجهه تجمعات أهل السنة والجماعة اليوم في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام!
أشق ما تعانيه الدعوة الإسلامية الحقيقية اليوم هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله ومدلول الإسلام في جانب، ولمدلول الشرك، وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر.
أشق ما تعانيه تجمعات أهل السنة والجماعة اليوم هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق العلمانيين المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين والتباس الأسماء واللافتات والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق!
ويعرف أعداء أهل السنة والجماعة هذه الثغرة سواء كانوا من الرافضة الباطنية أو كانوا من العلمانيين، فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً، حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام!.. تهمة تكفير "المسلمين"!!!
ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم وأذواقهم!!
لا إلى قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويوصف من يجهر بالحق بالتطرف والتزمت والتعصب والإرهاب!!
هذه هي المشقة الكبرى.. وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لابد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المجرمين.. ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة. وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألا تقعدهم عنها لومة لائمن ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفرون المسلمين!
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون!
إن الإسلام بيّن والكفر بيّن... فمن ينتسب إلى العلمانية الكافرة والتي ترفع راية فصل الدين عن الحياة وعن الدولة فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين المجرمين.
أجل يجب أن يجتاز أهل السنة والجماعة اليوم، خاصة أصحاب الدعوة إلى الله بهذه العقبة، وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله، لا تصدها شبهة، ولا يعوقها غبش، ولا يميعها لبس.
فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم على الحق... وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله على الباطل.
كذلك لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية إيمان وكفر... إسلام أو علمانية تشرك بالله وإن شيدت المساجد وتشدقت بالعقيدة الإسلامية وأقامت في أحزابها لجاناً للشؤون الدينية لتضليل العوام!!
هذا ما ينبغي أن يعيه الواعون اليوم وغداً، فلا ينساقوا وراء حركات التمييع الخادعة والمخدوعة التي تتخذ من ذلك وسيلة لتخدير مشاعر المسلمين تجاه المعسكرات التي تضمر لأهل السنة والجماعة الحقد وتبيت لهم الكيد، الأمر الذي تبذل فيه هذه المعسكرات -ومنها العلمانية- جهدها، وهي بصدد الضربة الأخيرة الموجهة إلى جذور العقيدة الإسلامية.
إن العلمانية الكافرة.. والمعسكرات التي ورائها، لا تخشى شيئاً أكثر مما تخشى الوعي في قلوب أهل السنة والجماعة، مهما ل عددهم أو عدتهم، فالذين يخدرون هذا الوعي هم أعدى أعداء هذه العقيدة، وهم أكفر أعداء الإسلام.
لذلك، فهي غفلة - أي غفلة- أن يظن أصحاب الحق أنهم يملكون تجنب المعركة أو تأجيل المواجهة!
وغفلة - أي غفلة- أن يظن أصحاب الدعوة إلى الله أنهم متروكون من العلمانية ومن وراءها من معسكرات الباطل والكفر
... إنها معركة لا خيار لأهل السنة والجماعة فيها.
... إنها مواجهة لا يملك أصحاب الحق ألا يخوضوها في وجه الباطل.
... إنها منازلة لا تستطيع الحركة الإسلامية الحقيقية أن تتجنبها لأن العلمانية الكافرة لابد ستحاول البطش بهم.
لقد آن لتجمعات أهل السنة والجماعة أن تعد العدة وتجمع الشمل وتنفض غبار الخلافات الجانبية لتتفرغ للمعركة الحقيقية والمواجهة المصيرية مع العلمانية الكافرة ومن وراءها من معسكرات الكفر والضلال.
ولقد آن لتجمعات أهل السنة والجماعة أن تتكتل في مواجهة الرافضة الباطنية ومن يناصرونهم من أعداء الأمة الإسلامية من العلمانيين وغيرهم.
لقد آن لتجمعات أهل السنة والجماعة أن تحسم موقفها من أعدائها وتتوكل على ربها حق التوكل. إنه نعم المولى ونعم النصير.
حسم موقف أهل السنة والجماعة من العلمانية
هناك كلمة لا نحسب أنها تغيب عن ذهن القارئ الواعي بأمر هذا الدين، وإن كنا نخشى أن تكون قد تاهت - أو توارت- أثناء الصراع الدائر بين أهل السنة والجماعة والفرق المختلفة الضالة التي تنتسب لهذا الدين.
إن أحد التحديات الخطيرة - إن لم تكن أخطرها على الإطلاق - والتي تواجه أهل السنة والجماعة في هذا العصر، لهي إسقاط اللافتات الزائفة وكشف المقولات الغامضة وفضح الشعارات الملبسة التي تتخفى وراءها العلماني الكافرة التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.
ولفضح العلمانية ومواجهتها، لابد أولاً أن يصل أمر المواجهة إلى المستوى المطلوب من الحسم والحزم والوضوح في نفوس أهل السنة... فإنه بدون هذا الحسم والحزم، وبدون هذا الوضوح، تعجز تجمعات أهل السنة عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة، ويعجز علماؤها ومفكروها عن التصدي للهجمة العلمانية. وتتأرجح المواقف وتتميع المواجهة.
وبالتالي تفقد تجمعات أهل السنة أهدافها الحقيقية بفقدانها لتحديد نقطة البدء الصحيحة في مواجهة التجمعات الجاهلية - ومنها العلمانية- من حيث تقف هذه التجمعات الجاهلية فعلاً، لا من حيث تزعم وتدعي. والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع الفعلي.. بعيدة جداً.
التوحيد نقيض العلمانية
ومن أجل حسم الصراع بين أهل السنة والجماعة من جانب والعلمانية من جانب آخر، ونظراً لما أصاب الكثير من التصورات الإسلامية من انحراف وغبش في أذهان الناس في هذا العصر، ولما يثيره أعداء الإسلام الظاهرون منهم والمتسترون من شبهات وأباطيل.
فإنه من الواجب علينا أن نقوم بتجلية تلك التصورات وكشف هذه الشبهات في كلمة موجزة عن حقيقة العلمانية الكافرة، وبيان أن التوحيد الذي هو أعظم حقيقة في التصور الإسلامي - بل الوجود كله- هو في الوقت ذاته أكبر نقيض للعلمانية.
ومن هنا كان لابد من معرفته حق المعرفة والتأكيد عليه في جميع مراحل الدعوة إلى الله مع بيان سبيل إحياء الأمة في التمسك واتباع مناهج وأصول أهل السنة والجماعة.
وإذا كان معنى لا إله إلى الله الكفر بالطاغوت والإيمان بالله،
فإننا نستطيع القول بأن الشرك - الذي ظل عبر التاريخ محور الصراع بين الأمم والرسل - هو عبادة الطاغوت مع الله أو من دونه في أمرين متلازمين:
الأول: الإرادة والقصد.
الثاني: الطاعة والاتباع.
أما شرك الإرادة والقصد فهو التوجه إلى غير الله تعالى بشعيرة من شعائر التعبد كالصلاة والقرابين والنذور والدعاء والاستغاثة تبعاً للتبريرات الجاهلية المردودة القائلة: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: الآية: 3].
وطاغوت هذا النوع قد يكون صنماً أو وثناً ـو ميتاً أو جنياً أو شيخاً... الخ.
وأما شرك الطاعة والاتباع فهو التمرد على شرع الله تعالى وعدم قبول حكمه وتحكيمه في شؤون الحياة بعضها أو كلها.
وهو مفرق الطريق بين الإسلام والجاهلية... بين الإيمان والكفر.
كما أنه السمة المشتركة بين الجاهليات كلها على مدار التاريخ، وبه استحقت أن تسمى جاهلية مهما بلغ شأنها في الحضارة والمعرفة.. {أفحكم الجاهلية يبغون} [المائدة: 50]... {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21].
وطاغوت هذا النوع قد يكون زعيماً أو حاكماً أو كاهناً أو يكون هيئة تشريعية أو أنظمة وأوضاع وتقاليد وأعراف وعادات أو مجالس نيابية وبرلمانات أو لجان أو مجالس شعبية أو قوانين ودساتير وأهواء وأحزاب... الخ.
والواقع أن كلا النوعين من الشرك مردهما إلى أصل واحد، وهم تحكيم غير الله والتلقي عن غيره.
فإن مقتضى تحكيمه وحده ألا تتوجه البشرية إلى غيره بأي نوع من أنواع العبادات والقرباتن وألا تتوجه وتسير في حياتها كلها إلا وفق ما شرع الله لها في كتبه وعلى لسان رسله.. {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [يوسف: 40].
إن رد الأمر كله إلى الله واتخاذه وحده حكماً في كل شيء هو بعينه العبادة التي أمر الله ألا يصرف شيء منها لغير، وهذا هو ذات الدين القيم الذي لا يرضى الله تعالى سواه وإن جهله أكثر الناس على مدار التاريخ.
الطاغوت تتعدد صوره وأشكاله
إذا تقرر هذا، فكل ما يجابه هذه الحقيقة أو جزءاً منها فهو طاغوت في أي صورة كان وفي أي عصر ظهر، ولا يكون الإنسان - فرداً أ مجتمعاً - شاهداً ألا إله إلا الله حقيقة إلا بالكفر بالطاغوت والبراءة منه وأهله.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن الإنسان على مفترق طريقين لا ثالث لهما، فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية لغير الله".
وكل عبودية لغير الله كبرت أو صغرت هي في نهايتها عبادة للشيطان.. {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} [يس: 60-61].
يشمل ذلك العرب الذين قال الله فيهم.. { إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً} [النساء: 117].
ويشمل كذلك كل عبادة لغير الله على مدار التاريخ.
لقد تغيرت ولا شك بعض مظاهر العبادة... فلم يعد هناك تلك "الإناث" التي كان العرب في شركهم يعبدونها، لكن عبادة الشيطان ذاتها لم تتغير، وحلت محل "الإناث" القديمة أوثان أخرى، الدولة والزعيم والمذهب والحزب والقومية والعلمانية والحرية الشخصية والفن والجنس... الخ.
عشرات من "الإناث" الجديدة غير تلك الإناث الساذجة البسيطة التي كان يعبدها العرب في الجاهلية الأولىن تضفى عليها القداسات الزائفة وتعبد من دون الله ويطاع أمرها في مخالفة الله وفي تغيير خلق الله... وما تغيرت إلا مظاهر العبادة "تطورت"!!..
ولكن الجوهر لم يتغيرن إنه عبادة الشيطان.
وعلى ضوء هذا الفهم الإجمالي لمعنى "الطاغوت" و"العبادة" يتضح لنا المعنى الحقيقي لشهادة "لا إله إلا الله" الذي هو - كما سبق- الكفر بالطاغوت وإفراد الله تعالى وحده بالعبادة.
الجاهلية تتعدد صورها وأشكالها
وكما أن الطاغوت تتعدد صوره وأشكاله، فإن الجاهلية أيضاً تتعدد صورها وأشكالها.
يجب أن نعلم أن الجاهلية بعضها يتمثل في إلحاد بالله سبحانه وإنكار لوجوده... فهي جاهلية اعتقاد وتصور كجاهلية الشيوعيين. وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الاتباع والطاعة كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم..
وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك.
وبعضها يتمثل في اعتراف بوجود الله سبحانه وأداء للشعائر التعبدية مع انحراف خطير في تصور مفهوم ودلالة " لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"..
ومع شرك كامل في الاتباع والطاعة، وذلك كجاهلية من سمون أنفسهم "مسلمين" من العلمانيين ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية مع انحرافهم وسوء فهمهم لمعنى الشهادتين ومع استسلامهم لغير الله من العبيد.. وكلها جاهلية.. وكلها كفر بالله كالأولين. أو شرك بالله كالآخرين.
مقارنة بين الجاهلية العربية القديمة والجاهلية العلمانية الحديثة
إن الدارس لعقائد الجاهلية العربية القديمة يجد - من أول وهلة- إنها لم تكن تنكر وجود الله أبداً، بل كانت توحده في معظم أفعاله تعالى كالخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة.. {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25].
وكانوا يقرون بمشيئة الله النافذة في الكون وقدره الذي لا يرد.. {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شيء} [الأنعام: 148].
وكانوا يؤمنون بالملائكة {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أزل علينا الملائكة} [الفرقان: 21]، ويؤمنون بالرسل.. {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثلما أوتي رسل الله} [الأنعام: 124].
ويقرون بأن الله يملك الرزق والسمع والبصر ويحيي ويميت وأنه يدبر الأمر.. {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله} [يونس: 31].
وكان منهم من يؤمن بالبعث والحساب كقول زهير:
(يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينتقم)
وكذلك كان لدى الجاهلين العرب بعض الشعائر التعبدية منها تعظيم البيت الحرام وطوافهم حوله ووقوفهم بعرفات وتعظيم الأشهر الحرم.
وكذلك ذبحهم ونذرهم لله كما في قصة نذر عبد المطلب وإهدائهم للبيت الحرام وتخصيص شيء من الحرث والأنعم لله.. {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً} [الأنعام: 136].
ومن الناحية التشريعية كانت الجاهلية العربية تقيم بعض الحدود كحد السرقة، فقد ذكر الكلبي والقرطبي في تفسيره: "أن قريشاً كانت تقطع يد السارق".
وهو حد معروف في الشرائع السابقة كما في حديث المخزومية وشفاعة زيد لها.
وشيء آخر سبقت - بل فاقت- به الجاهلية العربية القديمة الجاهليات العلمانية المعاصرة وهو "حرية التدين". فكان منهم الحنفاء الذين يتعبدون ببقايا دين إبراهيم عليه السلام...
وكان منهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى...
وكان منهم عبدة الكواكب وعبادة الأوثان...
وبعضهم كان يعبد الجن أو الملائكة.
وبعضهم كان يعبد الجن أو الملائكة.
بيان حكم الله على المجتمع رغم كل ذلك
ولكن - وهذا هو المهم- بماذا حكم الله على هذا المجتمع؟
إن الله تعالى حكم على هذه البيئة وعلى هذه المجتمعات والتصورات بأنها كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور جميعها - التي يحتج العلمانيون اليوم بها على إسلامهم - صفراً في ميزان الإسلام، وكفراً بالله ورسوله.
ولذلك نشبت المعركة الطويلة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد النزاع، معركة شرسة ونزاع حاد، حتى أن السيف كان الحكم الأخير.
والشيء المثير أيضاً، أن موضوع هذه المعركة العنيفة الطويلة لم يكن سوى كلمة واحدة "لا إله إلا الله" كلمة يصر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أقصى حدود الإصرار، وترفضها الجاهلية إلى أبعد مدى للإنكار والرفض.
لماذا؟… لأنه منذ اللحظة الأولى حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، إلى شهادة أن "لا إله إلا الله" كان الجواب الفوري… {أجعل الآلهة إلهاً واحدا إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5].
فالقضية واضحة في أذهانه من أن الالتزام بهذه الكلمة معناه الرفض الجازم والتخلي الكامل عن كل ما عدا الله من معبوداتهم وطواغيتهم المختلفة، طاغوت الأوثان وطاغوت الزعامة وطاغوت القبيلة وطاغوت الكهانة وطاغوت التقليد... الخ،
والاستسلام الكامل لله ورد الأمر كله - جليله وحقيره وكبيره وصغيره- إلى الله تعالى وحده لا شريك له.