المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقالات الشيخ علي الخضير{الرد على الإمامية المعاصرة}


أبو الفداء الأندلسي
05-16-2008, 02:49 AM
الرد على الإمامية المعاصرة


الكاتب: علي بن خضير الخضير
فضيلة الشيخ علي الخضير حفظه الله :
نحن مجموعة من طلبة العلم من بلدان شتى من العراق وتونس وفلسطين واليمن حصل بيننا نقاش حار في مسالة إذا أمر الحاكم بأمر فبعضهم يقول يحرم مخالفته ويوجب اتباع مذهب الحاكم ، وبعضهم يقول بل يجب اتباع الدليل وينسبون إليكم قولا في هذه المسالة وهم من طلابكم ، ولقد طال النقاش بيننا وخشينا من الفرقة والتباغض ، واتفقنا أن نرفع إليكم الأمر ولذا فإننا نسألك بالله أيها الشيخ أن تبين الحق في هذه المسالة ، واتق الله في كتمان هذا الأمر ؟ كما انهم ذكروا عن الشيخ حمود العقلاء رحمه الله انه لا يرى التقيد بفتوى الحاكم وقد أفتى بوجوب الجهاد والقنوات بدون إذن الحاكم ؟

الجواب :

ما دام أنك سألتنا بالله وحذرتنا من الكتمان ونظرا لحاجتكم ودفعا للشقاق بينكم ثم بيانا وتوضيحا لغيركم وإبراء للذمة ، فإننا نجيب إن شاء الله على هذا السؤال وهو رأينا ورأي شيخنا العلامة حمود بن عقلاء الشعيبي رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ، بل المسألة إجماعية - كما سوف ترى من نقول الإجماع عن ابن تيمية وغيره - في أنه لا يجوز إلزام الناس بمذهب الحاكم المخالف للأدلة .

فنقول وبالله التوفيق :

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين , وبعد :

قبل الإجابة على هذا السؤال يحسن بنا أن نذكر مقدمة تبين مقصودنا في هذه الرسالة ، ثم نعرف السرد التاريخي والواقعي في هذه المسألة ثم نعرج على الإجابة .



المقدمة

وإجابتنا هنا المقصود منها الرد على طائفتين :

1- على من أوجب اتباع مذهب الحكام المخالف للنصوص الصريحة ، وعاقب على ذلك وسجن ومنع من الإفتاء والتعليم ونشر الخير ونحوه لمن خالف مذهب الحاكم .

2- وأيضا الرد على الغلاة في الحكام الذين يوجبون اتباع أهواء الحكام ، لأن الحاكم إذا اختار شيئا لأنه يُوافق هواه فهذا لا يجوز أصلا ولو وافق الحق ، كالذي يفسر القرآن أو يفتى عن جهل ثم يوافق الحق في تفسيره أو فُتياه فإنه آثم وضال ومنحرف وعلى غير سبيل المؤمنين ، وإن وافق الحق . ومن الغلاة جماعة أيضا تُوجب اتباع الحكام المعطلة للجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بالحق والقيام بهذا الدين وأمثال ذلك فيوجبون اتباعهم على هذا التعطيل .

وسوف نزيدكم فائدة في تضمين ردنا هذا إن شاء الله الرد على العصرانيين والانهزاميين ، لأنهم التقوا مع الحكام في اتباع الهوى في الأخذ بالأحكام الشرعية .

ومن أهدافنا في هذه الرسالة أيضا أن نشرح ونبين حتمية ربط الأمور بالكتاب والسنة فما وافقها فهو المقبول وما خالفها فيرد ولو كان قول العالم أو الحاكم .


العرض التاريخي والواقعي لهذا التيار
وفيه ذكر الناحية الشرعية و الناحية الواقعية

نحن اليوم أمام تيار جديد وهو ربط الأحكام والحقوق الشرعية وشعائر الدين الظاهرة بالحكام وبالإمام في الوقت الذي لهؤلاء الأئمة والحكام توجهات تخالف الشريعة فيؤدي إلى تعطيل هذه الشعائر أو جعلها أداة للسياسة فبدل أن تكون السياسة تابعة للدين أصبح العكس حتى قال بعضهم الدين يخدم السياسة .

فإن أول ظهور هذا التيار في عصر الأمويين عند بعض رعايا بني أمية وعند الرافضة ، ولذا أنكر ابن تيمية رحمه الله [كما في منهاج السنة النبوية 3 / 487] على طائفة من أهل الشام كانوا يرون الطاعة المطلقة للإمام فذكر أنه موجود في بعض رعايا بني أمية الذين كانوا يوجبون طاعة أئمتهم طاعة مطلقا ويقولون إن ذلك يوجب النجاة ، وكانوا يعتقدون أن طاعة الأئمة واجبة في كل شيء وأن الإمام لا يؤاخذه الله بذنب وأنه لا ذنب لهم فيما أطاعوا فيه الإمام اهـ - بتصرف قليل غير مخل - ورد أيضا على الرافضة ذكر ذلك في رده على الرافضة الذين يرون لأئمتهم الطاعة المطلقة ، وذكر أن كلا الطائفتين مخطئ وأن خطأ الرافضة أعظم .

ووجد هذا التيار وهذا التوجه أيضا في عصر ابن تيمية رحمه الله فقاومه وسجن من أجل مقاومته عدة مرات وكانوا يريدون منه أن يخضع لمذهب الحكام المخالف للشريعة سواء أكان الحكام علماء ضلال أو أمراء ضلال , وقد ألف فيهم ثلاث رسائل سوف ننقلها باختصار كما في الفتاوى ، وفي الفتاوى الكبرى ، فبعد تأليفه لرسالة العقيدة الواسطية عاقبوه عليها بالسجن والطرد ، وألف رسالة أخرى لما سجنوه على فتياه في منع السفر لمجرد زيارة القبور ، ورسالة لما منعوه أن يفتى في مسائل الأسماء والصفات لله تعالى ، سوف ننقلها إن شاء الله بنصها مع اختصار قليل .

وقاومهم بعده تلميذه ابن القيم ، وكل من عظم الأدلة ورأى وجوب الانقياد لها وحدها .

ثم عادوا للظهور بشكل فردي في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما قام لله يقيم الحدود والشعائر الظاهرة ، أنكر عليه بعض العلماء المعاصرين له وقالوا له لا يجوز فعلك لأنه لم يأذن لك الإمام ، فرد عليهم وقال [في كتاب تاريخ نجد ص454] : ( ولا يعرف أن أحدا من العلماء ذكر أن شيئا من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم … ثم قال كما أني لمّا أمرت برجم الزانية قالوا لا بد من إذن الإمام ، فإن صح كلامهم لم يصح ولايتهم القضاء ولا الإمامة ولا غيرها ) اهـ , ورد عليهم أيضا في عموم قنوت النوازل في كتاب التوحيد في مسائل باب { أيشركون ما لا يخلق } ، في المسألة الثامنة والثالثة .

ثم ظهر في عصر الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله حيث قال ابن نبهان لا جهاد إلا بالإمام فرد عليه عبد الرحمن بن حسن وقال [في الدرر السنية 8/199] : ( بأي كتاب أم بأي حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع ؟! هذا من الفرية في الدين والعدول عن سبيل المؤمنين والأدلة على إبطال هذا القول أشهر من أن تذكر من ذلك عموم الجهاد والترغيب فيه والوعيد في تركه ) . . . ثم ذكر الآيات في ذلك إلى أن ذكر قصة أبي بصير ، ثم قال : ( إن أبا بصير استقل بالحرب دون رسول الله ) - أي أن أبا بصير قاتل من دون إذن الإمام - .

ثم تصدى لذلك الشيخ عبد الله أبابطين رحمه الله لما جاء مَن ربط إقامة الحجة بالإمام أو نائبه ولذا قال [في الدرر السنية 10/394] : ( وقولك حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية من إمام أو نائبه معناه ؛ أن الحجة الإسلامية لا تقبل إلا من إمام أو نائبه وهذا خطأ فاحش لم يقل به أحد من العلماء. . . ) اهـ.

وهو مذهب الشيخ محمد بن إبراهيم في مسألة إحياء الموات المنفكة من الاختصاص أو ملك معصوم ولم تدل القرائن على النزاع والشقاق فيها ، فقد أنكر الشيخ الاستئذان فيها وأنكر أن يكون من حقوق الإمام الإذن فيها بل إذن الرسول صلى الله عليه وسلم كاف شاف في ذلك [فتاويه 8/ 207,201,196] ، وقال : ( نحيطكم علما أن الأرض الموات لا تملك إلا بالإحياء فمن أحياها ملكها سواء كان ذلك بإذن الإمام أو لا ) اهـ بنصه .

ثم عاد هذا التيار في الآونة الأخيرة حتى أصبح اليوم يشكل تيارا له رموزه وقياداته .

وإذا كان السلف رحمهم الله قد سموا الفقهاء الذين أخرجوا الأعمال من الإيمان سموهم مرجئة الفقهاء ، فهؤلاء وافقوا الإمامية في هذا الأصل بربط الأمور بالإمام , ولذا يسمون اليوم إمامية الفقهاء أو الإمامية المتفقه - و " أو " هنا ليست للتنويع - ، أو الإمامية الجدد أو الإمامية المعاصرة أو الحكامية المعاصرة - و " أو " هنا ليست للتنويع - .

وليس معنى ذلك أنهم يُلحقون بالامامية في الأحكام والتكفير فلا ، ولكن قلنا ذلك فيهم تشبها بطريقة بعض السلف الذين يسمون من وافق أهل البدع في أصل من أصولهم ، أنهم يسمونهم باسمهم وإن لم يُلحقوهم بهم في الأحكام ، كما سموا من قال لفظي بالقرآن مخلوق أمثال الكرابيسي سموهم جهمية ، وأحيانا السلف كابن تيمية وغيره يسمون الاشاعرة أحيانا بالجهمية أو الحلولية ، والعلماء في زمن أحمد كانوا يسمون المعتزلة بالجهمية ، وهكذا فالأسماء غير الأحكام .

قال القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } ، قال : ( وفيه رد على الروافض الذين يقولون يجب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي ) اهـ فانظر إلى هذا الكلام ثم اعرضه على كلام هؤلاء ترى التشابه في هذه المسألة .

وإذا كان المعطلة من جهمية ومعتزلة وأشعرية وغيرهم قد أولوا آيات وأحاديث الصفات وحرفوها إلى أصولهم الباطلة ، فإن هؤلاء أولوا وحرفوا الآيات والأحاديث المتعلقة بالجهاد والقيام بالشعائر الظاهرة والحقوق والواجبات الشرعية وخصوها بالحكام مع تعطيل الحكام لها .

قال ابن تيمية [في الفتاوى 28/508] عن الأمراء : ( بل يطيعهم في طاعة الله ولا يطيعهم في معصية الله إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديما وحديثا وهي واجبة على كل مكلف وهي متوسطة بين طريق الحرورية ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم ، وبين طريقة المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقا وأن لم يكونوا أبرارا ) اهـ .

واليوم مذهب الإمامية المعاصرة قائم على أنهم يوجبون على الإنسان اتباع المذهب الفقهي السياسي المناسب للحكام أو المذهب الوطني أو الإقليمي أو الدولي أو العالمي , وهو جزء من توجه المنهزمين والمتخاذلين لا كثرهم الله ، وجزء من توجه المرجئة المعاصرة المصانعين للحكام .

وتصدى لهم في الوقت الحاضر شيخنا العلامة حمود بن عقلاء الشعيبي رحمه الله في ثلاث فتاوى هي :
فتوى في وجوب الجهاد وفرضيته .
وفتوى في القنوت للنوازل .
وفتوى في شروط الإفتاء .
وذكر في هذه الأمور الثلاثة أنها لا تربط بإذن الإمام إذا وجبت ولزم البيان ، وكان قبل وفاته رحمه الله أعد مسودة بيان للكلام عن هذا التيار الجديد وهو تيار الإمامية المعاصرة , لكن وافته المنية قبل أن يخرج ذلك رسميا رحمه الله رحمة واسعة . وهذه الرسالة تحتوي على كثير من تقريراته في مسودة بحثه .

وإذا كان العلماء حرموا بالإجماع اتباع عالم معين بعينه يأخذ بكل قوله ويحرم مخالفته , لأنه أنزله منزلة الرسول ومنزلة المعصوم ؟ فكيف يوجبون متابعة الحكام في كل ما يقولون ويحرمون مخالفتهم مطلقا مع أن الكلام في العالم العارف بالكتاب والسنة فكيف بالحكام الجهلة في الأحكام الشرعية , هل يستوون ؟! وهذا مخالف للإجماع .

قال ابن القيم رحمه الله : ( إن العالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم فلا يجوز قبول كل ما يقوله وينزل منزلة المعصوم فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض وحرموه وذموا أهله ) اهـ [إعلام الموقعين 173].

فانظر إلى حكاية الإجماع وهو في العلماء فكيف بالحكام الجهلة بالشرعية .

وقال ابن القيم رحمه الله : ( إذا عرف أن العالم زل لم يجز له أن يتبعه باتفاق المسلمين فإنه اتباع للخطأ على عمد ) اهـ [إعلام الموقعين صـ173] , ونحن نقول إذا عرف أن الحاكم زل لم يجز له أن يتبعه باتفاق المسلمين فإنه اتباع للخطأ على عمد .

وهذا في العلماء فكيف يوجبون على من عرف خطأ الحكام أن يتبعه ؟

قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر ) اهـ .

وهؤلاء يريدون منك أن تتبع سياسة الحكام إن رضي فعليك أن ترضى إن شجب فعليك أن تشجب وإن أنكر فعليك أن تنكر , وإن قام بحملة ضد المجاهدين فعليك أن تساعده في هذه الحملة ، وأقل شيء أن تسكت عن بيان الحق ، وإلا فأنت خارجي وتكفيري وصاحب فتنة ومستعجل ومتحمس وإرهابي ، وأشد من ذلك من جارى الحكام يُلبّس على الناس كما فعل علماء بني إسرائيل { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون }.

والأحكام الشرعية والشعائر الظاهرة التي ربطت بالإذن السياسي هي :

1- الجهاد : حيث قالوا لا جهاد دفع ولا يرد العدوان ولا ترد الأراضي المغتصبة ويدفع الصائل الذي صال على بلاد المسلمين وأفسد الدين والدنيا إلا بإذن إمام - خلافاً لإجماع السلف والخلف الذين قالوا بدفع الصائل بلا هذا الشرط - .

2- القنوت للنوازل : حيث قالوا لا يقنت للنوازل إلا بأمر تراعى فيه السياسة الدولية - خلافاً لسنة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - .

3- الإفتاء : حيث قالوا لا يتصدر للإفتاء إلا صاحب منصب ، ويمنع من لا يملك منصباً من الإفتاء ولو كان عالماً ، ولا بد من الجماعية في صحة الفتوى ومشروعيتها والعمل بها

4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : حيث قالوا لا ينكر من رأى المنكر ولو كان مؤهلا ولا بلسانه إلا من كان موظفاً - خلافاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم - .

5- الوعظ والنصح والإرشاد : حيث قالوا لا يعظ ويرشد ولو كان مؤهلا إلا من صرح له بالوعظ والإرشاد ، وأيضاً في إطارات وضوابط محدودة لما يقال وما يترك - خلافاً لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لأهل العلم - .

6- قول الحق والصدع به : حيث قالوا لا صدع بما أمر الله به إلا أن يوافق السياسة المحلية أو الدولية .

7- التعليم الديني : حيث قالوا لا يشرع فتح المدارس الدينية إلا وفق نظام التعاليم الخاضع لأنظمة منظمة اليونسكو للثقافة التابعة للأمم المتحدة ، وكل تعليم لا يخضع لهذه الأنظمة فإنه ممنوع ، وإن وجد فلا مستقبل لخريجيه .

8- الدروس العلمية الشريعة الصحيحة في المساجد : حيث قالوا لا يجوز إلقاء الدروس في المساجد إلا لمن أذن له بذلك تحت ضوابط ما أنزل الله بها من سلطان - خلافاً لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم - .

9- تأليف الكتب الإسلامية التي في معنى الجهاد مثل كتب الردود والإفتاء : حيث وضعوا شروطاً لفسح التأليف لا يستند كثير منها على أي دليل لا من الكتاب ولا من السنة .

وأشد من ذلك :

10- ربط تقدير المصالح بقرارات الدول والحكومات وأن هذا هو الشرع : حيث قرروا بأن المصلحة الأولى والأهم هي المصلحة السياسية للحكام .

11- ربط تقدير المفاسد بقرارات الدول والحكومات وأن هذا هو الشرع : حيث قرروا بأن المصلحة الأولى والأهم هي المصلحة السياسية للحكام .

12- ربط العلاقات الخارجية بقرارات الدول والحكومات وأن هذا هو الشرع : مع إهمال لحقيقة الولاء والبراء والمظاهرة ونحوها ، ومنع كل من أظهر حقيقة هذه المعاني إبطالاً لملة أبينا إبراهيم عليه السلام .

13- عدم نصرة المسلمين إلا بإذن الحاكم : حيث قالوا إن نصرة المسلمين الذين اجتاح العدو بلادهم من غير إذن يعد افتياتاً على الحاكم والمناصرة معلقة بالمصالح السياسية .

14- عدم جمع التبرعات والإغاثة للمسلمين إلا بإذن الحاكم : حيث قالوا لا إغاثة إلا بما وافق المصالح السياسية لأنها الأصل والأهم .

15- عدم تبني قضايا الجهاد للمسلمين إلا بإذن الحاكم : حيث قالوا إن الشريعة تنيط مثل هذه الأمور برضا الحاكم من عدمه - خلافاً لله ورسوله - .

16- عدم إصدار التصريحات التي فيها تأييد المسلمين والمجاهدين إلا بإذن : حيث قالوا إن الشريعة لا تؤيد صدام الحضارات ، والتأييد للمجاهدين يصادمنا مع الأمم ، تناسياً لواقع الرسول e وأصحابه رضي الله عنهم .

17- عدم إصدار فتاوى جماعية من علماء وافقوا الحق في الكتاب والسنة إلا بإذن : حيث قالوا إن هذا منازعة للحاكم في سلطانه ، وتعديا على حق السيادة ، وهو محرم شرعاً .

18- دفع الصائل : حيث قالوا لا يدفع الصائل إلا بإذن - خلافاً للأدلة - .

وغير ذلك كثير ؟! ربط كل ذلك بالسياسة وبالحكام وبالدول .

ومن معالم هذه الطائفة أيضا : أنهم يطالبون بعدم التعرض لمسألة الولاء والبراء وعدم نشر ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي من أعظمها الولاء والبراء والكفر بالطاغوت والبراءة منه ومن أهله وتكفيرهم وعداوتهم . وعدم التعرض لأعداء الله من الصليبيين واليهود وملل الكفر ، وعدم التعرض لمسائل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاومة المبتدعة والمنافقين والمرتدين والحكام المبدلين والمعاهدات والنصرة ... الخ وأن لا يتعرض لذلك إلا علماء معينين ويمنع بقية علماء الأمة من نشر ذلك مع عدم قيام هؤلاء العلماء المعينين بالبيان ، ومع حاجة الأمة الماسة لذلك البيان .

وهذا التوجه الجديد في الآونة الأخيرة مرّ بمراحل :

فأولا : كانت بدعة تقليد الحكام ثم تطورت إلى بدعة تقليد أهواء الحكام ثم هذه تدرجت إلى :

1 ـ لوم من خالف مذهب الحاكم أو الدولة المخالفة للشريعة .
2 ـ إلزام الناس به .
3 ـ معاقبة من خالفه .
4 ـ واتهامه بالخروج أو الفتنة أو الشذوذ أو التكفير أو الحماس أو الاستعجال .

ولا يعني سردنا لتلك المسائل أننا ندعو لأن تكون هذه المسائل وما شابهها متاحة لكل جاهل يقرر فيها ما شاء ، بل المقصد ضبطها بالضوابط الشرعية التي نص عليها الله ورسوله أو جاءت إجماعاً أو قياساً ، وإعتاقها من قيود السياسة والأهواء والجهل لتكون متاحة لكل عالم مؤهل شرعاً موقع عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وحتى لا يكون هنالك ارتباط وسيادة إلا للكتاب والسنة .

وهذا التيار موجود على مستوى محيط العالم العربي والإسلامي شرقا وغربا وشمالا وجنوبا يقل ويكثر , وأول تجدد ظهوره في محيط العالم العربي بعد حرب الخليج الأخيرة ثم بدأ ينتشر بقوة بعد أن تبنى الصليبيون حرب الإسلام بشكل سافر ظاهر ، فهو تيار قديم وقد جدد في هذا العصر .

وقد أشار عبد الرحمن بن حسن رحمه الله [في فتح المجيد ص 348] إلى هذا التيار فقال : ( أما طاعة الأمراء ومتابعتهم فيما يخالف ما شرعه الله ورسوله فقد عمت بها البلوى قديما وحديثا في أكثر الولاة بعد الخلفاء الراشدين وهلم جرا وقد قال تعالى { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوائهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . . . ) .
وكان في القديم يوجد على شكل طائفة قليلة ظهرت في الشام ثم زاد ذلك حتى تبناه أهل البدع والضلال من الرافضة الإمامية , ثم عاد على شكل مبادرات فردية وشخصية ليس لها طابع العموم , ثم ظهر اليوم على شكل تيار له رموزه وقياداته .

وقبل أن نذكر الأدلة على مخالفة هذا التيار نذكر الرسالة التي سطرها ابن تيمية رحمه الله في هذا الموضوع فإنها كافية شافية في الموضوع .

وهي موجودة في الفتاوى [35/من ص357 إلى ص388] ، بعنوان " ما للحاكم أن يحكم فيه وما ليس له أن يحكم به " ويقصد رحمه الله في رسالته هذه بالحاكم أي القاضي .
فإذا كان هذا في القاضي الشرعي فكيف بالحاكم السياسي ؟ { لا يستوون } .

ملاحظة مهمة : أحب أن أنبه قبل أن أدخل في ذكر رسالة ابن تيمية وقبل ذكري للأدلة في خطأ هذا التيار ، أقول أن ما سوف أذكره من أدلة أقصد بذكرها هدف واحد وهو أن من ألزم الناس بمذهب الحكام الذي بنوه على أهوائهم وفرضوا مذهبهم عليه لأنه يصلح لهم ويحقق مآربهم ، أو يخدم جهات معينة إما وطنية أو إقليمية أو عالمية ، لهذا السبب فلا ينساق معهم فيه ولا يجوز لأحد إلزام الناس بهذا ، ويدخل في هذه المسألة العصرانيون وأيضا الانهزاميون الجدد ، الذين لهم نفس التوجه فهم يختارون من أقوال أهل العلم ما يناسب العصر ورغبات الناس ، ويقصدون الرخص ، وفقه التيسير ، فيختارون بعض أقوال أهل العلم المرجوحة والتي خالفت صريح الأدلة من الكتاب أو السنة أو الإجماع ، أو الأقوال التي شذوا فيها - خصوصا ما يتعلق بالمرأة وكشف الوجه للمرأة والغناء والفضائيات وحرية الرأي وتسهيل الربا والبنوك والتصوير والأزياء واللباس واللحية وتسهيلات جديدة في الحج والسياسة وأمثال ذلك من أطروحات العصرانيين والانهزاميين الجدد - فيتبنونها بقوة ويتسترون خلف ستار أنها قول عالم ثم يحاولون أن يستفيدوا من نصوص هذا البحث لخدمة أغراضهم وأهوائهم كما استخدموا بعض أقوال أهل العلم لأهوائهم ، فهؤلاء لا يمكنون من تحقيق أغراضهم بهذه الطريقة . فكما أن الحاكم لا يجوز له أن يلزم الناس بأهوائه وإن غلفها بلافتة أنها قول بعض العلماء ، فكذلك هؤلاء الانهزاميين لا يجوز لهم أن يبثوا وينشروا في الناس اختياراتهم الفقهية الجديدة الشهوانية التي تخدم منهجهم وإن غلفوها بلافتة أنها قول بعض العلماء . فكلا الفريقين في خطأ مشين وفي ظلال مبين .

والآن نعود إلى ذكر رسالة ابن تيمية رحمه الله فيها :

( فصل : فيما جعل الله للحاكم أن يحكم فيه وما لم يجعل لواحد من المخلوقين الحكم فيه بل الحكم فيه على جميع الخلق لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ليس لأحد من الحكام أن يحكم فيه على غيره ولو كان ذلك الشخص من آحاد العامة ) .

ثم بين رحمه الله القاعدة في ذلك ، فقال : ( وهذا مثل الأمور العامة الكلية التي أمر الله جميع الخلق أن يؤمنوا بها ويعملوا بها وقد بينها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما أجمعت عليه الأمة , أو تنازعت الأمة فيه إذا وقع فيه نزاع بين الحكام وبين آحاد المسلمين من العلماء أو الجند أو العامة أو غيرهم لم يكن للحاكم أن يحكم فيها على من ينازعه ويلزمه بقوله ويمنعه من القول الآخر فضلا عن أن يؤذيه أو يعاقبه ) .

ثم ذكر رحمه الله أمثلة لهذه الأمور الكلية التي ليس للقاضي - أي الحاكم - أن يلزم الناس بقوله فكيف بالإمام أو الأمير أو غيره ؟! وهذه الأمثلة هي :

1- في مس المرأة هل ينقض الوضوء أم لا ؟ وفي قوله { أو لامستم النساء} ، هل المراد به الجماع أو المراد به اللمس .
2- وذلك تنازع المسلمون في الوضوء من خروج الدم بالفصاد والحجامة والجرح والرعاف وفي القيء وفي مس الذكر والوضوء من القهقهة ومما مست النار .
3- وكذلك تنازعوا في كثير من مسائل الفرائض كالجد والمشركة وغيرهما .
4- وفي كثير من مسائل الطلاق .
5- وفي كثير من مسائل الإيلاء .
6- وفي كثير من مسائل العبادات في الصلاة والصيام والحج .
7- وفي مسائل زيارات القبور منهم من كرهها مطلقا ومنهم من أباحها ومنهم من استحبها إذا كانت على الوجه المشروع .
8- وتنازعوا في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم هل يسلم عليه في المسجد وهو مستقبل القبلة أو مستقبل الحجرة وهل يقف بعد السلام يدعو له أم لا ؟ .
9- وتنازعوا أي المسجدين أفضل ؟ المسجد الحرام أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
10- وتنازعوا فيما إذا نذر السفر إلى المسجدين ؟
11- وتنازعوا في تفسير بعض الآيات .
12- وتنازعوا في بعض الأحاديث هل تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو لم تثبت ؟ .

وهذه الأمثلة ليست للحصر بل للتوضيح , وإنما الضابط فيها كما قال سابقا في أول الرسالة: ( الأمور العامة الكلية التي أمر الله جميع الخلق أن يؤمنوا بها ويعملوا بها وقد بينها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما أجمعت عليه الأمة , أو تنازعت الأمة فيه ) .

وتعقيبا على ذلك نقول :
ومثلها مسألة الجهاد والشعائر الظاهرة والواجبات والحقوق الشرعية هل هي مرتبطة بإذن الإمام أم لا ؟ ثم إذا عطلها أو تلاعب بها هل يلزم إذنه أم لا ؟ .

ثم بعد ذكره لهذه الأمثلة عقب بقاعدة فقال : ( فهذه الأمور الكلية ليس لحاكم من الحكام كائنا من كان ولو كان من الصحابة أن يحكم فيها بقوله على من نازعه في قوله فيقول ألزمته أن لا يفعل ولا يفتي إلا بالقول الذي يوافق لمذهبي ، بل الحكم في هذه المسائل لله ورسوله - وتنبه لهذا القيد - والحاكم واحد من المسلمين فإن كان عنده علم تكلم بما عنده وإذا كان عند منازعه علم تكلم به فإن ظهر الحق في ذلك وعرف حكم الله ورسوله وجب على الجميع اتباع حكم الله ورسوله وإن خفي ذلك أقر كل واحد على قوله , أقر قائل هذا القول على مذهبه وقائل هذا القول على مذهبه ولم يكن لأحدهما أن يمنع الآخر إلا بلسان العلم والحجة والبيان فيقول ما عنده من العلم .
وأما باليد والقهر فليس له أن يحكم إلا في " القضية " المعينة التي يتحاكم فيها إليه مثل ميت مات وقد تنازع ورثته في قسم تركته فيقسمها بينهم إذا تحاكموا إليه وإذا حكم هنا بأحد قولي العلماء ألزم الخصم بحكمه ولم يكن له أن يقول أنا لا أرضى حتى يحكم بالقول الآخر وكذا إذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما فَصَل بينهما كما أمر الله ورسوله وألزم المحكوم عليه بما حكم به وليس له أن يقول أنت حكمت علي بالقول الذي لا أختاره ) .

ثم قال رحمه الله : ( وقد يقول كثير من علماء المسلمين أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم أقوالا باجتهادهم فهذا يسوغ القول بها ولا يجب على كل مسلم أن يلتزم إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .

ثم قال : ( وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق حكم الحاكم ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه بل حكم الحاكم العالم العادل يلزم قوما معينين تحاكموا إليه في قضية معينة لا يلزم جميع الخلق ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يقلد حاكما لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكما ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة قال تعالى { المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين , اتبعوا ماأنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره كان مستحقا لعذاب الله بل عليه أن يصبر وإن أوذي في الله فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم ثم ذكر آيات في ذلك ) .

ثم قال : ( وهذا إذا كان الحاكم قد حكم في مسألة اجتهادية قد تنازع فيها الصحابة والتابعون فحكم الحاكم بقول بعضهم وعند بعضهم سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخالف ما حكم به فعلى هذا أن يتبع ما علم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمر بذلك ويفتي به ويدعوا إليه ولا يقلد الحاكم هذا كله باتفاق المسلمين ، وإن ترك المسلم عالما كان أو غير عالم ما علم من أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لقول غيره كان مستحقا للعذاب قال تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } ) .

ثم قال : ( فالشرع الذي يجب على كل مسلم أن يتبعه ويجب على ولاة الأمر نصره والجهاد عليه هو الكتاب والسنة وأما حكم الحاكم فذاك يقال له قضاء القاضي ليس هو الشرع الذي فرض الله على جميع الخلق طاعته بل القاضي العالم العادل يصيب تارة ويخطئ تارة ولو حكم الحاكم لشخص بخلاف الحق في الباطن لم يجز له أخذه ولو كان الحاكم سيد الأولين والآخرين كما في الصحيحين عن أم سلمة قالت ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ] فهذا سيد الحكام والأمراء والملوك يقول إذا حكمت لشخص بشيء يعلم أنه لا يستحقه فلا يأخذه وقد أجمع المسلمون على أن حكم الحاكم بالأملاك المرسلة لا ينفذ في الباطن ) .

ثم قال : ( وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين اتباع الشرع الذي هو الكتاب والسنة وإذا تنازع بعض المسلمين في شيء من مسائل الدين ولو كان المنازع من آحاد طلبة العلم لم يكن لولاة الأمور أن يلزموه باتباع حكم حاكم ، بل عليهم أن يبينوا له الحق كما يبين الحق للجاهل المتعلم فإن تبين له الحق الذي بعث الله به رسوله وظهر وعانده بعد هذا استحق العقاب وأما من يقول إن الذي قلته هو قولي أو قول طائفة من العلماء المسلمين وقد قلته اجتهادا أو تقليدا - لا هوى وفقه تيسير - فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته ولو كان قد أخطأ خطأ مخالفا للكتاب والسنة ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال اجتهد فيها أو قلد فيها وهو مخطئ فيها فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق بل قد قال الله تعالى في القرآن {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم [ إن الله استجاب هذا الدعاء ] , وقال النبي صلى الله عليه وسلم [ إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ، فالمفتي والجندي والعامي إذا تكلموا بالشيء بحسب اجتهادهم اجتهادا أو تقليدا قاصدين لاتباع الرسول بمبلغ علمهم - لاهوى وفقه تيسير وعصرانية ، لأن من صادف الحق هوى وشهوانية وعصرانية لا يكن مصيبا وإن وافق الحق ، بل مخطئا ضالا ، لأنه مثل من فسر القرآن هوى أوعصرانية لا يكن مصيبا وإن وافق الحق - لا يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين وإن كانوا قد أخطئوا خطأ مجمعا عليه وإذا قالوا إنا قلنا الحق واحتجوا بالأدلة الشرعية لم يكن لأحد من الحكام أن يلزمهم بمجرد قوله ولا يحكم بأن الذي قاله هو الحق دون قولهم بل يحكم بينه وبينهم الكتاب والسنة ، والحق الذي بعث الله به رسوله لا يغطى بل يظهر فإن ظهر رجع الجميع إليه وإن لم يظهر سكت هذا عن هذا وسكت هذا عن هذا كالمسائل التي تقع يتنازع فيها أهل المذاهب لا يقول أحد إنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكما فإن هذا ينقلب فقد يصير الآخر حاكما فيحكم بأن قوله هو الصواب فهذا لا يمكن أن يكون كل واحد من القولين المتضادين يلزم جميع المسلمين اتباعه ، وعلى ولاة الأمر أن يمنعوهم من التظالم فإذا تعد بعضهم على بعض منعوهم العدوان ) .

ثم ضرب مثلا لذلك : ( بأن الحكام قد ألزموا بمنع ظلم أهل الذمة وأن يكون اليهودي والنصراني في بلادهم إذا قام بالشروط المشروطة عليهم لا يُلزمه أحد بترك دينه مع العلم بأن دينه يوجب العذاب فكيف يسوغ لولاة الأمور أن يمكنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه هذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا ، وهذا إذا كان الحكام قد حكموا في مسألة فيها اجتهاد ونزاع معروف فإذا كان القول الذي قد حكموا به لم يقل به أحد من أئمة المسلمين - كما هو مسلك الانهزاميين والعصرانيين في فقه التيسير - ولا هو مذهب أئمتهم الذين ينتسبون إليهم ولا قاله أحد من الصحابة والتابعين ولا فيه آية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل قولهم يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأئمة فكيف يحل مع هذا أن يلزم علماء المسلمين باتباع هذا القول وينفذ فيه هذا الحكم المخالف للكتاب والسنة والإجماع وأن يقال القول الذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف لا يقال ولا يفتي به بل يعاقب يؤذى من أفتى به ومن تكلم به وغير ويؤذى المسلمون في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لكونهم اتبعوا ما علموه من دين الإسلام وإن كان قد خفي على غيرهم وهم يعذرون من خفي عليه ذلك ولا يلزمون باتباعهم ولا يعتدون عليه فكيف يعان من لا يعرف الحق بل يحكم بالجهل والظلم ويلزم من عرف ما عرفه من شريعة الرسول أن يترك ما علمه من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل هذا لا ريب أن هذا أمر عظيم عند الله تعالى وعند ملائكته وأنبيائه وعباده والله لا يغفل عن مثل هذا وليس الحق في هذا لأحد من الخلق فإن الذين اتبعوا ما علموه من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يظلموا أحدا في دم ولا مال ولا عرض ولا لأحد عليهم دعوى بل هم قالوا نحن نتبع ما عرفناه من دين الإسلام وما جاء به الكتاب والسنة ) .

إلى أن قال : ( بل لو كان مخطأ مع اجتهاده لم يستحق العقوبة بإجماع المسلمين ولا يجب عليه إتباع حكم أحد بإجماع المسلمين وليس للحاكم أن يحكم بأن هذا أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن هذا العمل طاعة أو قربة أو ليس بطاعة أو قربة ولا بأن السفر إلى المساجد والقبور وقبر النبي صلى الله عليه وسلم يشرع أو لا يشرع ليس للحاكم في هذا مدخل إلا كما يدخل فيه غيرهم من المسلمين بل الكلام في هذا لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمن كان عنده علم تكلم بما عنده من العلم وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين بل يبين له أنه قد أخطأ فإن بين له بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء إلى ذلك وجب أن يمنع من ذلك ويعاقب إن لم يمتنع وأما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة الشرعية لم تجز عقوبته باتفاق المسلمين ولا منعه من ذلك القول ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان يقول أن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة كما قاله فلان وفلان من علماء المسلمين فهذا إذا أجتهد فأخطأ لم يحكم عليه إلا بالكتاب والسنة والمنازع له يتكلم بلا علم والحكم الذي حكم به لم يقله أحد من علماء المسلمين فعلماء المسلمين الكبار لو قالوا بمثل قول الحكام لم يكن لهم إلزام الناس بذلك إلا بحجة شرعية لا بمجرد حكمهم ) .

ثم ضرب مثل آخر في ذلك ، فقال : ( وعمر بن الخطاب قد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فأن يكن في أمتي أحد فعمر وروى أنه ضرب الحق على لسانه وقلبه وقال لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ومع هذا فما كان يلزم أحدا بقوله ولا يحكم في الأمور العامة بل كان يشاور الصحابة ويراجع فتارة يقول قولا فترد عليه امرأة فيرجع إلى قولها وقال امرأة أصابت ورجل أخطأ ) .

المثال الثاني من فعل عمر ، قال فيه رحمه الله : ( ففي مسائل النزاع مثل مسائل الفرائض والطلاق يرى رأيا ويرى علي بن طالب رأيا ويرى عبد الله بن مسعود ويرى زيد بن ثابت رأيا فلم يلزم أحدا أن يأخذ بقوله بل كل منهم يفتي بقوله ، وعمر رضي الله عنه إمام الأمة كلها وأعلمهم وأدينهم وأفضلهم فكيف يكون واحد من الحكام خيرا من عمر هذا إذا كان قد حكم في مسألة اجتهاد فكيف إذا كان ما قاله لم يقله أحد من أئمة المسلمين لا الأربعة ولا من قبلهم من الصحابة والتابعين ) .

مثال آخر ، وقال : ( إن الله لم يرض بحكم واحد بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما فإنه لا يعلم أيهما الظالم وليس بينهما بينة بل أمر بحكمين وأن لا يكونا متهمين قال تعالى { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا – أي الحكمين – يوفق الله بينهما – أي بين الزوجين - } فهنا لما اشتبه الحق لم يجعل الله الحكم لواحد وهو في قضية معينة بين زوجين ولو حكم حاكم واحد بين الزوجين في أمر ظاهر لم ينفذ حكمه باتفاق المسلمين فكيف بأمر الدين والعبادات التي يشترك فيها جميع المسلمين وقد اشتبهت على كثير من الناس هذا بإجماع المسلمين لا يحكم فيه إلا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ) .

إلى أن قال : ( وولي الأمر إن عرف ما جاء به الكتاب والسنة حكم بين الناس به وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا حتى يعرف الحق - بصدق لا بشهوانية - حكم به وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا ترك المسلمين على ما هم عليه كل يعبد الله على حسب اجتهاده وليس له أن يلزم أحدا بقبول قول غيره وإن كان حاكما وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله ، ووقع بأسهم بينهم قال النبي صلى الله عليه وسلم ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا ) .

ثم قال : ( فإن الحاكم إذا كان دينا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار وإن كان عالما لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار وإذا حكم بلا عدل ولا علم - كالسياسيين والعصرانيين والانهزاميين - كان أولى أن يكون من أهل النار وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص . وأما إذا حكم حكما عاما في دين المسلمين فجعل الحق باطلا والباطل حقا والسنة بدعة والبدعة سنة والمعروف منكرا والمنكر معروفا ونهى عما أمر الله به ورسوله وأمر بما ينهى الله عنه ورسوله فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين واله المرسلين مالك يوم الدين الذي له الحمد في الأولى وفي الأخرى وله الحكم وإليه ترجعون ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ) . انتهت الرسالة وانتهى المقصود من النقل [الفتاوى 35/388].

والآن نعود إلى تكملة موضوعنا ، فنقول :

الأدلة على مخالفة هذا التيار " الإمامي والعصراني والانهزامي " :

1- قال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }. وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } أي لا تقدموا حاكما ولا غيره . وقال تعالى { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وألئك هم المفلحون } , وقال تعالى { واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون } وقال تعالى { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } ولم يقل بما يرى الحكام والأمراء أو السياسة الدولية ؟!
وقال تعالى { إن الحكم إلا لله } وليس للحكومات أو الدول , وقال تعالى { ولا يشرك في حكمه أحدا } وقال تعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم } ولم يقل احكم بينهم بالنظام أو حسب التعليمات .

2- عموم الآيات والأحاديث الدالة على وجوب الجهاد ونصرة المسلمين ووجوب إظهار الحق والبيان والإفتاء والدعوة والتعليم والأمر والنهي ولم يتقيد ذلك بالحكام وهي كثيرة جدا يطول بنا المقام لو سردناها .

3- أنه مخالف لهدي الصحابة فكانوا يفتون وإن خالف رأي الإمام ومن الأمثلة على ذلك :

أ- قال ابن القيم رحمه الله : ( وعمر رضي الله عنه لما أفتى بمسائل مثل بيع أمهات الأولاد وألزم بالطلاق الثلاث وتبعه الصحابة خالفه في ذلك ابن مسعود رضي الله عنه في أمهات الأولاد , وخالفه ابن عباس رضي الله عنه في الإلزام بالطلاق الثلاث ) اهـ [إعلام الموقعين ص230].

ب- قال ابن تيمية : ( وعمر بن الخطاب قد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر وروى أنه ضرب الحق على لسانه وقلبه وقال لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ومع هذا فما كان يلزم أحدا بقوله ولا يحكم في الأمور العامة بل كان يشاور الصحابة ويراجع فتارة يقول قولا فترد عليه امرأة فيرجع إلى قولها وقال امرأة أصابت ورجل أخطأ ) [الفتاوى 35/384].

ج- قال ابن تيمية أيضا رحمه الله عن عمر رضي الله عنه : ( ففي مسائل النزاع مثل مسائل الفرائض والطلاق يرى رأيا ويرى علي بن أبي طالب رأيا ويرى عبد الله بن مسعود رأيا ويرى زيد بن ثابت رأيا فلم يلزم أحدا أن يأخذ بقوله بل كل منهم يفتي بقوله وعمر رضي الله عنه إمام الأمة كلها وأعلمهم وأدينهم وأفضلهم فكيف يكون واحد من الحكام خيرا من عمر هذا إذا كان قد حكم في مسألة اجتهاد ) [الفتاوى 35/385].

د- وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه خالف عثمان الحاكم رضي الله عنه في أمر الإفتاء بجواز متعة الحج .

هـ- قال ابن القيم [في إعلام الموقعين ص218] : ( وقد خالف ابن مسعود رضي الله عنه عمر رضي الله عنه في نحو من مائة مسألة ) ، ثم عد ابن القيم منها خمسة .

و- قصة أبي ذر رضي الله عنه في عدم استئذانه في الإفتاء بل كان يرى أن من الواجب عليه الإفتاء ولو بدون إذن الحاكم وقصته مذكورة في سنن الدارمي وعلقها البخاري في صحيحه بصيغة الجزم .

ز- وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه ومن معه خالفوا رأي الأمير لما قدّم الخطبة على صلاة العيد حيث خالف السنة رواها مسلم في صحيحه , ولم يُقل هذا رأي الأمير فلا يجوز مخالفته ؟ !

ح- ونقل ابن القيم [في إعلام الموقعين ص219] : ( أن ابن عمر كان يدع قول أبيه عمر إذا ظهرت له السنة ) اهـ ، فلاحظ أنه يدع قول الحاكم إذا ظهرت له السنة .

ط- وقال ابن عباس رضي الله عنه : ( أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر ) ، وهؤلاء يقال لهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقولون قال الأمير الفلاني وقال الحاكم الفلاني وقالت سياسة الدولة ؟!

قال سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله [في التيسير ص483] : ( وفيه كان ابن عباس رضي الله عنه يأمر بالمتعة في الحج ، فاحتج عليه المناظر بنهي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما - أي هما أعلم منك - فاحتجوا عليه بمذهب الحاكم فأنكر عليهم ذلك ) ، قال سليمان رحمه الله : ( فماذا تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بإمامة وصاحب مذهبه الذي ينتسب إليه ؟ ) ، ونحن نقول فماذا تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بمذهب حاكمه أو دولته .

ي- من ذلك موقف الصحابة وعلماء السلف من المسائل الفقهية التي أحدثها بنو أمية وتأولوا فيها لكن لما كانت مخالفة للنصوص أنكرها العلماء وخالفوها ورووا الأحاديث المخالفة لذلك ولم يقولوا هذا مذهب الحاكم ويجب اتباعه ، كما أن بني أمية لم يتهموا من خالف في ذلك بأنه من الخوارج أو صاحب فتنة أو متحمس أو عاطفي أو متطرف أو إرهابي أو غير ذلك ، بل اعتبر العلماء أن حكام بني أمية هم الذين شذوا :

1- قال ابن عبد البر : ( إن بني أمية أحدثوا الأذان ــ في العيدين ــ ولم يكن يعرفونه قبل ) [الاستذكار 10/12] .
قال ابن حزم [في المحلى 3/140 رقم 322] : ( إلا شيئا كان بنو أمية قد أحدثوه من الأذن والإقامة لصلاة العيدين ، وهو بدعة ) اهـ .
وقال الدمشقي [في اختلاف الأئمة ص 60] : ( إن ابن الزبير رضى الله عنه أذن لصلاة العيد اهـ ومع ذلك خالفه الصحابة وغيرهم ولم يقولوا هذا مذهب الإمام يجب اتباعه ، ويعاقب من خالفه ويسجن ويمنع من الفتوى والتدريس ).

2- ونقل ابن قدامة ما رواه أبو داود وابن ماجة من إنكار عبد الله بن بسر الصحابي على الإمام لما أبطأ ، قال ابن قدامه : ( وأما حديث عبد الله بن بسر رضى الله عنه فإنه أنكر ابطأ الإمام عن وقتها المجمع عليه ) اهـ [المغني والشرح 2/235].

3- قال ابن عبد البر : ( أن عليا رضى الله عنه صلى العيد بالناس وعثمان محصور ... ) ، وقال : ( وقد صلى بالناس في حين حصار عثمان رضى الله عنه جماعة من الفضلاء الجلة منهم أبو أيوب الأنصاري وطلحة وسهل بن حنيف وأبو أمامة بن سهل وغيرهم رضى الله عنهم وصلى بهم علي بن أبي طالب صلاة العيد وقال يحيى بن آدم صلى بهم رجل بعد رجل ... ) ، وذكر عن الخطيب البغدادي في التاريخ بسنده عن ثعلبة بن يزيد الحماني قال : ( لم يزل طلحة يصلي بالناس وعثمان محصور أربعين ليلة حتى إذا كان يوم النحر صلى علي بالناس ) اهـ [الاستذكار 10/36،35،32 ، والتمهيد 10/29].

4- قال ابن عبد البر : ( أما تقديم الصلاة قبل الخطبة في العيدين فعل ذلك جماعة أهل العلم ولا خلاف في ذلك بين الفقهاء الأمصار من أهل الرأي والحديث وهو الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين وعلى ذلك علماء المسلمين إلا ما كان من بني أمية في ذلك ) اهـ [التمهيد 10/254] ، وقال ابن قدامة : ( إن خطبتي صلاة العيدين بعد الصلاة لا نعلم خلافا بين المسلمين إلا عن بني أمية ) ، ثم قال : ( ولا يعتد بخلاف بني أمية لأنه مسبوق بالإجماع وقد أُنكر عليهم فعلهم ) اهـ [المغني والشرح 2/243].
ومعلوم إنكار أبو سعيد الخدري رضى الله عنه عليهم .

5- وكذا مما أحدثه الأمراء في زمن أبي هريرة وابن عباس رضى الله عنهما أحدثوا ترك الجهر بالتكبير إذا انحطوا إلى السجود من الركوع وإذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة ، فأنكر ذلك أبو هريرة وابن عباس ورويا أحاديث رفع الصوت بالتكبير في كل خفض ورفع كما ذكر ذلك ابن عبد البر [في الاستذكار 4/116،119 ، وأشار إليه ابن تيمية في الفتاوى 22/592].

ك ـ والمأمون لمّا ألزم الناس بمذهب الحاكم المخالف للشريعة خالفه علماء أهل السنة .

الرابع من الأدلة :
أن هذا المسلك مخالف هدي أهل السنة والجماعة فإن مذهبهم ومعتقدهم أن الجهاد ماض وقائم مع كل إمام برا كان أو فاجرا , وكذلك الإفتاء بالحق ونصرة المسلمين والدعاء لهم والقنوت في نوازلهم والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعليم الديني وإغاثة المسلمين وجمع التبرعات لهم كل ذلك ماض إلى يوم القيامة مع كل إمام برا كان أو فاجرا , لأن هذه الأمور السابقة فرع الجهاد وجزء منه فلها حكمه في المضي إلى يوم القيامة .

وهذه الشعائر مطلوب فعلها لذاتها ولم تربط هذه الأمور بالإمام على أنها حق له حق تملك يستأثر به ويأخذه أخذ الملاك إن شاء أقامه وإن شاء منعه أو قلله كما يفعل في ملكه وماله وأرضه !

بل جعل في يده جعل أمانة وتكليف لا تشريف , فإذا فرط أو تكاسل أو خان لم يسقط بذلك , لأنه حق للإسلام وللمسلمين إنما شرع لكي يبقى إلى يوم القيامة فيقيمه حينئذ بدله , وبدله هم العلماء لأنهم أحد طرفي أولي الأمر , قال ابن تيمية [الفتاوى كتاب الحدود ج 34ص176] : ( وقوله من قال لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل كما يقول الفقهاء ؛ الأمر إلى الحاكم إنما هو العادل القادر فإذا كان مضيعا لأموال اليتامى أو عاجزا عنها لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه ، والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية مما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه والله أعلم ) اهـ بنصه .

وقال ابن تيمية [في المنهاج 1/141] : ( قال أئمة السلف من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية فهو من أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم ما لم يأمروا بمعصية ) اهـ .

وقال ابن القيم رحمه الله [في إعلام الموقعين ص10] : ( إن قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء ، قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ) , وقال [في إعلام الموقعين ص10] : ( والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم , فطاعتهم تبع لطاعة العلماء ) .

ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } ، قال ابن تيمية : ( من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطأه وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله لا سيما إن اتبع في ذلك هواه ونصره باللسان واليد مع علمه بأنه مخالف للرسول فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه ) اهـ [الفتاوى 7/17,70] ، وقال أيضا : ( إن من رد قول الله ورسوله وخالف أمره لقول أبي حنيفه أو مالك أوغيره له نصيب كامل وحظ وافر من هذه الآية ) [تيسير العزيز الحميد ص488] ، ونحن نقول من رد قول الله ورسوله وخالف أمره لقول الحاكم أو الدولة أو الأمير له نصيب كامل وحظ وافر من هذه الآية .

الخامس من الأدلة :
وإذا كانت الحيل محرمة بالإجماع نقل الإجماع ابن بطة رحمه الله في كتاب إبطال الحيل والبخاري رحمه الله في صحيحه عقد له بابا كاملا وهو فعل ما ظاهره حق المقصود به باطل فكذلك الحيل السياسية وهي تسمية أوضاعهم طاعة ولاة الأمر وهي في الباطن إسقاط للحقوق والواجبات الشرعية الظاهرة . - وكذلك الحيل التيسيرية التي هي من صناعة العصرانيين والانهزاميين - .

السادس من الأدلة :
ثم العبرة بالمقاصد والمآل وفي الحديث " إنما الأعمال بالنيات " وهؤلاء بربطهم هذه الشعائر بالحكام يؤول بهم الأمر إلى إبطالها ومنع نصرة المسلمين والقضاء على الجهاد وإماتة الشعائر الدينية الظاهرة .

السابع من الأدلة :
ثم الإفتاء لأهل الشر بما يساعدهم على شرهم كما يفعل أهل هذا التوجه هم مثل من باع السلاح في زمن الفتنة وهو محرم بالإجماع , قال النووي رحمه الله [في المجموع 9/360] : ( بيع السلاح لأهل الحرب حرام بالإجماع , ومثل من باع العصير لمن يشرب الخمر قال تعالى { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ) .

قال ابن هبيرة [في الإفصاح 1/353,352] : ( واتفق الأئمة الأربعة على كراهية أن يباع العنب لمن يتخذه خمرا , وعلى كراهية البيع بعد النداء الثاني يوم الجمعة ) اهـ.

وهذا فيه رد على العصرانيين والانهزاميين الذين يختارون للناس ما يحقق رغباتهم ، وسبب ذلك سدا للذريعة فكيف تربط هذه الشعائر الظاهرة من الجهاد وغيره بأناس لا يهتمون بها ولا يسعون إلى إقامتها بل إلى إماتتها فربط ذلك بهم سبب إلى تعطيلها .

الثامن من الأدلة :
والمفتي وفق الرغبات والأهواء السياسية باسم الطاعة أو الذي سلط الحكام على إماتة الشعائر الظاهرة مثل القاضي الجائر ومثل القاضي هوى وقد جاء في الحديث " القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار ثم ذكر القاضي الجائر والقاضي الجاهل " رواه أبو داود عن بريدة رضي الله عنه . وكذا المفتون والعلماء ثلاثة , والجائر هو الذي يجاري رغبات الحكام والأمراء أو يسلط الحكام على إماتة الشعائر الظاهرة .

أما مخالفته للإجماع ففي النقولات التالية :

أ ـ نقولات الإجماع الكثيرة التي نقلناها من رسالة ابن تيمية السابقة فارجع إليها أعلاه .

ب ـ قال الشافعي رحمه الله : ( أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس ) وكلمة الناس عامة في الحكام وغيرهم !

ج ـ قال ابن عبد البر : ( أجمع العلماء على أن من أمر بمنكر لا تلزم طاعته ) .اهـ [التمهيد 23/277] / والأمر باتباع مذهب الحكام منكر كما سبق من الأدلة .

د ـ ونقل تيسير العزيز الحميد [ص490] عن ابن تيمية : ( اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز تقليد أحد في خلافه ) .اهـ

هـ ـ وقال ابن تيمية أيضا : ( أهل السنة لا يجوزون طاعة الإمام في كل ما يأمر به بل لا يوجبون طاعته إلا فيما يسوغ طاعته فيه في الشريعة ) .اهـ [المنهاج 2/76] ، وقال ابن تيمية أيضا رحمه الله : ( الإمام العدل وجبت طاعته فيما لم يعلم أنه معصية , وإذا كان غير عدل فتجب طاعته فيما علم أنه طاعة كالجهاد ).اهـ [الفتاوى 29/196], وانظر إلى تفريقه بين العدل وبين غيره في مسألة الطاعة .
وقال أيضا : ( فليس لأحد إذا أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر أن ينظر هل أمر الله به أم لا بخلاف أولي الأمر فإنهم قد يأمرون بمعصية الله , فليس كل من أطاعهم مطيعا لله بل لابد فيما يأمرون به أن يعلم أنه ليس بمعصية لله وينظر هل أمر الله به أم لا ) . اهـ [الفتاوى 10/267]. ثم وازن بين كلام هذا الإمام رحمه الله وبين كلام هؤلاء .

و ـ قال عبد الرحمن بن حسن رحمه الله : ( إن من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه كما قال ابن عباس رضي الله عنه والشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله وذلك مجمع عليه ) .اهـ [في فتح المجيد ص344] ، وقال عبد الرحمن بن حسن رحمه الله [في فتح المجيد ص346] : ( والأئمة رحمهم الله نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة . اهـ وعليه ينهى عن تقليد الدولة إذا استبانت السنة ) .

ز ـ وقد اتفق الأئمة الأربعة رحمهم الله على أنه إذا خالف قولهم الكتاب والسنة أنه يضرب به عرض الحائط , وكذلك يقال في مذهب الحاكم إذا خالف الشريعة .
ويقال أيضا في مسلك ومنهج العصرانيين والانهزاميين .

الأدلة من القياس على مخالفة هذا التيار :

ووجه الدلالة هو تحريم السلف للتعصب المذموم في مسألة تقليد المذاهب الأربعة : إما تقليدهم في الخطأ أو نصب عالم معين يتبعه مطلقا ويُمنَع من غيره . ومثل ذلك في تقليد البلدان , فقسنا عليه تقليد الحكام . وكان السلف والأئمة السابقون قاوموا بدعة تقليد العلماء والتعصب لهم ثم بدعة تقليد البلدان على وجه التعصب ثم تطور الأمر في الوقت الحاضر إلى بدعة تقليد الأمراء والحكام . وتوضيح القياس يكون في النقاط التالية :

1- تقاس على مسألة تقليد المذاهب الأربعة المعروفة على وجه التعصب ، قال ابن القيم رحمه الله في مقلدة العلماء حيث تكلم عن فرقة ضالة " كانت إذا نزلت نازلة لم يجز عندهم أن ينظر في الكتاب ولا السنة ولا أقوال الصحابة بل ينظر إلى ماذا قال مقلده ومتبوعه وجعله معيارا للحق " . اهـ [إعلام الموقعين ص257] ، ونحن نقول ما قال ابن القيم في مقلدة العلماء نقول مثلهم مقلدة الأمراء والحكام يجعلونهم معيارا على الحق .

وقد ناقش بدعة تقليد العلماء التقليد المحرم ابن عبد البر رحمه الله في جامعه عن العلم , وابن حزم رحمه الله في كتبه وابن تيمية رحمه الله وابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين في ثلاثين صفحة [من ص227 إلى ص260] , والخطيب رحمه الله في كتابه الفقيه والمتفقه والشوكاني رحمه الله والصنعاني رحمه الله وجمع من أهل العلم , حتى أصبح مبحثا يُبحث في أصول الفقه بعنوان التقليد .

وإذا كان الله قد حرم تقديم أقوال العلماء بين يدي الله ورسوله قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } فكيف بالحكام قليلي العلم الشرعي بل عادميه ؟ .

2- تقاس على مسألة تقليد البلدان : مثل مسألة إجماع أهل المدينة .

وناقش ابن القيم رحمه الله من أوجب عمل أهل المدينة [في إعلام الموقعين] ، وقال : ( ومالك على تعظيمه أهل المدينة ما كان يرى أنه واجب على غيرهم العمل به وقصته مع الرشيد شاهد على ذلك ) ، وذكر ابن القيم في إعلام الموقعين قصة مالك مع الرشيد فقال : ( بل مالك رحمه الله نفسه منع الرشيد رحمه الله من ذلك وقد عزم عليه وقال له قد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد وصار عند كل طائفة منهم علم ليس عند غيرهم ) . اهـ مختصرا والقصة معروفة .

قال ابن القيم رحمه الله : ( وعمر رضي الله عنه ومن بعده من الخلفاء لم يأمر أحد منهم أهل الأمصار ألا يعملوا بما عرفوه من السنة وعلمهم إياه الصحابة إذا خالف عمل أهل المدينة وأنهم لا يعملون إلا بعمل أهل المدينة ) .

وما يقال فيمن أوجب مذهب الحاكم هو مثل من أوجب مذهب المدينة أو مذهب عالم معين . ووصف من خالف مذهب الحاكم أو الدولة بالخروج والفتنة أو بالحرورية والتكفير هو مثل من وصف من خالف مذهب أهل المدينة أو مذهب عالم معين بالخروج والفتنة ، وهذا أتى بما لم تأت به الأوائل , وخالف إجماعهم في هذا ، وابتدع وخالف هدي الصحابة والقرون المفضلة .

3- تقاس المسائل السابقة على مسألة دفع الصائل فإن ذلك يُفعل ولا يربط بإذن الإمام بالإجماع .

4- على قول الفقهاء أنه تجوز عقد مدة في العهد مع الكفار ما لم تُؤد إلى تعطيل الجهاد , فإن عطلته لم يجز , ونحن نقول الإذن جائز ما لم يُؤد إلى تعطيل الجهاد , فإن عطلته لم يجز .

5- تقاس على مسألة أن الجمعة أو صلاة الجماعة أو الصيام أو الحج أو الأذان للصلوات لا تقام إلا بإذن الإمام لكن إن سوّف الإمام في إقامتها وقد وجبت أو منع من إقامتها مراعاة لأهواء معينة له أو لغيره فهل يقول عاقل فضلا عن مسلم أنه لا بد من إذنهم ولا تُفعل حتى يأذنوا , بل يُقال تقام بإذن العلماء أحد طرفي ولاة الأمر , والأصل مراعاة إقامة الشعائر أولى من مراعاة الحكام وهؤلاء عكسوا القضية .

وقائع تاريخية في ذلك :

أنه بعد قتل المستعصم رحمه الله وهو آخر خليفة عباسي في بغداد على يد التتار بقي الناس مدة طويلة - ثلاث سنوات - لا خليفة لهم ومع ذلك بقي الناس يقيمون الجهاد والشعائر الظاهرة والحقوق والواجبات الشرعية كما كانوا من قبل ولم يعطلوها بحجة عدم وجود خليفة أو عدم إذنه .


مسألة
أما لو احتج محتج بأن هذا فعل بعض العلماء المتأخرين رحمهم الله ؟

قلنا له لم تفهم صورة المسألة التي عملها بعض أهل العلم وهي :

أ ـ أن العمل المباح - لاحظ قيد الإباحة - الذي تعددت صوره وكل صورة مباحة فهذا لا مانع من جمع الناس على أحد الصور لمصلحة الجمع وعدم التفرق كما فعل عثمان في جمع المصحف فإن القراءات كانت كلها مباحة على سبعة أحرف كلها شاف كاف , ومثله تنوع صور الأذان للصلاة وغير ذلك .

ب ـ وكذلك إذا كان الصور متعددة والتعدد تخيير للشخص - لاحظ للقيد أنه تخيير تشهي أو اختيار مصلحة - ثم ظهر تلاعب فللحاكم أن يُعزر بالاقتصار على بعض الصور ما لم يُؤد إلى مفسدة كما فعل عمر رضي الله عنه في جعل الثلاث في الطلاق حيث أمضاه ثلاثا تعزيرا وعقوبة لمن تعجل في أمر له فيه أناة , ولمّا ظهر التحايل ونكاح التحليل في زمن ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله أفتيا بعودة الأمر إلى العتيق الأول - ذكر ذلك الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله [في فتاويه 11/28] -

ج ـ أما ما كان من المسائل الاجتهادية ورأى الحاكم العادل أو الحاكم حسن النية الأخذ بأحد الأقوال وكان ملاحظا في أمره مصلحة المسلمين ما لم يعارض ذلك مفسدة أخرى وقصد مصلحة المسلمين لم يقصد مصلحته الخاصة أو مصلحة بقاء ملكه أو مصلحة إرضاء جهات أخرى معادية للإسلام والمسلمين , فإن هذا أجازه بعض أهل العلم .

وهنا احب أن أقف لحظة لتبيين ماذا يُقصد بالمصلحة ، وأنقل هنا كلاما جميلا لابن سحمان رحمه الله [في جامع الرسائل والمسائل النجدية 3/165] ردا على من فهم فهما خاطئا من كلام بعض الفقهاء أنه يجوز الاستعانة بالمشرك عند الضرورة , وظن هذا المستدل أن الضرورة عائدة لمصلحة الحاكم ، فقال ابن سحمان ردا على ذلك قال : ( غلط صاحب الرسالة في معرفة الضرورة فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر في رياسته وسلطانه وليس الأمر كما زعم ظنه بل هي من ضرورة الدين وحاجته إلى من يعين عليه وتصلح به مصلحته كما صرح به من قال بالجواز وقد تقدم ما فيه والله أعلم ) . اهـ

وهذه قاعدة عامة وقيد مهم في فهم ماذا يقصد العلماء إذا قيدوا فعل الحاكم بالمصلحة أو الضرورة أنها مصلحة وضرورة الدين والمسلمين وليس مصلحة ضرورة أهواء الحكام والمحافظة على كراسيهم ودنياهم ، فإذا كان الأمر بهذه الطريقة فهذا الذي أجازه بعض أهل العلم وقالوا يسوغ اتباعه من باب مراعاة المصالح , بعد مراجعة العلماء المعتبرين .

على أن هذا القول فيه خلاف فلا يُسلّم به بعض أهل العلم ويمنعونه ولا يجيزون حتى هذه المسألة ولهم سلف في ذلك من الصحابة كما سبق ذكره ! وعلى كل ليس مسلكهم مسلك هؤلاء المتأخرين فيستغلون هذا القول الذي قيل به من أجل نفع الحكام وتحقيق رغباتهم من خلال هذا القول فيكون منهجا عندهم ويعممونه في كل مسألة ، مع أن من قال به جعله من باب الاستثناء و الطارئ لا من باب الأصل والمنهج !!

والعلماء السابقين الذين قالوا بهذا القول أحيانا لم يكونوا يضللون من خالفهم ويتهمونه بالاستعجال والحماس غير المنضبط أو بالخروج أو الفتنة أو يسجن أو يضيق عليه ويطلب منه أن يعتذر أو يتبرأ من الحق الذي قاله أو يتعهد بعدم التكرار فهذا من الظلم والاعتداء وعند الله تجتمع الخصوم { ولا تحسبن الله غافلا عما يفعل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } علما بأننا لو سلمنا بهذه المسألة فإنه يكون للحاجة لا منهجا مطردا أو مسلكا عاما ويُتخذ عصا وعُكازة في وجه العاملين والمجاهدين والعلماء الربانيين فيُمنعون بذلك ثم يُجعل هو الأصل , والله غالب على أمره ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز القوي . ومعلوم أن الحاجة تقدر بقدرها ولا تُنزل منزلة الدوام . ثم هناك فرق بين المنع العام كمنهج عام وبين المنع الخاص في مسائل خاصة لمصلحة المسلمين هذا كله على فرض التنزل والمجاراة .

وعلى كل فإن القاعدة المجمع عليها أن ما كان فيه اختلاف ما بين مجيز ومانع فهذا الحاكم فيه الكتاب والسنة لا لأحد من العلماء ولا لأحد من الحكام - وقد مضى في رسالة ابن تيمية التي نقلناها ذكر الإجماع فراجعه - قال تعالى { وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ولم يقل إلى حاكم أو دولة .

قال ابن القيم : ( أجمع الناس أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه وإلى سنته بعد وفاته ) .

قال الشافعي رحمه الله : ( أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس ) ، وكلمة الناس عامة في الحكام وغيرهم !

وروى ابن أبي شيبة بسنده عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال : ( لا أرى لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .

وهذا التوجه الجديد في الآونة الأخيرة مر بمراحل :
فكانت أولا بدعة تقليد الحكام ثم تطورت إلى بدعة تقليد أهواء الحكام ثم هذه تدرجت إلى:

1- لوم من خالف مذهب الحاكم أو الدولة المخالف للشريعة .
2- إلزام الناس به .
3- معاقبة من خالفه .
4- واتهامه بالخروج أو الفتنة أو الشذوذ أو التكفير أو الحماس أو الاستعجال .

والخلاصة :
أن ربط شعائر الدين الظاهرة من الجهاد وفروعه أو الإفتاء وربط الأحكام الفقهية كالقنوت والهجرة وغيرها , وربط الحقوق الشرعية كالنصرة ودفع الظلم والدعم للمسلم وغير ذلك بقول إمام معين أو حاكم معين أو استشارة علماء معينين أو أهل بلد معين أو بالتربية أو التكافؤ مع العدو أو بالتدرج ونحوه فهذا ربط بشيء ما أنزل الله به من سلطان ؟ فأين الدليل على ذلك , قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين , بل هو من الأمور المحدثة في الدين وخلاف هدي القرون المفضلة كما سبق توضيحه . فكيف يُعاد التعصب المذموم من جديد بصورة أخرى . وبدلا أن يُعلق بالعلماء عُلق بالحكام والأمراء . وكذا بالعصرانيين والانهزاميين .


فصل

وهذا الفصل يتناول قضية الإذن بشكل خاص فنقول : المسألة مبنية على أصول ترد إليها وعلى أدلة خاصة :

الأصل الأول :
أن الخطاب للمسلمين لكن أُنيط الحكم بالولاة من أجل العمل لأن إناطته بجميع أفراد الأمة يؤدي إلى الفوضاء فأنيط برؤوسهم وسادتهم للتنفيذ ولضبط الأمور وإقامتها على الوجه الأكمل , لأنه وكيل عن المسلمين , لا أنه حق لهم يصير في أيديهم كالملاك له يتصرفون فيه كما شاؤا بل هو تكليف للتنفيذ وليس تمليكا , فإذا قصروا أو سعوا في إبطال ما أنيط بهم انتقل إلى الأقرب فالأقرب كالعلماء وأهل الحل والعقد وأهل الشوكة . . . الخ .

قال ابن تيمية [في الفتاوى كتاب الحدود ج 34/175] : ( خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابا مطلقا كقوله { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } وقوله { الزانية والزاني فاجلدوا } وقوله { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } وكذلك قوله { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لا بد أن يكون قادرا عليه والعاجزون لا يجب عليهم وقد علم أن هذا فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد بل هو نوع من الجهاد فقوله { كتب عليكم القتال } وقوله { وقاتلوا في سبيل الله } وقوله { إلا تنفروا يعذبكم } ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين , والقدرة هي السلطان فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه .
والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة : لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق ولهذا قال العلماء إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم فهذا عند تفرق العلماء وتعددهم وكذلك لو لم يتفرقوا لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة فإن ذلك أيضا إذا أسقط عنه إلزامهم بذلك لم يسقط عنهم القيام بذلك بل عليهم أن يقيموا ذلك وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق أو إضاعته لذلك لكان ذلك الفرض على القادر عليه .
وقول من قال لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل كما يقول الفقهاء : الأمر إلى الحاكم إنما هو العادل القادر فإذا كان مضيعا لأموال اليتامى أو عاجزا عنها لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه .
والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه والله أعلم ) . اهـ بنصه .

وفي كتاب التاج والإكليل في فقه المالكية [2/381] قال ابن الماجشون : ( إذا كان الناس مع إمام يضيع أمر الهلال فلا يدع ذلك من أنفسهم فمن ثبت عنده برؤية من يثق بصدقه صام عليه وأفطر وحمل عليه من يقتدي به ) اهـ .

الأصل الثاني:
مبني على قاعدة أهل الولايات المنوط بهم الولايات أن عملهم مبني على الوكالة وليس على التملك وتصرفهم فيها تصرف الوكيل المراعي للمصلحة وليس تصرف المالك حسب رغبته .

والولايات مثل الإمام وما دونه من الأمير ونحوه والقاضي والولي في النكاح كالأب وغيره من العصبات وكالناظر في الوقف وكالوصي في الوصية وولاية الملتقط في اللقطة وولاية الأم في مدة الحضانة والإمام في الصلاة والوكيل في البيع والشراء ونحو ذلك . فالقاعدة في هؤلاء :

أ- إنهم يتصرفون حسب المصلحة والأحظ للعمل المنوط بهم .
ب- أن من فسد منهم في عمله لا يقر عليه بل ينتقل إلى من بعده إن كان فيه تسلسل وترتيب وإلا انتقل إلى بديل شرعي مناسب .
ج- أنهم ليسوا ملاكا لما ولوا عليه يتصرفون فيه تصرف الملاك أو هو ملازم لهم لا ينفك عنهم ملازمة الأعضاء للإنسان .
د- أن تصرفهم في مصلحة العمل المنوط بهم أما إذا عاد تصرفهم على العمل المنوط بالإفساد والإبطال لم يُقروا عليه .

وفروع هذا القاعدة كثيرة وهي كالتالي :

1- قياس الإمامة الكبرى على الإمامة الصغرى وهي إمامة الصلاة فإن إمام الصلاة إذا تأخر عن الوقت المعتاد أو شق على الناس جاز لهم أن يقيموا غيره وسقط حقه في الإذن وحل محله الأهل للإمامة في الصلاة , خصوصا إذا تأخر تأخرا يؤدي إلى مقاربة خروج الوقت فإنه يعود على العبادة بالإبطال فلا يُقر على عمله فضلا أن يوجب أخذ إذنه , فقد جاء في الصحيح أن عبد الرحمن بن عوف صلى بالناس في غزوة لما تأخر الرسول صلى الله عليه وسلم وقد صوّب الرسول فعله وأثنى عليه .

2- وكذا الصيام وفي كتاب التاج والإكليل في فقه المالكية [2/381] قال ابن الماجشون : ( إذا كان الناس مع إمام يضيع أمر الهلال فلا يدعوا ذلك من أنفسهم فمن ثبت عنده برؤية من يثق بصدقه صام عليه وأفطر وحمل عليه من يقتدي به ) اهـ .

3- أن ولي المرأة إذا تقدم لها الكفء ثم تأخر عن تزويجها بدون عذر شرعي فإنه يسمى عاضلا وتسقط ولايته بذلك قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن } وتنتقل إلى من بعده من العصبات خصوصا إذا تأخر تأخرا يؤدي إلى عزوف الخُطّاب وهجرهم للمرأة , قال ابن تيمية [في الاختيارات ص205] : ( وتزويج الأيامى فرض كفاية إجماعا فإن أباه حاكم إلا بظلم , كطلبه جعلا لا يستحقه صار وجوده كعدمه ) . اهـ

4 ـ الوصي إذا تأخر في نفع ما أنيط به مما يؤدي إلى تعطيل ذلك تُنزع منه الوكالة والوصاية ، وكذا ناظر الوقف كالوصية .

5 ـ والأم لها حق الحضانة بعد الطلاق وفق الشروط المعروفة فإن كانت مضيّعة للمحضون أو معطلة له ونحوه سقط حقها في ذلك مراعاة لمصلحة المحضون وانتقلت الولاية إلى من بعده .

6 ـ السيد مع عبده فإن العبد ليس له أن ينكح إلا بإذن سيده للحديث المرفوع " أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه وأهله فهو عاهر " صححه الترمذي . ولكن لو امتنع السيد أجبر على بيعه أو تزويجه وسقط حقه في الإذن .

وهكذا والشاهد من هذه الأمثلة أن الحاكم أنيط به مسئولية الجهاد وإقامة الشعائر الظاهرة والحقوق والواجبات الشرعية لأنه وكيل عن المسلمين فإذا لم يأذن فيه أو عطله مراعاة لمصلحة حكمه ودنياه أو مراعاة لمصالح فاسدة سقط حقه في الإذن وانتقل الأمر إلى النوع الثاني من أولي الأمر وهم العلماء يفتون فيه ويأذنون في ذلك لأن فعل الحاكم السياسي عاد على الأمور السابقة بالإبطال والنقص فانتقل إلى الحاكم الديني , فهو تماما مثل أهل الولايات السابقة التي ذكرنا , لمّا ضيعوا أو عاد فعلهم على ذات الولاية التي تولاها بالإبطال . ولا يملكون ما تولّوا عليه ملك رقبة لا تتعداهم إلى غيرهم وإن ضيّعوا وأفسدوا فهذا ما تتنزه عنه الشريعة المحكمة ويأباه العقلاء وأهل الفطر السليمة .

وليس تعليق الجهاد والشعائر الظاهرة بالإمام هو أمر تعبدي حتى يُقال لا يتعداه إلى غيره , بل هو أمر معلوم المعنى له علة معقولة وهي من باب ضبط إقامة هذه الأمور وتسهيل أمرها ومراعاة مصالحها وقطع الفوضاء فيها , فإذا كان تعليق الإذن بهم أدى إلى نقيض ذلك لم يُقر هذا .

الأصل الثالث :
إن الجهاد والفتوى وشعائر الدين الظاهرة هذه مطلوب فعلها لذاتها مثل صلاة الجمع والجماعات والعيد والأذان والحج وغيرها وأنيطت بالحكام من باب إقامتها وتنفيذها ولذا مذهب أهل السنة والجماعة إقامتها مع كل إمام برا كان أم فاجرا , لأن عدم إقامتها لفجورهم يؤدي إلى ضياع تلك الشعيرة الظاهرة المقصودة لذاتها فعلا وظهورا . فإذا كان من أنيطت بهم منعوا ذلك وعطلوه أو سوّفوا فيه تسويفا يؤدي إلى إبطالها أو راعوا في ذلك مقاصد فاسدة أو عطلوها لإرضاء جهات معينة , عندئذ لا يُراعَوا في ذلك ويصبح تعليق الأمر بإذنهم مع أنهم يسعون في عدم إقامتها أو إقامتها متى ما خدمت أغراضهم , هذا إعانة على ضياعها { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } مثل لو قلنا مثلا أن الجمعة أو صلاة الجماعة لا تقام إلا بإذن الإمام أو الحج أو الأذان للصلوات ثم الإمام سوّف في إقامتها وقد وجبت أو منع من إقامتها مراعاة لأهواء معينة له أو لغيره فهل يقول عاقل فضلا عن مسلم أنه لا بد من إذنهم ولا تُفعل حتى يأذنوا , بل يُقال تقام بإذن العلماء أحد طرفي ولاة الأمر , والأصل مراعاة إقامة الشعائر أولى من مراعاة الحكام وهؤلاء عكسوا القضية .

بل إنه من أجل إقامة الشعائر الظاهرة عُفي عن الطواف أو السعي في أماكنها ولو كان فيها أصنام أو شرك أو نجاسة كما قيل في سبب نزول قوله تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } وأذن في إقامة الحج ولو كان بمخالطة المشركين كما حج أبو بكر بالناس وقد حضر الموسم كفار بعد فتح مكة , بل كان المسلمون يحجون ويعتمرون قبل صلح الحديبية كما في قصة ثمامة بن أثال .

أما الأدلة الخاصة :

1- من الأدلة قوله تعالى { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } ، ومثل قول ابن حزم : ( يقاتل ولو وحده ) .
قال القرطبي [في تفسيره ج 5 / 293] : ( { فقاتل } كأن هذا المعنى لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك لأنه وعده بالنصر قال الزجاج أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده لأنه قد ضمن له النصرة قال ابن عطية هذا ظاهر اللفظ إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة مدة ما فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده ) اهـ . ونقله عنه الشوكاني في فتح القدير مقررا له .

وقال ابن حزم [في المحلى كتاب الجهاد المسألة رقم 929] : ( كما يغزي مع الإمام ويغزو المرء أهل الكفر وحده إن قدر ) اهـ

2 ـ قصة أبي بصير فإنه أقام الجهاد بدون إذن الإمام .

3 ـ قصة سلمة بن الأكوع فإنه دافع وجاهد بدون إذن الإمام وهي في صحيح مسلم : قال سلمة بن الأكوع كانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد قال فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال أخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت من أخذها قال غطفان قال فصرخت ثلاث صرخات يا صباحاه قال فأسمعت ما بين لا بتي المدينة ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم بذي قرد - وهذا الشاهد أنه فعل ذلك بدون إذن الإمام - فجعلت أرميهم بنبلي وكنت راميا وأقول أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فأرتجز حتى استنقذت اللقاح منهم واستلبت منهم ثلاثين بردة قال وجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس فقلت يا نبي الله إني قد حميت القوم الماء وهم عطاش فابعث إليهم الساعة فقال يا بن الأكوع ملكت فأسجح ثم رجعنا ويردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى دخلنا المدينة .

4- قصة الأشجعي رضى الله عنه ، قال الطبري في تفسير قوله { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } حدثنا محمد قال ثنا أحمد قال ثنا أسباط عن السدي في قوله { ومن يتق الله يجعل له مخرجا} زعم أن رجلا من أصحاب النبي يقال له عوف الأشجعي كان له ابن وأن المشركين أسروه فكان فيهم فكان أبوه يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيشكوا إليه مكان ابنه وحالته التي هو بها وحاجته ، فكان رسول الله يأمره بالصبر ويقول له إن الله سيجعل له مخرجا فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا إذ انفلت ابنه من أيدي العدو فمر بغنم من أغنام العدو فاستاقها ( وهذا هو الشاهد أنه فعل ذلك من دون إذن الإمام ) فجاء بها إلى أبيه وجاء معه بغنى قد أصابه من الغنم فنزلت هذه الآية { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } ثم ذكر الرواية من طريقين آخرين . اهـ

وساقها أيضا القرطبي [في تفسيره 18/160] : ( وقال , قال : أكثر المفسرين فيما ذكره الثعلبي إنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي عن أبي صالح عن ابن عباس ) ، ثم ذكر القصة . وذكر القصة أيضا ابن كثير في تفسيره عند آية { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } .

5- مثل إقامة الجمعة زمن حصار عثمان رضي الله عنه . قال ابن عبد البر أن عليا رضى الله عنه صلى العيد بالناس وعثمان محصور. . . وقال : وقد صلى بالناس في حين حصار عثمان رضى الله عنه جماعة من الفضلاء الجلّة منهم أبو أيوب الأنصاري وطلحة وسهل بن حنيف وأبو أمامة بن سهل وغيرهم رضى الله عنهم وصلى بهم علي بن أبي طالب صلاة العيد وقال يحيى بن آدم صلى بهم رجل بعد رجل. . . وذكر عن الخطيب البغدادي في التاريخ بسنده عن ثعلبة بن يزيد الحماني قال لم يزل طلحة يصلي بالناس وعثمان محصور أربعين ليلة حتى إذا كان يوم النحر صلى علي بالناس اهـ [الاستذكار 10/36،35،32 | والتمهيد 10/29].

6- فعل خالد بن الوليد في غزوة مؤتة [زاد المعاد 3/383] لما قُتل الولاة الثلاثة أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني عجلان فقال يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم قالوا : أنت , قال ما أنا بفاعل فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فلما أخذ الراية دافع القوم وحاش بهم ثم انحاز بالمسلمين وانصرف بالناس . اهـ من أجل المصلحة والضرورة ولم يقل أحد منهم لا بد من إذن ولي الأمر في هذا التنصيب لأن أخذ إذنه غير متيسر ويُفضي إلى الضياع .

7- قال صاحب المغني في كتاب الجهاد : ( إذا عدم الإمام لم يؤخر الجهاد وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب الشرع ) . اهـ [10/374].

وقال البهوتي في كتاب الجهاد في كشاف لقناع : ( فإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد لئلا يستولي العدو على المسلمين وتظهر كلمة الكفر وإن حصلت غنيمة قسموها على موجب الشرع كما يقسمها الإمام على ما يأتي بيانه في باب قسمة الغنيمة ) . اهـ وفي كتاب التاج والإكليل في فقه المالكية [2/381] قال ابن الماجشون : ( إذا كان الناس مع إمام يضيع أمر الهلال فلا يدعوا ذلك من أنفسهم فمن ثبت عنده برؤية من يثق بصدقه صام عليه وأفطر وحمل عليه من يقتدي به ) .

تنبيه : انتهى مقصودنا من البحث ، ولكن تتميما للفائدة فإننا ننقل رسالتين لابن تيمية مناسبة لبحثنا هذا جعلناه بمثابة مسك الختام :


فصل
الرسالة الأولى

لما رد [في الفتاوى 27/ 214] على سؤال حكم من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، وأفتى بالمنع كما هو الإجماع وساق كلام أهل العلم ، ووافقه على ذلك علماء عصره . لكن عارضه في ذلك أربعة من القضاة ، ذُكرت أسماؤهم في الفتاوى [2/ 289] ، وأصدروا في حقه بيانا ، وأفتوا بحبسه وزجره وأن يُشهر أمره ويمنع من الفتوى!

فرد ابن تيمية رحمه الله على ما عارضوا به فتواه ، وبين أن ردهم باطل مخالف للإجماع ، ورد عليهم من وجوه كثيرة بلغت 42 وجها : سننقل منها إن شاء الله ما يتعلق بموضوعنا فقط : فمن ذلك

1- قال في الوجه الثامن : أن ما تنازع فيه العلماء يجب رده إلى الله والرسول وهؤلاء لم يردوه إلى الله ولا إلى الرسول بل قالوا إنه كلام باطل مردود على قائله بلا حجة من كتاب الله ولا سنة رسوله وهذا باطل بالإجماع .

2- الوجه الثاني عشر ؛ أن ما تنازع فيه العلماء ليس لأحد من القضاة أن يفصل النزاع فيه بحكم وإذا لم يكن لأحد من القضاة أن يقول حكمت بأن هذا القول هو الصحيح وأن القول الآخر مردود على قائله بل الحاكم فيما تنازع فيه علماء المسلمين أو أجمعوا عليه قوله في ذلك كقول آحاد العلماء إن كان عالما وإن كان مقلدا كان بمنزلة العامة المقلدين والمنصب والولاية لا يجعل من ليس عالما مجتهدا عالما مجتهدا ولو كان الكلام في العلم والدين بالولاية والمنصب لكان الخليفة والسلطان أحق بالكلام في العلم والدين وبأن يستفتيه الناس ويرجعوا إليه فيما أشكل عليهم في العلم والدين فإذا كان الخليفة والسلطان لا يدعى ذلك لنفسه ولا يلزم الرعية حكمه في ذلك بقول دون قول إلا بكتاب الله وسنة رسوله فمن هو دون السلطان في الولاية أولى بأن لا يتعدى طوره ولا يقيم نفسه في منصب لا يستحق القيام فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء الراشدون فضلا عمن هو دونهم فإنهم رضى الله عنهم إنما كانوا يلزمون الناس بإتباع كتاب ربهم وسنة نبيهم وكان عمر رضى الله عنه يقول إنما بعثت عمالي أي نوابي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ويقسموا بينكم فيئكم ، بل هذه يتكلم فيها من علماء المسلمين من يعلم ما دلت عليه الأدلة الشرعية الكتاب والسنة فكل من كان أعلم بالكتاب والسنة فهو أولى بالكلام فيها من غيره وإن لم يكن حاكما والحاكم ليس له فيها كلام لكونه حاكما بل إن كان عنده علم تكلم فيها كآحاد العلماء فهؤلاء حكموا فيما ليس لهم فيه الحكم بالإجماع وهذا من الحكم الباطل بالإجماع .

3- الوجه الثالث عشر : أن الأحكام الكلية التي يشترك فيها المسلمون سواء كانت مجمعا عليها أو متنازعا فيها ليس للقضاة الحكم فيها بل الحاكم العالم كآحاد العلماء يذكر ما عنده من العلم وإنما يحكم القاضي في أمور معينة وأما كون هذا العمل واجبا أو مستحبا أو محرما فهذا من الأحكام الكلية التي ليس لأحد فيها حكم إلا الله ورسوله . وعلماء المسلمين يستدلون على حكم الله ورسوله بأدلة ذلك وهؤلاء حكموا في الأحكام الكلية وحكمهم في ذلك باطل بالإجماع .

4- الوجه الخامس عشر : ذكر أن القاضي ليس له حق أن يحكم على علماء المسلمين في الأحكام الكلية التي لا حكم له فيها بالإجماع .

5- الوجه السابع عشر : قال في المسائل العلمية إذا تنازع حاكم وغيره من العلماء في تفسير آية أو حديث أو بعض مسائل العلم لم يكن للحاكم أن يحكم عليه بالإجماع فإنهما خصمان فيما تنازعا فيه والحاكم لا يحكم على خصمه بالإجماع .

6- الوجه التاسع عشر : أنه لو كان أحدهم عارفا بمذهبه لم يكن له أن يلزم علماء المسلمين بمذهبه ولا يقول يجب عليكم أنكم تفتون بمذهبي وأي مذهب خالف مذهبي كان باطلا من غير استدلال على مذهبه بالكتاب والسنة ولو قال من خالف مذهبي فقوله مردود ويجب منع المفتى به وحبسه لكان مردودا عليه وكان مستحقا العقوبة على ذلك بالإجماع .

7- الوجه العشرون : من منع عالما من الإفتاء مطلقا وحكم بحبسه لكونه أخطأ في مسائل كان ذلك باطلا بالإجماع فالحكم بالمنع والحبس حكم باطل بالإجماع فكيف إذا كان المفتى قد أجاب بما هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول علماء أمته .

8- الوجه الحادي والعشرون أن المفتى لو أفتى في المسائل الشرعية مسائل الأحكام بما هو أحد قولي علماء المسلمين - بصدق وليس هوى وتشهيا وعصرانية وفقه تيسير - واستدل على ذلك بالكتاب والسنة وذكر أن هذا القول هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة