المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقالات الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل{خطر فتنة المنافقين وظهورهم }


أبو الفداء الأندلسي
05-14-2008, 05:07 AM
خطر فتنة المنافقين وظهورهم



عندما يتمكن الكفار الصرحاء ويظهرون على المسلمين، فإنَّ في هذا فتنة ومصيبة ولا شك، ولكن أعظم منها فتنة عندما يتمكن المنافقون المبطنون للكفر والزندقة والمظهرون للإسلام والانتساب إليه، كما هو الحال في تمكن العلمانيين في أكثر بلدان المسلمين، أو تمكن دولة الرفض الخمينية التي تخدعُ الناس الجهلاء بحبِ آل البيت وحب الإسلام، وهي تبطن كره الإسلام الحق، وتبغض السنة وأهلها، وتتمنى ذلك اليوم الذي تظهر فيه على أهل الإسلام؛ فلا ترقب فيهم إلاً ولا ذمة، وأوضح مثال لذلك ما قصهُ التاريخ الموثق علينا عن دور الرافضة في دخول التتار إلى ديار المسلمين، والأفاعيل الشنيعة التي فُعلت بالمسلمين في بغداد وغيرها؛ وكان من أسباب ذلك ممالأة ابن العلقمي الرافضي وطائفته لرئيس التتار، وخيانته للخليفة العباسي الذي كان قد استوزره وقربه.

والسبب في كون فتنة المنافقين أشدُّ من الكفار، هو أنَّ الكافر يعرفه الناس ويأخذون الحذر منه، ويبقى في النفوس بغضه وترقب اليوم الذي يزول فيه. أما المنافق الخادع للناس باسم الإسلام فقد يحبُهُ أكثر الناس وينخدعون به، فلا يبقى في النفوس بغضه وتمني زواله، فينشأ من ذلك فتنة وفساد كبير.

ومن أخطر صور الفتنة بالمنافقين، صورة رئيسية واحدة، تنبثق منها كل أشكال الفتنة بالمنافقين ألا وهي:

فتنة الخداع والتلبيس [1]

وهي من أشد أنواع الفتن وبخاصة في عصرنا الحاضر، الذي تسلط فيه المنافقون على أكثر ديار المسلمين، وتمكنوا من وسائل التأثير والإعلام، التي تعمل ليل نهار في خداع الناس باسم الإسلام والاحتفالات بمناسباته، وهم الذين أقصوا الإسلام عن الحكم والتحاكم، وهم الذين يسعون لتشويهه وإظهاره للناس بأنَّه صلةً بين العبد وربه، ولا دخل له بعد ذلك في شئون الحياة الأخرى.

ومن صور فتنة الخداع والتلبيس ما يلي :

ا- تسويغهم عزل الإسلام عن الحياة الاقتصادية والسياسية وغيرها من شئون الحياة، بقولهم: إنَّ دين الإسلام دين الصدق والنظافة والتقوى،

وكل هذا لا يتفق مع ألاعيب السياسة، ومهاترات السياسيين وأكاذيبهم؛ فلهذا ينبغي أن يترفع بالإسلام عن دهاليز السياسة المتلوثة؛ كل ذلك بزعمهم حمايةً للإسلام ومحافظة عليه من هذه اللوثات، ومع ذلك فقد يوجد من ينخدع بمثل هذا الكلام الفارغ الفاجر، وبالتالي يسقط في فتنةِ التضليل والتلبيس.

2- ومن صور الخداع والتلبيس التي قد ينخدع بها بعض السذج من الناس ويسقطون في فتنتها: ما يرفعهُ المنافقون في أكثر بلدان المسلمين، في وجه أهل الخير والإصلاح من أنهم دعاة شرٍ وإرهاب وفساد، وما تجلبه وسائل الإعلام المختلفة، وتدندن به على وصفهم ورميهم بهذه الأوصاف الظالمة، حتى تأثرت بذلك بعض الأدمغة المخدوعة، فسقطت في فتنتهم، ورددت معهم هذا الظلم والخداع، وبالتالي تعرض أهل الخير للأذى والنكال، باسم المصلحة الشرعية ومكافحة الإرهاب والفساد؛ وذلك بعد أن تهيأت أذهان المخدوعين من المسلمين لهذا الخداع والتلبيس.

وصور التلبيس والتضليل من المنافقين كثيرة جداً؛ والمقصود الحذر من فتنتها والسقوط في شباكها، والتفطن إلى أنَّ المنافقين يستخدمون الإسلام دائماً ويتترسون به في تمرير ما يُريدون من أغراضهم الخبيثة؛ فهذا شأنهم دائماً: التحريف، والتلبيس، وإثارة الشبهات، مستخدمين وسائل الإعلام الرهيبة في خداع الناس وتضليلهم، ورضي الله عن عمر بن الخطاب حيث قال: ( لست بالخب ولا الخب يخدعني) ويعلق ابن القيم- رحمه الله تعالى- على هذه المقالة فيقول: (فكان عمر- رضي الله عنه- أورع من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع) [2] .

3- اهتمام الحكومات العلمانية ببعض المناسبات الإسلامية، كالاحتفال بمولد الرسول e وهجرته، أو ليلة النصف من شعبان، أو الإسراء والمعراج، إلى آخر هذه المناسبات التي لا أصل للاحتفال بها شرعاً، وإنَّما هي من البدع المحرمة؛ ومع ذلك ينخدع بهذا التلبيس كثيرٌ من دهماء المسلمين، وتتحسن صورة أولئك المنافقين الذين يُضللون الناس بهذا الخداع، ويبدون في أعين المخدُوعين أنَّهم يحبون الإسلام ويغارون عليه، وهم أبعد ما يكونون عن الإسلام وأهله، وهل يحب الإسلام ويعتز بالانتماء إليه من يرفض الحكم به والتحاكم إليه، ويبدل شرع الله المطهر بنحاتات الأفكار، وزبالات الأذهان الجاهلة الظالمة؟ لا، والله إنَّ مثل هذا يكذب في ادعائه حب دين الإسلام؛ قال تعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [آل عمران:31].

فهل يعي هذا المخدوعون المضللون؟

* ومما يدخل في هذه الصورة أيضاً من صور التلبيس، ما يقوم به بعض المنافقين المحادِّين لشرع الله عز وجل، من إقامةِ بعض المؤتمرات أو الندوات الإسلامية، ويدعون إليها بعض العلماءِ والدعاة، فيستجيب من يستجيب، ويرفض من يرفض، وكل هذا من ذر الرماد في العيون، وتخدير دعاة المسلمين بمثل هذه الصروح الخبيثة، التي هي أشبه ما تكون بمسجد الضرار، الذي بناه المنافقون في عهد الرسول e، وادعوا أنــَّه للصلاة وإيواء المسافرين في الليلة الشاتية المطيرة، فأكذبهم الله- عز وجل- وفضح نياتهم بقرآن يتلى إلى قيام الساعة، نهي فيه الرسول e عن دخوله والقيام فيه، بل أمر بتحريقه قال تعالى: (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)) [التوبة:107- 108]

فهل آن الأوان أن نعي مثل هذه الفتنة والخداع، فلا نستجيب لمثل هذه الدعوات، ولا نقوم في مثل هذه المؤتمرات أبداً؟ بل قد آن الأوان إلى أن تفضح مثل هذه اللافتات، ويحذر الناس من شرها والوقوع في فتنتها؛ ويبين لهم أنَّها ضربٌ من الخداع، وصورةً من صور النفاق الماكر الخبيث.

4- إظهارهم لفسادهم بمظهر الإصلاح وإرادة الخير بالأمة، كما قال الله عز وجل عنهم: (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) [البقرة:11] .

يقول سيد قطب- رحمه الله تعالى- عن هذه الآية:

(إنَّهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، بل يضيفون إليهما السفه والادعاء : (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ))

لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد، بل تجاوزوهُ إلى التبجح والتبرير: (( قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )) .

والذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون: إنَّهم مصلحون، كثيرون جـداً في كل زمـان، يقولونها؛ لأنَّ الموازين مختلة في أيديهم؛ ومتى ا ختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس، اختلت سائر الموازين والقيم، والذين لا يُخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأنَّ ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجحُ مع الأهواءِ الذاتية، ولا يثوبُ إلى قاعدة ربانية) [3] ا. هـ.

* ومما يدخل في هذه الصورة من صور الخداع والتلبيس ما يستخدمه منافقو زماننا من تحريف لنصوص الشريعة، وتأويلات باطلة لها في تسويغ فسادهم ومواقفهم الجائرة؛ فهم مع جهلهم بأحوال الشريعة نراهم يخوضُون فيها بلا علم، إلا ما أشربوا من هواهم؛ فنراهم يسوغون الترخص بل التحلل من الشريعة بقواعد التيسير ورفع الحرج، وتغير الفتوى بتغير الحال والزمان، إلى آخر هذه القواعد التي هي حق في ذاتها، لكنهم خاضوا فيها بجهلٍ وهوى، فاستخدموها في غير محلها، فهي حقٌّ أريد بها باطل، ومع جهلهم بالشريعة وظهور القرائن التي تدل على خبث طويتهم، إلاَّ أنَّ هناك من ينخدع بهذه الشبه والتحريفات الباطلة، ومن عجيبِ أمر القوم أنَّهم يرفضون الحكم بما أنزل الله- عز وجل- والتحاكم إليه، ولا يذعنون له، ومع ذلك نراهم في أحيانٍ قليلة يرجعون إلى بعض الأدلة الشرعية ليمرروا ويبرروا من خلالها بعض فسادهم، أو مواقفهم الباطلة، فما حاجتهم إلى الشرع في هذه المرة وهم كانوا يكفرون به من قبل؟ إنَّهُ الهوى والخداع والتلبيس على الناس، قال تعـالى في فضـح هـذا الصنف مـن الناس: (( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ . أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [النور:48-50] .

فينبغي لكل مسلمٍ أن يحذرَ من شبه المنافقين وخداعهم، وأن يقول لهؤلاء الذين يسوغُون فسادهم بتحريف الأدلة الشرعية: ادخلوا في السلم كافة، وحكموا في الناس شرع الله- عز وجل- ورفضوا ما سواه؛ أما أن تنحوا شرع الله- عز وجل- عن الحكم، حتى إذا كان لكم هوى في تمرير فسادكم بشبهةِ دليل رجعتم إليه؛ فهذا الذي قال الله- عز وجل- عن أهله: (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) [البقرة: 85].

5- موالاة المنافقين للكفار، وبخاصةٍ اليهود والنصارى، والإعجاب بنظم الغرب وتقاليده، وفتح الباب لفسادهم وأفكارهم، وهذه من أعظم فتن المنافقين التي طمت وعمت في أكثر بلدان المسلمين، مستخدمين في ذلك الخداعَ والتلبيس على الناس في ذلك، بدعوى المداراة وتحقيق المصلحة ودرء المفاسد، إلى آخر هذه التأويلات التي يُخادعون بها الناس لتسويغ توليهم للكفار؛ وقد ذكر الله- عز وجل- في كتابه الكريم أنَّ هذه صفة لازمه للمنافقين، قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) [الحشر:11].

وقال عز وجل: (( بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً.الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)) [النساء:138-139] . فهل بقي بعد كلام الله- عز وجل- عذر لأحد في انخداعه بالمنافقين، الذين يتولون الذين كفروا من أهل الكتاب أو غيرهم؟ إنَّ خطر المنافقين على الأمة في القديم والحديث كبير، وفتنتهم شديدة؛ فما تمكن الكفار من بلدان المسلمين سواءً من الناحية العسكرية أو الفكرية إلا عن طريق المنافقين، الخادعين الخائنين لدينهم وأمتهم، فالواجب فضحهم والتحذير من شر فتنتهم.

6- خداعهم لبعض المتحمسين لشرع الله وتطبيقه؛ وذلك بدعوتهم إلى مشاركات وطنية، ومجالس نيابية، يتعاون الجميع فيها على ما فيه صالح الوطن والمواطن كما زعموا، فيستجيب بعض الدعاة لهذا، وتجمعهم مع المنافقين الرافضين لشرع الله عز وجل مظلةً واحدة، فيعرض الإسلاميون فيها مطالبهم كما يعرض العلمانيون والرافضة والشيوعيون مطالبهم الكفرية؛ ومعلومٌ ما في ذلك من مداهنة وتعاون على الإثم والعدوان، واستجابةً لداعي الخداع والتلبيس الذي يتولى كبرهُ المنافقون الذين يُريدون من استجابة الإسلاميين لهم إضفاءَ صفةٍ الشرعية على مجالسهم ونظمهم التي يحكمون بها؛ وبالتالي يتخدر الناس ويستنيم المطالبون بتحكيم شرع الله- عز وجل- ما دام أنَّ للمسلمين صوتاً في هذه المجالس النفاقية الماكرة، ويا ليت أنَّ هُناك مصلحةً قطعيةً يمكنُ تحقيقها للمسلمين، تربو على المفاسد التي تنشأ من المشاركة، إذن لهان الخطب؛ لكن الحاصل من هذه التجارب هو العكس؛ حيث إنَّ المستفيد الأول والأخير هم العلمانيون المنافقون، وقد لا يكونُ المشارك من المسلمين غافلاً عن هذا الخداع، ولكنهُ يدخلُ بغرض إقامة الحجة والدعوة إلى تطبيق الشريعة ومعارضة كل ما يخالفها، ولكن هل هذا ممكن؟ وهل يسمح أهل الكفر والنفاق بذلك؟! الذي يغلبُ على الظن أنَّ أعداء الشريعة لن يسمحوا إلا بالكلام فقط؛ وإذا تجاوز الإسلاميون ذلك إلى العمل، وتجاوزوا الخطوط الحمراء المرسومة لهم، جاء دور الحديد والنار، وما تجربةُ الجزائر وتركيا عنَّا ببعيدتين.

7- فتنة المنافقين داخل الصف الإسلامي:

وهذا شأنُ المنافقين في كل زمان؛ فعندما تخفقُ جهودهم في الوقوف في وجه أهل الخير والصلاح، وعندما ينشط الدعاة، ويظهر أثرهم في الأمة؛ فإنَّ المنافقين يلجئون إلى وسيلةٍ ماكرةٍ، وفتنةٍ شديدة، ألا وهي التظاهر بالحماس للدعوة، والدخول في أوساط الدعاة مُظهرين التنسك والغيرة على الدين، والحرص على العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى ينخدع بكلامهم المعسول بعض الطيبين من الدعاة، فتحصل الثقة بهم، حتى إذا تمكنوا من مراكز التوجيه والدعوة بدءوا فتنتهم الكبرى على الدعوة وأهلها؛ مع استمرارهم في إظهار الخير والحماس لهذا الدين، وتسويغ ما يقومون به من الممارسات بالحرص على مصلحة الدعوة وتميزها وصلابتها.

ومن أخطر صور الفتن التي تنشأ من هذا الصنيع ما يلي:

أ- فتنة التفريق وإثارة العداوات بين دعاة الإسلام :

وهذه من أعظم فتن المنافقين داخل الصف الإسلامي، وفي أوساط الدعوة إلى الله- عز وجل- وقد فضح الله- عز وجل- المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار، وأظهر أهدافهم الخبيثة بقوله سبحانه: (( وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل)) [التوبة:107].

قال " المفسرون لهذه الآية:ا لأنَّهُم كانوا جميعأ يصلون في مسجد قباء؛ فبنوا مسجد الضرار ليُصلي فيه بعضهم، فيؤدى ذلك إلى الخلاف وافتراق الكلمة) [4] ا. هـ.

وهذا الضرب من الفتن لا يحتاج إلى تدليل، فالواقع المر شاهدٌ بذلك، ومع أنَّ للافتراق أسباباً كثيرة كالجهل والهوى... إلخ؛ إلاَّ أنَّ أثر المنافقين الذين يدخُلون في صفوف الدعاة لا يجوز إغفاله والتهوين من شأنه، وكون الفرقة تحصل بين أهل طريقتين مختلفتين في الأصول، فإنَّ هذا الأمر واضحٌ ومعقولٌ ومقبول، أما أن يفترق أهل الطريقة الواحدة- طريقة أهل السنة والجماعة، وطريقة سلف الأمة- فهذا أمرٌ لا يعقل ولا يقبل، ولا يكونُ، وهناك يد خبيثة خفية وراء هذا الافتراق؛ فينبغي على الدعاة الحذر من هذه الأيدي والتفتيش عنها، وفضحها، وتطهير الصف المسلم منها. (وسيأتي الكلام عن فتنة التفرق والاختلاف في بحثٍ قادم، وبشكلٍ مفصل- إن شاء الله تعالى-).

ب- فتنة التخذيل والتشكيك :

وهذه أيضاً من أعمال المنافقين المندسين في الصف المسلم، حيث يسعون إلى بث فتنة التخذيل وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك بدعاوى وشبه شرعية خادعة، مؤداها توهينُ عزائم الدعاة وإضعاف هممهم، وبث الخوف في النفوس من الباطل وأهله، وتهويل قوة الأعداء وخططهم بصورةٍ تَبثُ اليأس في النفوس الضعيفة.

ج- فتنة الإيقاع بالدعوة والدعاة:

لا تقف مساعي المنافقين في إيصال الشر والأذى للدعوة وأهلها عند حد، فمن هذه المساعي الخبيثة التي يقُومُون بها داخل صفوف الدعاة بعد إظهار الحماس، وبعد كسب الثقة والسماع لأقوالهم كما قال تعالى: (( وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)) [المنافقون:4] .

وتحت ستار الغيرةِ على الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله- عز وجل- فإنهم يبدءون في دفع بعض الدعاة إلى مواجهات مع الباطل وأهله، والزج بالدعوة في أعمالٍ خطيرةٍ تفتقد المستند الشرعي من جهة، وتؤدي بالدعوة وأهلها إلى الضمور والانكماش من جهةٍ أخرى، إن لم يقض عليها قضاءً مبرماً، وهذا هو ما يريده المنافقون الخادعون الذين قال الله- عز وجل- عن أمثالهم: (( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) [التوبة:47] .

يقول الإمام البغوي- رحمه الله تعالى- عند تفسير هذه الآية:

(( لَوْ خَرَجُوا)) يعني المنافقين ((فِيكُمْ)) أي معكم ((مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً)) ،أي: فساداً وشراً. ومعنى الفساد: إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين، بتهويل الأمر،((وَلَأَوْضَعُوا)) ، أسرعوا،((خِلالَكُمْ )) ، وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة، ونقل الحديث من البعض إلى البعض، وقيل: (( وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ )) أي: أسرعوا فيما يخل بكم . ((يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ)) , أي: يطلبون لكم ما تفتنون به، يقولون: لقد جمع لكم كذا وكذا، وإنَّكم مهزومون، وسيظهر عليكم عدُ وكم ونحو ذلك.

وقال الكلبي: يبغونكم الفتنة يعني: العيب و الشر. وقال الضحاك: الفتنة الشرك، ويقال: بغيته الشر والخير أبغيهِ بغاءً إذا التمسته له، يعني: بغيت له.

((وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)).

قال مجاهد : معناه وفيكم مُحبُون لهم، يُؤدون إليهم ما يسمعون منكم، وهم الجواسيس. وقال قتادة: معناه وفيكم مطيعون لهم، أي: يسمعون كلامهم ويطيعونهم. ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) [5]. ا. هـ.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر لمزيد من الفائدة رسالة: (ولا تلبسوا الحق بالباطل) للمؤلف.

[2] الرو ح ص 244.

[3] في ظلال القرآن عند الآية (11) من سورة البقرة.

[4] تفسير البغوى 4/ 93 ط. دار طيبة.

[5] تفسير البغوى 4/ 56 ط. دار طيبة