المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شفاء العليل فى إبطال القول بالتعليل


كامل محمد محمد محمد عامر
04-01-2016, 03:11 AM
من وحى أهل الحديث
شفاء العليل
فى

إبطال القول بالتعليل

إعداد
دكتور كامل محمد عامر

مختصر بتصرف من كتاب
الإحكام في أصول الأحكام
للإمام المحدث الحافظ أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي القرطبي

1433هـ ــــ 2012م

(الطبعة الأولي)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى خلق فسوى و قدر فهدى ، و أشهد أن لا اله إلا الله و حده لا شريك له يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه وهو على كل شيئ قدير فقال تعالى:{ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}[الانبياء:23] و أشهد أن محمد عبده ورسوله أدى الامانة و بلغ الرسلة و تركنا على المحجة البيضاء قال عليه الصلاة والسلام "قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ"[ابن ماجة فى المقدمة قال الألباني : (صحيح) انظر حديث رقم: 4369 في صحيح الجامع.]‌
أما بعد:
فإن العلل كلها منفية عن أفعال الله تعالى وعن جميع أحكامه البتة، لأنه لا تكون العلة إلا في مضطر.
والأسباب أيضاً كلها منفية عن أفعال الله تعالى وعن أحكامه حاشا ما نص تعالى عليه أو رسوله فإذا نص الله تعالى أو رسوله على أن أمر كذا لسبب كذا أو من أجل كذا، فإن ذلك قد جعله الله أسباباً لتلك الأشياء في تلك المواضع التي جاء النص فيها ولا توجب تلك الأسباب شيئاً من تلك الأحكام في غير تلك المواضع البتة.
إنَّ العِلَّة في الشرائع لو كانت موجبة لتحليل أو تحريم، لكانت غير مختلفة أبداً، كما أن العلل العقلية لا تختلف أبداً فالشدة والإسكار لو كانا علة للتحريم لكانت الخمر حراماً مذ خلقها الله تعالى، فالخمر لم تزل مذ خلقها الله تعالى شديدة مسكرة، وقد كانت حلال في الإسلام سنين، وهي على الصفة التى هي عليها الآن لم تبدل، فبطل بهذا أن تكون الشدة علة التحريم، كما أن الباري تعالى جعل النارية علة الإحراق وتصعيد الرطوبات، فلا تزال كذلك أبداً، حاشا ما خص عزَّ وجلَّ منها من نار إبراهيم الخليل عليه السلام.

أدلة القائلين بالعلل
احتج القائلون بالعلل بآيات ظاهرها كون بعض الأحكام من أجل بعض الأحوال:
منها: قوله تعالى:{مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ} [الحشر:7] .
والجواب: أننا قد وجدنا أموالاً كثيرة لم تقسم هذه القسمة بل قسمت على رتبة أخرى فلو كانت العِلَّة هي ألا يكون دُولَةً بين الأغنياء لكان ذلك أيضاً علة في قسمة سائر الأموال من الغنائم وغيرها.
ومنها: قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ }.
والجواب: أن لو كان البغي عِلَّة في إيجاب الجزاء بذلك لكان ذلك واجباً أن يجزى به البغاة منا ومن غيرنا و هذا لم يحدث فالبغي ليس عِلَّة للجزاء بما جوزي به أولئك، لأن العلة مطردة في معلولاتها أبداً، وصح أن البغي من أولئك كان سبباً لجزائهم بما جوزوا به، وليس سبباً في غيرهم، لأن يجازوا بمثل ذلك.
ومنها: قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ }[المائدة:91] قالوا: فكانت هذه علل في وجوب تحريمها، أو الانتهاء عنها.
والجواب: أن كسب المال والجاه في الدنيا أَصَدُ عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وأوقع العداوة والبغضاء فيما بيننا من الخمر والميسر وليس ذلك محرماً وقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه رضي الله عنهم إذ يقول : "فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ" [البخارى كتاب الجزية]
وأيضاً: فالميسر ما عهد منه قبل أن يحرم إيقاع عداوة بذاته ولا فقد عقل، ولا كان إلا نافعاً للناس ، وكذلك قليل الخمر ليس فيه مما ذكر في الآية، ولا في كل من يشربها تفسد أخلاقهم، بل نجد كثيراً من الناس يبكون إذا سكروا ويكثرون ذكر الآخرة والموت والإشفاق من جهنم وتعظيم الله تعالى والدعاء في التوبة والمغفرة، ونجدهم يكرمون حينئذ ويحلمون، ويزول عنهم كثير من سفههم وتؤمن غوائلهم.
وقد كانت الخمر حلالاً مدة ستة عشرة عاماً في الإسلام، فلو كان ما وصفها الله تعالى به من الصد عن الصلاة، وعن ذكر الله تعالى، وإيقاع الشيطان العداوة والبغضاء بها علة للتحريم، لما وجدت قط إلا محرمة.
ومنها: قوله تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً} [النساء:160]
والجواب: أننا نظلم من بكرة إلى المساء، ولم يحرم علينا طيبات أحلت لنا، فصح أن الظلم ليس علة في تحريم الطيبات، ولا سبباً له إلا حيث جعله الله تعالى بالنص سبباً له فقط، لا فيما عدا ذلك المكان البتة.
ومنها: قوله تعالى لموسى عليه السلام: {إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى }[طه:12].
والجواب: أن الكون بالواد المقدس طوى لو كان علة لخلع النعال أو سبباً له، لوجب علينا خلع نعالنا بالوادي المقدس وبالحرم وبطوى، فلما لم يلزم ذلك بلا خلاف صح القول: إن الشيء إذا جعله الله سبباً لحكم ما، في مكان ما، فلا يكون سبباً إلا فيه وحده لا في غيره

الأدلة على إبطال القول بالعلل
الأدلة العقلية
يقال: هل هذه العلل
· من فعل الله تعالى ؟
· أم من فعــل غيره ؟
· أم لا من فعله تعالى ولا من فعل غيره؟.
فإن قيـل: من فعل غير الله فهذا كفر صريح.
وإن قيل: ليست من فعله ولا من فعل غيره، أوجبتم أن في العالم أشياء لا فاعل لها وهذا كفر مجرد.
وإن قيل: بل هي من فعل الله عزَّ وجلَّ.
· فهل فعلها الله تعالى لعلة؟
· أو فعلها لغير علة؟
فإن قيل: فعلها تعالى لغير علة، كان هذا إقرار أنه تعالى يفعل الأشياء لا لعلة.
وإن قيل: بل فعلها تعالى لعلل أخر، سُئل في هذه العلل أيضاً كما سُئل في التي قبلها، وهكذا أبداً.
فلا بد ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما:
· إما أن يقال أنه سبحانه و تعالى فعلها لغير علة.
· أو يقال بمفعولات لا نهاية لها، وأشياء موجودة لا أوائل لها، وهذا كفر وخروج عن الشريعة بإجماع الأمة. وقبح الله قولاً يضطر قائله إلى مثل هذه المواقف.
ويقال أيضاً:
ما تقولون في إنسان قال في حياته أو عند موته: أعتقوا عبدي ميموناً لأنه أسود، وله عبيد سود كثير، أتعتقونهم لعلة السواد الجامعة لهم، أم لا تعتقون منهم أحداً حاشا ميمون وحده، فإن قلتم: نعتقهم، خالفتم الإجماع، وإن قلتم. لا نعتقهم تركتم القول بإجراء العلل وبالقياس.
عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا. [مسلم: كِتَاب الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ باب تَأْمِيرِ الْإِمَامِ الْأُمَرَاءَ عَلَى الْبُعُوثِ وَوَصِيَّتِهِ إِيَّاهُمْ بِآدَابِ الْغَزْوِ وَغَيْرِهَا] {شرح النووي على مسلم - قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثُمَّ اُدْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّل مِنْ دَارهمْ إِلَى دَار الْمُهَاجِرِينَ ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْم اللَّه الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا يَكُون لَهُمْ فِي الْغَنِيمَة وَالْفَيْء شَيْء إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ )
مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث : أَنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا اُسْتُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَة ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ كَانُوا كَالْمُهَاجِرِينَ قَبْلهمْ فِي اِسْتِحْقَاق الْفَيْء وَالْغَنِيمَة وَغَيْر ذَلِكَ ، وَإِلَّا فَهُمْ أَعْرَاب كَسَائِرِ أَعْرَاب الْمُسْلِمِينَ السَّاكِنِينَ فِي الْبَادِيَة مِنْ غَيْر هِجْرَة وَلَا غَزْو ، فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَام الْإِسْلَام ، وَلَا حَقّ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَة وَالْفَيْء ، وَإِنَّمَا يَكُون لَهُمْ نَصِيب مِنْ الزَّكَاة إِنْ كَانُوا بِصِفَةِ اِسْتِحْقَاقهَا ، قَالَ الشَّافِعِيّ : الصَّدَقَات لِلْمَسَاكِينِ وَنَحْوهمْ مِمَّنْ لَا حَقّ لَهُ فِي الْفَيْء لِلْأَجْنَادِ ، قَالَ : وَلَا يُعْطَى أَهْل الْفَيْء مِنْ الصَّدَقَات ، وَلَا أَهْل الصَّدَقَات مِنْ الْفَيْء ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيث ، وَقَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة : الْمَالَانِ سَوَاء وَيَجُوز صَرْف كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى النَّوْعَيْنِ ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْد : هَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخ ، قَالَ : وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحُكْم فِي أَوَّل الْإِسْلَام لِمَنْ لَمْ يُهَاجِر ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } وَهَذَا الَّذِي اِدَّعَاهُ أَبُو عُبَيْد لَا يُسَلَّم لَهُ .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِذَا حَاصَرْت أَهْل حِصْن فَأَرَادُوك أَنْ تَجْعَل لَهُمْ ذِمَّة اللَّه وَذِمَّة نَبِيّه ، فَلَا تَجْعَل لَهُمْ ذِمَّة اللَّه وَذِمَّة نَبِيّه ، وَلَكِنْ اِجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتك وَذِمَّة أَصْحَابك ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمكُمْ وَذِمَم أَصْحَابكُمْ أَهْوَن مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّة اللَّه وَذِمَّة رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
قَالَ الْعُلَمَاء : الذِّمَّة هُنَا : الْعَهْد ، ( تُخْفِرُوا ) : بِضَمِّ التَّاء ، يُقَال : أَخَفَرْت الرَّجُل إِذَا نَقَضْت عَهْده ، وَخَفَرْته أَمِنْته وَحَمَيْته ، قَالُوا : وَهَذَا نَهْي تَنْزِيه أَيْ : لَا تَجْعَل لَهُمْ ذِمَّة اللَّه فَإِنَّهُ قَدْ يَنْقُضهَا مَنْ لَا يَعْرِف حَقّهَا ، وَيَنْتَهِك حُرْمَتهَا بَعْض الْأَعْرَاب وَسَوَاد الْجَيْش .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِذَا حَاصَرْت أَهْل حِصْن فَأَرَادُوك أَنْ تُنْزِلهُمْ عَلَى حُكْم اللَّه فَلَا تُنْزِلهُمْ عَلَى حُكْم اللَّه ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمك ؛ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْم اللَّه فِيهِمْ أَمْ لَا )
هَذَا النَّهْي أَيْضًا عَلَى النَّزِيه وَالِاحْتِيَاط ، وَفِيهِ حُجَّة لِمَنْ يَقُول : لَيْسَ كُلّ مُجْتَهِد مُصِيبًا ، بَلْ الْمُصِيب وَاحِد ، وَهُوَ الْمُوَافِق لِحُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي نَفْس الْأَمْر ، وَقَدْ يُجِيب عَنْهُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلّ مُجْتَهِد مُصِيب بِأَنَّ الْمُرَاد أَنَّك لَا تَأْمَن مِنْ أَنْ يَنْزِل عَلَيَّ وَحْي بِخِلَافِ مَا حَكَمْت ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }.
فهذا نص جليّ من رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن الإقدام على نسبة شيء إلى الله تعالى بغير يقين لا يحل.
عَنْ الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ [البخارى كِتاب الْجَنَائِزِ باب مَا يُكْرَهُ مِنْ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ] فلو جاز أن يقال بالقياس وبالعلل لكان الإقدام به على كلام الناس، وأحكامهم أولى من الإقدام به على الله عزَّ وجلَّ ورسوله فلما اتفقوا على أن من قال: اعتقوا عبدي سالماً لأنه أسود، وله عبيد سود أنه لا يعتق غير سالم وحده الذي نص عليه، وخوفاً من تبديل أمر الموصي وكلامه، فإن الأوجب عليهم ألا ينسبوا إلى الله تعالى ولا إلى رسوله تعليلاً لم ينصَّا عليه، وأحكاماً لم يأذنا بها ولكنهم اتقوا أن ينسبوا إلى الناس ما لا يقولون، ولم يتقوا أن ينسبوا إلى الله تعالى ورسوله ما لم يقولا.
قالوا: كنا نعتق سائر عبيده السودان لو أن الموصي يقول لنا بعقب قوله: اعتقوا عبدي سالماً لأنه أسود واعتبروا, فكنا حينئذ نعتق كل عبد له أسود.
وهذا جواب فاسد من وجهين:
أحدهما أنه حتى لو قال ذلك ما جاز أن يعتق كل عبد له أسود، لأنه ليس قوله «اعتبروا» أولى بأن يكون معناه «قيسوا» منه بأن يكون معناه «واعتبروا بحالي التي أنا فيها فبادروا إلى طاعة ربكم ولا تخالفوا وصيتي» .
وأيضاً فيلزم من أجاب بهذا الجواب الفاسد ألا يقيس على شيء من الأحكام إلا حتى يكون إلى جنب كل حديث فيه حكم أو كل آية فيها حكم، «واعتبروا » وهذا غير موجود في شيء من الأحكام ولا في الحديث ولا في الآيات.
لقد نهي الله تعالى الناس عن سؤالهم النبي عليه السلام وأمرهم الاقتصار على ما يفهمون مما يأمرهم به فقط، فلو كان المراد من النص غير ما سمع منه لكان السؤال لهم لازماً، ليتبينوا ويتعلموا، فلما منعوا من السؤال أيقنا أنهم إنما لزمهم ما أعلموا به فقط.
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:"نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ قَالَ صَدَقَ قَالَ فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ قَالَ اللَّهُ قَالَ فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ قَالَ اللَّهُ قَالَ فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ قَالَ اللَّهُ قَالَ فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا قَالَ صَدَقَ قَالَ فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا قَالَ صَدَقَ قَالَ فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا قَالَ صَدَقَ قَالَ فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ صَدَقَ قَالَ ثُمَّ وَلَّى قَالَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ " [مسلم:كِتَاب الْإِيمَانِ بَاب السُّؤَالِ عَنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ]
وعَنْ نَوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ قَالَ:"أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةً مَا يَمْنَعُنِي مِنْ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ كَانَ أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ" [مسلم :كتاب البر والصلة والآداب باب تفسير البر والإثم]‏‏.

الأدلة النقلية
النهي عن القول بالعلل في القرآن
قال الله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}[المدثر: 31] فأخبر تعالى أن البحث عن علَّة مراده تعالى ضلالاً.
وقال تعالى: { وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)}[الأعراف:20,19] ,قال الله تعالى حاكياً عن إِبليس إذ عصى وأبى عن السجود أنه قال: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف: 12] فصح أن خطأ آدم عليه السلام إنما كان من وجهين:
أحدهما: تركه حمل نهي ربه تعالى عن الوجوب. والثاني: قبوله قول إبليس أن نهي الله عن الشجرة إنما هو لعلة كذا.
فصح يقيناً بهذا النص البيِّن أن تعليل أوامر الله تعالى معصية، وأن القياس هو أول ما عُصِىَ اللهُ تعالى به في عالمنا هذا وهو قياس إبليس على أن السجود لآدم ساقط عنه، لأنه خير منه، إذ إبليس من نار وآدم من طين، ثم بالتعليل للأوامر ، وصح أن أول من قاس في الدين وعلل في الشرائع فإبليس. فصح أن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس، وأنه مخالف لدين الله تعالى.
وقال الله عز وجل حاكياً عن قوم من أهل الاستخفاف أنهم قالوا إذا أُمِروا بالصدقة: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) }[يس: 47] إنكار منه تعالى للتعليل، لأنهم قالوا: «لو أراد الله تعالى إطعام هؤلاء لأطعمهم دون أن يكلفنا نحن إطعامهم» . وهذا نص لا خفاء به، على أنه لا يجوز تعليل شيء من أوامره، وإنما يلزم فيها الانقياد فقط وقبولها على ظاهرها.
إن جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم، وجميع التابعين، أولهم عن آخرهم، وجميع تابعي التابعين، أولهم عن آخرهم، ليس منهم أحد قال: إن الله تعالى حكم في شيء من الشريعة لعلَّة، وإنما ابتدع هذا القول متأخرو القائلين بالقياس.
وأيضاً فدعواهم إن هذا الحكم حكم به الله تعالى لعلة كذا؛ فرية ودعوى لا دليل عليها، ولو كان هذا الكذب عن أحد من الناس لسقط قائله فكيف على الله عز وجل ولسنا ننكر وجود أسباب لبعض أحكام الشريعة، بل نثبتها ونقول بها، لكنا نقول: إنها لا تكون أسباباً إلا حيث جعلها الله تعالى أسباباً، ولا يحل أن يتعدى بها المواضع التي نص فيها على أنها أسباب لما جعلت أسباباً له.

الفرق بين العلة والسبب والعلامة و الغرض
العلة
طبيعة في الشيء تقتضي صفة تصحبها ولا توجد الصفة دونها فهى اسم لكل صفة توجب أمراً ما إيجاباً ضرورياً.
والعلة لا تفارق المعلول البتة، ككون النار علة الإحراق، والثلج علة التبريد.
ولا يوجد أحدهما دون الثاني أصلاً، وليس أحدهما قبل الثاني أصلاً ولا بعده.
السبب
أمر وقع فاختار الفاعل أن يوقع فعلاً آخر من أجله ولو شاء ألا يوقعه لم يوقعه.
كغضب أدى إلى انتصار، فالغضب سبب الانتصار، ولو شاء المنتصر ألا ينتصر لم ينتصر.
وليس السبب موجباً للشيء المسبب منه ضرورة وهو قبل الفعل المتسبب منه ولا بد.
الغرض
هو الأمر الذي يجري إليه الفاعل ويقصده ويفعله. وهو بعد الفعل ضرورة.
فالغرض من الانتصار إطفاء الغضب وإزالته وإزالة الشيء هي شيء غير وجوده، وإزالة الغضب غير الغضب.
والغضب هو السبب في الانتصار، وإزالة الغضب هو الغرض في الانتصار.
العلامة

هي صفة يتفق عليها الإنسانان، فإذا رآها أحدهما علم الأمر الذي اتفقا عليه
مثل قول رسول الله عليه السلام لابن مسعود:قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إِذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ يُرْفَعَ الْحِجَابُ وَأَنْ تَسْتَمِعَ سِوَادِي حَتَّى أَنْهَاكَ ‏"[‏مسلم: كتاب السلام بَاب جَوَازِ جَعْلِ الْإِذْنِ رَفْعُ حِجَابٍ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ الْعَلَامَاتِ] {شرح النووي على مسلم: السِّوَاد بِكَسْرِ السِّين الْمُهْمَلَة وَبِالدَّالِ ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهِ ( السِّرَار ) بِكَسْرِ السِّين وَبِالرَّاءِ الْمُكَرَّرَة ، وَهُوَ السِّرّ وَالْمَسَارِر . يُقَال : سَاوَدْت الرَّجُل مُسَاوَدَة إِذَا سَارَرْته .قَالُوا : وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ إِدْنَاء سِوَادك مِنْ سِوَاده عِنْد الْمُسَارَرَة ، أَيْ شَخْصك مِنْ شَخْصه . وَالسِّوَاد اِسْم لِكُلِّ شَخْص ، وَفِيهِ دَلِيل لِجَوَازِ اِعْتِمَاده الْعَلَامَة فِي الْإِذْن فِي الدُّخُول . فَإِذَا جَعَلَ الْأَمِير وَالْقَاضِي وَنَحْوهمَا وَغَيْرهمَا رَفْع السِّتْر الَّذِي عَلَى بَابه عَلَامَة فِي الْإِذْن فِي الدُّخُول عَلَيْهِ لِلنَّاسِ عَامَّة ، أَوْ لِطَائِفَةٍ خَاصَّة ، أَوْ لِشَخْصٍ ، أَوْ جَعَلَ عَلَامَة غَيْر ذَلِكَ ، جَازَ اِعْتِمَادهَا وَالدُّخُول إِذَا وُجِدَتْ بِغَيْرِ اِسْتِئْذَان ، وَكَذَا إِذَا جَعْل الرَّجُل ذَلِكَ عَلَامَة بَيْنه وَبَيْن خَدَمه ، وَمَمَالِيكه ، وَكِبَار أَوْلَاده ، وَأَهْله ، فَمَتَى أَرْخَى حِجَابه فَلَا دُخُول عَلَيْهِ إِلَّا بِاسْتِئْذَانٍ ، فَإِذَا رَفَعَهُ جَازَ بِلَا اِسْتِئْذَان . وَاللَّه أَعْلَم }
ومن هذا أخذت الأعلام الموضوعة في الفلوات لهداية الطريق، والأعلام في الجيوش لمعرفة موضع الرئيس.
فصل
لا يُنْكَر أن يكون الله تعالى جعل بعض الأشياء سبباً لبعض ما شرع من الشرائع.
كما جعل تعالى السرقة بصفة ما سبباً للقطع، والقذف بصفة ما سبباً للجلد والوطء بصفة مَّا سبباً للجلد والرجم.
وقد قال الله تعالى واصفاً لنفسه: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الانبياء:23] فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه جلَّ و علا أن أفعاله لا يجزىء فيها « لِمَ »...؟ وإذا لم يحل لنا أن نسأله سبحانه وتعالى عن شيء من أحكامه وأفعاله «لم كان هذا ؟» فقد بطلت الأسباب جملة وسقطت العلل البتة إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمراً كذا لأجل كذا.
وفي قوله تعالى:{لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الانبياء:23] بيان جلي أنه لا يجوز لأحد منا أن يقول قولاً لا يسأل عنه، ولزمنا فرضاً سؤال كل قائل من أين قلت كذا؟ فإن بين لنا أن قوله ذلك حكاية صحيحة من ربه تعالى وعن نبيه عليه السلام ، لزمنا طاعته ، وإن لم يأت به مصححاً عن ربه تعالى، ولا عن نبيه عليه السلام ، ضرب برأيه عرض الحائط، ورد عليه أمره متروكاً غير مقبول معه، ولا مرضي عنه.
تناقض اصحاب القول بالتعليل وبالقياس
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " قَاتَلَ اللَّهُ يَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا" [ صحيح البخاري :البيوع –لا يذاب شحم الميتة]
فكان يلزمهم أن يجعلوا ما حرم أكله محرماً بيعه، لكنهم لم يفعلوا ذلك، بل كثير منهم يبيحون بيع الزبول.
عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ فَقَالَ لَا إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي.
فكان يلزمهم أن يجعلوا كل عرق يسيل من الجسد في مثل حكم المستحاضة كما جعلوا الميعان في الزيت علة لتحريمه إن مات فيه فأر قياساً على السمن، لكنهم تناقضوا في ذلك. وهذا إجماع منهم على ترك الحكم بالعلل والقياس.
قالوا: معنى التعليل هو إجراء صفة الأصل في فروعه.
والجواب: أن جميع أحكام الشريعة كلها سواء وأصول، ولا يوجد شيء منها إلا عن قرآن أو عن الرسول عليه السلام أو عن إجماع.
قالوا: إن علة الحدود الزجر والردع.
والجواب: أنه إذا كان ذلك لما جاز العفو في قتل النفس ولم يجز العفو في السرقة، ولو كان ذلك لما كانت السرقة أولى بوجوب حد محدود فيها من الغصب، ولا كانت الخمر أولى بذلك من لحم الخنزير ومن الربا.
قالوا: العلل هى صفات في أشياء توجد فتشتبه بها أشياء أخرى، فيوجب ذلك أن يحكم لها بحكم واحد.
فيقال: إنك لا تعدم معارضاً بصفات أخر توجب غير الأحكام التي أوجبتم.
وقال البعض: علة تحريم البُر بالبُر متفاضلاً أنه مطعوم. وقال البعض: العلة في ذلك أنه مكيل. وقال البعض: العلة في ذلك أنه مُدَّخَر؛ وكل واحد من هذه الطوائف مبطلة لما أعتدت به الأخرى والحمد لله رب العالمين.